من عبور القناة إلى انكشاف الساحة: كيف يكرّر لبنان درس 1973؟
حرب 1973 بدأت بانتصار ميداني عبر عبور قناة السويس تحت مظلة دفاعية قوية، لكن تجاهل التحذيرات العسكرية وتجاوز الغطاء الجوي أديا إلى مجازفة مكلفة، تحولت إلى درس استراتيجي يُدرَّس اليوم.
-
يوم 31 أيار/مايو 1974 انتهت الحرب رسمياً بالتوقيع على اتفاقية فك الاشتباك (ذاكرة مصر المعاصرة)
في ذاكرة الحروب العربية – الإسرائيلية، تظلّ حرب أكتوبر 1973 علامة فارقة في التاريخ العسكري والسياسي للمنطقة. لكن خلف صور الجنود على ضفاف القناة ورايات النصر، هناك درس استراتيجي بالغ العمق: كيف يمكن لقرار سياسي غير محسوب أن يقلب معادلة النصر إلى بداية الانكسار.
حرب بدأت بوعد النصر
في السادس من أكتوبر، نجحت القوات المصرية في عبور قناة السويس، محطّمة خط بارليف في واحدة من أكثر العمليات العسكرية جرأة ودقة في التاريخ الحديث. كان النجاح الميداني ساحقاً: مفاجأة كاملة للعدو، تنسيق عالٍ بين القوات البرية والدفاع الجوي، ومكاسب استراتيجية أعادت الثقة للجندي العربي بعد سنوات من الإحباط.
المظلة الصاروخية المصرية، التي وفّرت غطاءً دفاعياً متيناً ضد الطائرات الإسرائيلية، كانت حجر الأساس لهذا التقدّم. تحت هذا الغطاء، استطاعت القوات البرية التمسك بالمواقع المستعادة وإدارة المعركة من موقع قوة.
ضغط السياسة على الميدان
لكن النشوة السياسية لم تترك مجالاً لحسابات الميدان. تحت ضغط القيادة السياسية في القاهرة، طُلب من القادة العسكريين التقدّم شرقاً خارج نطاق المظلة الدفاعية الجوية، في خطوةٍ رأى فيها العسكريون مجازفة خطيرة. تحذيرات الميدان ذهبت أدراج الرياح، لتجد الوحدات المصرية نفسها مكشوفة أمام التفوق الجوي الإسرائيلي.
والنتيجة كانت قاسية: خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، تراجع المعنويات، وضياع زخم المبادرة الذي تحقّق في الأيام الأولى. هذا "النصر الجزئي" تحوّل إلى تعادل استراتيجي، وربما أكثر من ذلك، إلى درس يُدرَّس في كليات الحرب حول العالم عن خطورة إقصاء العقل العسكري من معادلة القرار.
لبنان... مظلة الردع تحت التهديد
اليوم، وبعد نصف قرن، يقف لبنان أمام مشهد يحمل أصداء ذلك الدرس التاريخي. الجدل الدائر حول «نزع السلاح» وتجريد البلاد من عناصر قوتها المقاومة يشبه في جوهره إخراج القوات المصرية من تحت غطاء الدفاع الجوي في 1973.
المعادلة واضحة: قوة الردع الحالية – مهما كانت محل خلاف داخلي – تشكّل مظلة دفاعية واقعية في وجه تهديدات إسرائيلية ثابتة. إزالتها قبل بناء بديل فعّال ستعني كشف الساحة اللبنانية أمام أي عدوان، في لحظة إقليمية تتسم بتقاطع الأزمات وتكثّف الأخطار.
القرار قبل الغطاء… مغامرة خاسرة
كما في 1973، قد يأتي القرار السياسي مدفوعاً برغبات داخلية أو ضغوط خارجية، لكنه يتجاهل الحقائق الباردة للميدان. في الحرب، كما في السياسة الدفاعية، التوقيت جزء من النصر، والمظلة – سواء كانت صاروخية في مصر السبعينيات أم مقاومة ردعية في لبنان اليوم – ليست ترفاً بل هي خط الأمان الأخير.
إلغاء هذا الخط قبل تأمين بديل يوازيه أو يتفوّق عليه، يعني عملياً كتابة وصفة جاهزة لانكشاف البلاد، وتحويل أي إنجاز سياسي داخلي إلى عبء استراتيجي في مواجهة الخارج.
التاريخ لا يرحم الانهزاميين
حرب 1973 تروي بلسان الميدان أن النجاح العسكري يمكن أن يُهدر في لحظة سياسية خاطئة. ولبنان اليوم، وسط ضغوط إقليمية ودولية متزايدة، مهدد بتكرار المشهد إذا ما جرى تفكيك مظلة الردع قبل أوانها. في الحسابات العسكرية البحتة، لا شيء أخطر من معركة تُخاض بقرار سياسي معزول عن تقدير الميدان.
إنها معادلة قديمة قدم الحروب: السياسة تحدد الهدف، والعسكر يختار الطريق، لكن حين تتجاوز السياسة حدود الميدان، تسقط القلاع مهما كانت أسوارها عالية.