ممر زنغزور: إيران ومعركة الجغرافيا السياسية في القوقاز

من منظور واشنطن و"تل أبيب"، ممر زنغزور قد يشكّل قناة لزيادة الحضور العسكري والاستخباري قرب الحدود الإيرانية، في محاولة لخلق "ضغط متعدد الجبهات" على طهران.

  • معركة الجغرافيا السياسية في القوقاز (وسائل التواصل الاجتماعي).
    معركة الجغرافيا السياسية في القوقاز (وسائل التواصل الاجتماعي).

لم تكن حرب الإثني عشر يوماً في حزيران/يونيو الماضي مجرد جولة عسكرية بين إيران والكيان الصهيوني، بل كانت اختباراً تاريخياً لقدرة طهران على فرض قواعد اشتباك جديدة في قلب الشرق الأوسط. واشنطن و"تل أبيب"، ومعهما العواصم الغربية، دخلت المواجهة وهي تعوّل على إنهاك إيران، وربما دفعها إلى التراجع الاستراتيجي، لكن النتائج جاءت معاكسة بشكل دراماتيكي، فبدلاً من انكسارها، خرجت إيران أقوى، وأكثر حضوراً، وأوسع أفقاً في قدرتها على تحريك أدوات القوة الصلبة والناعمة معاً.

الاختراق الإيراني في حرب حزيران/يونيو كان مزدوج البعد. من الناحية التقنية، نجحت طهران في إطلاق صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت بمرات عدة، قاطعةً المسافة من عمق أراضيها إلى أهداف محددة في العمق الصهيوني، متجاوزةً ثلاث طبقات من أكثر منظومات الدفاع الجوي تقدماً في العالم، السهم، القبة الحديدية، وثاد، فضلاً عن محاولات الاعتراض الجوي التي نفذتها مقاتلات أميركية وبريطانية وفرنسية. هذا الإنجاز لا يختزل في قوته التدميرية فحسب، بل في قدرته على إعادة تعريف مفهوم الردع، فالخصم لم يعد يملك رفاهية افتراض أن المسافات أو الطبقات الدفاعية كافية لحمايته.

لكن الرسالة الأعمق جاءت من إدراك طهران للجغرافيا كأداة ردع. فإذا كان بإمكان إيران أن تضرب من عمق أراضيها أهدافاً محمية بأعلى مستويات التقنية الدفاعية، فإن أي اقتراب جغرافي من حدودها، عبر تمركز أميركي محتمل في أرمينيا أو أذربيجان، لن يؤدي إلا إلى زيادة سرعة  الرد الإيراني وكثافته. هنا، تبرز أهمية ما يجري حول ممر زنغزور المشروع الذي تسعى بعض القوى الإقليمية والدولية إلى فتحه، والذي يربط أذربيجان بمقاطعة نخجوان عبر جنوب أرمينيا، متجاوزاً الأراضي الإيرانية.

من منظور واشنطن و"تل أبيب"، ممر زنغزور قد يشكل قناة لزيادة الحضور العسكري والاستخباري قرب الحدود الإيرانية، في محاولة لخلق "ضغط متعدد الجبهات" على طهران.

لكن من منظور إيران، هذا الممر ليس مجرد مشروع اقتصادي–لوجستي، بل ثغرة جيوسياسية خطيرة قد تتحوّل إلى رأس جسر لتهديد أمنها القومي. وهنا، يظهر البعد الاستراتيجي لما بعد حرب يونيو، فالردع الإيراني لم يعد يقتصر على القدرة على الضرب من بعيد، بل يشمل أيضاً الاستفادة من قرب العدو، لتحويل أي وجود عسكري معادٍ إلى هدف مباشر للصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، التي لا تحتاج حتى إلى اجتياز مسافات طويلة أو دفاعات متعددة.

بهذا المعنى، فإن إيران خرجت من حرب يونيو وهي تمتلك مزيجاً غير مسبوق من الردع البعيد والردع القريب، ما يجعل أي تحرك نحو زنغزور أو جنوب القوقاز محفوفاً بخطر التصعيد الفوري، وليس التدريجي. وبقدر ما أعادت تلك الحرب رسم ميزان القوى في المشرق، فإنها اليوم تلقي بظلالها على مشهد مختلف تماماً وهو مشهد القوقاز كمسرح جديد لصراع الإرادات بين طهران وخصومها.

في أعقاب حرب يونيو، لم تكتفِ إيران باستعراض قدراتها العسكرية، بل انتقلت سريعاً إلى بناء معادلة ردع سياسي–دبلوماسي في محيطها الحيوي. تصريحات علي أكبر ولايتي، مستشار القائد الأعلى للثورة الإسلامية للشؤون الدولية، جاءت كمفتاح لفهم هذه المعادلة الجديدة. فحين أكد أن طهران تراقب التطورات قرب حدودها عن كثب، وأن أي خطوة تمس أمنها ستلقى الرد المناسب، لم يكن يطلق تحذيراً عادياً، بل كان يرسم حدود لعبة جديدة في جنوب القوقاز، حيث تتقاطع مصالح قوى كبرى وإقليمية.

لقاء ولايتي مع نائب وزير خارجية أرمينيا فاهان غوستانيان لم يكن بروتوكولياً، بل بمنزلة إعلان غير مباشر أن إيران ترى نفسها ضامناً لتوازن القوى في هذه الرقعة الحساسة، وأنها ترفض أي دور لقوى من خارج المنطقة تحمل عداءً تاريخياً لها، سواء كان ذلك بغطاء اقتصادي أو أمني، والأهم من كل ذلك تأكيد ولايتي أن إيران إذا رأت في هذا المشروع تهديداً لأمنها القومي فستقوم بتعطيله بأدواته سواء بالتعاون مع روسيا أو من دونها. هذا الموقف يتجاوز الدفاع عن حدود جغرافية إلى الدفاع عن حدود النظام الإقليمي نفسه، أي رفض تحويل القوقاز إلى منصة متقدمة لحلف "الناتو" أو نقطة ارتكاز لمشاريع صهيونية–أميركية تهدف إلى محاصرة إيران من الشمال.

ممر زنغزور في هذا السياق يتحوّل من مسألة لوجستية إلى معركة رمزية واستراتيجية. فتح هذا الممر، كما تريده باكو بدعم غربي، قد يبدو في ظاهره مشروعاً لربط أذربيجان بنخجوان، لكنه في جوهره يفتح المجال أمام إعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية لصالح قوى تسعى إلى تقليص الهامش الاستراتيجي لإيران. ولأن طهران تدرك أن أي حضور عسكري أو استخباري في هذه المنطقة سيجعل زمن الاشتباك صفراً تقريباً، فإنها تسعى لخلق معادلة ردع مسبقة، تقوم على إفهام الجميع أن تجاوز الخطوط الحمراء سيؤدي إلى تصعيد فوري، وليس إلى دورة تفاوضية طويلة.

من هنا، نفهم لماذا تربط إيران بين السلام المستدام بين أرمينيا وأذربيجان وبين أمنها القومي. فهي تدرك أن أي فراغ أمني أو خلل في التوازن بين يريفان وباكو سيُملأ بسرعة من قوى خارجية، وأن استمرار التوتر يبرر حضور هذه القوى بحجة الوساطة أو الحماية. ولذلك، فإن حرص طهران على تهدئة العلاقات بين الجارتين ليس عملاً إنسانياً أو دبلوماسياً محضاً، بل خط دفاع أول ضد تدويل الصراع وتحويله إلى منصة استهداف مباشرة لإيران.

في الحسابات الاستراتيجية البعيدة، قد تكون حرب يونيو قد أنهت مرحلة وبدأت أخرى، مرحلة لم يعد فيها الردع مقتصراً على الجبهات الجنوبية أو الشرق الأوسط، بل أصبح يمتد إلى القوقاز، حيث تتداخل الجغرافيا مع الجيوسياسة في عقدة زنغزور. وبقدر ما عززت الحرب ثقة طهران في قدرتها على تجاوز الدفاعات الأكثر تقدماً، فإنها منحتها أيضاً مشروعية أكبر لرسم خرائط النفوذ في محيطها القريب، مستندةً إلى مزيج فريد من القوة الصلبة والناعمة.

هكذا، يتحول ممر زنغزور من خط على الخريطة إلى اختبار شامل لميزان القوى الجدية فإذا فتح تحت رعاية أو بوجود قوى معادية، فإنه قد يكون شرارة مواجهة سريعة، أما إذا أُغلق أو خضع لترتيبات إقليمية توافقية، فسيكون مؤشراً على أن إيران نجحت في نقل معركتها من ميادين القتال إلى ميادين الجغرافيا السياسية، حيث تكون الكلمة الأخيرة لمن يملك مزيج الردع والإرادة وهو ما تشير جميع العوامل إلى أن طهران تمتلكه هذه الأيام.