التعويل على واشنطن: رهانات خاسرة وخفة سياسية
التجارب في أكثر من بلد تؤكد مصير من تعاملوا مع الولايات المتحدة الأميركية. فقد انسحب الأميركيون من فيتنام وأفغانستان تاركين عملاءهم لمصير مجهول، من دون أي مراعاة لأبسط القضايا الإنسانية.
-
لا تزال واشنطن تمنع تسليح الجيش اللبناني بالقدرات اللازمة لحماية لبنان.
جاءت تصريحات أعضاء الوفد الأميركي الذي زار لبنان مؤخراً لتؤكّد الهواجس والقلق المتأتي من تعويل جزء من المسؤولين اللبنانيين على الأميركيين في حماية البلد ما يعكس بالحدّ الأدنى عدم نضج سياسي في مرحلة هي من الأصعب والأخطر في تاريخ لبنان حيث وجود لبنان في خطر حقيقي.
هذه "الرؤية" لا يتمّ إخفاؤها. ينقل عن معنيين أساسيين في ملف القرارات الحكومية الأخيرة المتعلّقة بسلاح المقاومة وفي معرض تبريرهم لما اتخذوه من قرارات أنهم يعتمدون على الولايات المتحدة الأميركية في حماية لبنان كمكافأة لنهجهم في تلبية الأوراق الأميركية المقدّمة للسلطة السياسية.
يعلن هؤلاء أمام زوّارهم من الداخل والخارج عن هذه الرؤية. وهو ما دفع بعض الزوّار إلى القلق الحقيقي على مستقبل لبنان والخوف على استقراره الداخلي ومستوى صون سيادته أمام مستوى خفّة المسؤولين وعدم نضجهم السياسي في مقاربة الأمور.
لا يمكن فهم سبب تنكّر المسؤولين المراهنين على واشنطن لتاريخ المقاربة الأميركية القريبة والبعيدة تجاه منطقتنا. هذه المقاربة كانت ولا تزال في مجملها مطابقة لمصالح "تل أبيب" وساعية لتحقيق المآرب الإسرائيلية من دون أيّ مراعاة لمصالح أشدّ حلفاء واشنطن في المنطقة.
قدّم هؤلاء التنازلات والأموال من دون حساب وشرّعوا مصادر الطاقة بما تهوى واشنطن ومضوا في مشاريعها حتى ولو تعارضت مع أبسط مفاهيم الأمن القومي العربي وحقوق أبناء المنطقة. في المقابل لم تقدّم لهم أميركا أيّ مكتسبات حقيقية أمام المصالح الإسرائيلية.
تُعدّ تجربة السلطة الفلسطينية من بين الأكثر وضوحاً في هذا المجال. فقد نفّذت السلطة كلّ ما طُلب منها، حتى وصلت إلى تعديل ميثاقها الوطني فيما يتعلّق بالكفاح المسلّح، وأقامت أُوثق تنسيق أمني مع كيان العدو، إلى حدّ اعتقال المقاومين وملاحقتهم. وكانت المكافأة الإسرائيلية على ذلك المزيد من الاستيطان في الضفة الغربية، وكلّ ذلك بدعم وتغطية أميركية كاملة. ولا شكّ أنّ زيارة رئيس مجلس النواب الأميركي للمستوطنات وتأييده لتوسيعها يشكّل مؤشراً واضحاً على طبيعة السياسة الأميركية تجاه المشاريع الصهيونية.
وقبل ذلك، عقد العرب قمماً متلاحقة قدّموا خلالها مبادرات سلام مرفقة بالمليارات من الدولارات، التي تمّ ضخّها في شرايين الاقتصاد الأميركي. إلّا أنّ ردّ المسؤولين في واشنطن كان رفضاً كاملاً لحلّ الدولتين، مع إسقاط أيّ إمكانية لوضعه على المسار الصحيح. وكان قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لـ "إسرائيل"، وضمّ الجولان، والحديث عن ضآلة مساحة "إسرائيل"، إضافة إلى الإعلان عن مخطط تهجير أهالي غزة خارجها.
وقد وصلت الأمور إلى حدّ مقاطعة واشنطن للمؤتمر الدولي الذي دعت إليه السعودية حول حلّ الدولتين، على الرغم من أنّ ترامب كان قد وقّع قبل أسابيع قليلة أكبر اتفاقيات مالية مع الرياض بمليارات الدولارات. ولم يكتفِ الأميركيون بالمقاطعة فقط، بل فرضوا عقوبات على بعض المسؤولين في الأمم المتحدة لمجرّد دعمهم قيام دولة فلسطينية.
أما التعاطي مع سوريا، فيشكّل درساً هاماً تجب الاستفادة منه. بعد المديح الأميركي للرئيس السوري أحمد الشرع، نفّذت الطائرات الإسرائيلية غارات استهدفت قلب دمشق ووزارة الدفاع السورية ورئاسة الأركان والقصر الجمهوري، في ظلّ صمت أميركي مريب. ولم يكتفِ الأميركيون بذلك، بل قدّموا تغطية كاملة للتوغّلات الإسرائيلية في الجنوب السوري، وسيطرة "الجيش" الإسرائيلي على مناطق استراتيجية هناك، وصولاً إلى تحرّك المستوطنين لإقامة مستوطنات في المناطق المحتلة الجديدة.
كما أنّ التجارب الأقدم في أكثر من بلد تؤكّد مصير من تعاملوا مع الولايات المتحدة الأميركية. فقد انسحب الأميركيون من فيتنام وأفغانستان تاركين عملاءهم لمصير مجهول، من دون أيّ مراعاة لأبسط القضايا الإنسانية.
في لبنان، لم تتردّد الولايات المتحدة في تسليم ملف لبنان إلى دمشق عندما كانت مصلحتها تقتضي ذلك. حصل هذا الأمر في إطار تمرير عملية التسوية التي انطلقت في مدريد عام 1991. وقد أدارت واشنطن ظهرها للكثير ممن كان يعوّل عليها، وتركت بعضهم في السجون لمدة أحد عشر عاماً من دون أن تضغط لإطلاق سراحهم أو التخفيف من شروط سجنهم.
ولا تزال واشنطن تمنع تسليح الجيش اللبناني بالقدرات اللازمة لحماية لبنان، وتتحدّث في المقابل عن حصرية السلاح، من دون أن تقوم بأيّ إجراءات جدّية لتمكينه من حماية لبنان والدفاع عنه وصون استقراره وسيادته.
عدم إدراك هذه الوقائع وعدم الأخذ بها عند وضع الاستراتيجيات واتخاذ القرارات لا يمكن وصفه إلّا بعدم النضج السياسي والخفة في التعاطي مع القضايا الوطنية المصيرية. ويمكن القول إنّّ مثل هؤلاء لا يصلحون لقيادة لبنان في هذه المرحلة.
صحيح أنّ رئيس حكومة لبنان نوّاف سلام قال في الأردن إنّ كلام نتنياهو عن "إسرائيل الكبرى" تهديد للأمن القومي العربي، إلا أنه لم يترجم ما قاله بما يتناسب، بل ذهب إلى اتخاذ قرارات حكومية بناءً على الأوامر الأميركية.
إنّ مواجهة مخاطر "إسرائيل الكبرى" تتطلّب اعتماداً على إرادة الشعب ووحدة أبناء الوطن. ولا يمكن أن يستطيع لبنان حماية سيادته ضمن هذه المواجهة من خلال التحرّك في مشاريع فتنة أو انقسام داخلي، ولا بفتح أسوار البلاد وتشريعها أمام العدو الذي ينادي جهاراً بالتوسّع والهيمنة.
أما إذا أراد الرئيس سلام أن ينسجم مع ما قاله حول الأمن القومي العربي من الأردن (وهو بالمناسبة كيان آخر مهدّد بوجوده نتيجة الأطماع الإسرائيلية ولم يؤمّن له الدخول في التسوية مع "إسرائيل" الضمانات المطلوبة لوجوده وبقائه)، فما عليه إلّا التراجع عن القرارات البتراء وغير الميثاقية لحكومته، والعودة إلى ما ورد في خطاب القسم والبيان الوزاري لبحث استراتيجية الأمن الوطني وتحديد معالم وعناصر الدفاع عن لبنان، بالاستفادة من كامل القدرات والإمكانيات المتوفّرة، وفي مقدّمتها المقاومة بسلاحها ورجالها.
أما غير ذلك، فإنّ هذه الحكومة ستكون مسؤولة عن مهزلة سياسية خطيرة قد تؤدي إلى غرق المركب اللبناني بالكامل في أمواج البحر الأميركي الإسرائيلي الهائج، وعندها سيكون بالفعل "على الدنيا السلام"، كما قال الأمين العامّ لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم.