المسار الفرنسي-السعودي لدعم حلّ الدولتين... مصالح تطغى على حقوق الشعب الفلسطيني

التوجه السعودي لا يتقاطع بالمطلق مع مفهوم المقاومة للكيان، بالإضافة إلى أن موقفها السياسي يحمل إشارات صريحة للاعتراف بالكيان.

0:00
  • تتقاطع المصالح الفرنسية والسعودية حول ضرورة لعب دور فاعل في المنطقة.
    تتقاطع المصالح الفرنسية والسعودية حول ضرورة لعب دور فاعل في المنطقة.

يوحي المسار الدولي المتعلق بالاعتراف بدولة فلسطين بتغيّر في المزاج العالمي تجاه الكيان الإسرائيلي الذي أظهر في السنتين الأخيرتين أنه لا يكترث إطلاقاً بمبادئ القانون الدولي الإنساني والشرعية الدولية. فإذا كان الجهد السعودي في هذا الإطار مبرراً شكلياً أو مفهوماً انطلاقاً من تبني المملكة لمبادرة بيروت 2002 أو متناسباً واقعياً مع رؤية ولي العهد محمد بن سلمان لمسار التطبيع، فإن التوجه الفرنسي يطرح علامات استفهام حول خلفية مواقفه إذ إن ادعاء الالتزام بمسار إعلان الدولة الفلسطينية كرد فعل على السلوك الإسرائيلي في غزة، وفشل المسار التفاوضي الذي انطلق في أوسلو عام 1993، بالإضافة إلى اعتبار هذا الاعتراف بمنزلة التزام بالقانون الدولي وما ينص عليه في موضوع حقوق الشعب الفلسطيني بالحصول على دولته المستقلة لا يعبّر عن حقيقة هذه المواقف.

فدولة كفرنسا بالتحديد لا تعبّر في علاقاتها الدولية عن التزام بالقانون الدولي ومتطلبات الأمن الجماعي الذي من المفترض بالأمم المتحدة أن تكفله، وإنما تعبّر عن واقع توازنات دولية تسعى لإرسائها بما يتوافق مع ما تعدّه مصالح قومية.

فمن خلال ملاحظة الرؤية الفرنسية لطبيعة الدولة الفلسطينية التي عبّر عنها إيمانويل ماكرون، والتي تفترض ضرورة أن تكون منزوعة السلاح بشكل كامل وتعترف بالضرورات الأمنية الاستراتيجية الإسرائيلية، يمكن تصور الواقع السياسي الذي يستهدفه مسار الاعتراف بالدولة الفلسطينية بحده الأقصى.

فبالعودة إلى السلوك الفرنسي الذي تلا "طوفان الأقصى" حيث توجّه ماكرون مباشرة إلى الكيان الإسرائيلي وعبّر عن تضامنه المطلق مع الكيان في مواجهة المقاومة التي يعدّها إرهابية، رغم أنها تشكل نموذجاً شبيهاً بالمقاومة الفرنسية للاحتلال النازي، من دون أن ننسى أنه كان يعبّر منذ بداية ولايته عن عمق العلاقة بين البلدين معتبراً أن أمن "إسرائيل" من أمن فرنسا والعالم ناهيك بمقاومته للمقاطعة الاقتصادية للكيان في الاتحاد الأوروبي، يمكن الاستنتاج أن الغاية الفرنسية لا تتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني بقدر ما تتعلق برؤية مختلفة في الشكل فقط عن تلك التي يتقاطع فيها كل من الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة الأميركية.

أما بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية، فقد أثبتت الوقائع في السنوات الماضية أن التوجه السعودي لا يتقاطع بالمطلق مع مفهوم المقاومة للكيان، بالإضافة إلى أن موقفها السياسي يحمل إشارات صريحة للاعتراف بالكيان.

فالإصرار على التمسك بمندرجات مبادرة بيروت العربية 2003 والاستعداد الدائم للسير في مسار تطبيع العلاقات، بالإضافة إلى حالة العداء لقوى المقاومة بشكل عام، تشكل بمجموعها إشارات إلى موقف سعودي لا يعدّ القضية الفلسطينية قضية محورية تعبّر عن انتكاسة للأمن الإقليمي العربي، وإنما تنظر إليها على أنها تفصيل يمكن حلّه وفق أطر شكلية لا تقارب أصل المشكلة.

فمن خلال مقاربتها لـ"طوفان الأقصى"، أظهرت المملكة توازناً سلبياً في انتقادها لأحداث "طوفان الأقصى" إذ رأت أنه يطال المدنيين في كلا الجانبين. وعليه، كانت المملكة تتناسى أن عقوداً من سياسات الترهيب والاعتقال الجماعي والتجويع والحصار التي يمارسها الكيان تشكل أسباباً موضوعية لتحرك المقاومة يوم 7 أكتوبر 2023. فمبدأ الحياد الدبلوماسي الذي اعتمدته المملكة تجاه القضية الفلسطينية يؤكد بما لا يقبل الشك أن رؤيتها لحل القضية سيخضع حتماً لمساومات تظهر موازين القوى الحالية أنها لن تكون إلا على حساب الشعب الفلسطيني.

وعليه، يفترض تحليل التوجه السعودي-الفرنسي، أي مؤتمر حل الدولتين الذي تم عقده في نيويورك وما تلاه من موجة اعتراف بالدولة الفلسطينية وفق منطق لا يرتبط بحقوق الشعب الفلسطيني، وإنما بإعادة هيكلة التوازنات الدولية والإقليمية في المنطقة. بطبيعة الحال، لن يخرج المشروع السعودي-الفرنسي عن الخطوط العريضة التي رسمها بعض الفاعلين الأميركيين الذين يرون أنه لا يوجد خيار أكثر قابلية لحل القضية الفلسطينية من قيام دولة فلسطينية، مع الإشارة إلى أن هذه الدولة المنزوعة السلاح والسيادة لها دور وظيفي محدد بضبط المجتمع الفلسطيني وتحقيق أمن "إسرائيل" من دون أن نهمل شرط عدم المس بطبيعة الكيان ودوره في المنطقة. 

في هذا الإطار، تتقاطع المصالح الفرنسية والسعودية حول ضرورة لعب دور فاعل في المنطقة. فإذا كان التوجّه السعودي يفترض إثبات الحضور في الملفات الحساسة كمدخل لحجز دور أساسي في مستقبل المنطقة بحيث تصبح إمكانية قفز الولايات المتحدة فوق هذا الدور مستحيلة، فإن لفرنسا أجندة لا تختلف من حيث الشكل عن هذا الهدف.

فمسار العلاقات الفرنسية -الأميركية الذي واجه تعقيدات كثيرة في أكثر من ملف، بدءاً بضرورة حل القضية الفلسطينية بطريقة تقنع الفلسطينيين مروراً بالمشروع النووي الإيراني والعلاقة مع الصين وصولاً إلى الملف الأوكراني وكيفية إدارة الملف الروسي، يجعل من المفهوم اتباع فرنسا في موضوع القضية الفلسطينية مساراً معارضاً لتوجه دونالد ترامب الداعم بشكل مطلق للحرب الإسرائيلية والمنفتح على فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة.

من ناحية أخرى، ورغم ما تعرضت له حركات المقاومة في المنطقة، فإن محورها ما زال يؤرق صناع القرار في كلا البلدين. فرؤية 2030 السعودية التي تستهدف تطوير الاقتصاد السعودي وتنويعه معطوفة على الحاجة الفرنسية إلى الاستقرار في المنطقة ودمج الكيان في النظام الإقليمي حتى تتمكن من ضمان أمن الطاقة في أوروبا وتأمين بدائل عن النفط والغاز الروسي تتطلب إرساء سلام مستدام، واستقرار لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال حل القضية الفلسطينية. وعليه، يتوافق الطرفان حول ضرورة العمل على بناء توجهات حاكمة لواقع المنطقة وفق قواعد أولها أن يكون الاقتصاد موجهاً للسياسة وثانيها أن تحل البراغماتية وفن الممكن مكان القيم والمبادئ المحركة لفكر المقاومة في المنطقة.

 وبالتالي، يظهر حل الدولتين والضغط على الكيان الإسرائيلي لتقبّله من خلال فرضه كأمر واقع، يرتكز على اعتراف دولي بالدولة الفلسطينية، كعامل من شأنه أن يحسن نظرياً، إذا اعترف الكيان بمفاعيله، من ظروف معيشة الفلسطينيين، وبالتالي يؤدي حتماً إلى تكريس قناعة بأن المسار السلمي والتعايش مع الدولة اليهودية سيقدم للفلسطينيين، وفق أسوأ الحالات، ما لا يمكن أن يقاس بالظروف التي يعيشون في ظلها اليوم، وبالتالي سينزع من حركات المقاومة شرعية نضالها ضد الكيان الإسرائيلي ويقدم للكيان خدمة ضمان أمنه الإستراتيجي الذي لم ينجح بعد سنتين من "طوفان الأقصى" وفي المرحلة السابقة التي عرقل خلالها إمكانية إعلان الحكم الذاتي الذي نص عليه اتفاق أوسلو في تحقيقه.

استناداً إلى ما تقدم، يمكن التقدير أن الخطوات الدولية الحالية نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وإن حصلت على رد إيجابي إسرائيلي، لن تساعد في استعادة حقوق الشعب الفلسطيني، ولن تكون انعكاساً لما نصت عليه القرارات الدولية واتفاقات السلام، وإنما يمكن إدراجها ضمن مخطط براغماتي مصلحي سعودي- فرنسي يستهدف تحقيق أهداف تتعلق فقط بأجندات تم صوغها لتحقيق مصالحهما حصراً.