دمشق وموسكو...إعادة تعريف العلاقات بين البلدين
موسكو ترى أن موقفها ثابت ونابع من دعمها الحكومة الشرعية في سوريا، هو ما كان في الماضي مع نظام الأسد، وما يتكرر اليوم في تعاطيها مع الحكومة الانتقالية في دمشق.
-
ما تريده دمشق من موسكو.
جاءت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو لتؤكد أن لا ثابت في السياسة سوى "المصلحة"، وأن الحديث عن العدالة والقيم لا معنى له إلا في إطار مخاطبة الجمهور ودغدغة مشاعرهم.
المطالب الشعبية بضرورة اعتذار موسكو عن دعمها النظام السابق لم تنتقل إلى المستوى الرسمي، وبالتالي لم نستمع إلى تصريحات رسمية عدائية بين البلدين.
رغبة الجانبين في فتح صفحة جديدة من العلاقات بينهما كانت واضحة منذ البداية، وأكدها الرئيس الشرع في حديثه عن التفاهمات مع موسكو التي أسهمت في وصول "هيئة تحرير الشام" إلى السلطة في دمشق.
موسكو ترى أن موقفها ثابت ونابع من دعمها الحكومة الشرعية في سوريا، هو ما كان في الماضي مع نظام الأسد، وما يتكرر اليوم في تعاطيها مع الحكومة الانتقالية في دمشق.
طبيعة العلاقات بين البلدين وجذورها الضاربة في التاريخ تجعلها قادرة على تجاوز العقبات التي مرت بها، والعمل على إعطائها دفعة كبيرة ستكون لها انعكاسات إيجابية على كلا البلدين.
تعود جذور العلاقات بين البلدين إلى أكثر من ثمانية عقود، لكنها تطورت بشكل كبير بعد عام 2015، عقب التدخل العسكري الروسي في سوريا ودعمها المطلق لسوريا في مجلس الأمن.
الحديث عن التوتر في العلاقات بين البلدين بعد سقوط النظام لم يكن دقيقاً، إذ إن موسكو كانت جزءاً من التوافقات الدولية التي أدّت إلى وصول "هيئة تحرير الشام" لحكم دمشق.
القطيعة بين البلدين لم تكن طويلة، فجاءت زيارة نائب وزير الخارجية الروسي بوغدانوف إلى دمشق في 12 من شهر شباط/فبراير 2025، لتؤكد بدء المسار التفاوضي بين البلدين، وسعي موسكو للحفاظ على مصالحها في سوريا.
مساعي دمشق للتوجّه غرباً والسعي لتطوير علاقاتها بالولايات المتحدة الأميركية لم تمنع موسكو من اعتماد خطاب سياسي مرن نحو دمشق توّج بالاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس بوتين مع الرئيس السوري أحمد الشرع في السابع من آذار/مارس الماضي.
العلاقة المميزة بين روسيا و"قوات سوريا الديمقراطية" مكّنتها من الوساطة بينها وبين حكومة دمشق لتوقيع اتفاق العاشر من آذار/مارس الذي بات الأساس للتفاوض بين الجانبين.
هذا الاتفاق من حيث توقيته كان هاماً لدمشق، إذ جاء في ظل الأحداث التي شهدتها منطقة الساحل السوري، والحديث عن الدعم الروسي لـ "فلول النظام"، ولجوء أعداد كبيرة من المطلوبين إلى قاعدة حميميم الروسية.
وفي 11 أيلول/سبتمبر، قام وفد حكومي سوري برئاسة وزير الخارجية أسعد الشيباني بزيارة موسكو، والبحث عن وضع آليات لتطوير العلاقات بين البلدين. ثم جاءت زيارة وفد حكومي روسي إلى دمشق برئاسة نائب رئيس الوزراء الروسي وعضوية 15 وزيراً لمناقشة الملفات الاقتصادية العالقة بين البلدين، والعمل على تطوير العلاقات بينهما.
زيارة الرئيس الشرع إلى موسكو لم تكن مجدولة، وكان اللقاء بين الرئيسين على هامش القمة العربية-الروسية التي كان قد دعا إليها الرئيس الروسي، ثم تم تأجيلها بعد القمة التي عقدت في القاهرة بمشاركة الرئيس ترامب حول وقف الحرب في غزة.
تأجيل القمة كان رغبة من موسكو لإظهار دعمها للمساعي الأميركية وموافقتها عليها، خصوصاً أن العلاقات بين موسكو وواشنطن تتطور بشكل كبير لكن غير مستقر، في ظل وجود رئيس مثل ترامب ومساعيه المستمرة للضغط على موسكو، والتي كان آخرها الضغط على الهند لوقف استيرادها للنفط الروسي.
المصالح الروسية في دمشق
لروسيا مصالح كبيرة في سوريا، منها الاقتصادية والعسكرية والجيوسياسية، إضافة إلى أهمية سوريا باعتبارها بوابة روسيا إلى الشرق الأوسط.
الوصول إلى "المياه الدافئة" حلم راود العقيدة الاستراتيجية الروسية، وهو ما تم تحقيقه بحصول موسكو على قاعدة بحرية لها في طرطوس، وقاعدة جوية في حميميم في اللاذقية.
الديون الروسية على سوريا متراكمة منذ عهد الاتحاد السوفياتي، وزادت بعد سنوات الحرب في سوريا، لذا فإن موسكو تسعى لتحصيل هذه الأموال من خلال حصولها على مشاريع إعادة الإعمار في سوريا، والمكاسب التي ستحققها الشركات الروسية من خلالها.
تاريخياً، كانت موسكو هي مصدر التسليح الأول للجيش السوري، وبالتالي فإنها اليوم قد تجد في سوريا سوقاً لسلاحها، خصوصاً أن الجيش السوري قد تم تدميره، وتسعى الحكومة في دمشق لإعادة بنائه من جديد.
مع الإشارة إلى نقطة هامة وهي أننا كنا في الماضي نتحدث عن أن تسليح الجيش السوري هو روسي، وبالتالي فإن سوريا بحاجة إلى قطع الغيار من موسكو حصراً. لكن اليوم، وفي ظل الحديث عن جيش سوريا الجديد، لا بدّ من الإشارة إلى أن تسليح الفصائل التي انضوت تحت مظلة وزارة الدفاع كان غربياً وتركياً، كما أن تسليح "قوات سوريا الديمقراطية" أميركي وأوروبي أيضاً، وبالتالي فإن الحاجة إلى قطع الغيار من موسكو تراجعت وبشكل كبير.
الدعم العربي والتركي والأميركي والغربي لحكومة دمشق يجعل موسكو تفكر في حتمية التعاطي معها بمزيد من المرونة والبراغماتية، نظراً إلى تطور علاقات روسيا بتلك الدول، ورغبة موسكو في قطع الطريق على العلاقات السورية مع أوكرانيا التي كانت آخذة بالازدهار لكنها لم تصل حد التبادل الدبلوماسي بين البلدين.
ما تريده دمشق من موسكو
لسوريا مصالح كثيرة في علاقتها بموسكو، فهي تدرك أهمية روسيا وثقلها على الساحة الدولية، ودورها في رفع العقوبات عن سوريا، وعن الرئيس الشرع شخصياً ووزير خارجيته أنس خطاب.
بعد زيارة موسكو والتعهدات التي قدمتها دمشق على لسان الرئيس الشرع شخصياً باحترام الاتفاقيات الموقّعة بين البلدين، جرى الحديث عن جلسة قادمة لمجلس الأمن نهاية هذا الأسبوع ستخصص لرفع العقوبات عن الرئيس الشرع، وسط توقعات ترجّح عدم معارضة كل من موسكو وبكين لذلك القرار.
يمكن لموسكو لعب دور الوساطة بين دمشق وبكين، خصوصاً أن العلاقات بين البلدين متوترة نظراً إلى وجود عدد من المقاتلين الأجانب (الإيغور) في سوريا، وحساسية هذا الموضوع بالنسبة إلى بكين.
مساعي دمشق نحو الولايات المتحدة الأميركية والغرب يبدو أنها لا تغني عن حتمية العلاقة مع موسكو، فأميركا لا تريد الانخراط في الشؤون الداخلية السورية، كما أنها داعم لـ"إسرائيل" في المحصلة، ولا يمكن أن تكون وسيطاً نزيهاً بين دمشق و"تل أبيب".
علاقة موسكو مع قيادات الجيش السوري السابق، ونقلها عدداً منهم إلى روسيا، ووجود الكثير منهم في قاعدة حميميم، يجعلها قادرة على أن تكون مؤثرة في هذا الملف وزعزعة الاستقرار في سوريا، وهو ما لا تريده دمشق بكل تأكيد.
علاقة موسكو مع "قسد"، ووجود قوات لها في مطار القامشلي، يؤهلانها لأن تلعب دوراً في تقريب وجهات النظر بين دمشق و"قسد"، وأن تكون الضامن لتنفيذ هذا الاتفاق.
الشرطة العسكرية الروسية يمكنها العودة للانتشار في الجنوب السوري، ووضع حدّ للتدخلات الإسرائيلية في سوريا، وهو الأمر الذي بات ملحّاً بالنسبة إلى دمشق.
الوجود الروسي في سوريا مقبول من الجميع، فأوباما هو من أعطى روسيا الضوء الأخضر للتدخل في سوريا، وتكرر ذلك في عهد ترامب وبايدن، ويبدو أن الأمر يتكرر خلال ولاية ترامب الحالية.
الوجود الروسي في سوريا مقبول من جانب "إسرائيل" أكثر من الحضور التركي، كما أنه أكثر تقبّلاً من قبل أنقرة من نظيره الإسرائيلي، كما أنه لا يقارن بالوجود الإيراني في سوريا من وجهة نظر دول الخليج.
يمكن لسوريا أيضاً الاستفادة من القواعد الروسية في إعادة إعمار سوريا، إذ يمكن للشركات الروسية الدخول إلى سوريا، خصوصاً أن العقوبات الأميركية على دمشق هي عقوبات أحادية الجانب، وبالتالي فإن موسكو ليست معنية بها.
يمكن لموسكو أن تكون راعياً لعملية السلام بين دمشق و"تل أبيب"، فالتوجّه نحو أذربيجان لم يكن موفقاً، إذ إنها غير قادرة على أن تلعب دور الضامن لتطبيق الاتفاق بين الجانبين، والتوجّه نحوها يبدو أنه كان مطلباً تركياً، فالعلاقة بين أنقرة وباكو تتطور وبشكل كبير.
أما الحديث عن مطالبة دمشق باستعادة الرئيس السابق بشار الأسد فهو أمر مستبعد، ولا يتجاوز طرحه أن يكون ورقة للتفاوض، خصوصاً أن خروجه كان بموجب اتفاقيات ضمنت دخول "هيئة تحرير الشام" إلى دمشق بموافقة موسكو وتركيا، كما أن تسليمه يسيء إلى سمعة موسكو التي استضافته كلاجئ إنساني لا سياسي.
حرص موسكو على وحدة سوريا وسلامة أراضيها يبعث الاطمئنان لوجودها، إذ يمكنها إنهاء الحديث عن النزعات الانفصالية في سوريا، لكن ذلك لا يلغي بالضرورة المطالب بتطبيق الفيدرالية كصيغة توافقية لنظام الحكم المستقبلي في سوريا.