غزة: الجحيم المقيم

في الطريق نحو الهاوية، أنت بحاجة لوضع الكمامة على أنفك، لأن الطريق الترابي المغمس بآلام النازحين سيحاصرك، وعلى جانبي الطريق حرائق عظيمة للإطارات المطاطية التي يقوم باستثمارها الباعة.

0:00
  • أنواع الإبادة فاقت قدرتي على فهم ما يجري!
    أنواع الإبادة فاقت قدرتي على فهم ما يجري!

... حتى إذا خلوت بنفسي بكيت، إن ما يجري يفوق قدرة العقل على التخيل، أنواع الإبادة فاقت قدرتي على فهم ما يجري؛ إلى درجة صارت فيها المفاضلة بين المصابين أمراً شبه عادي داخل المشافي، واليوم المفاضلة بين نقل الأشخاص بدأ يتغلغل داخل البيوت، فالأب مبتور القدمين تأخر في الخروج إلى جنوب قطاع غزة، ولا مواصلات تمنح الناس فرصة نجاة، كذلك الأم السبعينية لا تستطيع المشي، وأثاث البيت على ظهر سيارة متهالكة يرسم مشهدًا جديدًا لمأساة تتكرر في مدينتنا اليباب، احدودبت ظهور الشاحنات و"التكاتك" وكذلك الدواب، بما تنوء بحمله الجبال، رغم المفاضلة بين الأشياء، كاختيار الملابس الشتوية عن الصيفية مثلًا وبراميل مياه عن أخواتها، وخزانات الملابس والأَسِرّة التي يمكن استخدامها لطهو الطعام في ظل ارتفاع أسعار الحطب الفاحشة، وفي ظل ترك ملايين الأغراض داخل البيت المتوقع نسفه أو اغتياله في أي لحظة؛ ففي الوقت الذي تغرد فيه القذائف والصواريخ، تتساقط على البيوت، محدثًة جلبة ورعبًا، يهرع الناس إلى منازلهم، يختبئون بين جدرانها المتهالكة بحثًا عن حفنة أمان، يفتشون في أجسادهم عن جروح، ثم بعد دقائق، وعند توقف القصف، يخرجون إلى الشوارع مجددًا، يحملون الأشياء الضرورية في مسيرات نحو المجهول، يسابقون المسافات الطويلة، وصولًا إلى شارع الرشيد الذي يقود في نهايته إلى وسط وجنوب القطاع من الجهة الغربية. 

ورغم أنني كنت أدرب الطلبة على صناعة التخيل في المعاهد والجامعات، إلا أنني عجزت عن إدراك مثل هذه الحال البائسة التي وصلنا إليها، كيف يمكن المفاضلة بين الآباء أو الأبناء حين تكتنز الشاحنات ولا تستطيع احتمال الركاب؟ كيف يمكن المفاضلة بين من سيصعد على متن العربة المتهالكة ومن عليه المشي سيرًا على الأقدام لمسافة تتجاوز عشرات الكيلومترات؟ أو من عليه الانتظار إلى حين تدبر أمر سيارة أخرى بحاجة لسنوات ضوئية كي تحضر، بعد ابتزاز الزبائن الراغبين بالهرب من حقول الموت؟ وقد صار ثمن الخيمة والنزوح أغلى بكثير من تكلفة رحلة إلى جزر المالديف أو ماليزيا أو حتى البرازيل، فثمن رحلة تشمل تذاكر الطائرة وحجز الفندق وثمن المرشد السياحي وكذلك الطعام، سيكون أرخص بكثير من دفع ثمن خيمة واستئجار أرض غارقة بالطين وثمن عربة متهالكة، رغم الحال المزرية التي يعيشها الغزي من انعدام مقومات الحياة وتأخر الرواتب وعدم توفر السيولة النقدية وارتفاع أسعار التكييش وتطرف الباعة بالتدقيق في أمر المال، من قبول الأوراق البنكية أو رفضها بسبب تمزق طفيف أو رفض التعامل بفئة العشرة شواقل الحديدية من دون سبب، ما قد يكلف خمسة آلاف دولار على الأقل. 

وفي الطريق نحو الهاوية، أنت بحاجة لوضع الكمامة على أنفك، لأن الطريق الترابي المغمس بآلام النازحين سيحاصرك، وعلى جانبي الطريق حرائق عظيمة للإطارات المطاطية التي يقوم باستثمارها باعة السولار والبنزين المحلي، حيث قام الفلسطيني باختراع أفران متواضعة من مواسير الحمامات الشمسية لاستخراج السولار من خلال إشعال البلاستيك والإطارات المطاطية وغيرها، لكنها رغم ذلك عملت على زيادة الأزمات الصحية للمواطنين؛ ما حدا بأصحاب تلك الأفران إلى نقل مصانعهم بمنطقة النابلسي وكذلك الشيخ عجلين. 

السيارات والشاحنات والعربات والتكاتك والبشر، كلهم يدورون في فلك التيه، زحام كأنه الحشر، والناس بين تلك الوسائل يحاولون التملص من الزحمة ليصلوا إلى تبة النويري، ذلك المكان الذي كنت أجلس فيه برفقة أصدقائي الذين غادروا البلاد بداية الحرب، نتحرر من ضغوط المدينة التي لا تتوقف عن هزيمة الجسد الفلسطيني، لأنها كانت المنطقة الأجمل على الشاطئ، لكنها باتت مجرد منطقة تكتظ بالغبار والقهر، ولا سمك يمكن شراؤه وتناوله كما اعتدنا أن نفعل، بل معلبات للفول أو الحمص بثمن أغلى من شراء سمكة في غابر الزمان. وبين الغبار المتطاير ورائحة "الكاوتشوك" ننتقل من تبة النويري إلى مناطق مختلفة، فيما أسير بينهم، أتأمل المنطقة التي أزورها للمرة الأولى منذ عامين، وكأنني أجول في أصقاع لا أعرفها، الشوارع التي كانت تشتعل بالحياة دمرت، أعمدة الإنارة هوت على الأرض، وحفر عميقة كأنها أخاديد تتوسط تلك الشوارع، أتساءل بيني وبيني عن ماهية تلك الحفر العظيمة، فيرد ابن عمي الذي يلازمني رحلة النزوح ضاحكًا، ويقول: "هاي حمامات القرن الواحد والعشرين"، أي بيوت الخلاء التي يضطر النازحون إلى إنشائها بشكل خاص من أجل تسهيل مهمة قضاء الحاجة وتلبية نداء الطبيعة من دون حرج من الذهاب إلى بيوت الخلاء المشتركة، فقد صُنعت خصيصًا للنساء. 

وفي الطريق، الذي لم يعد أجمل من الوطن، كل شيء يبشر بالشؤم، ونذير خوف من تدمير ما تبقى من المدينة التي وهبها الله شيئًا من روحه، فصارعها شيطان الاحتلال كي تستمر الأسطورة، في محاولة لإعادة جدعون إلى عرش الملك، يقاتلون العماليق –بحسب ما تقول توراتهم- بكل ترسانة الموت الآتية من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، بانتظار "المسياخ" الذي سينتصر لليهود من العرب في كل مكان من هذا العالم، لذا فإن الإبادة مبررة لهؤلاء القتلة، الذين يمزقون أحشاء النساء، وقلوب الأطفال، وأجساد الضحايا من الرجال. 

أدخل النصيرات حيث أطرافها الغربية منهكة، مدمرة، تعاني الوجع أسوة بمدينة غزة، لا شاليهات أو مقاهٍ كما في السابق، وإنما ركام متناثر على جانبي الطريق، أتوغل شيئًا فشيئًا إلى منتصف المدينة التي تدهشني، تصدمني من جمال روحها، إن الحرب لم تصل إليها، حيث لا يوجد أي أضرار هناك سوى بعض البيوت القليلة المتناثرة، تم استهدافها من دون إلحاق الضرر بالمربعات السكنية كما يحدث في مدينة غزة، أتنفس الصعداء، وأمشي بين الأزقة والشوارع بحثًا عن بيوت الأصدقاء، أشتري بعض الأغراض من السوق العامر بكل ما لذ وطاب، ثم أنتقل من هناك إلى منطقة الزوايدة، أمشي في شوارع أدخلها للمرة الأولى في حياتي، فأشعر أنني في بلد آخر، لا ينتمي إلي، أنا ابن عامين من الإبادة، وهذه المنطقة لا إبادة فيها، الحياة تضج بالجنون، كل شيء على مكانه، والناس تسير وفق نظام قديم، لا استثناء فيه، الدراسة والطعام والشراب، لكن الأسعار تفوق الخيال، نظرًا لاكتظاظ النازحين، الذين جاءوا مثلي هاربين من الموت. 

وصلت المكان الذين سبقتني إليه زوجتي، مساحة متواضعة لا تتجاوز ستين مترًا داخل أرض طينية، سمح صاحب تلك الأرض بوضع خيمة لزوجتي وأخرى لأخيها، بعد توسل متواصل لأجل رابطة الدم والدين. وهناك استقبلني أطفالي الذين كانت وجوههم مشحبرة، كأن الماء لم يلمس أجسادهم منذ شهور، المكان مقزز، عشوائي، كل شيء متناثر على الأرض، لكن المهم بحسب رواية السكان: الحفاظ على الروح هو الأساس وكل ما دونه استثناء، الناس تعتقد أن البقاء مؤقت، ربما يلحقه نزوح آخر وآخر من أجل الحفاظ على الروح، فقد اعتاد الاحتلال استنزاف الأجساد وقهر كل مواطن داخل قطاع غزة حتى الأطفال والنساء، من دون اهتمام بأي قانون دولي أو أخلاقي أو ديني. 

حضنتني زوجتي، بكت بحرقة، فتذكرت كيف كنا نغط في النوم داخل غرفتنا التي تحولت إلى أنقاض والبيت صار مشرعًا للمارة، بعد سحقه بالكامل. قبلت رأسها وقلت لها: "بتهون يا حبيبتي." وأنا موقن أنني أواسي نفسي وعائلتي كذبًا فلا شيء يهون. تحدثنا كثيرًا حول الواقع المرير الذي نعيشه ثم فجأة جاءني ابن عمي لنعود مرة أخرى إلى غزة. سألتني زوجتي بحرقة: "ما بدك تقعد؟" فأجبت ودمعة تطفر من عيني: "لسه عندي شغل بغزة". انصرفت وقلبي يرتجف، خواء في الروح واهتزازات في الجسد، مستودعًا العائلة التي لا أعرف إن كنت سأراها لاحقًا أم سأموت كعشرات الآلاف ممن قضوا في هذه الإبادة داخل شمال غزة.