كيف تنزلق أميركا نحو السلطوية والاستبداد؟!

السؤال الحقيقي لأميركا الآن، كما يطرحه أمثال داوديل، ليس إن كان الاستبداد ممكناً، بل ما إذا كانت الديمقراطية لا تزال مهمة بما يكفي للنضال من أجلها.

  • لا يوجد للديمقراطية وصيٌّ ذاتيٌ مُؤتمن.
    لا يوجد للديمقراطية وصيٌّ ذاتيٌ مُؤتمن.

أصبحت الولايات المتحدة وديمقراطيتها أقرب إلى حافة الهاوية مما كان يعتقد. فديمقراطيتها، كمعايير ومؤسسات وحقوق، تنزلق تحت وطأة استبداد زاحف.

على مدى قرابة قرن من الزمان، طرح كتّاب ومعلّقون أميركيون سؤالاً مُلحاً مستوحى من رواية الكاتب التقدّمي الأميركي، سنكلير لويس، "لا يمكن أن يحدث هنا" (1935): هل يمكن للاستبداد أن يتجذّر في أميركا؟ كانت الرواية بمثابة تحذير في ظلّ صعود فاشية موسوليني ونازية هتلر، وتذكير بأن لا ديمقراطية بمنأى عن الانهيار. 

يعتقد الكاتب والضابط الأميركي السابق، ديك داوديل، أنه في عام 2025، لم يعد السؤال افتراضياً. ولم يعد: "هل يمكن أن يحدث هنا؟" بل "هل سيحدث هنا؟" فمنذ تنصيبه رئيساً في كانون الثاني/يناير 2025، يُعيد دونالد ترامب صياغة النظام الأميركي بسرعة غير مسبوقة منذ "الصفقة الجديدة" التي أطلقها الرئيس فرانكلين روزفلت في الثلاثينيات. لكن بينما سعى روزفلت إلى توسيع الفرص وترسيخ الديمقراطية، شرع ترامب بتحطيم المعايير، وترسيخ السلطة، وإخضاع المؤسسات لإرادته.

الحقيقة الصعبة هي أنّ "الديمقراطية" الأميركية قد دخلت بالفعل مرحلة جديدة.

من حزب إلى طائفة

فالحزب الجمهوري، الذي كان ائتلافاً من المحافظين المعتدلين والليبراليين، أصبح الآن مُستَهلكاً بشخصية واحدة. أصبح الولاء لترامب الآن مقياساً للعضوية؛ فقد تمّ تطهير الحزب من المعارضين أو إسكاتهم. يخضع مجلسا الشيوخ والنواب لسيطرة الجمهوريين، ولم تُبدِ المحكمة العليا المِطواعة رغبة تُذكر في كبح جماح تجاوزات السلطة التنفيذية.

فهذه ليست سياسة حزبية عادية. إنها شكل من أشكال حكم الفرد الواحد مُموّهاً بألوان الحزب. ومع تحرّك الهيئات التشريعية في الولايات بسرعة لإعادة رسم الدوائر الانتخابية وصياغة قواعد تصويت جديدة، يُمهَّد الطريق لترسيخ دائم للتجاوزات. تقود تكساس وفلوريدا هذا المسار، لكنّ ولايات أخرى ستحذو حذوهما. الهدف واضح: ضمان هيمنة الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي لعام 2026 بغضّ النظر عن مشاعر الناخبين.

المفارقة مريرة! فالأميركيون إجمالاً يعتقدون أنّ نظام الولايات المتحدة صُمّم لمقاومة الاستبداد الفئوي. لكنّ "الضوابط والتوازنات" التي تصوّرها الرئيس ماديسون، أحد الآباء المؤسسين، تفشل تحديداً لأنّ فصيلاً واحداً تعلّم كيف يلويها لمصلحته.

المعايير ليست قوانين

يتذكّر داوديل أنّ والده كان يشدّد على أنّ: الكثير مما يسمّى "ديمقراطية أميركية" ليس مُدوّناً في قانون مُحكم، بل يرتكز على المعايير والأعراف، أي قواعد ضبط النفس غير المكتوبة التي وثقنا باحترام قياداتنا لها. فامتنع الرؤساء سابقاً عن الضغط علناً على وزارة العدل. وراعى قادة مجلس الشيوخ سلامة المؤسسات بالمدى الطويل عند ممارسة السلطة الإجرائية. وصدّقت الولايات على نتائج الانتخابات حتى عندما شعرت بخيبة أمل من نتائجها.

لكنّ هذه العادات تتلاشى. فقد ملأ ترامب هيئات الحكومة بالموالين له، وطالب الضباط العسكريين بالولاء الشخصي، وضغط على الولايات لمواءمة قوانينها مع أجندته السياسية. نظرياً، قد تكون كلّ خطوة قانونية تقنياً، لكنّ القانونية لا تعني الشرعية دائماً. لا يمكن للديمقراطية أن تنجح عندما تُعامل معاييرها الأساسية كمضايقات وليس التزامات.

المأساة هي أنه بمجرد انتهاك المعايير، يصعب استعادتها. كلّ انتهاك يُرسي سابقة. ما يفعله رئيس من دون عواقب، سيعتبره التالي استحقاقاً.

أصداء تاريخية

بحسب داوديل، وقعت البلاد في فخاخ سابقة مماثلة. في العصر الذهبي، كان بارونات السكك الحديدية هم من يلوون الحكومة لتحقيق أهدافهم. في عام 1919، الخوف من البلاشفة والشيوعية سحق الحريات المدنية بين عشية وضحاها. في العصر المكارثي، حوّل جنون الارتياب السياسي اختبارات الولاء إلى سلاح.

لكن لم يسبق لرئيس أميركي معاصر أن سعى وراء السلطة الشخصية بمثل هذا الازدراء العلني لمعايير ضبط النفس. حتى ريتشارد نيكسون، الذي جرّسته فضيحة ووترغيت، كان يعمل في عالمٍ فيه رقابة برلمانية، وقضاء مستقل، وصحافة متشكّكة. أما عالم ترامب، فهو مختلف. تُعامل الرقابة كعمل تخريبي، ويُهدّد القضاة بالانتقام، وتُشوّه سمعة الصحافة باعتبارها "عدواً للشعب".

يُخبرنا التاريخ أنّ هذا المسار نادراً ما ينتهي بخير. فالديمقراطيات لا تموت بالضرورة بانقلاب واحد؛ بل تتدهور بآلاف الجروح الصغيرة.

نحو نظام انتخابي مغلق

يلفت داوديل لما وراء واشنطن، لتجد أنّ النمط يزداد حِدةً. في ولاية تلو أخرى، تُعيد الهيئات التشريعية صياغة قانون الانتخابات تحت ستار "النزاهة". فتُقدّم متطلّبات تحديد هوية الناخبين، وتطهير القوائم، وقيود التصويت المبكر كإصلاحات محايدة، بينما تستهدف شباب الناخبين والفقراء والأقليات الأقل ميلاً لدعم الحزب الجمهوري.

تُفاقم إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية التأثير. تُصمّم خطوط الدوائر بدقة متناهية لضمان أغلبية جمهورية حتى عندما يميل التصويت الشعبي إلى الاتجاه الآخر. هذه ليست ديمقراطية تمثيلية؛ بل تمثيل مُوجّه.

اللعبة واضحة: إنشاء نظام انتخابي مغلق يُنتج فائزاً واحداً مُحتملاً. اسمياً لا تبدو الولاية تحت حكم الحزب الواحد، بل عملياً يحكمها حزب واحد.

محاكم طيّعة ومعارضة هشّة

المحكمة العليا، التي وصفها يوماً ألكسندر هاملتون، أحد واضعي الدستور، بأنها "السلطة الأقل خطورة"، أصبحت شريكاً طوعياً في هذا التحوّل. بأغلبية ساحقة من القضاة المحافظين، هدمت المحكمة العليا حواجز الحماية بثبات فأفرغت قانون حقوق التصويت من محتواه، وباركت التلاعب الحزبي بالدوائر الانتخابية، وضيّقت الرقابة الفيدرالية على انتخابات الولايات.

والآن، في ظلّ رئاسة ترامب الثانية، لا تُظهر المحكمة ميلاً يُذكر لمقاومة التعديات. إنّ إذعانها للسلطة التنفيذية، المُبرَّر باسم "وحدانية السلطة"، يمنح الرئيس حرية أكبر من أيّ رئيس سابق منذ أندرو جاكسون. وعندما يُصبح القضاء مطواعاً، يتأكّل الملاذ الدستوري الأخير ضد الاستبداد.

ماذا عن الحزب الآخر؟ الديمقراطيون منقسمون بين قيادة مُتشيّخة مُتردّدة في التنازل عن السيطرة وجناح شاب مُتحرّك يُطالب بإصلاحات جريئة. والنتيجة شلل وحزب أكثر مهارة في النزاعات الداخلية من بناء دفاع فعّال.

يتمسّك بعض المعتدلين باعتقاد أنّ "النظام سيصمد"، بينما يُدين التقدّميون التنازل كخيانة. لا يُعالج أيٌّ من الموقفين إلحاح اللحظة. في مواجهة حركة استبدادية موحّدة، ليس الانقسام إلا استسلام بمسمّى آخر. درس التاريخ قاسٍ: المعارضة المنقسمة خاسرة دائماً. الديمقراطية على المحك. إذا فشلت، فكلّ شيء آخر يصبح بلا قيمة.

نظام يقاوم التصحيح

بالنسبة لمهندس أنظمة، مثل داوديل، إنها حلقات تغذية راجعة فاعلة. كل نجاح لحركة ترامب يشجّع التالي. كلّ مقاومة فاشلة تُضعف المعنويات. قمع الناخبين يُولّد لامبالاة، تُقلل نسبة المشاركة، مما يُشجّع بدوره على قمع أوسع. السيطرة على المحاكم تُصادق على إجراءات جديدة، تُشدّد السيطرة أكثر. إنها حلقة مُتعاظمة.

كلّ من حاول إيقاف شائعة يعرف هذا الشعور: بمجرّد أن يتحرّك النظام، يُطوّر زخمه الخاص. يبدأ بالتصرّف كنظام بيئي يقاوم التصحيح الخارجي، وليس كآلة يُمكن إيقافها. أميركا الآن عالقة في دائرة مُفرغة، تتسارع نحو ترسيخ حكم الأقلية. 

هل سيحدث هذا هنا؟

السؤال ليس مُجرّداً، بل آخذٌ في التكشّف في الوقت الحقيقي. ترسيخ الاستبداد ليس في الأفق؛ بل هو جارٍ بالفعل. يكمن الشكّ الوحيد فيما إذا كان الأميركيون سيقاومون بوحدةٍ وسرعة كافيتين لوقفه.

سيقول البعض "لا يُمكن أن يحدث هذا هنا" لأنهم لا يستطيعون تخيّل حدوثه. لكنّ الخيال دفاعٌ ضعيف. يقول داوديل: اسألوا الألمان عام 1933، أو التشيليين عام 1973، أو الهنغاريين عام 2010. قليل هم من اعتقدوا أنّ ديمقراطيتهم ستنهار حتى حدث ذلك. السؤال الأكثر صدقاً ومباشرةً هو ما إذا كان الأميركيون سيسمحون بحدوث ذلك.

دعوةٌ لليقظة

لا يوجد للديمقراطية وصيٌّ ذاتيٌ مُؤتمن. إنها لا تدوم إلا عندما يهتم عددٌ كافٍ من المواطنين بما يكفي للمطالبة بها، والدفاع عنها، وتوريثها سليمةً من جيل لآخر. إذا انزلقت الولايات المتحدة إلى حكم الحزب الواحد، فلن يكون ذلك لأنه حتميّ، بل لأنّ كثيرين اعتقدوا أنه لا يُمكن أن يحدث.

فلا حكومة الحزبين مضمونة ولا الانتخابات التنافسية ولا الجمهورية نفسها. ما هو مضمون هو أنّ السلبية ستُسرّع التراجع.

السؤال الحقيقي لأميركا الآن، كما يطرحه أمثال داوديل، ليس إن كان الاستبداد ممكناً، بل ما إذا كانت الديمقراطية لا تزال مهمة بما يكفي للنضال من أجلها.