مصر وفلسطين: حين تصبح الجغرافيا قدراً والتاريخ شاهداً (1 / 2)
العلاقة بين مصر وفلسطين ليست مجرّد تضامن بين جارتين، بل وحدة عضوية لجبهتين في معركة واحدة، يتداخل فيها الأمن بالهوية، والتاريخ بالجغرافيا، بحيث لا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى إلا بثمن فادح يدفعه الجميع.
-
مصر وفلسطين: حين تصبح الجغرافيا قدراً والتاريخ شاهداً (1 / 2)
في لحظة تتسارع فيها خرائط الدم، وتُعاد صياغة الشرق الأوسط على مقاس المشروع الصهيوني - الأميركي، لم يعد التذكير بصلابة الرابطة بين مصر وفلسطين ترفاً خطابياً أو حنيناً قوميّاً، بل ضرورة وجودية تمسّ بقاء الطرفين معاً. فالعلاقة بين ضفتي رفح ليست مجرّد تضامن بين جارتين، بل وحدة عضوية لجبهتين في معركة واحدة، يتداخل فيها الأمن بالهوية، والتاريخ بالجغرافيا، بحيث لا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى إلا بثمن فادح يدفعه الجميع.
لكنّ هذا المعنى، الذي كان بديهياً في الوعي الاستراتيجي العربي، يتعرّض اليوم لعملية تفريغ منهجية؛ إذ تُختزل غزة إلى "مشكلة حدود" أو "ملف إنساني"، وتُقصى كلمة الاحتلال من الجملة ليحلّ الفلسطيني محلّ الاتهام. وهو ما حذّر منه المفكّر جمال حمدان بعبارته القاطعة:
"من يملك غزة يهدّد سيناء، ومن يهدّد سيناء يهدّد مصر كلّها… إنّ قناة السويس ليست حدّ مصر الشرقي، بل رفح وغزة هما الحدّ الحقيقي والاستراتيجي".
بهذا المنطق، لا تكون فلسطين قضية تضامن موسمي أو ورقة مساومة، بل مكوّناً بنيوياً في معادلة الأمن القومي المصري والعربي، كما لا تكون سيناء مجرّد خط دفاع، بل امتداداً لفلسطين التاريخية في معركة مفتوحة لا تحسمها خرائط المفاوضات، بل موازين القوة على الأرض.
وقد أدرك قادة مصر عبر العصور - من تحتمس الثالث إلى عبد الناصر - أنّ الانكفاء عن فلسطين لا ينتج حياداً، بل يفتح الباب لخطر وجودي يتسلل إلى عمق الدولة المصرية سياسياً وأمنياً وديموغرافياً. واليوم، بينما تتعرّض غزة لحرب إبادة معلنة، وتطفو إلى السطح خطط تهجير أهلها إلى سيناء، يصبح استدعاء هذا الوعي التاريخي ليس عودة إلى الماضي، بل دفاعاً عن المستقبل نفسه: عن موقع مصر ودورها، وعن بقاء فلسطين كقضية تحرّر لا كملف قابل للتصفية.
تحتمس الثالث: معركة البوابة الشمالية
في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، لم ينتظر الفرعون تحتمس الثالث أن يطرق الخطر أبواب سيناء، بل قاد جيشه في حملة جريئة اخترقت قلب شمال فلسطين، ليخوض معركته الفاصلة عند مجدو. لم يكن ذلك نزوعاً إلى التوسّع من أجل التوسّع، بل إدراكاً بأنّ أمن مصر يبدأ من خارج حدودها المباشرة، وأنّ مجدو - كما يسمّيها المؤرخون العسكريون - "عقدة السيطرة على الهلال الخصيب".
كان تحتمس يعرف أنّ من يسيطر على هذه العقدة يملك زمام المبادرة في الشرق الأدنى كله، وأن تركها في يد خصومه يعني فتح الطريق نحو سيناء والدلتا. لذلك كانت المعركة استباقية بامتياز، لتأمين مركز الدولة المصرية قبل أن يُفرض عليها القتال في عقر دارها.
واليوم، يتكرّر الدرس وإن تغيّرت الأسلحة واللاعبون: فغزة، مثل مجدو، ليست مجرّد نقطة على الخريطة، بل بوابة استراتيجية، إذا أُغلقت أو سقطت، انفتح الخطر على العمق المصري من الشرق، كما انفتح على وادي النيل قبل آلاف السنين.
محمد علي: إلى الشام عبر بوابة غزة
حين شرع محمد علي باشا في مشروعه لبناء مصر الحديثة، لم يحصر جهده في إصلاح الداخل، بل أدرك أنّ حماية الدولة الوليدة تستلزم تأمين عمقها الاستراتيجي خارج حدودها. كان يعلم أنّ النفوذ العثماني في الشام بمثابة خنجر معلّق فوق رأس القاهرة، وأنّ الطريق إلى تحييد هذا الخطر يمرّ أوّلاً عبر فلسطين.
تحرّك جيشه شمالاً، وعبرت قواته غزة، تلك الرقبة الجغرافية التي - كما وصفها المؤرّخ عبد الرحمن الرافعي - "تمرّ منها أنفاس القاهرة إلى الشام". فغزة لم تكن بالنسبة لمحمد علي نقطة عبور، بل خط الدفاع المتقدّم، وضمانة ألّا تتحوّل الشام إلى منصة تهديد لمصر.
واليوم، تبدو هذه الحقيقة أكثر وضوحاً: من لا يمسك بمفاتيح غزة، سيظلّ مهدّداً بأن تُفتح أبواب سيناء أمام قوى معادية، وأن تُختزل مصر إلى دولة منشغلة بضبط حدودها، بدل أن تكون فاعلة في رسم حدود أمنها.
عبد الناصر: فلسطين هي أمن مصر
عندما صعد جمال عبد الناصر إلى المسرح السياسي، لم يكن وعيه بفلسطين وليد الخطابات، بل خبرة ميدانية اكتسبها وهو ضابط شاب محاصر في الفالوجا عام 1948. هناك ترسّخت لديه قناعة استراتيجية صارمة: أنّ العدو الذي يستقر على حدود غزة سيتقدّم حتماً نحو سيناء، ثم إلى قلب القاهرة.
منذ ذلك الحصار وحتى آخر يوم في حياته، أبقى عبد الناصر فلسطين في قلب مشروعه القومي، ليس بوصفها "قضية تضامن" بل جبهة أمامية لحماية الأمن القومي العربي والمصري معاً. قالها بوضوح لا يحتمل التأويل: "إذا فقدنا فلسطين، فلن تكون لنا مصر".
هذا الإدراك حوّل موقفه من فلسطين إلى مبدأ ناظم للسياسة المصرية، فكانت حروب مصر في الخمسينيات والستينيات – من السويس إلى 1967 – استمراراً لمعركة واحدة على البوابة الشرقية. واليوم، تبدو كلمات عبد الناصر وكأنها وُلدت لهذا الزمن، في ظلّ حرب الإبادة على غزة، ومحاولات تهجير أهلها إلى سيناء، وكأنّ التاريخ يعيد التحذير ذاته لكن بصيغة أكثر إلحاحاً.
ما بعد عبد الناصر: حضور غائب
برحيل عبد الناصر، دخلت مصر طوراً جديداً تراجعت فيه العقيدة القومية أمام براغماتية أمنية ضيّقة، خاصة بعد كامب ديفيد. لم تعد فلسطين في عقل الدولة جبهة متقدّمة للأمن القومي، بل تحوّلت إلى "ملف" يُدار في غرف مغلقة، تتناوبه لجان الوساطة وتقرّره اعتبارات التهدئة المؤقتة.
صحيح أنّ مصر واصلت دورها كوسيط في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، لكنها فقدت بوصلتها الاستراتيجية التي ربطت أمنها بشرقها. أضحى الموقف أقرب إلى إدارة أزمات حدودية منه إلى حماية عمق وطني. ومع مرور الوقت، ترسّخت لغة "الحياد" و"الوساطة" محل لغة الانخراط والقيادة، فانكمش الدور المصري وملأت فراغه قوى إقليمية أقلّ وزناً وأبعد رؤية.
هذا التحوّل لم يكن مجرّد تبدّل في الأسلوب، بل إعادة تعريف لموقع مصر في المعادلة. وحين تغيب فلسطين عن قلب الاستراتيجية المصرية، يتبدّد العمق، وتنكشف الجبهة الشرقية، ويصبح الخطر الذي حذّر منه عبد الناصر - تقدّم العدو من غزة إلى سيناء - أكثر احتمالاً، خصوصاً في زمن تُطرح فيه خطط التهجير وتُرسم خرائط جديدة بجرأة غير مسبوقة.
مشروع العزل: تفكيك الرابط المصيري
منذ عقود، يجري - بصمت مدروس - تفكيك الرابط التاريخي والمصيري بين مصر وفلسطين، ليس عبر مواجهة مباشرة مع الثوابت، بل من خلال إعادة صياغة اللغة والمفاهيم. القضية لم تعد "قضية تحرّر" بل "ملف تفاوض"، والمقاومة صارت "طرفاً"، والاحتلال "طرفاً آخر"، وغزة انفصلت عن القدس كما انفصلت مصر - ذهنياً وسياسياً - عن حدودها الشرقية.
هذا التلاعب بالمصطلحات هو أخطر أشكال العزل، لأنه يعيد تشكيل الوعي قبل أن يغيّر الجغرافيا. ووسط حرب الإبادة الممنهجة التي يتعرّض لها أهلنا في غزة، يتسلل مشروع أكثر خطورة: دفع مئات الآلاف نحو التهجير إلى سيناء، لتتحوّل من درع مصر الشرقي إلى مستودع أزمة، وبذلك يُمحى الرابط الجيوسياسي بين فلسطين وسيناء، وتُقطع شرايين الأمن القومي المصري من الشرق.
بهذا المعنى، العزل ليس عسكرياً فحسب، بل هو رمزيّ ومعرفيّ. فحين تُقدَّم فلسطين كعبء يجب ضبطه، لا كقضية وجود، يصبح من السهل على الأجيال الجديدة أن ترى غزة "خارج السياق" بدل أن تراها خط الدفاع الأول عن سيناء. وهذه هي النتيجة التي يسعى المشروع الصهيوني إلى تكريسها: مصر كبيرة على الخريطة، لكن صغيرة في المعادلة.
..
لكنّ القصة لم تكتمل بعد. فما يجري في غزة اليوم ليس فصلاً منفصلاً، بل هو استمرار لصراع قرون على بوابة مصر الشرقية، حيث تختبر الجغرافيا إرادة التاريخ، ويصبح البقاء رهناً بقدرتنا على وصل ما أراد الآخرون قطعه. في الجزء الثاني، نواصل الحفر في عمق المشهد، لنرى كيف تتقاطع حرب الإبادة مع خرائط التهجير، وكيف يتحوّل الصراع على غزة إلى معركة على مصر نفسها.