"وترى كلً أمة جاثية"

كما قال زياد ليس هناك شيء منفصل اسمه "سياسة" لأن السياسة متداخلة مع كل مناحي حياتنا من رغيف الخبز إلى الأغنية والقصيدة والموقف.

0:00
  • كيف لأمة أنجبت أبدع الفلاسفة والمفكرين أن تقف اليوم عاجزة تماما عن دفع الخزي عن نفسها؟
    كيف لأمة أنجبت أبدع الفلاسفة والمفكرين أن تقف اليوم عاجزة تماما عن دفع الخزي عن نفسها؟

حين جثت ماجدة الرومي على ركبتيها لتقديم العزاء لفيروز في هذا الفقد الجلل محاولة جهدها تقبيل يدي فيروز بينما كانت فيروز تسحب يديها وتحاول ابنتها ريما أن تستنهض ماجدة عن ركبتيها، بكيت بكاء مريراً من مشهد هؤلاء السيدات اللاتي عزَّزَن بتصرّفاتهن المتكاملة مأساة فقد زياد، وما يعنيه هذا الفقد لكلِّ عربي مؤمن بثقافته وتاريخه وعظمة أمته ويخشى عليها من فقدان عظماء واحداً تلو الآخر في عدّة مجالات لم تتمكّن الأجيال من تعويضهم. وكان سحب فيروز ليديها ومحاولة ابنتها ريما استنهاض ماجدة تعبيراً عفوياً عن أصالة من ينتمون إلى زمن جميل يتبارى أهله بحسن الخلق وعظيم الأدب والتفوّق على الذات في كلّ مناسبة.

أما عزاء ماجدة فقد لامس شغاف قلوبنا لأنه قدّم إيحاء لآخر عظيمات جيل الرحابنة ولأيقونتهم أنّ جميع القلوب المؤمنة تنعى زياد وتنعى زمن الإبداع والتميّز الثقافيين والفنيين، وتتساءل وهي تودّع هذه القامة الشامخة إلى أين المصير وإلى أين نعود بعد أن نودّعه إلى مثواه الأخير، ومن ذا الذي سيشحذ همم الشباب ويجعل صوتهم ولحنهم ونقدهم مسموعاً بشغف من العراق إلى المغرب؟ رأيت في الأفق أمةً جاثية تُسألُ ماذا قدَّمت وأخّرت وماذا فعلت بعد الرحابنة وبعد زياد للفن والموسيقى والإبداع وكيف ستواجه ما يعتريها من فقر في العزيمة والإرادة والإبداع واستهانة الأعداء بها وإبادتهم لأطفالها ونسائها من دون خوف أو وجل؟

كما قال زياد ليس هناك شيء منفصل اسمه "سياسة" لأنّ السياسة متداخلة مع كلّ مناحي حياتنا من رغيف الخبز إلى الأغنية والقصيدة والموقف، ولذلك فإنّ أيّ تفصيل من تفاصيل حياة الأمّة العربية ينبئك من دون شكّ بالدرك السياسي الذي وصلت إليه وصعوبة استنهاضها واستعادة متانة كيانها ودورها في ظلّ غموض يكتنف أفقها المستقبلي. بينما بعض أبنائها يتوهّمون أنهم قادرون على تحقيق خلاص فردي يزيح عن كاهلهم مسؤولية أمتهم وشعبهم متناسين أنهم جزء من كلّ وأنه مصيبُهم ما يُصيبُ أيّ جزء من هذا الكلّ. فما يمثل أمام ناظريهم اليوم ويحسبون أنهم في مأمن منه سيفاجئُهم في عقر دارهم غداً.

ذلك لأنّ هدف المشروع المقبل هو الاستحواذ على الأرض: كلّ الأرض العربية وعلى الثروات، كلّ الثروات وقتل وتهجير من يصرُّون أنهم أصحاب الحقّ فيها أو تحويلهم إلى رعايا وتابعين من الدرجة العاشرة.

كما أنّ فيروز، أيقونة الرحابنة وصوتهم وصدى إبداعهم الاستثنائي، قد بشّرت بزمن جميل تردّدت أصداؤه كلّ صباح من بغداد إلى طنجة فإنها اليوم وفي نعي ابنها زياد، زينة أبناء هذا الجيل، تقف صامتة مع دمعة تغالبها متشحة بسواد ينعى هذا الزمن وربما ينبئ بما هو أخطر في المقبل من الأيام ما لم تتغيّر الرؤى والاستراتيجيات ويبدأ العمل الجادّ والنوعي من أجل فجر جديد مقبل. صمت فيروز المكلومة هو صدى لصمت ملايين العرب الذين لا يجدون لغة أو صوتاً للتعبير عن الواقع الغريب الذي وصلت إليه الأمور، ولا يجدون وسيلة لتحريك المياه الراكدة والتي رغم ركودها الظاهري تبتلعهم واحداً تلو الآخر قبل أن يتمكّن أيّ منهم من إطلاق صرخة استغاثة.

كيف لأمّة أنجبت أبدع الفلاسفة والمفكّرين والشعراء والأطباء وساهمت مساهمات جليلة في مختلف حقول المعرفة البشرية أن تقف اليوم عاجزة تماماً عن دفع الخزي عن نفسها؟ وعن وقف إبادة أطفالها على مرأى ومسمع العالم برمّته من دون أن تلقى هذه الجريمة الردّ الذي تستحقّه والذي هو في جوهره ردّ اعتبار لهم جميعاً؟ كيف لأمّة حباها الله عزّ وجل أن تكون مهبط الديانات السماوية الثلاث أن تُصابَ بكلّ هذا الوهن والعجز؟

المشكلة ليست عسكريةً فقط على الإطلاق بل تتجاوز حدود ذلك لتكون وهناً في الأنفس والإرادات أحدث خللاً جسيماً في ميزان الثقة بالنفس والهوية والانتماء.

الخزلان السياسي اليوم الذي يفجعنا في أعين ووجوه أطفال ونساء ورجال غزة المكلومين المصدومين من كلّ هذا الخزلان هو في جوهره خزلانٌ ثقافيٌ ومعرفيٌ وفلسفيٌ وإبداعي من أمّة أصابها الوهن في كلّ مفاصلها ومناحي حياتها حين تخلّت عن تقديس قيم الشهامة والنخوة والمروءة والتضحية والوقوف في مواجهة الظلم صفاً واحداً كأنهم بنيان مرصوص. لقد وهنت حين اختار بعض أبنائها أن يبحثوا عن أمنهم في كنف أعدائهم الذين ما برحوا يوجّهون لهم الطعنة تلو الأخرى بينما يداهنون بلغة خداعة مواربة. 

هذا ما ننعاه جميعاً حين ننعى زياد الرحباني والسيد حسن نصر الله وكلّ المقاومين النبلاء والمؤمنين بصدق بحقوق وكرامة هذه الأمة وحقّ أبنائها في العيش بأمن وسلام على أرضها حياة عزيزة كريمة بعيداً عن القهر والاستعمار للأرض والبشر وللذاكرة والإرادة والأثر.