احتلال غزة: بين دوافع نتنياهو وإمكانية الصفقة الشاملة
التاريخ علّمنا أن الصراع ليس جولة واحدة، وأن الحفاظ على القدرة على الاستمرار، سياسيًا وميدانيًا وشعبياً، قد يكون أعظم أشكال الانتصار.
-
المسألة ليست أن ننهي هذه الحرب بشروط العدو، بل أن نغلقها بشروطنا.
منذ بدء العدوان على غزة، يكرر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مصطلح "النصر المطلق"، محددًا ثلاثة أهداف رئيسية: تدمير القوة العسكرية والحكومية لحركة حماس، وتحرير الأسرى الإسرائيليين، وضمان ألا تعود غزة مصدر تهديد لـ"إسرائيل". وفي كل مرحلة من الحرب، كان يصف المعركة الجارية بأنها معركة الحسم، بدءًا من احتلال مدينة غزة ومستشفى الشفاء، مرورًا بخان يونس التي سماها "مدينة السنوار" وعقد الأنفاق، وصولًا إلى رفح التي اعتبرها "المعقل الأخير" لحماس.
لكن بعد مرور 22 شهرًا على الحرب، وستة أشهر من تولي إيال زمير رئاسة الأركان وإطلاق عملية "عربات جدعون"، يعود نتنياهو ليعلن أن احتلال مدينة غزة والمخيمات الوسطى هو "المعركة الأخيرة" نحو النصر المطلق. هذا رغم تحذيرات المؤسسة الأمنية من ثغرات القرار، ومنها تعريض حياة الأسرى للخطر، والزج بالجنود في بيئة حرب استنزاف، وإرهاق قوات الاحتياط والنظاميين، فضلًا عن تدهور صورة "إسرائيل" دوليًا.
في مؤتمره الصحافي الأخير، قدّم نتنياهو الخطة بأسلوبه الإعلامي ذي الطابع السينمائي، مؤكدًا ضرورة سرعة التنفيذ، رغم أن التقديرات العسكرية تشير إلى أن الإعداد للعملية لن يكتمل قبل منتصف تشرين الأول/أكتوبر المقبل. وهنا برزت موجة انتقادات من الإعلام الإسرائيلي، الذي طرح أسئلة مباشرة: ما الجديد هذه المرة والذي لم يحدث من قبل؟ لماذا كانت رفح قبل أشهر "المعقل الأخير" وأصبحت اليوم غزة هي "المعقل الأخير"؟ وهل حُسمت كتائب حماس فعلًا؟ وما مصير "اليوم التالي" الذي لا يريد أحد الحديث عنه؟ هذه التساؤلات تكشف عن فجوة متسعة بين السردية السياسية الرسمية والواقع الميداني.
منذ بداية الحرب، مزجت حكومة نتنياهو بين اعتبارات الميدان وحسابات البقاء السياسي. إحدى أدواته المركزية كانت إطالة أمد الحرب عبر أهداف فضفاضة أو متناقضة، مثل الجمع بين الضغط العسكري على حماس وبين تحرير الأسرى، وهو ما يجعل الهدفين متنافرين عمليًا. لذلك، كان "النصر المطلق" الحقيقي بالنسبة له يعني بلوغ لحظة توقف يمكن تسويقها داخليًا كمحو لفشل 7 أكتوبر، وإعادة إنتاج صورته كقائد تاريخي.
هذا المسار يخدم هدفين متداخلين: ترميم إرثه الشخصي وتأمين موقع قوي في الانتخابات المقبلة. لكن الزمن الذي حاول استثماره انقلب عبئًا عليه، فالمسافة إلى الانتخابات قصيرة، والحكومة فقدت تماسكها بعد انسحاب الحريديم، بينما يفرض قادة "الصهيونية الدينية" مثل سموتريتش وبن غفير أجندتهم ويبدون كقادة فعليين للحرب. ومع ملفات ضاغطة مثل قانون التجنيد وإقرار الموازنة قبل آذار/مارس 2026 لتجنب سقوط الحكومة، تتضاعف الضغوط على نتنياهو.
الخطة العسكرية المطروحة تتضمن احتلال مدينة غزة والمخيمات الوسطى، وتهجير نحو مليون فلسطيني إلى منطقة المواصي جنوب القطاع، من دون أي تصور واضح لمرحلة "اليوم التالي".
هذا الغياب في التخطيط ليس عرضيًا، بل مقصودًا لتجنب مواجهة خيارات صعبة: إما إغضاب الحليف الأميركي والدولي بفرض حكم إسرائيلي مباشر، أو استفزاز الشركاء المتطرفين برفض التهجير. لذلك، يترك نتنياهو "اليوم التالي" في الظل، بينما يحاول صياغة نهاية حرب تخدم مصالحه سواء بالقوة العسكرية أم عبر التفاوض.
على الطرف الفلسطيني، تواجه حركة حماس مسؤولية مضاعفة؛ فهي الممثل الأبرز للمقاومة، عسكريًا وتفاوضيًا. التحدي أمامها هو الموازنة بين حماية الشعب الفلسطيني من الموت والتهجير والعمل على تقليل الخسائر، وبين الحفاظ على جوهر النضال الوطني. وفي ظل جهود دولية وإقليمية متزايدة لمنع اجتياح غزة، وتصاعد احتجاجات عائلات الأسرى الإسرائيليين ضد خطة نتنياهو، تبرز إمكانية الوصول إلى صفقة شاملة، من خلال صياغة نقاط تقاطع بين ما يطلبه نتنياهو لوقف الحرب والمصلحة الفلسطينية العليا، من دون المساس بثوابت القضية.
أولاً، حكم قطاع غزة
إدارة حماس لقطاع غزة منذ 2006 لم تكن هدفها الأساسي كحركة مقاومة، بل أكثر من ذلك، تحوّلت مع الحصار إلى عبء سياسي وإداري، وهو ما تضاعف بعد حرب مدمرة تتطلب إعادة إعمار بتكلفة تفوق 100 مليار دولار.
هنا، قد يكون من المجدي بحث صيغة لإدارة القطاع عبر لجنة إدارية تحت مظلة عربية، تخفف العبء عن الحركة وتسحب الذرائع من نتنياهو.
ثانياً: سلاح المقاومة
لم يكن السلاح في أي مرحلة جوهر المشروع الوطني، بل ظل أداة تتطور وفق متطلبات الظرف السياسي والميداني. أما الجوهر الحقيقي للمقاومة فكان وسيبقى الرغبة بالتخلص من الاحتلال، التي تدفع الجماهير إلى مواجهته ما دام قائمًا على الأرض الفلسطينية. وهذا لا يعني القبول بشروط نزع السلاح، بل تحرير النقاش الوطني من القيود التي تحول دون التفكير في حلول خلاقة لإدارة هذا السلاح.
فقد أظهرت تجربة مسيرات العودة عام 2018، التي أطلقها الشهيد يحيى السنوار كأداة مقاومة سلمية، أن تنويع الوسائل النضالية يمكن أن يحقق أهدافًا سياسية وشعبية من دون خسائر ميدانية جسيمة، وكذلك تجربة انتفاضة الحجارة عام 1987، التي فضحت السردية الإسرائيلية أمام العالم.
في هذه اللحظ التاريخية، إدراك المخاطر الاستراتيجية لخطة الاحتلال الإسرائيلية، يفرض على الفلسطينيين، قيادة وقوى ومجتمعًا، وفي مقدمتها حركة حماس، الإدراك أن الذكاء السياسي ليس في رفع سقف الشعارات فحسب، بل في صياغة خطوات تبدو في عين العدو وكأنها تنازلات، بينما هي في جوهرها تثبيت لأسس الصمود وديمومة النضال، تماشياً مع الحكمة المنسوبة إلى نابليون بونابرت التي تقول: "حين تتفاوض، اجعل الطرف الآخر يظن أنه حصل على ما يريد، حتى ولو أخذت كل ما تحتاجه أنت"، فالتاريخ علّمنا أن الصراع ليس جولة واحدة، وأن الحفاظ على القدرة على الاستمرار، سياسيًا وميدانيًا وشعبياً، قد يكون أعظم أشكال الانتصار.
فالمسألة ليست أن ننهي هذه الحرب بشروط العدو، بل أن نغلقها بشروطنا، حتى ولو ارتدى ذلك في نظره ثوب "التسوية"، فيما هو في حقيقتنا ركيزة لاستمرار نضال أطول وأعمق.