التوسع الإسرائيلي والتحدي العربي: قراءة في مشروع "إسرائيل الكبرى" واستراتيجيات الرد
"إسرائيل" ترى نفسها "دولة" فوق الإقليم، مهمتها ليست حماية "حدودها"، بل فرض واقع جديد يضمن لها النفوذ على شرايين التجارة والطاقة، والتحكّم في قرارات العواصم العربية.
-
"إسرائيل الكبرى" من التصوّر النظري إلى أداة سياسية.
منذ نشأة "إسرائيل" قبل 77 عاماً، وهناك تصريحات ترد على ألسنة عدد من المسؤولين وكبار السياسيين الإسرائيليين تكشف عن نيّات مبيّتة لاحتلال كامل الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى التوسّع نحو دول الجوار مثل مصر والأردن ولبنان وسوريا، لكن تصريح بنيامين نتنياهو، في 13/8/2025، يُعدّ سابقة تاريخية، لأنه للمرة الأولى على مدار ثمانية عقود، يتحدّث رئيس الحكومة الإسرائيلية علانية عن تبنّيه لما يسمّى بـ"إسرائيل الكبرى"، والتي تشمل الأراضي الفلسطينية المحتلة وأجزاء من الدول العربية المحيطة.
وقد تسبّبت تلك التصريحات غير المسؤولة لرئيس حكومة الاحتلال في موجة غضب عربية واسعة على المستوى الشعبي، وإن كان ردّ الفعل الرسمي أقلّ من المستوى المأمول؛ خاصة أنّ تصريحات نتنياهو تزامنت مع تصريحات أخرى لوزير المالية بتسلئيل سموتريتش، والتي أعلن عبرها عن مشروع لبناء بؤرة استيطانية في المنطقة المعروفة باسم "E1" (الواقعة بين مستوطنة "معاليه أدوميم" ومدينة القدس)، ذلك بعد أكثر من 20 عاماً من تجميد البناء فيها، في خطوة تهدف إلى منع نهائي لكلّ المخططات المتعلّقة بقيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967.
"إسرائيل الكبرى" من التصوّر النظري إلى أداة سياسية
تعود جذور فكرة "إسرائيل الكبرى" إلى ما قبل قيام "الدولة" العبرية عام 1948، إذ ظهرت في أدبيات الحركة الصهيونية كتصوّر جغرافي يتجاوز حدود فلسطين الانتدابية ليشمل مناطق من الأردن وسوريا ولبنان وسيناء المصرية.
البداية مع أواخر الثلاثينيات حين عبّر دافيد بن غوريون الذي أصبح لاحقاً أول رئيس وزراء لـ"إسرائيل" عن استعداده لقبول خطة التقسيم البريطانية كخطوة مرحلية، لكنه أكد أنّ الهدف الأبعد هو ضمّ أراضٍ إضافية في المستقبل، مثل الضفة الشرقية في الأردن وأجزاء من سيناء والجولان، مع هذا لم ترد رؤية بن غوريون في أيّ خطاب علني أو رسمي، لكنها تظهر في محاضر اجتماعات الوكالة اليهودية (المحفوظة في أرشيف دولة إسرائيل) ومذكّراته الشخصية، كما وردت بوضوح في الوثائق الداخلية التي استشهد بها مؤرخون إسرائيليون مثل بني موريس.
ومع "إعلان الاستقلال" عام 1948، لم تحدّد "الدولة" الوليدة حدوداً نهائية، ما ترك الباب مفتوحاً أمام مشروع التوسّع، وفي أزمة السويس سنة 1956 دخلت القوات الإسرائيلية إلى سيناء، وصرّح بن غوريون في الكنيست أنّ السيطرة على هذه المنطقة تمثّل عمقاً أمنياً وحيوياً لـ "دولة" الاحتلال.
ثم جاءت حرب 1967 التي غيّرت المعادلة بالكامل، إذ احتلت "إسرائيل" الضفة الغربية وغزة وسيناء والجولان، حينها أعلن مناحيم بيغن، رئيس الوزراء اللاحق وزعيم حزب الليكود، وقادة من التيار القومي رفضهم لأيّ انسحاب من "يهودا والسامرة" باعتبارها قلب الأرض التاريخية لليهود.
في السبعينيات، صعد حزب الليكود اليميني إلى الحكم بقيادة بيغن، وبرزت شخصيات مثل غيئولا كوهين، قيادية يمينية بارزة وناشطة في مجال الاستيطان، وإسحاق شامير، رئيس الوزراء اللاحق وأحد قيادات التيار القومي، اللذان دفعا باتجاه رفض أيّ تنازل عن الأراضي المحتلة.
في الثمانينيات، اكتسب التيار الديني القومي زخماً متزايداً، وطرح رفائيل إيتان، رئيس أركان "الجيش" الإسرائيلي آنذاك، رؤى أمنية تربط بقاء "إسرائيل" بالسيطرة الدائمة على الضفة والجولان واعتبار الأردن جزءاً من المجال الأمني الطبيعي، أما الحركات الدينية مثل غوش إيمونيم فقدّمت بعداً توراتياً للفكرة، واعتبرت أنّ استعادة كامل "أرض إسرائيل" واجب ديني.
وفي التسعينيات، ومع توقيع اتفاق أوسلو، وافق إسحاق رابين، رئيس الوزراء من حزب العمل، على مسار يمنح الفلسطينيين حكماً ذاتياً، لكن قادة اليمين وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو وشامير حذّرا من أنّ أيّ انسحاب يهدّد المشروع الصهيوني ويقوّض أمن "الدولة".
ومنذ عام 2000، ومع اندلاع الانتفاضة الثانية، عزّزت حكومات اليمين بقيادة أريئيل شارون ثم نتنياهو، خطاب الأمن لتبرير التوسّع الاستيطاني ورفض الانسحاب، فيما واصل التيار الديني القومي التأثير عبر أحزاب مثل "البيت اليهودي" وشخصيات مثل نفتالي بينيت، وزير الدفاع ورئيس الوزراء اللاحق، الذي أكد أنّ الضفة الغربية جزء غير قابل للتفاوض من أرض "إسرائيل".
في العقد الأخير، تصاعد نفوذ الصهيونية الدينية أكثر مع بروز بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية وزعيم حزب "الصهيونية الدينية"، الداعي لضمّ الضفة الغربية وفرض السيادة الإسرائيلية عليها، وإيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي وزعيم حزب "عظمة يهودية"، الرافض لأي كيان فلسطيني والداعم للتوسّع بدوافع دينية وأمنية.
وعلى امتداد هذا المسار، يمكن ملاحظة أنّ اليمين الصهيوني، بشقّيه السياسي والديني، كان الحاضنة الأكثر إخلاصاً لفكرة التوسّع خارج حدود فلسطين التاريخية، فبالنسبة لقياداته، لا تشكّل حدود 1948 أو حتى 1967 نهاية المطاف، بل نقطة انطلاق نحو ما يعتبرونه "المجال الحيوي لإسرائيل"، الممتد من النيل إلى الفرات في بعض التصوّرات، أو على الأقل شاملاً كامل الضفة الغربية والجولان وأجزاء من الجوار العربي. وهكذا تحوّلت فكرة "إسرائيل الكبرى" من حلم مبكر إلى عقيدة سياسية ثابتة، تتجدّد مع كلّ جيل جديد من قادة اليمين القومي.
كيف يمكن قراءة تصريح نتنياهو الأخير؟
تصريح نتنياهو، الذي يقود أشدّ الحكومات الإسرائيلية يمينيّة عبر تاريخها، يعكس جوهر التفكير الاستراتيجي للحركة الصهيونية منذ نشأتها، لكنه هذه المرة جاء بلا أقنعة دبلوماسية أو شعارات سلام مزيّفة، فالمشروع اليوم يؤكد أنّ حكومات الاحتلال لا يمكن أن تتوقّف عند السيطرة على ما تبقّى من فلسطين التاريخية، بل ستمتد إلى إعادة رسم الخريطة السياسية للشرق الأوسط بما يضمن لـ"إسرائيل" التفوّق والقيادة الإقليمية المطلقة، برعاية أميركية، وبتنسيق مع القوى الغربية.
بهذا التصريح، كشف نتنياهو - ربما باندفاع أو غرور سياسي - أنّ "إسرائيل" ترى نفسها "دولة" فوق الإقليم، مهمتها ليست حماية "حدودها"، بل فرض واقع جديد يضمن لها النفوذ على شرايين التجارة والطاقة، والتحكّم في قرارات العواصم العربية، سواء بالقوة الناعمة أو عبر أدوات الضغط العسكري والاقتصادي، هذه الرؤية تلغي عملياً أي أساس للتطبيع أو "السلام الإبراهيمي" الذي يروّج له البعض.
هذه الحقيقة، رغم قسوتها، تمنح العرب الرافضين للتطبيع سلاحاً سياسياً وأخلاقياً، إذ تُسقط كلّ الذرائع التي يستخدمها المطبّعون لتبرير الانفتاح على "تل أبيب"، كما تضع أمام الشعوب العربية صورة واضحة: "إسرائيل لا تنظر للعرب كشركاء، بل كمجال حيوي للتوسّع والسيطرة".
في هذا السياق، تبرز المقاومة الفلسطينية كخط الدفاع المتقدّم عن المصالح العربية، وخصوصاً المصرية والأردنية، وعن أمن واستقرار دول الجوار العربي جميعاً، فقد دفع الفلسطينيون عبر عقود من المواجهة دماءهم ثمناً باهظاً لمنع "إسرائيل" من التمدّد خارج نطاق فلسطين التاريخية، وحماية عمق الأمن القومي العربي، فكلّ معركة يخوضها الفلسطينيون في غزة أو الضفة الغربية ليست دفاعاً عن أرضهم، بل سدّاً مانعاً أمام مشروع توسّعي يسعى لإخضاع دول الجوار للنفوذ الإسرائيلي المباشر.
إنّ قراءة تصريحات نتنياهو بهذا العمق تفرض على العرب إعادة التفكير في استراتيجياتهم تجاه "إسرائيل"، ليس من منطلق التضامن مع الفلسطينيين فقط، بل من باب الدفاع عن السيادة والمصالح الوطنية لكلّ دولة عربية، فالمشروع الذي يتحدّث عنه القادة الإسرائيليون اليوم لا يعرف حدوداً جغرافية، ولا يتوقّف إلا أمام جدار من المقاومة والوحدة العربية الحقيقية.
الردّ العربي الواقع والمأمول
ردّت مصر والأردن والأمانة العامة لجامعة الدول العربية على تصريحات نتنياهو بتأكيد رفضها لأيّ مساس بالسيادة العربية أو الحقوق الفلسطينية، معتبرة هذه التصريحات تهديداً مباشراً للأمن الإقليمي، كما شدّدت القاهرة وعمان على أنّ "إسرائيل" لا يمكن أن تتجاوز حدودها التاريخية، بينما رأت الجامعة العربية أنّ هذه التصريحات تمثّل تحدّياً للقانون الدولي والأمن الجماعي العربي.
مع ذلك، يظل الشارع العربي ينتظر المزيد من المواقف الفاعلة من الأنظمة والمسؤولين تجاه "إسرائيل"، لا من باب التضامن مع الفلسطينيين فقط، بل دفاعاً عن مصالح الدول العربية جميعاً، فالصمت أو المواقف الرمزية لا تكفي لمواجهة التهديدات التوسّعية.
ومن بين الوسائل التي يمكن أن يستخدمها العرب للردّ على مشروع "إسرائيل الكبرى":
أ- التلويح بوقف أو تجميد اتفاقيات التطبيع القائمة، مثل اتفاقية كامب ديفيد بين مصر و"إسرائيل"، واتفاقية وادي عربة بين الأردن و"إسرائيل".
ب- استخدام الضغوط الاقتصادية والسياسية، بما في ذلك المقاطعة أو فرض قيود على التعاون الاقتصادي والتجاري مع "إسرائيل".
ج- دعم المقاومة الفلسطينية سياسياً ومادياً، فهي تمثّل خط دفاع متقدّماً عن مصالح دول الجوار، والمفتاح هنا يكمن في التعاون الإقليمي بين مصر وإيران، الذي يشكّل قلب موازين القوى في المنطقة ويمثّل تهديداً حقيقياً لأيّ مشاريع إسرائيلية للهيمنة على الشرق الأوسط.
د - تجميد التعاون الأمني والاستخباراتي، وتقييد التعاون العسكري والمناورات المشتركة.
هـ- التحرّك القانوني والدولي، إذ يعتبر تصريح نتنياهو بمثابة إعلان عن مشروع توسّعي يهدّد السيادة؛ ويمكن تقديم شكاوى للأمم المتحدة والمحاكم الدولية، وحشد الدعم الدبلوماسي من التحالفات الإقليمية والدولية لممارسة ضغط جماعي على "إسرائيل"، بما يحوّل القانون الدولي إلى أداة رادعة تمنع أيّ تصعيد أو تغيير للواقع الجغرافي والسياسي في المنطقة.
و- السماح للتظاهرات الرافضة للممارسات الإجرامية الإسرائيلية بالتحرّك بشكل أوسع، وتمكين السياسيين والمجتمع المدني من إيصال صوت عربي قوي مناهض للاحتلال، ما قد يغيّر المشهد السياسي الإقليمي ويزيد الضغط على "إسرائيل" للالتزام بالقوانين الدولية ووقف أيّ مشروع توسّعيّ.
وبهذه الوسائل، تتضح أهمية الربط بين الردّ العربي الموحّد والمقاومة الفلسطينية كخطّ دفاع أوّل، وأهمية توظيف كلّ الوسائل السياسية، الاقتصادية، الاستراتيجية، والدبلوماسية لمواجهة المشروع التوسّعي الإسرائيلي وحماية الأمن القومي العربي.