في وجه الخطر الوجودي: المقاومة خيار لا بديل عنه

التجارب أثبتت أن المقاومة هي السبيل الوحيد للحفاظ على الهوية والكرامة، وضمان بقاء لبنان كيانًا مستقلًا ووطنًا جامعًا.

0:00
  • المقاومة خيارًا وطنيًا جامعًا لكل اللبنانيين، لا خيار فئة دون أخرى.
    المقاومة خيارًا وطنيًا جامعًا لكل اللبنانيين، لا خيار فئة دون أخرى.

لطالما أكّد الأمين العام السابق لحزب الله الشهيد السيد حسن نصر الله أن "المقاومة هي التي حفظت بالدم وبالجهاد هوية لبنان" وخاصة "أمام التهديدات  التاريخية الاستثنائية". استحضار هذا الكلام ضروري في الظروف الراهنة حيث لم يعد من المبالغة القول إنّ لبنان مهدَّد وجوديًّا، وأنّ الاستهداف هذه المرّة لا يطال فئة لبنانية معيّنة فحسب.


فطبيعة المقاربة الدولية، وخصوصًا الأميركية، تجاه المنطقة، تنبئ بهذا الواقع، كما أنّ هشاشة الوضع اللبناني، التي تؤكدها الوقائع التاريخية، تشير إلى أنّه لن يصمد أمام أيّ عبث بجغرافيته أو ديمغرافيته.

إن التمعّن في تاريخ لبنان يفضي إلى استنتاج واضح: المسّ بأيّ من مقوّمات أو مكوّنات وجوده يعني نهاية فعلية لهذا البلد الصغير.
ففي لبنان، هناك مجموعة من البديهيات، أبرزها أن عاملَي الجغرافيا والديموغرافيا أساسيان لبقاء لبنان، وللمحافظة على هويته.
وخسارة لبنان لأي جزء من جغرافيته تعني حُكمًا سلخ جزء من مكوّناته عنه.
كما أن فقدان أيّ مكوّن من مكوّنات نسيجه الوطني، سواء بسبب النزوح أو التهجير القسري، يشكّل تغييرًا ديموغرافيًّا من شأنه أن يفقد لبنان تنوّعه، الذي يُعدّ جوهر كونه وطنًا "رسالة".

فلبنان لن يبقى لبنان إن جرى أيّ تعديل في جغرافيته أو ديموغرافيته.
وهذا التهديد، وتلك المخاطر، لم يكن لبنان يومًا بمنأى عنها؛ فالمشروع الصهيوني كان أول من هدد الوجود اللبناني.

منذ البدايات، كانت هناك محاولات ومساعٍ صهيونية، بالتواطؤ مع الجهات التي أبرمت اتفاقية سايكس-بيكو وأطلقت وعد بلفور، لضم أجزاء من الأراضي اللبنانية إلى المشروع الصهيوني.

تضمنت المطالب الصهيونية توسيع حدود "إسرائيل" أحيانًا إلى نهر الليطاني، وأحيانًا أخرى إلى نهر الأولي.
ولم يتردد أصحاب المشروع الصهيوني في طرح فكرة تهجير سكان الجنوب اللبناني، وغالبيتهم من الشيعة، حيث جرت مباحثات جدّية حتى مع بعض اللبنانيين في هذا الشأن، وطُرحت عروض مالية لإتمام ذلك.

شاءت الظروف آنذاك، إلى جانب طبيعة التنافس الفرنسي-البريطاني في المنطقة، أن تحول دون تحقيق هذا الهدف. إلا أن الفكرة لم تغب يومًا عن التفكير الاستراتيجي الصهيوني، بل بقيت حاضرة ضمن تطلعاته ومساعيه.

وسرعان ما تحوّلت النوايا إلى وقائع؛ فقد عملت "إسرائيل" على تعديل الحدود، ولجأت إلى الاعتداءات المتتالية وشن الحروب التي أدت إلى  قضم تدريجي للأراضي اللبنانية، وإلى احتلال مزارع شبعا والعديد من النقاط الحدودية.
ولا تخفي "إسرائيل" نواياها في الاحتفاظ بهذه الأراضي المحتلة، إذ يصرّح مسؤولون ووزراء إسرائيليون علنًا بنيّة البقاء فيها إلى أجل غير مسمّى، معتبرين أن إنشاء منطقة عازلة وتفريغها من سكانها شرطان لا يمكن التنازل عنهما لحماية "أمنهم"، ويصرّون أيضًا على منع إعادة الإعمار في القرى التي دمروها على طول الحدود.

هذه المخاطر ظلّت بعيدة عن أولويات أصحاب القرار الرسمي في لبنان، ولم تُعرها الحكومات المتعاقبة الاهتمام اللازم، فيما كانت المقاومة وحدها من تنبّه لها، وعملت، منذ انطلاقتها مع الإمام السيد موسى الصدر، على منع أن يلقى الجنوب اللبناني مصير مناطق أخرى مثل الضفة الغربية، والجولان، وغزة.

وبالفعل، استطاعت المقاومة أن تمنع الاستيطان الإسرائيلي، فكان لبنان البقعة الوحيدة التي احتلتها "إسرائيل" لمدة 18 عامًا، ولم تستطع خلالها إقامة مستوطنة واحدة فيها، إلا أن الأطماع الإسرائيلية لم تتوقّف، خاصة في ظل التماهي بين الأداء الإسرائيلي والمقاربة الأميركية تجاه منطقتنا.

من الواضح أن واشنطن لا تهتم مطلقًا بقضايا الحدود والجغرافيا وسيادة الدول، إذ يتعامل الرئيس الأميركي وفق منطق الصفقات. ولا يتردد في الحديث عن تبادل أراضٍ أو التنازل عنها على غرار ما طرحه حول أوكرانيا أو جاهر به  تجاه كندا ونيوزيلندا  فضلاً عن مطالبته بتغيير اسم خليج المكسيك.

أما في ما يخص تعاطي ترامب مع منطقتنا، فإن غزة وسوريا هما المثال الأكثر وضوحًا على المخاطر الداهمة. ففي حين يقترح  الرئيس الأميركي تهجير أهل غزة إلى مكان آخر، وتحويل هذه المنطقة ذات الخصائص التاريخية إلى منطقة سياحية.

تشهد سوريا أحداثاً مؤلمة ومحزنة ومذهلة. يمارس القتل والأعمال الإجرامية تجاه أقليات الساحل والسويداء ويتعرض المسيحيون لانتهاكات متعددة وتتناقص أعدادهم بشكل كبير في الجغرافيا السورية، بينما تستغلّ "إسرائيل" الفوضى السورية كفرصة للتوسّع والسيطرة على مزيد من الأراضي.

وهذا يحدث بمباركة أميركية ومن دون أن يحرك أحد في الداخل السوري ساكناً، في حين تُعلن "تل أبيب" صراحة أنها باقية في تلك الأراضي ما ينبىء بمصير يشبه ما حصل في الجولان، حيث ضمّته "إسرائيل" إلى كيانها، وجرى اعتراف ترامب بهذا الأمر، كما أقيمت المستوطنات فيه. ويبقى مصير جبل الشيخ، ومناطق في ريف القنيطرة وريف دمشق، ومنابع حوض اليرموك في درعا على المحك في ظل الحديث عن "ممر داود".

كل هذا يعني شيئاً ثابتاً ومؤكداً وهو أننا في لبنان لن يكون لنا أي قيمة ذاتية في ظل عقلية الصفقات الترامبية ورؤية واشنطن  لمصالحها الاستراتيجية. وقد جاءت تصريحات السفير الأميركي في تركيا، توم باراك، حين ألمح إلى احتمال ضمّ لبنان إلى سوريا، لتؤكد أمرين أساسيين:

أولًا، أن لبنان ليس مستثنًى من هذه الرؤية الأميركية، وهي رؤية لا يجوز الاستهانة بها في بلد يقوم، منذ نشأته، على توازن هشّ للغاية.

وثانيًا، أن لبنان في قلب العاصفة، وأن جميع مكوناته مهدّدة.

كيف نواجه؟
لا خيار أمامنا سوى الخيار الوطني، الذي وحّد اللبنانيين في محطات مفصلية من تاريخهم، والمتمثّل بالمقاومة. فقد أثبتت التجارب أن المقاومة هي السبيل الوحيد للحفاظ على الهوية والكرامة، وضمان بقاء لبنان كيانًا مستقلًا ووطنًا جامعًا.

وفي ظل التحديات المستجدة التي يفرضها الواقع الجيوسياسي الراهن والبيئة الاستراتيجية المحيطة بلبنان، فإن المطلوب هو العمل السريع من أجل بلورة استراتيجية شاملة للأمن الوطني، تقود إلى منظومة دفاعية، تكون المقاومة في صلبها.

وبذلك، تصبح المقاومة خيارًا وطنيًا جامعًا لكل اللبنانيين، لا خيار فئة دون أخرى، ولا مكوّن دون سواه.