مشروع التهجير: هل أوقفه اتفاق شرم الشيخ أم لا يزال يلوح في الأفق؟
استمرار التلويح بملف التهجير، حتى بشكل مخفي، له آثار سياسية ودبلوماسية، إذ يمنح اليمين الإسرائيلي ورقة ضغط على الحكومة الأميركية والدول العربية، ويجعل أي خطوات نحو حل دائم أكثر هشاشة.
-
مشروع التهجير: هل انتهى فعلياً؟
في 13 أكتوبر 2025، اجتمع قادة أكثر من 30 دولة في مدينة شرم الشيخ المصرية لعقد قمة السلام، التي ترأسها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الأميركي دونالد ترامب. كانت هذه القمة، المعروفة بـ"قمة شرم الشيخ للسلام"، خطوة دبلوماسية تاريخية تهدف إلى إنهاء الحرب في قطاع غزة، التي استمرت لأكثر من عامين منذ اندلاعها في أكتوبر 2023.
وقّع الوسطاء – الولايات المتحدة، مصر، قطر، وتركيا – على "وثيقة شرم الشيخ" أو "إعلان ترامب للسلام الدائم والازدهار"، والتي تضمنت وقف إطلاق النار، تبادل الأسرى، وخطط إعادة الإعمار. لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، هو: هل يعني هذا الاتفاق نهاية مشروع التهجير الإسرائيلي لسكان غزة، أم أنه مجرد هدنة مؤقتة تسمح لليمين المتطرف في "إسرائيل" بإعادة ترتيب أوراقه؟
سياق القمة وأهدافها الرئيسية
عقدت القمة في مركز المؤتمرات الدولي بشرم الشيخ، وسط حضور دولي واسع شمل أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، ملك الأردن عبد الله الثاني، وممثلين عن الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.
كانت المبادرة مشتركة مصرية-أميركية، تهدف إلى دعم اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التفاوض عليه في وقت سابق بوساطة مصرية وقطرية وأميركية وتركية. تضمنت وثيقة ترامب التي أُعلن عنها من نيويورك 20 نقطة رئيسية، منها: وقف فوري للنار، تبادل الأسرى (نحو 20 رهينة إسرائيلية حية مقابل 2000 سجين فلسطيني)، انسحاب إسرائيلي تدريجي من غزة، ودعوة إلى مؤتمر إعادة إعمار في القاهرة نوفمبر 2025، ونزع سلاح فصائل المقاومة.
تم تحديد معالم قمة شرم الشيخ، بناءً على وثيقة الرئيس الأميركي، وبعد التوقيع وصف ترامب الحدث بـ"يوم عظيم للشرق الأوسط"، مشيراً إلى أنه "أنهى الكابوس الطويل والمؤلم" في غزة، أما السيسي، فقد أكد أن الاتفاق "أجهض مخططات التهجير"، معتبراً إياه فرصة أخيرة للسلام. ومع ذلك، غاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن القمة، مبرراً ذلك بالمناسبات الدينية اليهودية، ما أثار تساؤلات حول التزام "إسرائيل" الكامل ببنود الهدنة، خصوصاً في ضوء التصريحات الإسرائيلية المتكررة الرافضة للانسحاب من قطاع غزة.
مشروع التهجير: هل انتهى فعلياً؟
منذ بداية الحرب، أثيرت مخاوف من خطط إسرائيلية لتهجير سكان غزة (نحو 1.9 مليون نازح) إلى سيناء أو مناطق أخرى، كجزء من استراتيجية لتغيير الديموغرافيا.
في فبراير 2025، اقترح ترامب "نقل سكان غزة إلى مناطق مجاورة"، لكن مصر، مدعومة بموقف العواصم العربية الأخرى، رفضت ذلك رفضاً قاطعاً، معتبرة أي تهجير بمنزلة خط أحمر يهدد استقرار المنطقة ككل، لذا أكد اتفاق شرم الشيخ صراحةً على "عدم تهجير أي فلسطيني قسرياً"، وحق العودة للنازحين، مع التركيز على إعادة الإعمار في غزة نفسها.
لكن المخاوف لم تتلاشَ بالكامل، فهناك إمكانية حدوث "تهجير ناعم" تحت ستار المساعدات الإنسانية، أو برامج لم الشمل، أو إعادة توطين مؤقتة تديرها منظمات دولية، ما قد يخلق مخرجاً للسياسات التوسعية الإسرائيلية من دون انتهاك ظاهر للاتفاق.
هذا السيناريو يثير القلق من أن تكون هناك محاولة تدريجية لتغيير التركيبة الديموغرافية في غزة، عبر أساليب غير مباشرة، قد تؤدي إلى تفريغ تدريجي للقطاع من سكانه الأصليين، بما يكرس الهيمنة الإسرائيلية على المناطق الحدودية ويضعف قدرة الفلسطينيين على الصمود والمطالبة بحقوقهم.
بالإضافة إلى ذلك، فإن استمرار التلويح بملف التهجير، حتى بشكل مخفي، له آثار سياسية ودبلوماسية، إذ يمنح اليمين الإسرائيلي ورقة ضغط على الحكومة الأميركية والدول العربية، ويجعل أي خطوات نحو حل دائم أكثر هشاشة.
موقف اليمين الإسرائيلي: إصرار على الاستمرار
اليمين المتطرف في "إسرائيل"، ممثلاً في حزبي الليكود والصهيونية الدينية، لم يظهر أي تراجع عن نواياه، فوزير المالية بتسلئيل سموتريتش صرّح بعد يومين من اجتماع شرم الشيخ بأنه سيتم بناء مستوطنات يهودية في غزة، لأنه "من دون مستوطنات لا أمن لإسرائيل"، كما دعت وزيرة الابتكار جيلا غاملييل إلى "هجرة طوعية" من غزة، معتبرة القطاع "غير صالح للسكن".
هذه التصريحات تعكس أيديولوجيا ترى غزة جزءاً من "أرض إسرائيل الكبرى"، وتدعم خططاً لتوسيع المستوطنات، ما يتطلب تفريغ السكان الفلسطينيين بشكل غير مباشر.
أما نتنياهو فرفض أي دور للسلطة الفلسطينية في غزة، ووعد بعدم السماح بإقامة دولة فلسطينية، وأكد مبكراً أن هدف "خطة ترامب" لم يكن سوى "إحراج حركة حماس مع ضمان بقاء القوات الإسرائيلية في القطاع".
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن 82% من اليهود الإسرائيليين يدعمون طرد سكان غزة من أراضيهم، ما يعكس قوة الأفكار التي تتبناها الأحزاب اليمينية داخل المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن القوات الإسرائيلية نفذت انسحاباً جزئياً إلى "الخط الأصفر"، فإن النخب السياسية الإسرائيلية تضغط كي تُستغل "المرحلة الثانية" لتوسيع السيطرة، ما يجعل الاتفاق يبدو كـ"هدنة مؤقتة" لا أكثر.
ردود الفعل العربية: بين المسار الدبلوماسي والضغط المُثمر
لعبت مصر دوراً محورياً في رفض أي تهجير لسكان غزة، مستندة إلى موقعها الاستراتيجي وقدرتها على التأثير عبر القنوات الدبلوماسية. ولا تزال القاهرة تمارس ضغوطاً مستمرة عبر الوسطاء لضمان تنفيذ اتفاق شرم الشيخ، مؤكدة أن أي محاولات للالتفاف على بنوده ستكون مرفوضة.
على مستويات أخرى، يمكن التنسيق عبر جامعة الدول العربية، والخروج ببيانات إعلامية حادّة وموجهة إلى دول العالم، يتم فيها رصد الخروقات التي ترتكبها القوات الإسرائيلية منذ توقيع اتفاق شرم الشيخ، لكسب الأنصار الدوليين وإظهار "إسرائيل" كدولة غير ملتزمة بأي إجراءات تُفضي إلى "التسوية السلمية"، أما اقتصادياً فلا تزال الفرصة قائمة للتلويح بإمكانية تعليق اتفاقيات التطبيع مثل كامب ديفيد وإبراهام، ، إذا استمرت "إسرائيل" في استفزازها أو خرقها للاتفاقيات.
رغم ذلك، تبدو المواجهة مع حكومة الاحتلال صعبة، خصوصاً مع غياب موقف عربي موحد يدعم المقاومة الفلسطينية المسلحة، التي تُعد الطرف الوحيد القادر على إحداث ضغط حقيقي على سلطات الاحتلال وعرقلة مخططات التوسع الاستيطاني. هذا الواقع يوضح هشاشة الرد العربي الرسمي أمام التصعيد الإسرائيلي، ويبرز الحاجة الملحّة إلى تنسيق عربي وإقليمي فاعل، يجمع بين الضغط الدبلوماسي والاقتصادي والدعم الشعبي لمواجهة أي تهديد مستقبلي لقطاع غزة.
توسيع التحالفات: نحو جبهة مع إيران، روسيا، والصين
لمواجهة التصعيد الإسرائيلي القائم، تبرز الحاجة إلى توسيع التحالفات الإقليمية والدولية، فعلى الصعيد الإقليمي، يلزم تعزيز العلاقات مع إيران، التي ترعى محوراً واسعاً للمقاومة يمتد من طهران وصولاً إلى صنعاء، وكانت القاهرة قد بدأت بالفعل خطوات للتقارب مع طهران في 2025، إذ زار وزير الخارجية الإيراني القاهرة مرات عدة، وتم الاتفاق على فتح حوار سياسي حول أمن البحر الأحمر وقطاع غزة.
هذا التقارب لا يُفترض أن يقتصر على البُعد السياسي فقط، بل يجب أن يمتد إلى إمكانيات التعاون التجاري والعسكري، رغم التحديات المتمثلة في تحفظ بعض دول الخليج، التي ترى في "النفوذ الإيراني" خطرًا على مصالحها.
على المستوى الدولي، يمكن تعزيز التنسيق مع روسيا والصين لتشكيل جبهة اقتصادية ودبلوماسية قوية تدعم الاستقرار في المنطقة، فروسيا، التي تمتلك علاقات استراتيجية طويلة مع مصر في مجالات متعددة، بما في ذلك الأسلحة، تدعم استمرار وقف إطلاق النار وتقديم حلول أمنية للمنطقة. أما الصين، فقد نجحت في التوصل مع 22 دولة عربية إلى إجماع على وقف النار، وتستثمر بشكل متنامٍ في الاقتصاد العربي، ما يجعلها شريكاً فاعلاً يمكن الاستفادة منه في ممارسة ضغط دبلوماسي متوازن.
دور المنصات الدولية والحملات الشعبية في مواجهة التهجير
إلى جانب التحالفات الإقليمية والدولية، يمكن للعرب والفلسطينيين الاستفادة بشكل أكبر من المنصات القانونية والدبلوماسية العالمية لوقف محاولات التهجير وفرض رقابة على الانتهاكات الإسرائيلية. الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية (ICJ) تظل أدوات حيوية، كما ظهر في قرار المحكمة في يوليو/تموز 2024 الذي أعلن أن الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس غير قانوني، بالإضافة إلى دعوات الخبراء الأمميين لوقف نقل الأسلحة إلى "الجيش" الإسرائيلي، ما يتيح إطاراً قانونياً لمساءلة الاحتلال وعرقلة أي خطوات لتغيير الوضع الديموغرافي بالقوة.
على المستوى الشعبي، تلعب المنظمات الدولية دوراً محورياً في الضغط على الحكومات والأطراف المعنية. منظمات مثل أمنستي إنترناشيونال واللجنة الدولية للإنقاذ (IRC) تقود حملات عالمية تشمل دعوات للمقاطعة ووقف التمويل العسكري لـ"إسرائيل"، مع مشاركة أكثر من 250 منظمة إنسانية تطالب بوقف توريد الأسلحة.
هذه الحملات، المدعومة بحراك شعبي متنامٍ في الولايات المتحدة وأوروبا، يمكن أن تتحول إلى أداة ضغط فعالة، تضطر الحكومات إلى إعادة النظر في علاقاتها مع "إسرائيل" وفرض عقوبات على أي انتهاكات، ما يعزز قدرة الفلسطينيين والدول العربية على حماية حقوق المدنيين في غزة والحدّ من محاولات التهجير.
كذلك، يجب عدم إغفال الحقائق بأن تهجير أهل غزة لن يضر بالقضية الفلسطينية فحسب، بل سيمنح اليمين الإسرائيلي هيمنة إقليمية أوسع، ما يهدد الاستقرار في المنطقة ككل. وهذا ما يدفع الولايات المتحدة للتحفّظ على الممارسات الإسرائيلية ضمن هذا السياق، لأنها تحتاج إلى إتمام عدد من التسويات في سوريا ومناطق أخرى، كذلك حشد إقليمي يستهدف منع إيران من استعادة نفوذها، بالإضافة إلى رغبة واشنطن في تعزيز التعاون مع تركيا، ما يجعل التصعيد الإسرائيلي عقبة أمام مصالحها الإقليمية.
هدنة مؤقتة أم سلام دائم؟
الاتفاق يمثل إنجازاً إنسانياً، لكنه هشّ أمام إصرار اليمين الإسرائيلي وغياب توقيع إسرائيلي مباشر، لذا فهو يبدو حتى اللحظة كـ"هدنة مؤقتة" تمنع التهجير الفوري، لكن من دون حل جذري للقضية الفلسطينية، حتى ولو كان من نوع "الحلول المقبولة دولياً" كإعلان الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967.
في ظل تلك التحديات، فإن العرب بحاجة إلى توحيد أنفسهم وعقد تحالفات جديدة لضمان القدرة على التأثير على مجريات الأحداث، وإلا سيظل التهجير شبحاً يهدد السلام، ففي النهاية، السلام الحقيقي يتطلب عدالة، لا مجرد توقيعات.