موجة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ماذا بعد إسرائيلياً...!!
تبدو معضلة نتنياهو صعبة لأن حكومته هيأت الرأي العام الإسرائيلي لردود فعل قاسية للغاية، وأثارت مسألة السيادة على الضفة الغربية، وكلما زادت التوقعات، زادت خيبات الأمل.
-
الحقوق الفلسطينية والإنكار الإسرائيلي..
كالعادة، وحين يتعلق الأمر بالحقوق الفلسطينية، تذوب الحدود الفاصلة بين يسار الخارطة السياسية في "إسرائيل" ويمينها، ويصبح الجميع على قلب رجل واحد كارهٍ رافض، قولاً وفعلاً، لكل ما هو فلسطيني، وإن اختلف الأسلوب واللغة. سارعت المعارضة الإسرائيلية إلى رفض الاعتراف بالدولة الفلسطينية ووصفتها بأنها "كارثة سياسية لإسرائيل"، واعتبرتها كذلك "مكافأة للإرهاب من شأنها أن تُضعف مكانة إسرائيل الدولية"، في تعبير فج عن موقف أيديولوجي صارم متجذر في المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني بكل تياراته يتنكّر للحقوق الوطنية الفلسطينية ويرفض الاعتراف بالشعب الفلسطيني كصاحب حق أصيل على أرضه.
ومع قناعة الإسرائيليين بأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو دليل على تدهور مكانة "إسرائيل" على الساحة الدولية، وعزلتها السياسية المتزايدة، إلا أن الجدل الداخلي الإسرائيلي، مُذ بدأت هذه الموجة وما سبقها، لم يكن مُرتبطاً بالقلق من إمكان أن تُقيم هذه الموجة من الاعترافات "دولة فلسطينية" لا الآن ولا بعد سنة. فقد رَكَنَ الإسرائيليون إلى أن حكوماتهم المتعاقبة، وعلى الأخص الحكومة الحالية، وأدت فكرة الدولة الفلسطينية واقعاً على الأرض عبر تدمير غزة وجعلها مكاناً غير قابل للحياة، وتمزيق أراضي الضفة الغربية وتقطيع أوصالها بالاستيطان بما يمنع التواصل الجغرافي فيما بينها، وهو ما توّجه نتنياهو مؤخراً حين افتتح المشروع الاستيطاني الأضخم والمسمى E1 بالقرب من مستوطنة معاليه أدوميم شرقي مدينة القدس، إنما كان الجدل الإسرائيلي مُنصباً على "من المتسبب بهذه الموجة من الاعترافات وما السُبل الكفيلة بمعالجة آثارها"!
ففي حين اتهمت المعارضة حكومة نتنياهو بأنها جلبت هذه الموجة من الانتقادات الدولية والاعترافات بالدولة الفلسطينية بسبب سلوكها اللامبالي ورفضها إنهاء الحرب المفتوحة على القطاع، داعية إلى حملة لرأب الصدوع التي طالت صورة "إسرائيل" وقطع الطريق على محاولات عزلها، تبدأ بوقف الحرب والدخول في "حالة استشفاء" للمجتمع الإسرائيلي داخلياً وخارجياً، نَسَبَ نتنياهو هذه الموجة إلى حملات معاداة السامية والدعاية الكاذبة التي تقودها حماس وقطر والصين، معتبراً أن كبح جماح هذه الموجة يقتضي من "إسرائيل" اتخاذ خطوات صارمة لردع الذين يقفون خلف هذه الحملة، وعلى رأسها ضم الضفة الغربية وفرض السيادة الإسرائيلية عليها.
وفيما يتوعد نتنياهو بالرد على حملة الاعترافات بعد عودته من الولايات المتحدة، من المرجح أن يلتقي بالرئيس الأميركي في البيت الأبيض بعد خطابه في الأمم المتحدة يوم الجمعة المقبل، ليناقشا الردود المحتملة على هذه الخطوة.
لكن أحلى خيارات نتنياهو للرد يبدو مُراً، فإن استجاب لضغوط مجلس مستوطنات الضفة الغربية ووزراء اليمين، الذين يطالبونه اليوم بتطبيق السيادة فورأ في الضفة الغربية، وسحق السلطة الفلسطينية تماماً وإزالة فكرة الدولة الفلسطينية من جدول الأعمال إلى الأبد رداً على الاعتراف بدولة فلسطينية، ويرون أن هذا هو الوقت الأنسب لفعل ذلك، فإنه بذلك يقامر بتعطيل اتفاقات أبراهام التطبيعية، خاصةً وأن هذا الإجراء سيُفسر في هذا الوقت على أنه تحدٍّ إضافي للمنظومة الدولية، ومن المرجح ألا يؤدي إلى موجة من الإدانات فحسب، بل حتى إلى خطوات عملية مثل قطع العلاقات أو اتخاذ قرارات في مجلس الأمن الدولي ضد "إسرائيل". فقد حذّر مسؤولون أوروبيون من أن "إسرائيل سترتكب خطأً فادحاً إذا ردّت على اعترافنا بخطوات دبلوماسية قاسية، لأن ذلك سيؤدي إلى خطوات متبادلة، وسيكون الأمر أشبه بلعبة بينج بونج.
سيكون من العار الوصول إلى هذه المرحلة. على "إسرائيل" أن تفكر ملياً في ردود أفعالها. إذا قررت الضم، فإنها ستنتهك اتفاقيات أبراهام، وهذا ليس من الحكمة". وإذا ما اتخذت "إسرائيل" قراراً بالضم، فإنها على الأرجح ستُنفّر أيضاً حلفاءها، مثل ألمانيا، التي أوضحت أنها لن تقبل الضم، بل ألمحت إلى أنه قد يدفعها إلى الاعتراف بدولة فلسطينية.
من وجهة نظر نتنياهو، تُمثل هذه معضلةً صعبة، فلا أحد يرغب في أن تزيد الإجراءات الإسرائيلية من عزلة "الدولة"، ولكن من ناحية أخرى، من الواضح أن الرأي السائد في الائتلاف الحاكم أن "إسرائيل" يجب ألا تتساهل، وإلا فإنها ستُثير المزيد من الضغوط وتُقنع المزيد من الدول بالانضمام إلى موجة الاعتراف، حتى لو لم يحدث ذلك الآن، ولذلك من المهم "أن يردع الرد الإسرائيلي الدول عن المضي في هذا الاتجاه".
ومع كل التهديد والوعيد الذي يُطلق في "إسرائيل" للرد على خطوات الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ما زال البعض يعتقد أن ترامب لن يترك نتنياهو يتصرف بجنون ويقرر الضم ويدمر اتفاقيات أبراهام، إرث ترامب الأهم في الشرق الأوسط، التي تتضمن التزاماً صريحاً تجاه الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب بعدم الضم، والتزاماً آخر بدفع القضية الفلسطينية قُدماً.
في نهاية المطاف، شاءت "إسرائيل" أم أبت، يعتمد قرارها بشأن طبيعة ردها على عاملين: الأول، الضغط على نتنياهو من الائتلاف الحاكم عموماً، وخاصةً من الوزيرين سموتريتش وبن غفير اللذين يطالبان بقرار ضم كامل أراضي الضفة الغربية. والثاني هو الضوء الأخضر الذي يتمنى نتنياهو أن يحصل عليه من ترامب في لقائهما المرتقب. فإذا ما استخدم الرئيس الأميركي حق النقض ضد الضم، فإن نتنياهو سيواجه صعوبة بالغة في اتخاذ القرار، وهذا قد يصدم حكومته ويُغضب قاعدته الشعبية.
لذلك ربما يمكن لترامب، بالتوازي مع استخدام حق النقض ضد الضم، أن يمنح نتنياهو الضوء الأخضر لاتخاذ خطوات دبلوماسية قاسية ضد فرنسا. فالأميركيون لا يحبون ماكرون ولن يذرفوا دمعة واحدة إذا عاقبت "إسرائيل" الفرنسيين. لكن عيب هذا الخيار أن باريس ليست ساذجة، بل قوة عظمى ولديها مصالح كثيرة في المنطقة، ولديها القدرة على إلحاق الأذى بـ"إسرائيل". على أي حال، سيؤدي هذا إلى تبادل الضربات الدبلوماسية بين البلدين، ولن يفيد "إسرائيل" بأي شكل من الأشكال، وقد يصب في مصلحة ماكرون، الذي سيحاول أن يُظهر لجمهوره أنه لقّن نتنياهو درساً. وقد تتخذ "إسرائيل" خطوات ثنائية، مثل إعادة السفراء للتشاور أو إغلاق السفارات في الدول "المعادية"، كما فعلت في أيرلندا وعودة سفراء النرويج وإسبانيا.
ليس من المستبعد أيضاً أن يسمح ترامب بإطلاق يد "إسرائيل" ضد السلطة الفلسطينية عبر مزيد من تضييق الحركة على ممثليها ورموزها ومزيد من الخنق المالي، والأهم تعزيز الانفلات الاستيطاني ضد الضفة الغربية، إذ من المرجح أن تواصل الحكومة الإسرائيلية الدفع بقوة لفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية واقعاً عبر سلسلة من مشاريع القوانين "الصغيرة" التي من المتوقع أن تُحدث تغييرات جوهرية في واقع الأراضي الفلسطينية في الضفة بالتوازي مع ما تقوم به قوات الاحتلال ومشاريع الاستيطان من سحق ممنهج للوجود الفلسطيني على الأرض.
تبدو معضلة نتنياهو صعبة لأن حكومته هيأت الرأي العام الإسرائيلي لردود فعل قاسية للغاية، وأثارت مسألة السيادة على الضفة الغربية، وكلما زادت التوقعات، زادت خيبات الأمل. فإذا ما استخدم ترامب حق النقض ضد الضم، فسيجد نتنياهو صعوبة في شرح ذلك للجمهور وخاصةً لقاعدته الشعبية.
على أي حال يبدو أن لدى نتنياهو مهلة بضعة أيام إلى حين عودته من واشنطن بعد عيد الغفران، فهل تفلح مساعي الرئيس ترامب بعد لقائه بعدد من الزعماء المسلمين والعرب في إطلاق مفاوضات تنفس الاحتقان الدولي والداخلي الإسرائيلي وتنتشل نتنياهو من ورطته...!
قد تبدو خطة ترامب فرصة سانحة لـ"إسرائيل" لتجاوز عزلتها وآثار موجة الاعترافات بالدولة الفلسطينية، عبر طرح أفق سياسي؛ لا دولة فلسطينية غداً صباحاً، بل خطوات مدروسة مثل: إعادة بناء أجهزة مدنية، خطوات اقتصادية، تعزيز التنسيق الأمني، وأفق ما لقطاع غزة، أو ما يمكن تسميته "خطة مرحلية" تُثبت للعالم أن هناك مساراً ما، حتى وإن كان محدوداً وربما وهمياً، يمكن أن تساعد في تحييد جزء من الضغط وإخراج "إسرائيل" من الورطة. وفي المحصلة فإن هذا التحرك هو محاولة لاحتواء تطور إيجابي شعبي يحصل أوروبياً وغربياً لقطع الطريق على استمراره ونموه.