نتنياهو وخرائط التوراة: العودة الصاخبة لخطاب "إسرائيل الكبرى"
لم يكن رفع خريطة "إسرائيل الكبرى" حدثاً بروتوكولياً عابراً، بل إعلانَ نوايا تاريخياً يُعيد رسم ملامح الصراع في المنطقة بأسرها.
-
الاستيطان كسلاح عقائدي منظَّم.
بعينين تلتمعان ببريق بدا أشبه بفرح غريزي، رفع بنيامين نتنياهو خريطة "إسرائيل الكبرى" أمام العالم من على منبر الأمم المتحدة، كما لو أنه يُعلن بداية عصرٍ تتحوّل فيه الأسطورة التوراتية إلى واقع سياسي لا يقبل المساومة. لكن ما يجب أن يُقلق كلّ مراقب ليس هذا المشهد وحده، بل حقيقة أنّ نتنياهو ظلّ، على امتداد ربع قرن من العمل السياسي، يُعيد التأكيد ـــــ تصريحاً وتلميحاً ـــــ إيمانه العميق بمشروع "إسرائيل الكبرى" الممتدة "من النيل إلى الفرات". رفعُ الخريطة إذاً لم يكن سوى الجزء الظاهر من جبل الثلج: تجسيد بصري متأخّر لمعتقدٍ راسخ ظلّ يتقدّم خطوة بعد أخرى، من قاموس التوراة إلى خرائط العدوان والتمدّد.
أسطورة الوعد
تستند فكرة "الأرض الموعودة" إلى نصوص توراتية رُسمت فيها حدود الوطن الإلهي من "النيل إلى الفرات"، واعتُبرت وعداً أبدياً لإبراهيم ونسله. غير أنّ قراءة تاريخية نقدية، كالتي قدّمتها أبكار السقاف، تكشف أنّ هذه الحدود لم تكن سوى «مجرّد خيال توراتي حُمّل لاحقاً معاني سياسية» وأنّ الآباء الأوائل أنفسهم «لم يدخلوا الأرض التي وُعدوا بها، بل مات أغلبهم على تخومها». بذلك يتحوّل "الوعد" من حقيقة تاريخية إلى أسطورة مؤسِّسة لا تكشف عمّا جرى، بقدر ما تُستخدم لتبرير ما يُراد له أن يجري.
في أواخر القرن التاسع عشر، نقلت الحركة الصهيونية هذه العقيدة من الحيّز الميثولوجي إلى فضاء المشروع السياسي، مدّعية امتلاك "حقّ تاريخي سماوي" لا ينازع على أرض فلسطين. واليوم، يُعيد نتنياهو، ومعه كامل التيار الديني ـــــ القومي، نفخ الروح في هذه الأسطورة، بوصفها الركن العقائدي الذي يشرّع الاستيطان، ويبرّر توسّع مشروع "إسرائيل الكبرى" خطوة بعد أخرى، ما دامت "الغاية الموعودة" لم تتحقّق بعد.
من الأسطورة إلى الجغرافيا
حين تلوّح "إسرائيل" بخريطة تمتد من دلتا النيل حتى تخوم الفرات، فهي لا تخاطب الجغرافيا الراهنة بقدر ما تستدعي الزمان اللاهوتي الغابر. ومع أنّ الفكر الصهيوني حاول إقناع العالم بأنّ هذه التصوّرات رمزية، إلّا أنّ الوقائع على الأرض تكشف عكس ذلك: منذ 1967، يجري تثبيت الأمر الواقع بمبدأ "القضم المتدرّج" للأراضي، وفق استراتيجية تُمكّن الخرائط الافتراضية من التحوّل إلى حدود فعليّة من دون حاجة لحروب كبرى.
الخطر الحقيقي هنا أنّ حدود "إسرائيل الكبرى" في المخيال السياسي الصهيوني ليست حدوداً قابلة للتوقيع أو الإغلاق، بل خرائط معلّقة تنتظر فقط فرصة مواتية للتمدّد. فكلّ هدنة مؤقتة، وكلّ صراع إقليمي، وكلّ انشغال عربي، يُعطي المشروع فرصة لترسيخ موطئ قدم جديد، على طريق «تحقيق النبوءة» التي لم تكتمل بعد.
الاستيطان كسلاح عقائدي منظَّم
منذ أن مهّدت الصهيونية الدينية لقيام "الدولة"، بات الاستيطان هو الأداة الأكثر فاعلية لترجمة النص التوراتي إلى فعل سياسي. فالمستوطن ليس مجرّد مهاجر، بل جندي عقائدي يُعيد ـــــ وفق المنظور الصهيوني ـــــ "تجديد العقد مع الإله" عبر إحلال وجوده على الأرض. ولهذا، جرى التعامل مع المستوطنات في الضفة والجولان والقدس بوصفها "معارك تحقيق الوعد"، لا توسّعات عمرانية.
تبلغ خطورة هذه الرؤية ذروتها في إيمان التيار الحاكم اليوم بأنّ «كلّ بقعة تطأها قدم يهودي تتحوّل تلقائياً إلى أرض موعودة»، الأمر الذي يفسّر كيف تحوّلت المستوطنات إلى شبكة سياسية ـــــ أمنية ـــــ دينية تخنق أيّ احتمال لقيام دولة فلسطينية. وكما يقول عبد الوهاب المسيري: «تحوّل "الوعد الديني" من مقولة لاهوتية إلى أسطورة وظيفية تُستخدم كآلية دائمة للتوسّع لا تعرف التوقّف عند حدود».
من وعد بلفور إلى ازدواجية اليوم
لم ينشأ مشروع "إسرائيل الكبرى" داخل فراغ، بل تأسّس على تواطؤ استعماري منح الأسطورة غطاءً سياسياً وعسكرياً منذ ما قبل النكبة. من وعد بلفور (1917)، الذي اعترف بـ «الوطن القومي» على أرض الغير، إلى خطة التقسيم واعتراف القوى الكبرى بـ "الدولة الوليدة" رغم عمليات التطهير العرقي، ظلّ الغرب يُغذّي المشروع الصهيوني بوصفه رأس جسر استراتيجياً في قلب الشرق الأوسط.
اليوم، وبينما يتشدّق الغرب بخطاب "السلام" و"حل الدولتين"، يواصل ضخّ المليارات لدعم "الجيش" والاستيطان، ويمنح "إسرائيل" الغطاء بفيتوات متكرّرة، فيما يُقابل رفع نتنياهو للخريطة بصمت مشجّع لا يقلّ خطورة عن التصفيق. إنها ازدواجية خطيرة: خطاب سلام شكلي… ورعاية فعليّة لمشروع توسّعي لا يتوقّف عند حدود 1948 أو 1967، بل يحلم بإعادة تشكيل المنطقة كلّها بما يخدم "صفقة القرن" أو ما بعدها.
ماذا على العرب أن يُدركوا؟
الخطر في عودة خطاب "إسرائيل الكبرى" لا يكمن في وقاحته فحسب، بل في أنه يتقدّم بينما يتراجع الخطاب العربي إلى مربّع «إدارة الأزمات» بدلاً من مواجهتها. فالاكتفاء بالنّظر إلى تصريحات نتنياهو بوصفها "مزايدات انتخابية" أو "ابتزازات سياسية" يُعدّ خطأ استراتيجياً فادحاً، لأنه يتجاهل حقيقة أنّ اليمين الصهيوني يتحرّك بعقيدة ترى نفسها في سباق تاريخي لإنجاز ما تعتبره «الوعد المتأخّر».
ما لم يدركه العرب أنّ المشروع التوسّعي الصهيوني لا يعترف بالحدود القائمة، ولا بالخرائط الراهنة، ولا ينتظر اتفاقيات جديدة، وإنما يخلق وقائعه الميدانية ثم يُطالب العالم بالاعتراف بها. لذلك، فإنّ التباطؤ العربي في صياغة استراتيجية مقاومة شاملة، عسكرية وسياسية وثقافية، يُحوّل كلّ جولة زمنية لصالح العدو، ويجعل من رفع الخرائط فوق المنصات بوابات مفتوحة لمآسٍ جديدة… لن تقف عند فلسطين وحدها.
إمّا المقاومة… أو ابتلاع التاريخ والجغرافيا
لم يكن رفع خريطة "إسرائيل الكبرى" حدثاً بروتوكولياً عابراً، بل إعلانَ نوايا تاريخياً يُعيد رسم ملامح الصراع في المنطقة بأسرها.
فنحن أمام عدوّ يستند إلى أسطورة دينية حوّلها، عبر الزمن، إلى نزعة استعمارية تمدّدية؛ لا يُخفي أطماعه في الأرض والمياه والموارد، ولا يتردّد في تسويقها كـ "وعد إلهي لا رجعة عنه". وأخطر ما يمكن أن نرتكبه في هذه اللحظة هو أن نظلّ أسرى دبلوماسية الاستنكار واللوم، بينما تمضي "إسرائيل" في تحويل الخرائط من حلم توراتي إلى واقع جغرافي يجتاح فلسطين ويمتدّ إلى محيطها العربي.
إننا أمام هذا المشروع لا نملك ترف الحياد أو التردّد. المطلوب موقف عربي مقاوم يُعيد تعريف الصراع بوصفه صراع وجود لا صراع حدود، وينتقل من ردّ الفعل إلى الفعل الاستباقي، مستنهضاً عناصر القوة في الأمة: وعياً، وإعلاماً، وسياسةً، وسلاحاً. فخرائط الأسطورة التي تُرفع في نيويورك اليوم، قد تُفرض غداً على ضفاف النيل والفرات… إن نحن توانينا عن مواجهتها بإرادة لا تقلّ صلابة عن إرادة من يزعمون أنّ هذه الأرض كُتبت لهم بمداد السماء. فإمّا أن تكون المواجهة شاملة، أو يكتب التاريخ أنّ هذه الأمّة سلّمت خرائطها قبل أن تُسلب أوطانها.