رحيل الفاضل الجزيري: مخرج حوّل الفن إلى مقاومة ومرآة للذاكرة الوطنية

لم يكن الجزيري مجرّد فنان عابر، بل مبدع متعدّد التخصصات. هكذا جمع بين الأداء التمثيلي والإخراج المسرحي والسينمائي، إلى جانب العروض الموسيقية التي شكّلت علامة فارقة في المشهد الثقافي التونسي.

  • الفاضل الجزيري
    الفاضل الجزيري

في عالم يتداخل فيه الضجيج مع الصمت، ويختلط فيه السطح بالعمق، يظل الفن الحقيقي قنديلاً ينير الدروب المظلمة. من بين هؤلاء الذين حملوا مشعل الفن في تونس والعالم العربي، وقف، الفاضل الجزيري، شامخاً كأحد أبرز المبدعين الذين جعلوا من خشبة المسرح مرآة للروح وحصناً للذاكرة. فبفنه العميق والمتعدد الأوجه، رسم خارطة ثقافية إنسانية ثرية، وأضاء دروباً من الوعي والحرية والهوية.

فجر اليوم الاثنين، انطفأ هذا الضوء، وفقدت تونس، برحيل الجزيري (77 عاماً)، صوتاً فنياً فريداً، بعد صراع طويل مع المرض. رحيله كان وداعاً لفنان لم يكن مجرّد صانع عروض، بل حارساً لتاريخ وطنه وراوياً لشعبه.

الفاضل الجزيري.. إرث فنّي متنوّع

  • الفاضل الجزيري
    الفاضل الجزيري

تودّع تونس اليوم أحد أعمدتها الثقافية والفنية الذين تركوا بصمة لا تُمحى في ذاكرة المسرح والسينما والموسيقى. الفاضل الجزيري، المخرج والممثّل والملهم الذي قضى أكثر من 4 عقود يروي من خلال فنّه قصة الوطن وروح الإنسان. رحل الجزيري لكنّ إرثه الفني الغني سيظلّ حيّاً في وجدان كلّ من عرف قيم الفن الحقيقي، وفهم أنّ الإبداع ليس مجرّد عرض، بل هو فعل مقاومة وصوت للذاكرة.

لم يكن الجزيري مجرّد فنان عابر، بل مبدع متعدّد التخصصات. هكذا جمع بين الأداء التمثيلي والإخراج المسرحي والسينمائي، إلى جانب العروض الموسيقية التي شكّلت علامة فارقة في المشهد الثقافي التونسي.

خلال مسيرته الفنية الطويلة، قدّم الراحل أدواراً في عدة أفلام كما أخرج أعمالاً وثائقية مهمة مثل "ثلاثون" و"خسوف"، اللذين وثّقا تاريخاً فنياً وثقافياً هاماً. وكان اسمه مرتبطاً بعروض موسيقية غنية، أبرزها عرض "النوبة" عام 1991 الذي جمع مئات الأصوات في تجربة روحانية استثنائية، إضافة إلى عرض "الحضرة" الذي كرّره في نسخ متعدّدة على مدى سنوات طويلة، إضافة إلى عرض "المحفل" الذي افتتح به "مهرجان قرطاج الدولي" عام 2023.

"جرانتي العزيزة" آخر أعماله

  • من عرض
    من عرض "جرانتي العزيزة" في الدورة الـــ 59 من "مهرجان الحمامات الدولي"

آخر إبداعات الجزيري كان عرض "جرانتي العزيزة"، الذي أُقيم مساء أمس في الدورة الـــ 59 من "مهرجان الحمامات الدولي"، عرض حوّل فيه الجزيري آلة الكمنجة إلى شخصية مركزية تحمل صوت الحنين والتاريخ، جاعلة من المسرح فضاءً متعدّد الأبعاد.

كان يروي قصة عازف كمنجة في فرقة الإذاعة، ويعرض رحلة فنية وشخصية تُجسّد نضالات الفنانين بين الطموحات والقيود، ويثير موضوعات الهوية الوطنية ووضعية المرأة في الفن، وجمع العرض بين الموسيقى والمسرح والغناء ليخلق تجربة تطهيرية (كاتارسيس) تشبه تلك التي وصفها أرسطو، حيث تتحوّل المشاعر إلى طاقة تسهم في تجديد الروح والذاكرة. 

واستمر الجزيري بهذا العرض الأخير في تحويل الفنّ إلى فعل مقاومة حيّة تنبض بها ذاكرة تونس وهويتها الثقافية.

الفنّ كفعل مقاومة... ذاكرة تتحدّى النسيان

  • من عرض
    من عرض "الحضرة"

في عالم تتسارع فيه الأحداث وتتعالى فيه الأصوات، حيث تغيب أحياناً الحقيقة وراء ضجيج السياسات والصراعات، يظهر الفنّ الحقيقي كدرع واقٍ وسلاح صادق، يواجه محاولات التهميش والطمس، ويفتح أبواباً للذاكرة التي تهدّدها الرياح العابرة للنسيان. 

هذا هو المنهج الذي تبنّاه الفاضل الجزيري المولود عام 1948 في تونس وأسس مع الفاضل الجعايبي "مسرح الجنوب" عام 1972 و"المسرح الجديد" عام 1976 ، حيث آمن أنّ الفن ليس مجرّد ترف أو فراغ بل فعل مقاومة ثقافية وإنسانية.

وكان الجزيري الذي أسّس مركز الفنون في جزيرة جربة تعزيزاً  للامركزية الثقافية، يرى أنّ الفن امتداد للحياة، ومرآة تعكس الأعماق المختفية في نفوس الشعوب، وذاكرتها الجمعية التي لا تهتزّ أمام عوامل النسيان الاجتماعي والسياسي. فالفنّ في تصوّره صرخة صامتة تعيد الإنسان إلى جذوره، وتربطه بهويته، فتستعيد الذاكرة الجماعية زمناً كان مهدّداً بالنسيان أو التزييف.

لقد تحوّل في أعماله الماضية إلى حاضر حيّ، ينبض بالأسئلة ويطرح الحيرة، لا ليحاصر الحاضر بوزره الثقيل، بل ليشعل نار الوعي والتأمّل، داعياً الجمهور إلى رحلة بين الذات والتاريخ، بين الفرح والأسى، بين الحلم والواقع، وفي هذا الحقل المسرحي والسينمائي والموسيقي، تصدّى الجزيري للسطحية التي تحاصر الفن والمجتمع، وقاوم الجمود الذي يجعل من الفن مجرّد شكل فارغ بلا مضمون.

الفنّ، عند الجزيري، "صوت الغائبين"، كما يقول العديد من النقّاد والمسرحيين. صوت أولئك الذين جُرحوا في صمت، أو تمّ تهميشهم بسبب ظروفهم الاجتماعية والسياسية، أو بسبب اختلافهم الفكري والثقافي. 

من هنا تكتسب أعمال الجزيري أهمية فنية واجتماعية وسياسية. إذ كان يشدّد دائماً على أنّ الفن قادر على الإحاطة بالإنسان من كلّ جوانبه، فالعرض المسرحي أو الفيلم ليسا مجرّد استعراض، بل خطاب ثقافي يحاكي قضايا المجتمع.

وفي عطائه الفني، وجد الجزيري منصة لإعادة صياغة الهوية الوطنية، ليس من خلال تمجيد الماضي فقط، بل من خلال تقديمه بصورة نقدية تسمح للفنان والمشاهد على حد سواء بالتفاعل معها بوعي كامل. الفن عنده ليس ذاكرة جامدة، بل حوار حي مستمر مع المجتمع، يفتح آفاقاً للمستقبل، ويعزّز قيم الحرية والكرامة والعدالة.

إنها مقاومة تتجاوز شكل الفن إلى جوهره، مقاومة تجعل من الفن فعلاً نابضاً يرفض الذوبان في الركود أو السطحية، ويصير قوة للتغيير الاجتماعي والسياسي، قوة تزرع في وجدان الجمهور إحساساً بالانتماء والكرامة، وتحثّ على المشاركة في صياغة حاضرهم ومستقبلهم.

الفاضل الجزيري.. إرث مستمر

  • رحيل الفاضل الجزيري خسارة لواحد من أبرز الأصوات التي جعلت من الفن فعل مقاومة وكفاح مستمر 
    رحيل الفاضل الجزيري خسارة لواحد من أبرز الأصوات التي جعلت من الفن فعل مقاومة وكفاحاً مستمراً 

لم يكن الجزيري فناناً منعزلاً في برج إبداعه، بل ناشطاً اجتماعياً يؤمن بأن الثقافة يجب أن تكون حقاً لكل التونسيين، لا ترفاً محصوراً في العاصمة أو عند النخب. 

لذلك أسس مركز الفنون بجربة لدعم المبدعين في الجهات، ووقف دائماً مع قضايا الفنانين والمرأة، مدافعاً عن حقوقهم في وجه الإقصاء والتمييز. كان صوتاً حقيقياً للتغيير والتمسّك بالقيم الإنسانية.

عندما تُطفأ أنوار الخشبة ويرحل الفنان، يبقى صدى فنه يتردّد في أروقة الزمن، يُعيد تشكيل الذاكرة ويُحيي الروح. 

رحيل الفاضل الجزيري ليس فقط فقداناً لاسم أو شخصية، بل خسارة لواحد من أبرز الأصوات التي جعلت من الفن فعل مقاومة وكفاحاً مستمراً. 

لقد ترك الراحل إرثاً غنياً يُعلّم المجتمع أنّ الفن الحقيقي هو من ينبض بالحياة والصدق، ويتحدّى الزمن والنسيان ليبقى اسمه، كما كانت أعماله، منارة تلهم الأجيال وتُذكّر دوماً بأنّ الفن هو الجسر بين الماضي والمستقبل، وأنّ الفنان الحقيقي خالد ما دامت ذكراه حيّة في قلوب محبّيه.

اخترنا لك