زياد الرحباني… حين يموت مَن كتب الحياة

وفاة زياد الرحباني ليست خسارة فنية فقط، بل هي وجع وطني، وصمتٌ طويل خلفه صوتٌ لن يتكرّر، بقي حيًا في المحبين على الرغم من الغياب.

كيف يموت مَن كتب الحياة؟ كيف يسقط النور من على المسرح، ويبقى الستار مرفوعًا؟ كيف نُطفئ النغمة التي كانت توقظنا من موات الصباح؟

زياد الرحباني لم يكن فنانًا. كان سؤالًا. وكلّ مَن مشى خلف نعشه، لم يكن يودّعه، بل كان يبحث عن الجواب.

في صباح السبت (26 تموز/يوليو 2025)، توقّف الزمن في بكفيا. لا شيء تحرّك إلا العيون، تمشي على جثة رجل كتب بيروت بيد مرتجفة، ومثّل لبنان على خشبة تُطلّ على الخراب. لم يكن القدّاس وداعًا، بل استراحة بين عرضين. العرض الأول اسمه زياد، والعرض الثاني… مجهول.

لم يكن الموت هنا حدثًا، بل حالة، تشبه مقطعًا موسيقيًا يُعزف ببطء، ثم يصمت فجأة، تاركًا الهواء يرتعش في الصالة. زياد لم يُسدل الستار، بل انسحب بخفّة، كأنّه يهمس لنا من وراء الكواليس: "إي خلاص… سكّروا، ما بقا في شي نحكيه".

لكننا نعلم أن الحكاية لم تنتهِ. وأنّ مَن كتب "أنا مش كافر" لم يكن يعلن موقفًا دينيًا، بل كان يرتّل صلاة للمقهورين. وأنّ مَن قال "شو بخاف ع لبنان" كان يصرخ، لا من الحرب، بل من السلام المزوّر، من وطنٍ يتآكله صمت الأغنياء وبلاغة الخوف.

في الجنازة، لم تُرفع فقط صور زياد، بل ارتفعت معه بيروت القديمة، برمادها، بزجاجها المهشّم، وبقهوة الناس التي تبرد على أبواب البيوت. كانت الجنازة مشهدًا مسرحيًا بلا نصّ، بلا ممثلين… الجمهور فقط، وقد انقلب إلى بطل.

أيها الميت الحيّ، كيف سنكمل من دون صوتك؟ كيف سنكتب عن وطنٍ لم يعد فيه من يصرخ باسمه من دون حساب؟ وكيف نُقنع هذا الفقد، أنّه ليس خسارة… بل هو خلودٌ تغيّر توقيته فقط؟

جنازة زياد الرحباني… حين مشت بيروت خلف نعشها

بيروت لم تبكِ فقط زياد. بيروت كانت تمشي خلف نفسها. في صباح يوم الإثنين، خرجت المدينة من صمتها لترافق نعش ابنها الذي غنّى وجعها أكثر مما غنّاه أحد. الحضور وحده كان كافيًا ليقول: هذا ليس وداعًا، هذه تلويحة أخيرة لنغمةٍ تربّت على أكتافنا منذ سبعينيات القرن الماضي.

من أمام مستشفى خوري، حتى ساحة بكفيا، كان الموكب أبسط من أن يُوصف، وأعمق من أن يُختصر بلقطات صحافية. الوجوه، كلها تعرف بعضها بعضاً. الملامح تشبه بعضها بعضاً. لم يأتِ الناس ليستعرضوا الحزن، بل ليضعوا أيديهم على جرحٍ يُشبههم. فجأة، اكتشفنا أن زياد لم يكن لنا فقط، بل كان للجميع. ابن الشيوعيين، العاشق للثوار، الرافض للاغتراب، صار جسدًا محمولًا فوق الأكتاف… ووجعًا مشتركًا في الصدور.

وقفت فيروز في مكانها، والمكان وقف فيها. وحدها لم تقل شيئًا، لأنها قالت كل شيء يوم ولدت (أنجبت) زياد، وأعطته الاسم الذي سيحمله الناس كأنّه لقبٌ جماعي.

إنه العرض الأخير الذي لم يكتبه زياد، لكنّه أخرجه حين اختار الرحيل.

من المسرح إلى القلب… كيف صار زياد الرحباني وجدانًا عامًا؟

لم يكن زياد يكتب مسرحيات. كان يكتب اعترافاتنا. كان المسرح، في تجربته، أكثر من خشبة وأضواء. كان فضاءً عارمًا يحتضن المنهكين، أولئك الذين ضاق بهم الشارع، فوجدوا على المقاعد متنفسًا للبوح. تبدأ عروضه بضحكة، وتنتهي بوجعٍ لا يُدركه إلا من انكسر بصمت.

في "بالنسبة لبُكرا شو؟"، لم يكن يروي حكاية خيالية. كان يتكلم باسم من يقبض راتبه قبل أن يقبض على ذاته، وباسم أمٍ تنتظر ابنًا ضائعًا في حربٍ لا نهاية لها، وباسم شابٍ تائهٍ بين خيبةٍ شخصية وأخرى وطنية.

كان زياد يعلم أن الكوميديا لا تولد من النكتة، بل من العجز. من ذلك الضيق الخانق الذي يجعلنا نضحك كي لا ننهار. كان يعلم أن المسرح فعل مقاومة، وأن الجملة حين تُقال على الخشبة قد تزلزل ما لا تزلزله خطابات الساسة.

لم يكن يساريًا لأنّه أغرم بأيديولوجيا، بل لأنه رأى الجوع في العيون. لم يكن ساخطًا على النظام حبًّا في الفوضى، بل لأن النظام لم يُخلق له ولا لنا.

وبين كل جملة وأخرى، بين كل مشهد وآخر، يطلّ زياد الآخر: الطفل الباحث عن وطنٍ يشبه صوته، والموسيقي الذي كلّما لمس آلة، انفجر منها أنين الناس.

ما تركه زياد لم يكن مجرد "أعمال"، بل حياةً كاملة كتبت بلغة الذين لا يُسمَع صوتهم.

الموسيقى عند زياد الرحباني… النغمة التي بكت بدلًا من الناس

لم تكن موسيقى زياد مجرد نوتات. كانت بكاءً مدروسًا، حزنًا مدوزنًا، وصوتًا خافتًا يئنّ حين يعجز الناس عن الكلام. لم يؤلف ألحانًا لتُطرَب، بل لتُفكّر. لم يكن يبحث عن مقطوعةٍ تليق بصالات العزف، بل بنبض الأزقة، بروح المقهى، بأنين الأرصفة التي تتلو صلاة الليل وحدها.

منذ بدايته، اختار زياد أن يعزف خارج الإيقاع الرسمي. لم يركض وراء الجمال المعلّب، ولا خلف تراثٍ مكرور. كان يرسم الجاز على أجساد الألحان الشرقية، فينتج لونًا هجينًا لا يشبه إلا روحه.

حتى موسيقاه الصامتة كانت تقول شيئًا. في الصمت بين نغمتين، كان يترك فراغًا يشبه الغصّة. كأنّه يقول: هذا ما تبقّى لنا من الحلم… فراغ.

زياد لم يُطرب الناس، بل كشفهم. سحب من داخلهم وجعًا لم يعرفوا كيف يسمّونه، ثم لحّنه لهم على شكل ترتيلة علمانية، لا تسجد لأحد، لكنها ترفع الرأس عاليًا.

كان العود بين يديه يشبه بندقية، والبيانو طاولة مفاوضات لا تعترف بالخيبة. وكان اللحن عنده ينكسر فجأة، كما تنكسر الحياة في نصف جملة.

في زمنٍ خاف فيه الناس من البكاء، جعل زياد البكاء فنًّا، والوجع نغمة، والحب مرآةً تُظهر وجوهنا كما هي… بلا تجميل، بلا خجل، بلا أقنعة.

الساخر الذي آمن باليأس… زياد الرحباني كما لا يحب السياسيون أن يروه

كان زياد الرحباني يسخر كمن يُصلّي، وييأس كمن يؤمن. لم تكن نكاته من أجل الضحك، بل لكشف القناع. لم يكن يستعرض الذكاء، بل يعرّي الواقع. تلك القدرة النادرة على أن يُضحكك ويؤلمك في الجملة نفسها، هي ما جعلت منه كائنًا فريدًا، لا يشبه أحدًا، ولا يريد أن يُشبهه أحد.

في بلدٍ أرهقته الخطابات، قرر زياد أن يحكي كأنّه لا يملك شيئًا.  بحكمة العارف، وجسارة المحب، قال أشياءً لم يجرؤ غيره على لمسها. انتقد الطائفية، الحرب، المفاوضات من دون جدوى، الزعماء، الأمل، الهزيمة… وانتقد نفسه. لكنه لم يكن حاقدًا. فقط غاضبًا من عبثٍ لا يُطاق.

وكأنه أراد أن يقول عن نفسه "أنا يساريّ، بس ما كتير" وعن بلده "لبنان بلد فاشل بس حلو" وعن "صرلنا وقت طويل عنا أمل" وعن السياسيين: "أكتر شي بيخوف إنو يصيروا هني يحبونا".

زياد لم يكن ساخرًا يُريد الضحك، بل كان نبيًّا صغيرًا يعلن النبأ: انتهى زمن الجد. فلنلعب لعبتكم… على طريقتي.

في قلب يأسه، كان هناك عناد. عناد المُحبّ الذي لا يطيق رؤية حبيبه يُهان. ولذلك لم يُساوم. لم ينخرط. لم يُجامل. حتى حين اقترب، اقترب ليُصفع، لا ليُعانق.

هذا هو زياد الذي لا يحب السياسيون أن يروه. ليس ابن "الرحابنة" وحده، بل ابن هذا الشعب، بصخبه، بخيبته، بضحكته التي تشبه الانفجار.

هو الساخر الذي جعل من الكلمة سلاحًا، ومن النغمة قنبلةً موقوتة، ومن الضحكة عارًا على جبين السلطة.

فيروز وزياد… الصمت الذي أنجب الصوت

من أين تبدأ حكاية فيروز مع زياد؟ من رحمٍ أنجب موسيقيًّا؟ أم من حنجرةٍ أنجبت وجعًا؟

لم تكن العلاقة بينهما مجرّد رابطٍ عائليّ. كانت معجزةً فنية، ومأساةً إنسانية، ونصًا طويلًا من الفهم الصامت. زياد لم يكن مجرد ابن لفيروز، بل كان وريث الضوء، وابن النغمة التي ولدت في الحنين.

حين بدأت فيروز تغني كلمات ابنها، لم تكن تؤدي دور الأم، بل كانت تنصت إليه من داخلها. تغني بصوتها، نعم، لكن بنصّه. وكانت، كعادتها، لا تشرح، لا تبرّر، لا تحكي. تكتفي بأن تكون. وهذا تمامًا ما احتاجه زياد: أمٌّ لا تشرح، لأن العالم لا يُفهم، بل يُغنّى.

لكنّ المسافة بينهما لم تكن دائمًا وردية. زياد، بما فيه من تمرد وحرقة، كان كثيرًا على عالمٍ يحكمه الصمت والرمزية. وهو، ابن الحرب، ابن الشيوعيين، ابن المسرح، لم يكن من أولئك الذين يحتملون الغموض. فكان الخلاف بينهما جزءًا من الأغنية، والصمت جزءًا من الموسيقى.

وفي الجنازة، كانت فيروز هناك، واقفة كجبلٍ يحاول ألّا ينهار. لم تنطق، كالعادة، لكنها كانت تقول كل شيء. مَن يعرف فيروز، يعرف أن دمعتها لا تظهر. لكنها، في ذلك النهار، كانت في كل الناس الذين مرّوا بقربها، وفي كل عيونٍ خجلت أن تبكي أمامها.

في لحظة موت زياد، شعرنا أنّ فيروز أصبحت أرملة الوطن. لا لأنّه زوجها، بل لأنه كان ابنها الحقيقي، لا من بطنها فقط، بل من صوتها، من صلاتها، من ارتجافها حين تغنّي عن بيروت، وتغمض عينيها.

زياد كان الوجه الآخر لصوتها. كان الجملة التي لم تقلها، فكتبها عنها.

الهتاف الأخير… حين يصبح الغياب هوية

مات زياد الرحباني، لكن لا أحد صدّق. لأن الذين يشبهون الفكرة، لا يموتون. لأن مَن صار فينا صوتًا، لا يُدفن في نعش، بل يُحفظ في الحنجرة.

الوداع لم يكن وداعًا. بل إعلانًا جديدًا لغيابٍ لن يكتمل. فالرجل الذي كتب المسرح بلغة الجرح، وركّب الألحان على أنين الناس، لا يُغادر. هو فقط… يتوارى قليلاً، ليمنحنا المساحة لنفتقده.

في كل شارع، ستبقى موسيقاه تُلاحق العابرين. في كل قهوة، ستظل جملة من مسرحيته تنفجر على شكل نكتة جارحة. في كل غصّة، سنسمع صوته يهمس: "هيك الدني".

سيبقى زياد الرحباني فينا، لا لأننا نحبّه فقط، بل لأننا نحتاجه. نحتاج ذلك اليائس الجميل، الذي علّمنا أن نضحك كي لا نموت. نحتاج الكلمة التي تجرح لتُوقظ، والنغمة التي تبكي لتُنقذ، والمسرح الذي يُعري كل ما حاول العالم أن يلبسه علينا.

ربما كان زياد يعلم أنه لن يعيش طويلاً، لذلك عاش بعمق. وربما كان يدرك أنه لن يُنصف حيًّا، لذلك ترك لنا أرشيفًا لا يموت.

نحن لم نودّع زياد، بل سلّمناه الذاكرة.

والموت، في حضرة الذاكرة، مجرّد تفصيل.

اخترنا لك