كيف ودّع المصريون "ابنهم" زياد الرحباني؟

من هو زياد الرحباني بالنسبة للمصريين؟ وكيف ودّعوه؟

كنت في الثانية عشرة من عمري حين بُثَّ حفل فيروز الاستثنائي أمام أهرامات الجيزة مصر في تموز/يوليو عام 1989. كان التلفزيون المصري يعيد بثّ أغاني السيدة فيروز، المغايرة شكلاً وموضوعاً للطعم المصري، تشدو بها امرأة منتصبة القامة ذات وجه مشدود كأنها في مهمة عسكرية. جدية لا تلائم خصلة شعرها الذهبي ولا تناسب صوتها المحلِّق كناي سحري، ولا الكلمات المرفرفة كطير الوروار. لم أكن أعرف ما الذي تقوله، ولا هذا الطير الذي تغني له. لم يكن المجاز قد وُلد بعد.

غنَّت فيروز، هذه المرأة القوية أيضاً، في الحفل نفسه أغنية "أهو دا اللي صار"، وقد عرفت لاحقاً أن هذا اللحن لشخص مصري مات منذ 66 سنة وقتها. إنه سيد درويش. وعرفت لاحقاً أيضاً أن شخصاً ما كان في بيروت حينها، أعاد توجيه الرحابنة إلى موسيقى مصر، لكنه لم يحضر حفل الأهرامات، فقط اختار لفيروز أن تغني لحناً للملهم سيد درويش، لكن بتوزيعه الجديد. هذا الشخص الغائب والمليء بالحضور حينها، كان زياد الرحباني (1956- 2025).

  • السيد فيروز أمام الأهرامات
    السيد فيروز أمام الأهرامات

في العام 2010، زار الموسيقي والشاعر والمسرحي اللبناني، زياد الرحباني، مصر لأول مرة، وتزامن ذلك مع طرحه أغنيات ألبومه "إيه فيه أمل" بصوت والدته فيروز، وكأنه كان يضع نبوءة وأمنية خاصة لزمننا المفعم بالآلام، ووجَّه زياد، خلال مؤتمر صحفي أُقيم للإعلان عن بدء فعاليات المهرجان الثاني لموسيقى الجاز، تحية مزدوجة للموسيقي المصري سيد درويش ولـ"الرحابنة"، جامعاً المدرستين المصرية واللبنانية في جملة حب وشكر واحدة، معترفاً بأنه تربَّى على الموسيقى المصرية في بيت الرحابنة، وأنه نشأ وهو يستمع لقصص كثيرة كان كلها عنوانها "مصر".. وحين فوجئ المصريون بنبأ رحيله ردوا له المحبة وانفطرت قلوبهم حزناً كأنه واحد منهم، مزاجه ليس غريباً عن وجدانهم، روحه من روحهم. 

ابن الرحابنة والريّس زكريا

  • الشيخ زكريا أحمد
    الشيخ زكريا أحمد

لم يكن ابن عاصي الرحباني وحده ولا فيروز هي أمه الوحيدة ولا ريما هي أخته فقط، زياد ابن لكل من تغويه الموسيقى وصوت الشعر الخفي والنكتة و"الضحك المصري الذكي"، هو زياد الرحباني الذي صار روحاً في فضاء الفن العربي، بعد رحيله المؤلم عن أرضنا المحترقة.

إن طقوس الضحك والحزن من سمات الشعوب، فهي من المحددات الشخصية لأي وطن. لذا ليس غريباً أن يعتبر المصريون زياد الرحباني ابناً باراً يحمل جيناتهم الروحية، فهَواه في "القفشة" و"النكتة" مصري خالص، وإن اختلفت اللهجة. لكن طريقة الإلقاء لا تكاد تشعر معها بأنه غريب عنك، هو ابن لدروب وسط القاهرة، وربما في أعمق حواريها، وإلا ما الذي يجعل موسيقياً مهتماً بالجاز يعلق صورة للملحن المصري الشيخ زكريا أحمد، أحد صنّاع أم كلثوم وأحد أساطين الغناء الشرقي الصرف في قلب صالون بيته؟ حتى إنه يسميه "الريس زكريا" من فرط ما يراه أحد "أسطوات" الموسيقى التي يحبها. 

في لقائه الشهير مع الإعلامية المصرية، منى الشاذلي، ضمن برنامج "جملة مفيدة"، وصف زياد الرحباني الشيخ زكريا أحمد بأنه يشبه "المناقيش" اللبنانية، أي إنه فطري وطبيعي ولا يكلف ذهنه ليخرج موسيقاه كرياض السنباطي، وميل زياد إلى هذا النوع من الإنتاج الموسيقي إنما يؤكد انتماءه للطبيعة وكل ما هو صادق مثلها، مزيَّن بالفطرة لا بالصنعة، تماماً كأكل الأمهات، يحمل نَفَساً خاصاً معجون بالمحبة الخالصة.   

  •  زياد الرحباني: زكريا أحمد فطري وطبيعي
    زياد الرحباني: زكريا أحمد فطري وطبيعي

منذ إعلان رحيله الصادم، تفاعل المصريون، العاديون منهم والمشاهير، عبر منصات التواصل الاجتماعي، مع الخبر الحزين، وأخرج كل منهم ما في ذاكرته ووجدانه عن زياد وأمه وأبيه وعمه وأغانيه. تلك العائلة التي كانت جزءاً من حياة المصريين منذ خمسينيات القرن الماضي. لم يعده المصريون غريباً عن طبائعهم الطامحة إلى رومانسية محلقة وواقعية صادمة. ففيروز غنّت لـ"شط إسكندرية"، تلك البقعة التي يحمل كل مصري تجاهها مشاعر خاصة وذكريات لا تُنسى، كما غنت لأهم ملحني مصر، مثل سيد درويش ومحمد عبد الوهاب، ووالد زياد، عاصي الرحباني، لحّن لعندليب مصر عبد الحليم حافظ وللمطربة المصرية نجاة. أما زياد فقد ضربه الفن المصري من بداية ألحانه "سألوني الناس"، التي قال عنها إن فيها ما يشبه ألحان سيد درويش، "فيها طرب مصري"، فقد كان مملوءاً بكل ما تبثه إذاعة صوت العرب من القاهرة. 

في إحدى أغانيه، "شو هالأيام"، التي يطرح فيها أفكاره عن توزيع الربح وفائض القيمة، كمبادئ ثورية عمالية، يتكئ زياد الرحباني على واحد من أشهر ألحان زكريا أحمد، فيردنا بتصرف إلى أغنية "هو صحيح الهوى غلاب". كما يستند إلى لحن سيد درويش في نفس الأغنية وهو لحن "الحلوة دي قامت تعجن في الفجرية"، بل يجعلها قفلة أغنيته وأفكاره.

أصعب لحظة في الدنيا

  • السيدة فيروز في تشييع ولدها زياد الرحباني
    السيدة فيروز في تشييع ولدها زياد الرحباني

الناقد والكاتب الصحفي، سيد محمود، وصف لحظة دخول فيروز على جثمان ابنها زياد الرحباني، وهو مسجى استعداداً لطقوس دفنه بـ"أصعب لحظة في الدنيا".

وقال أيضاً إن: "خبر موت زياد الرحباني قابض لأسباب كثيرة، فقد كان العنوان الرئيس لطموحنا وتمردنا في مراهقتنا وشبابنا، كان محطتنا الأولى في اكتشاف موسيقى خارج حدود مصر، لكنها مصرية على نحو ما، كانت أعمال زياد مثل أعمال الشيخ إمام، تنسخ بنفس الطريقة وعبر نفس الأشخاص قبل زمن الإنترنت".

ويضيف الكاتب الصحفي سيد محمود عبر حسابه على "فيسبوك": "لا أنسى أنني عاتبته (زياد) في ندوة الأهرام (الجريدة المصرية، لأنه استعمل تيمات لحنية لمحمد سلطان (من أغنية آخد حبيبي) ونسبها للفلكلور، وحين أكدت له أنها لحن للمصري محمد سلطان قال (أرجو أن تعلموه باعتذاري عن ذلك الخطأ)". 

قال الحقيقة على مقام موسيقي 

  •  زياد الرحباني وفيروز مع الشيخ إمام
    زياد الرحباني وفيروز مع الشيخ إمام

أما الشاعر المصري، إبراهيم عبد الفتاح، فقد كان من أكثر المتفاعلين مع خبر رحيل زياد الرحباني. إذ قال عبر حسابه على "فيسبوك": "في حضرة زياد سقطت المذاهب ووقف الحزن نقياً بلا لافتة. لم يكن من حزب، لكنه حزب كل الخاسرين الذين ما زالوا يحبون. في وداع زياد اجتمعت الطوائف، لا لتختلف، بل لتنكسر أمام رجل قال الحقيقة على مقام موسيقي".

من جانبه، كتب الناقد الفني المصري، محمود عبد الشكور، تعليقاً على صورة فيروز أمام نعش زياد الرحباني: "الحزن لا يوصف.. الحزن يُعاش".

لعل زياد الرحباني هو حلقة الوصل بين حضارتين من حضارات الغناء. حضارة الفينيقيين وحضارة الفراعنة. لكنه يبقى حلقة وصل ثورية، وشعبية، شرقية وغربية في آن. حلقة تعدّل مسارات الماضي، وتمزج بين طقسَين وسُخريتَين وطبقتَي صوت تتأرجحان بين ملائكة يلعبون في الشارع وآلهة ينزلون إلى الأرض. 

اخترنا لك