مع أبي... محمد مهدي نصر الله

بدأ الكاتب مقدمة كتابه بكلمات رقيقة، ومؤثرة إذا أمعنا النظر في مصدر هذا الصوت، ويعود لفتى بار فقد أباه وكان عظيماً يفهم عظمته حتى أعداؤه - والفضل ما شهدت به الأعداء - وهو نموذج بشري لمحبيه.

  • مع أبي...  محمد مهدي نصر الله
    مع أبي...  محمد مهدي نصر الله

لا يسعني هذه المرة أن أكون على مسافة من الحياد - وأنا أكتب - عن كتاب (مع أبي) لأننا كلنا معه، ولأننا كنا نعيش تلك العاطفة الساحرة، والتي طال البحث عنها على مدى عقول، وفي تلك اللحظة التي نقرر أن نكون فيها على شيء من الحياد فإنه من غير الممكن إلا أن نكون معه في حواره مع نموذج بشري ملهم، وملهم يشكل الرعاية التي حاولت الكتابة عنها بعد أن عاد نوره بعيداً بعنوان ( قامة على بعد المسافات ) ثم عدت ألهث بعد هذا البعد لأقول منارة على بعد المسافات، وإذ رأيت كتاب ابنه محمد مهدي تساءلت أمام هذا الوهج وأمام هذه المعية كيف سيخوض غمار هذه التجربة التي تتضاءل المستأنسات أمام كلمته، وأول ما استحوذ على ذهني هو إمكانية العدول أو الانزياح التي قد أراها في نصه 

وأمام جملتين احتكرت معنى العنوان: ذكرياتي / مع أبي، كان الأرق يمارس شيئاً من الهاجس الخفي، لن أعود إلى البداية، إذ كانت النهاية إعلاناً يباغت العاطفة، بضربة ماجت بين السماء والأرض وأدهشت التفكير، وأوهمت ( المعية ) التي لايختصها الابن بشيء من المدى الذي يختصره بيت المتنبي (طوى الجزيرة حتى جاءني خبر / فزعت منه بآمالي إلى الكذب) ثم عاد لينثني في الذات، يحرث في أرض الحزن، وتكابد معه المزيد من مرارة الفقد، والبحث عن المعية، ثم يسكن الذات شيء من الرضا، يدبجه الإهداء الكثيف، وهو عودة إلى الشكر. 

يهدي والده كتابه لأنه علمه أن يكون عزيزاً / عالي الجبين / وجعل أيامه مرافئ الكرامة، وعبر جمل بسيطة قدم نفسه بوشيجة وثيقة الانتماء لكنها تمارس شيئاً من المغايرة -لغة - وتعلن عن قابلية انبثاق أو بصيص من الانبثاق لخطاب يحبو نحو الاكتمال - وإن بعد حين - ولكني كنت أود لو واصل حسن حضوره - لغوياً - وبادر إلى مغايرة أخرى في سبك العناوين وقد بوّبها وفق ستة عشر عنواناً داخلياً في لغة نمطية. 

بدأ مقدمة كتابه بكلمات رقيقة، ومؤثرة إذا أمعنا النظر في مصدر هذا الصوت، ويعود لفتى بار فقد أباه وكان عظيماً يفهم عظمته حتى أعداؤه -والفضل ما شهدت به الأعداء - وهو نموذج بشري لمحبيه ومن تعاقب من الأمم على قراءة سيرته، 

والكتاب هو اتجاه تربوي في لغة رقيقة، وتوثيق للحظات مهمة مارسها رجل عظيم في تنشئة عائلته وسيفيد منها الأجيال ويلتمسون من تلك الذكريات بعض خطاهم، تربوياً ومعرفياً.

وإذا كان المتوقع من كتاب كتب في هذه الظروف العاصفة والمشحونة أن يكون كتاباً مكتمل أركان السرد على نحو قصصي أو روائي فسيكون ظلماً للعمل ولصاحبه، لأن صاحبه لم يزعم ذلك بل وصف بأنه (كتيب يضم بين دفتيه حكايات قصيرة، تنبض بالمعنى من ذكرياتي مع أبي) فهو قال حكاية ولم يقل قصة أو رواية. 

وهو بما يمثل من حضور تتوثب فيه ضوضاء اللغة يشي بمستقبل واعد أشارت إليه معالم لغته التي لا تماثل لغة والده ولكنها ستمثل خطاً تصاعدياً. ومن الممكن القول إن هذا النص تأرجح بين الحضور والغياب بين حضور أبيه وبين العدول الذي مارسه في هذه اللغة.

اخترنا لك