" ثالث ثلاثة ": شظايا الهويات التائهة في البحث عن الذات
يطرح أشرف المسمار إشكالية الهوية والذات من زوايا متعددة، مركّزًا على التفاعل بين الفرد والمجتمع، وتأثير السياقات التاريخية والسياسية على تشكيل الهوية.
-
" ثالث ثلاثة ": شظايا الهويات التائهة في البحث عن الذات
تعتبر رواية "ثالث ثلاثة – شظايا الذات" لأشرف المسمار، الصادرة عن دار ناريمان للنشر، من الأعمال الأدبية الجريئة التي تتناول قضايا الهوية والتحول الجنسي في سياقات اجتماعية ونفسية بالغة التعقيد، فالكاتب لا يحذو حذو كتّاب عالميين مثل ليزلي فاينبرغ، وجيفري يوجينيديس، وديفيد إيبرشوف في سعيهم لتأكيد الهوية الثالثة، استجابة لملذات شخصية وشهوات حسية طليقة، لا تعترف بفطرة سليمة ولا تعبأ بشرائع وقيم وقوانين.
تبحر رواية " ثالث ثلاثة " في طواف عكسي ضد التيار الذي يروّجه الغرب التائه في بحثه عن الذات جاهدة (الرواية) في طمس ثالث الثلاثة الهجين هذا، ونفيه من المعادلة الوجودية من خلال تبيان الاضطرابات النفسية التي كابدتها "يم" بعد أن صار اسمها "جيمس" بسبب التمزق الداخلي الذي أصابها عقب عملية التحول والنتائج الكارثية والاضطرابات الاجتماعية والنفسية التي أفضت في ختام الرواية إلى انتحار "يم" بطلة الرواية، و"يم" ما هي إلا طفلة سورية تعيش في غوطة دمشق، تتعرض لتحرش مثلي أيقظ فيها شهوات مبكرة، وأثّر لاحقاً على مسار حياتها وتشكيل نظرتها لذاتها وللعالم من حولها، وما لبثت ظروف الحرب السورية الأخيرة أن دفعتها إلى الهجرة نحو ألمانيا مع زوجها، الذي يفارق الحياة ويتركها وحيدة في وجه هذا العالم.
تقدم الرواية معرفة وافية بحياة اللاجئين ويومياتهم وبرامج الاندماج التي تنظمها الحكومات الغربية للاجئين لدمجهم في المجتمع الجديد، ولا يغفل الكاتب في تتبعه لمسار شخصيته الرئيسة عن ذكر مخاطر وأهوال الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا وجشع المهربين الذين يحشدون أعدادًا كبيرة من المهاجرين في زوارق تضيق بهم، حتى إذا ما هاج البحر وارتفعت الأمواج وامتلأ القارب بالماء، ألقى المهرب بفتاة منغولية في عرض البحر وعندما تثور أمها غاضبة يلحقها بابنتها لتغرقا معاً وتأكلهما أسماك المتوسط.
في ألمانيا وجدت "يم" الاحتضان والتشجيع على ممارسة هذه الميول الشاذة، والتقت بفتاة ألمانية مثلية تدعى " بفرفالد "، صادقتها وأصبح لها تأثير جليّ عليها، وقدرة على إقناعها وتغيير مزاجها. واكبت فردفالد صديقتها الجديدة وأدخلتها مركز الرعاية النفسية، وقدمت لها الاستشارات الصحية والنفسية الضرورية، للتأقلم مع التغيرات والتحديات المرافقة لعملية التحول إلى رجل. أكثر من ذلك، ساعدتها للحصول على وظيفة ككبير الطهاة في أحد المطاعم الألمانية، لكن كل هذه المساعدة لم تفلح في ردم الهوة السحيقة التي وقعت فيها، ولم تنقذها من حالة الضياع والكآبة التي أصابتها من جرّاء هذا الخيار وهذا المسار الأخرق الذي اتخذته لحياتها المستقبلية، وهو أن تكون رجلًا ذا شخصية قوية، قادرة قاهرة، رجلاً يتسم بالتحكم والسيطرة، يأمر وينهى ويظهر التفوق والتفاخر، ويفرض احترامه على الآخرين فرضاً لا هوادة فيه ولا تهاون.
لكن مسار التحول صعب مستصعب، تكتنفه آلام وأوجاع جسدية، فضلاً عن افتقاد السلام الداخلي، شعورها بالتشظي والاغتراب عن دفء الكهف الأول الذي ولدت فيه المرأة، وهو كهف الأنوثة والأمومة والحنان الهارب تحت غبار هذه المغامرة الجندرية البائسة.
"في طريق العودة شاهدت طفلًا صغيراً يسقط على الأرض، يبدو عليه الخوف والبكاء... سبقتني أمه التي اندفعت إليه بسرعة تحتضنه بحنان وتهمس له بكلمات تطمئن قلبه. تبدأ في فحص جسمه برفق للتأكد من سلامته، وسط دموع الصغير وحنان الأم.... شعرت بانقباضٍ في بطني وصدري. أي تفسير لشعوري هذا؟
بهذه المواكبة التي لا تخلو من الجرأة، تقدم " ثالث ثلاثة " لقارئها مغامرة سردية جديرة بالإعجاب تطرح سؤال الهوية الجنسية من دون الانزلاق إلى صور ومشاهد جنسية مجانية لاستدراج قرّاء واستقطاب حشرية وفضول تزدحمان في نوع كهذا من الكتابات.
كما تبين رواية "ثالث ثلاثة" الاختلاف الشاسع في مسألة التحول بين الشرق الذي يرجم هذا الفعل ويجرمه، والغرب الذي يفتح أبوابه لكل طارق بعيداً عن أي محظور ديني أو مجتمعي.
يطرح أشرف المسمار إشكالية الهوية والذات من زوايا متعددة، مركّزًا على التفاعل بين الفرد والمجتمع، وتأثير السياقات التاريخية والسياسية على تشكيل الهوية، حيث يستعرض تجربة "يم" الشخصية وتفاعلاتها في العبور إلى الجنس الثالث، وكيف تتشكل الذات الفردية وتتأثر بالظروف المجتمعية، خاصة في سياقات اللجوء، ما يجعل من تجربة الفرد مرآة لتجربة الجماعة.