الجمهور السوري: زياد الرحباني وطن بديل
"عرّفنا على مكامن القهر وآليات الضحك عليه". ماذا يعني زياد الرحباني بالنسبة للسوريين؟
حينما حضرت حفلة زياد رحباني (1956 - 2025) في قلعة دمشق عام 2008، وبينما أغلب الجمهور يغني ويرقص قبل وبعد فتح الأبواب أمامهم، لا أعلم لماذا كان فرحي داخلياً تأمُّلياً، وما لبث أن تحوَّل إلى غبطة حقيقية عندما رأيته يصعد إلى الخشبة.
أحسست بأنّ ثمة كيمياء خفية تُهدِّئ جسدي، في حين أنها تُشعل روحي وحواسي كلَّها. شعرت في ذلك الوقت بأنّ لدي قدرة غريبة على تلمُّس فرح زياد: في نقراته على البيانو، في نظراته إلى الكورال وأعضاء الفرقة الموسيقية، في تأمُّله لوجوه الجمهور، وما هي إلا دقائق حتى أعلن العبقري اللبناني بأنها المرة الأولى التي يستطيع فيها أن يقدّم مقطوعاته وأغانيه بأوركسترا كاملة. إذ منعته الظروف من تحقيق ذلك في السابق، حتى أنه ترك البيانو قليلاً والتفت إلى الفرقة ورقص مُنْتشياً.
حينها فرحت كثيراً لفرحه، وانتابني إحساس بأنّ سوريا تردُّ جزءاً من دينها له، بعدما أزاح بإبداعه وسخريته غمامات من القهر أثقلت كاهل السوريين على مدار عقود، خاصةً أنهم يشعرون بأن كلمات أغانيه ونصوص مسرحياته وسيناريو برامجه الإذاعية كُتِبَت لهم وعنهم.
فما اشتغل عليه زياد هو وعي اللحظة المستمرة، في هذا الشرق المُصاب بلعنات السياسة، وسَبَك ذاك الوعي بموسيقى قادرة على أن تُنبت القمح في أرواح المتعبين، وأن تجعلنا كسوريين نعي سرّ وجودنا الذي يُشبه آثاراً على الرمال، ولا سيما أنّ كلّ يومياتنا موبوءة بـ"هدوء نسبي" وبـ"أمراض مزمنة داخلية".
وفوق ذلك الوعي، تأتي السخرية من هذا الزمن كَتَتْبيلة خاصة على وليمة جَمال دسمة، توصّلنا إلى أقصى درجات التطهير. بسبب عمق السبر وحساسية التقاط المفارقات، والقدرة على تقمُّص الروح الجمعية المُتْعَبة وتنزيهها عبر الكلام والموسيقى، بحيث إنّ زخم الدراما سواء الإذاعية أو المسرحية وبلاغتهما الخاصة تسمح بأن تتمرأى في الذاكرة وتعيد إنتاج صورها الفريدة، فاللغة التي يبدعها زياد لها مرونة عالية في مظهرةِ المَشهد، وزيادة تأثيره على المستمعين، إذ إنه يأسِرْ، وفي الوقت ذاته يُحرِّر الوعي ويدفع إلى التفكير، حتى في كثير من البديهيات، وأيضاً المُعضلات، بأسلوبه السهل الممتنع، والممتنع عن كثيرين غيره.
دراما الصوت
-
"فيديل" في مسلسل "هومي هون" (جسَّده الممثل أحمد الأحمد) العاشق لزياد والمتأمّل بحضور حفلة له في بيروت
دراما الصوت هو ما أتقنه هذا المبدع إلى جانب مَسرَحَة الأفكار الكبرى مع تبسيطها الشديد، لدرجة أنّ صراعات هائلة استطاع أن يختصرها بعبارة واحدة على لسان إحدى شخصياته، أو من خلال مَسْمَع إذاعي واحد، أو حتى بمقال صغير.
تلك الدراما الناقدة هي ذاتها التي جعلت فيروز تتخلّى عن تمسُّكها بمدرسة الأخوين رحباني وطهرانيتها، وتدخل في غمار التجربة الزيادية الرائدة بتعاطيها مع وقائع وقعت، ولا تزال تقع على رؤوسنا كأقدار مستعصية. وهو ما عمَّق الحضور الفريد لنتاج تلك التجربة في وعي الجمهور السوري، بحيث بات زياد الرحباني مثالاً عن الثائر الذي يرفض أن يذهب "ضحية الحركة الثورية" الزائفة، والناقد الاجتماعي الذي يُقَولِب أفكاره الماركسية عن رأس المال عبر أغنية أو مشهد مسرحي، لدرجة أنّ البعض اعتبر الواقع الاقتصادي الرديء أحد أبرز محفّزات الإبداع لديه، وفي الوقت ذاته كان المُتمرِّد المُتَفرِّد على السائد، والمستشرف للأسى كحالة مستمرة في ظل اصطفافات سياسية لا تُعطي بالاً للإنسان، بل تُكرِّس انغماسه في القهر والظلم واليأس المديد.
كلّ ذلك جعله قدوة لأجيال كاملة من السوريين وهو ما عبّرت عنه الكاتبتان لبنى مشلح ولبنى حداد في مسلسل "هومي هون"، بحيث أن "فيديل" (جسَّده الممثّل أحمد الأحمد) العاشق لزياد والمتأمّل بحضور حفلة لزياد في بيروت، إلا أنه لم يصغ لكلمات أغنية "خلِّي إيدك ع الهوية"، فنسيها في البيت، مما منعه من اجتياز الحدود السورية- اللبنانية، ليشعر بيُتْمٍ إضافي على يُتمه الأصلي لوالدته المتوفاة، ورجاءٍ مُنكسِر لم يستطع أن يرأب بعضاً من صدوعه بحضور تلك الحفلة واللقاء بمَثَلِه الأعلى، حاله حال الكثيرين من شباب تلك المرحلة الذين تربُّوا على الفكر الزيادي المُغرِّد دائماً خارج السرب.
وطن بديل
-
لقطة من مسرحية "بالنسبة لبكرا شو؟"
وبين من يرى في أعمال زياد وطناً بديلاً، ومن ينظر إليه كأشجع الصادقين في زمنه، والمُعلِّم المُبهِر الذي يُعرِّفنا على مكامن القهر وآليات الضحك عليه، فإن الملحن السوري، سمير كويفاتي، على يقين بأن كل ما اشتغله النابغة اللبناني لا يتعلق بلبنان وحده، وفي تصريحه لــ "الميادين الثقافية"، يؤكد أنه بعد "سهرية" التي اشتغلها على نهج الأخوين رحباني، تأتي "نزل السرور" التي سبقت الحرب الأهلية اللبنانية بعام، تنبَّأ فيها بثورة، وصنَع نشيد "جاية مع الشعب المسكين.. جاية تعرف أرضي لمين"، لا نستطيع إلا أن نقول بأنها موجّهة إلينا نحن السوريين، وهي تتنبّأ بثورات بجميع أنحاء الوطن العربي. إذ يُظهر فيها كيف أن الشعب متعب وهناك من يريد أن يصنع ثورة لا يستطيع الشعب أن يطيقها.
أما "بالنسبة لبكرا شو" فهي بيئة لبنانية صرفة، و"شيء فاشل" ينقد فيها المسرح الرحباني الذي يصوّر العالم وردياً، لكن في "فيلم أميركي طويل" تبرز بقايا الحرب وما أفرزته من حالات مرضية ونفسية تنطبق على ما حصل في سوريا بعد عقود، وفي أي مكان حصلت فيه حرب، وفي "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" نسمع في آخر المسرحية أغنية طريق النحل لكن باللغة التركية، هذا مؤشر استشرافي على ما يحصل الآن بدقة، إذ كان لدى زياد حدس فظيع استطاع من خلاله أن يقرأ المستقبل.
ويضيف كويفاتي: "برأيي إنّ علاقة زياد بالسوريين فريدة، وبالنسبة لإنسان مبدع جاء في عام 2008 وقال أمام كل الجمهور بأن دمشق ليست عاصمة للثقافة العربية، بل عاصمة دائمة للثقافة، وخلال كل سنوات الحرب في سوريا حيَّد موقفه نوعاً ما، رغم معرفتنا بموقفه من المقاومة ومن فلسطين، إلا أنه كان يدرس كل كلمة يقولها، لذلك أستهجن ألا يظهر ولا خبر عن وفاته في إعلامنا الحالي المُتهتِّك، رغم أنَّه أثّر في جيل سوري بأكمله، منطلقاً من أن الوجع في سوريا ولبنان واحد، وأعتقد أن الجمهور السوري يحب زياد أكثر من اللبنانين أنفسهم".
باب الإبداع الرحباني أُغلق
-
من تشييع زياد الرحباني (أ ف ب)
عن علاقته بزياد الرحباني وفنه يوضح كويفاتي: "رحلتي معهما قديمة جداً. بدايةً تعرّفت إلى شغله، وكان عمري حينها 12 سنة، وتحديداً عام 1972 قبل مسرحية سهرية بعام، كان عنده أسطوانة أحضرها لي أبي، وكانت موسيقى لمقدّمات مسرحيات فيروز بتوزيع جديد، وشارك معه عازف بيانو اسمه جاك كودجيان، وكان التوزيع مذهلاً، بعد ذلك كان لي حظ أن أحضر آخر 3 مسرحيات له في بيروت. ومن حينها أدركت أن هذا الإنسان سيصنع منعطفاً جديداً في الموسيقى، متفوِّقاً على والده عاصي الرحباني الذي كان يلعب كثيراً على تفاصيل الهارموني الشرقي، لكن زياد اشتغل باتجاه آخر. إذ ركَّز على لحن بسيط جداً من دون أن يعني أنه سهل، وصبَّ جلّ اهتمامه على التوزيع، فحقّق الإدهاش، من دون أن يسبقه إليه أحد في الموسيقى الشرقية، بمن فيهم والده رغم عبقريته، فما يميّز زياد الرحباني هو إدخاله التفاصيل الغربية في اللحن والتوزيع، وخير مثال موسيقى مسرحية "ميس الريم" التي يحبها الجميع من دون أن يعلموا لماذا، وأيضاً موسيقى مسرحية "بيترا" التي صاغها زياد، ففيهما تظهر براعة التوزيع رغم سهولة الميلودي، في "بيترا" أبرز التوزيع الطابع التاريخي للمسرحية، وفي "ميس الريم" كان ذا طابع حديث جداً وفي الوقت نفسه شعبي".
ويضيف: "زياد الرحباني يعطي الآلات جميعها حقّها بشكل مذهل، والأهم أنه لا يكرّر شيئاً، زياد لديه كلمات في الأغاني تُقال بين الناس في الشارع، وهذا سبب شعورهم بقربه منهم، يلحِّن كلاماً عادياً ويصنع منه أغنية تُغنَّى ببساطة وروح عفوية، ويختم "مع رحيل زياد أُغلق باب الإبداع الرحباني وأخذ معه المفتاح، ولا أعتقد أن أحداً سيستطيع أن يفتح الباب ذاته ويحتل المكانة نفسها. هذا ليس يأساً أو تقليلاً من شأن بقية الرحابنة، لكنه واقع".
وعي مغاير
-
مأمون الخطيب: زياد الرحباني ببساطته العبقرية أوضح لنا أن المسرح أداة تغيير
أما المخرج المسرحي السوري، مأمون الخطيب، فيقول في حديث إلى "الميادين الثقافية" إن: "زياد الرحباني لم يكن مجرد فنان بالنسبة لي، بل كان بداية تشكّل الوعي الفني والمسرحي بأبعاده الثقافية والفكرية والفلسفية. جيلٌ كامل، ومن بينهم أنا، كان ينظر إلى المسرح السياسي والشعبي على أنه مجرّد وسيلة تفريغ للشعوب، حتى جاء زياد وأثبت أنّ الكلمة والموسيقى يمكنهما أن تكونا أداة وعي حقيقية".
ويضيف: "زياد ببساطته العبقرية أوضح لنا أن المسرح أداة تغيير. حوّل القضايا الكبرى إلى نصوص، وحوارات، وألحان جعلت كل الأفكار قريبة من كل الأجيال. من خلال موسيقاه ومسرحياته وأغانيه وحتى سكتشاته الإذاعية، نقل إلينا فكراً وفلسفةً وروح نضال، تحت مظلة مفهوم بسيط وعميق في آن: البساطة صنّو العبقرية".
ويتابع الخطيب: "كيف ننسى سهرية، نزل السرور، شي فاشل، فيلم أميركي طويل، بالنسبة لبكرا شو، أو أغاني مثل وحدن، تلفن عياش، وبرنامج العقل زينة؟ كل هذه الأعمال لم تكن مجرّد ترفيه، بل كانت تشكيلاً للوعي وإيقاظاً للحس الإنساني. فزياد – ذلك الانسان- اليساري الماركسي النادر، البسيط، غير المعقّد، القريب من الناس، كان واضحاً بلا شعارات زائفة، وصادقاً بلا تنظير ثقافي متكلِّف. منه تعلّمت الوضوح، والموقف، والطرح الإنساني الذي يلامس الإنسان في كل مكان وزمان. زياد بالنسبة لي لم يكن مجرد فنان، بل برهاناً على أن البساطة قد تكون أعمق من أعقد الفلسفات".
ويتابع المخرج السوري: "بهذه الكلمات أختصر تأثير زياد في حياتي وفي وعي جيل كامل، وأعتقد أنه بريخت المشرق وداريو فو لبنان وكورت فايل الموسيقي بصوت عربي، وأحياناً لُقّب بموليير العصر الحديث. وفي فلسفته الشعبية يمكن تشبيهه بجان جاك روسو أو حتى تشيخوف في إنسانيته القريبة من الناس، ورغم كل ذلك إلا أنه بخلفيته اللبنانية- المشرقية – العربية، لم يستنسخ أحداً، بل ابتكر لغته الخاصة التي جعلته في الحقيقة حالة متفرّدة لا تُقاس إلا بميزانه هو، ميزان التركيبة اللبنانية الرحبانية المشرقية الحديثة".