الفاضل الجزيري: المسرح فن وحياة ورفض

كان اسماً لامعاً في المسرح التونسي والعربي وانشغل طوال مسيرته الإبداعية بهمّ الإنسان والوطن معاً. من هو الفاضل الجزيري؟

كان رجل المسرح الراحل الفاضل الجزيري (1948 - 2025) اسماً لامعاً في المسرح التونسي والعربي، وطوال مسيرته الإبداعية انشغل بهمّ الإنسان والوطن معاً. في هذه المادة ترصد "الميادين الثقافية" بعضاًً من رحلته في الحياة والفن.

بورتريه روائي واقعي لمبدع استثنائي 

  • تمتع الجزيري بصداقات مع الفنانين الذين تركوا بصمتهم الأصيلة في عصره
    تمتع الجزيري بصداقات مع الفنانين الذين تركوا بصمتهم الأصيلة في عصره

في روايته "ليلة حديقة الشتاء"، يسرد الأديب التونسي الراحل، حسونة المصباحي، سيرة ذاتية للفاضل الجزيري الذي جمعته به صداقة، وتعتبر الرواية من هذه الناحية شهادة على لسان هذا المبدع الذي أثّر وأثرى المشهد الثقافي والمسرحي والسينمائي التونسي على امتداد 50 سنة .

يقول المصباحي  في الصفحة 166 من الرواية، إنه في أحد لقاءاته بالجزيري استقبله الأخير أمام بيته الحجري الشبيه بقلعة رومانية، وبقامته الفارعة وشعره الكثيف الأشيب الذي يشبه أيقونات السينما العالمية. تحدث عن حياته واكتشف منذ طفولته أنّ ما يحدث في تونس كان صراعاً على السلطة بين البايات العثمانيين وبين الاستعمار الفرنسي والقوى الوطنية التي تبحث عن الاستقلال من جهة ثانية، والتي لم تخلُ أجنحتها من الانقاسامات العميقة.

وكان يلاحظ المناخ العائلي داخل أسرته التي تنتمي إلى البورجوازية التونسية الصغيرة ومدى انشغالها بمصالحها اليومية، تشرّب الجزيري الطفل حينها الأحداث وخزّنت ذاكرته الصغيرة وعياً تبلور فيما بعد بالتحدي وإعلان الرفض للمسلمات ومسايرة التحديث، من دون التخلي عن الثوابت التي تسم الشخصية التونسية بهمومها الوطنية، غير مبتعد عن المشاغل العالمية للحرية والموجات الجديدة في الفنون والفكر. هكذا بقي فاضل الجزيري محافظاً على التمشي الفكري/الإبداعي طيلة حياته .

وتحدث الفاضل الجزيري عن المرحلة الصادقية وتعليمه الثانوي الذي بلور شغفه بالمسرح وبالفنون الجميلة، فكان من تلاميذ الفنان، زبير التركي. كما نشط في المسرح المدرسي  وظلت أعمال شكسبير راسخة في ذهنه، وكان يحفظ منها مقاطع عن ظهر قلب. كما واظب على حضور جلسات والده في مقهاه بالمدينة العتيقة، إضافة إلى مكتبته الزاخرة بكنوز الكتب. 

تمتع الجزيري بصداقات مع الفنانين الذين تركوا بصمتهم الأصيلة في عصره. وكان له مخزون معرفي مهم في الشعر والأدب العربي القديم، ما سيولد لاحقاً لدى هذا المسرحي رؤية جمالية مميزة للصورة الذهنية وتقشفاً في الكلمة كأداة لتطوير الخطاب سواء في ميدان المسرح أم السينما أم العروض "الفرجوية" التي انشغل بها لاحقاً كالنوبة والحضرة والمحفل.

وجاء في رواية "ليلة حديقة الشتاء" أيضاً أنّ الجزيري كان مصّراً على دراسة الفلسفة. وكان من أبرز أساتذته الفيلسوف الفرنسي، ميشال فوكو، الذي كان وقتها مقيماً في تونس، والذي كان في بداية شهرته العالمية، وتوطدت علاقته به مثل بعض الطلبة الذين فتحت نقاشاته معهم خارج أسوار الجامعة آفاقاً جديدة لفهم علاقة الفن والفلسفة والجسد. 

وقد تعرض الجزيري لتجربة السجن إثر تظاهرات طلابية عام 1967، وكان شاهداً على عمليات التعذيب والقمع التي طالت معتقلي الرأي. رحل ميشال فوكو إثر ذلك تاركاً أفكاره  تزداد اتساعاً داخل عقول الجيل الشاب الثائر .

وتحدث الجزيري، كما ورد في الرواية، أنه بحث بعد ذلك عن آفاق أرحب وكانت لندن وجهته، حيث تعرّف على مسارحها، وغذّته الحركة الثقافية التي كانت تشهد زخماً في حقول فنية متنوعة، كالموسيقى والسينما والرسم أيضاً. ثم واصل رحلته إلى باريس ليعيد اكتشاف أعمال جون لوك غودار وينهل من "فرجة" مسرحيات بيتر بروك، وجان جونيه، وكلود شابرول. 

وكان الفاضل الجزيري يؤمن، كما يرى أستاذه القديم ميشال فوكو، أنّ السينما تمنحنا القدرة على أن نفكر بشكل مختلف. وتمكن بفضل كتابات هذا الأخير حول أعمال مارغريت دوراس وبازليني وغيرهما، من أن يتعمق أكثر في مسألة الخطاب الجسدي والحسي كحامل يمكن أن يعدّل من حشو اللغة. 

وتجلى ذلك في أدواره وأعماله المسرحية التي تحتفي بالممثل أو المؤدي باعتباره يملك وسائل تعبيرية متنوعة ومفتوحة على تأويلات المتلقي، وبالتالي فإنّ العمل الفني يستمد راهنيته من تجذره في اللحظة والآن، لكنه لا ينفصل عن الأحداث السابقة .

بعد عودته من فرنسا أسس الفاضل الجزيري مع مجموعة من رفاقه "فرقة مسرح الجنوب" في قفصة .كما كان من مؤسسي المسرح الجديد مع جليلة بكار والفاضل الجعايبي ومحمد إدريس وحبيب المسروقي.

وبلغت التجربة المسرحية لهذه المجموعة أوجها مع مسرحية "غسالة النوادر" عام 1980. وبعد رحلة إلى لبنان ومشاهدة مجريات الأحداث، انطلقت أولى تجارب مسرحية "عرب"، ثم أخذ كل فرد من المجموعة في البحث عن آفاق أخرى .

كان الفاضل الجزيري يتمتع بكاريزما قوية ويحمل مشروعاً جمالياً مكّنه من خوض مجال التمثيل السينمائي، ومن أكثر أدواره رسوخاً في الذاكرة التونسية دوره في شريط "عبور". كما خاض تجارب أخرى إلى جانب إخراج فيلم "ثلاثون"، علماً أنه حمل مشروع فيلم حول المناضل النقابي، فرحات حشاد، والرمز الوطني التونسي، محمد الدغباجي .

حسن المؤذن: الجزيري ربط بين الحداثة والمحلية الوطنية 

  • المؤذن: ينتمي الجزيري إلى جيل كان يحترم الفن باعتباره حقلاً إبداعياً
    المؤذن: ينتمي الجزيري إلى جيل كان يحترم الفن باعتباره حقلاً إبداعياً

يقول المخرج والكاتب المسرحي والأستاذ في المسرح الوطني في تونس، حسن المؤذن، إن الفاضل الجزيري كان أستاذه في المعهد العالي للفن المسرحي بتونس، وهو رمز مهم في المشهد الثقافي التونسي المعاصر. 

وأضاف أن الجزيري "ينتمي إلى جيل كان يحترم الفن باعتباره حقلاً إبداعياً يتطلب جملة من الشروط التي يجب أن تتوفر في المبدع، أهمها مدى إيمانه بعمله والصرامة مع الفعل الإبداعي، والتوق المتجدد للمعرفة في مختلف المجالات التي يمكن أن تضيف إلى المسرح والعمل "الفرجوي" عموماً. كما كان الجزيري يحرص على مزيد من التعلم، ما أطلق عليه "نار التجربة" التي تصقل الأداء وتصفي الشوائب".

وقال المؤذن إن جيل الجزيري "علّمنا من خلال سلوكياته تجاه العمل بدرجة أكبر من الخطاب في مرحلة تاريخية ربطت بين الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي مع البلد، ومن المميزات المهمة لجيل الجزيري أنه أرسى قيم الاستقلالية المادية للمبدع لأنها ضرورة لممارسة الحرية في مجال الفن وعدم الخضوع لإملاءات السلطة القائمة. وتالياً الانطلاق نحو تعبيرات أكثر رحابة وفهماً أكثر وضوحاً للواقع وللفرد وتطلعاته، ما يفتح الباب أمام سبر أعماق المشاهد بكل شفافية". 

ويرى المخرج والكاتب المسرحي التونسي أن "هذا المعطى فتح الباب أمام الكونية، وهو جيل ربط الحداثة بالمحلية. إذ لم يكن ممكناً بناء خطاب جمالي مستورد". 

وذكر حسن المؤذن أعمالاً مستمدة من الموروث الشعبي منها البرني والعطراء والجازية الهلالية ومحمد علي الحامي، معتبراً أن جيل الجزيري تفطن مبكراً إلى أن "الشعبوية يجب ألا تجذب المبدع إلى استسهال العمل الفني أو ترذيل الخطاب أو عدم الالتزام بنخبوية المسرح، لأنه حامل لقيم توعية واستطيقية ويهدف إلى الاستبصار والوعي، وكان الفنان الفاضل الجزيري من بين المجموعة التي عملت على حقل الميثولوجيا اليومية الآن وهنا فقد بقي الاتصال مع التراث بطريقة سلسة وعقلانية".

ويوضح المؤذن "كان هناك استبطان للكائن التونسي ضمن خطاب مسرحي متكامل، حيث أضاف الجزيري للمدونة الفنية التونسية أعمالاً احتفالية. إذ قام بــ "مسرحة" المخزون الشعبي وأرجع الظاهرة المسرحية إلى الينابيع الدينوزية حيث التجارب الأولى للإغريق حين كان الجمهور يشارك في العروض المقدمة له على المسارح.

علي منصور: مخرج طلائعي حمل المسرح التونسي إلى مناطق جمالية جديدة 

  • منصور: أغنى الجزيري تجربته بإخراج أعمال استعراضية ضخمة متقنة البناء والاخراج
    منصور: أغنى الجزيري تجربته بإخراج أعمال استعراضية ضخمة متقنة البناء والإخراج

من جهته، كتب المخرج والمنتج السينمائي والتلفزي التونسي، علي منصور: "عرفنا فاضل الجزيري مخرجاً طلائعياً حمل المسرح التونسي إلى مناطق جمالية وفكرية جديدة. كما عرفناه وجهاً تمثيلياً قوي الحضور ثم مخرجاً سينمائياً صاحب رؤية لا يشبه سواه".

وأضاف "لقد أغنى (الجزيري) تجربته أيضاً بإخراج أعمال استعراضية ضخمة متقنة البناء والإخراج زاوج فيها بين الموسيقى والرقص والشكل البصري من دون أن تخرجه تلك التجارب من جوهره الحقيقي. إنه رجل مسرح وسينما بامتياز. لقد خسرته الساحة الفنية لا كمخرج استثنائي فحسب، بل كأيقونة اختارت أن تفتح أفق التعبير الحر، وأن تشتغل على الجمال برؤية تجاوزت السائد ولامست العمق، عمق الإنسان والوطن. كان الفقيد من أولئك الذين لا يرضون بالسطح ولا يكتفون بالمنجز".

اخترنا لك