ديوان آلاء القطراوي: قصائد تولد من استشهاد ابنائها الأربعة
الشاعرة آلاء هي إبنة مخيم النصيرات وقد فقدت في حرب الإبادة التي يشنّها الكيان الصهيوني على غزة أربعة من أبنائها شهداء هم: كرمل/ كنان/ أوركيد/ يوسف.
-
ديوان آلاء القطراوي" فراشتي التي لا تموت": قصائد تولد من رحم الخنساء الغزيّة
تقدّم الشاعرة الفلسطينية الدكتورة آلاء القطراوي قصائد من قلب الخنساء الغزيّة في ديوانها الأخير "فراشتي التي لا تموت" الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، والتي كتبت قصائده تحت الحرب، انتهت منهُ ولم تنتهِ الحرب مثلما أشارت لنا آلاء، آلاء التي فقدت في حرب الإبادة التي يشنّها الكيان الصهيوني على غزة أربعة من أبنائها شهداء هم: كرمل / كنان/ أوركيد/ يوسف، وهي ابنة النصيرات، وتقاوم آلاء بالشعر، لكنّها كلّما تنهي القصيدة، تسأل نفسها: ما جدوى الشعر؟ لأنّها مثلما تحزن فهي أيضاً، تحلم، ففي الشعر متسعٌ للأحلام ولو كانت تحت القصف الذي لم يعرف الخاتمة، بعد خاتمة كل قصيدة، وآلاء القطراوي هي شاعرة الأحلام التي لا تعرف حدوداً، لا لأنّها من غزة فقط، بل لأنّها تجعل من كلماتها أجنحة، ومن أزهار شعرها تنبعث الفراشات التي لا تموت. عشتُ مع آلاء القطراوي في قصائدها، بعد أن قرأتُ الديوان ثلاث مرّات، وكنتُ في كلّ مرّةٍ أكتشف أنّني أقرأهُ للمرة الأولى، أدخلُ غزّة من بوّابة كل مقطع من القصائد، وأجولُ في النصيرات، أقيمُ في خيمة النازحين تارةً، وتارةً أخرى تلسعُني الذكريات التي تمكثُ في قلب آلاء كالجرح، فلغة هذا الديوان هي لغةُ التساؤل الجارح، ولغة الرسائل/ الوصايا التي تنبئ بفرضيّة الموت، فكانت:" إذا متُّ " شكّلت السطر الأوّل لكل مقاطع القصائد من البداية حتى النهاية، لكنّها استطاعت أن تقرأ الإبادة بكل أشكالها بشعريّة عالية، والتقاط اليومي والكوني في آن، ولا تخلو قصيدتها من التركيبة الشعرية التي تمتحن القارئ في قدرتِه على اكتشاف عالمها بسهولة، وفي الوقت نفسه، توقظ فيه الحسّ الإنسانية ومسؤوليته كجزء لا يتجزأ من النص، تقول في الصفحة الرقم " 94" :
إذا متُّ فاعلم بأنّي عشقتُك أكثر
من كل هذي الشظايا التي أعدمت حالمينا،
وأكثر من عدد الطائرات التي قصفتنا
ومن شارة النصرِ
في صورِ النازفينا
مشهديّة الشظايا والطائرات وصور النازفين، تجعلُنا نذهب عميقاً في تفاصيل هذه الحرب الوحشيّة، وتقرأ لنا ما يحدث في غزّة بشكلٍ دقيقٍ ومختلف عمّا نراه على شاشة التلفاز، لكنّها لم تبتعد عن التركيبة الشعرية العميقة والإيقاعية الماتعة، فهي لا تكتب من أجل أن تكتب فقط، هي تكتب كي تخلق من سرديّة الحزن سرديّة الأحلام، رغم الشظايا التي تعدم الحالمين، لكنّها ترفع شاعرتنا آلاء شارة النصر في ظلّ السماء التي تجتاحها الطائرات، والأرض التي تمتلئ بصور النازفين، فتصرُّ على الحب الذي لا يغادر ميدان القلب رغم فيض الجراح، وتستأنف مقاطع قصيدتها إلى أولادها بأسمائهم، تقول:
لا تمت يا صغيري
يعذّبُني أسودٌ في الثيابْ
لكرملَ:
ما زلتِ أندلساً تقتفي خيلها
وتقولُ لزيدونها :
لم تكنْ قبلةُ العاشقين سرابْ،
لضحكتهِ المقدسيّة:
لستِ اكتمالاً سوى بين ثغر كنانٍ
وشمسي التي هزمت بالسكينةِ جيشَ الضبابْ،
هذا المقطع الذي يسيطر عليه الحزن بشكلٍ كبيرٍ، وهي تعانق شاعرتنا آلاء القطراوي أولادها الشهداء، ويعذّبها أسود في الثياب، ولكنّها لا تزال ترى في كرمل أندلس الأرض، وقبلةُ العاشقين، وضحكة كنان المقدّسة كالشمس التي تضيءُ الكون في مخيّلة الشاعرة الخنساء، ويوسف الابن الذي تقول لهُ: "كنتُ ضممتُك في الجبّ/ وحدي وصالحتُ فيك الذئابْ"، وهذا العالم الظالم والمظلم الذي عجز عن وقف الإبادة المستمرة في غزة لحدّ الآن، كما أنّ اليومي هنا يمتزج مع الكوني من خلال التشابيه التي أسطرت التفاصيل في القصيدة، وجعلت من المعنى البسيط معنى كبيراً، كيف لا؟، فهو الذي حفر في النفس جرحاً واضحاً، يصعب التخلّص منهُ أو نسيانه بسهولة، كما في هذه المقاطع التالية من الديوان الصفحة " 86" :
تمشّ الثلاثاء فوق الجسورِ
أُحبُّ اهتزاز الرياحِ
وقد كنتُ أعبرُ من جسدي عبرها
وكانت تعيدُ لصلصال روحي
موازينها الواقدة
هل ما زالت هذه الجسور واقفة في النصيرات؟ والعبور من الجسد، يذكّرُنا بقصيدة خليل حاوي " الجسر" الذي يقول فيها: "يعبرون الجسر في الصبح خفافاً / أضلعي امتدت لهم جسراً وطيدْ"، وكأنّ الشاعرة تطير بجسدها الذي كان لهُ أجنحة، تجعله يحلّق في الرياح، هي نوستالجيا الزمن الجميل ونهار الثلاثاء الذي كان مشرقاً، وغاب فجأةً كلُّ شيءٍ، تتذكر شاعرتنا كل هذه التفاصيل بنفس الجريحة التي تحاول مراراً إعادة ما كان إلى مكانه الطبيعي من خلال القصيدة، تعود للمخيلة تبني التفاصيل خطوةً خطوةً، والمكان حجراً حجراً، فهل تنجح في ظلّ هذا الدمار الكبير والإبادة التي لا تتوقف لحظة؟، فيصبح صوت الشاعرة هنا، هو صوت الجماعة الضحية التي تصرخ في وجه الجلّاد، وتقول له: أستطيع أن أواجه الإبادة بالدفاع عن السرديّة الحقيقية لهذا الشعب الذي يتجذّر في التراب كما يتجذّر الزيتون، وتستمر افتراضيّة الموت "إذا متُّ" لكن فراشة آلاء لا تموت، لأنّها استطاعت أن تصوغ حكايتها، تقول:
إذا متُّ هذا دمي
لم يشأ أن يكون المُحاصر في جسدي
فانبرى مهرةً تلهمُ الحالمينْ،
وإنّي وجدتُ بهِ صهلةً
توقظُ النّار من نومها
ثمّ تطوي المسافات للضائعينْ.
الدماء والحصار والنّار والضياع، وهذا المشهد الدامي في درب الآلام الذي يغزو المشهد، ولكنّهُ انبرى مهرةً تلهمُ الحالمين، وتصهلُ حتى تشتعل النّار، هي دلالة على العنفوان والتمرّد على الواقع الدموي، ليظلّ الأمل ينبعثُ من جديد، وتمسي آلاء مثل العنقاء التي تخرج من الدمار إلى الفضاء، هي المقاومة التي تولد من رحم الحصار، وتلهمُ الثوّار نحو الطريق الصواب. وتبقى فراشة شاعرتنا الدكتورة آلاء القطراوي حيّة وتنشدُ بصوتها المجروح نشيد غزّة الذي لا يموت، وروح غزة التي تتجدد فينا، لا تقولي "إذا متّ" لأنّكِ يا آلاء لن تموتي، وستبقين فراشة كلّ العصور التي تحلّقُ فوق زهور الشعر الذي لا يعرفُ الموت ولا الانكسار.