سؤال الثقافة والمثقف

الحاجة اليوم ملحّة إلى مقاربات أو "أصوات" نقدية شرسة، كفيلة بتشخيص أعطاب البنى الذهنية لهؤلاء المرابطين في عمق مداراتهم المسدودة، وتشخيص خلفيات ظاهرة العجز العام والتام عن تحقيق الحد الأدنى من الانخراط في سيرورة ثقافية وحضارية فعلية.

في حين لا يزال سؤال الثقافة والمثقف يشغل تفكير علماء الاجتماع والانثروبولوجيا، ينغمس بعض المثقفين في انعزاليتهم وانشطارهم عن الآخرين. ففي عالم يزداد ترابطاً وتشابكاً يوماً بعد آخر، أصبح مفهوم الثقافة ضبابياً، ولعلّنا هنا نقتبس مقولة أمين معلوف في كتابه "اختلال العالم" (الفصل الثالث، ص 203) حول دور الثقافة اليوم وهو "تزويد معاصرينا بالأدوات الفكرية والخُلقية التي ستسمح لهم بالبقاء وليس أقل من هذا".

تأخذ الخريطة الثقافيَّة في المشرق العربي أشكالاً مختلفة، فهناك الثقافة الوطنيّة التي تعتمد على الإيمان بوحدة الحياة بين عناصر النسيج المجتمعي، وهناك الثقافات المحليّة الّتي تدور في فلك الجيران والعائلة والأصدقاء، وهناك قيم ثقافيَّة على أساس عرقيّ أو طائفي/مذهبي. نحن أمام قوة جبارة اسمها العولمة التي تعيد تشكيل مختلف جوانب الحياة الإنسانية، من الاقتصاد والسياسة وصولاً إلى الثقافة والهوية. 

يمثل تأثير العولمة على الهوية الثقافية إحدى أبرز القضايا الاجتماعية المعاصرة وأكثرها إثارة للجدل والنقاش. فبينما تفتح العولمة آفاقاً للتواصل والتفاعل بين الثقافات المختلفة بشكل غير مسبوق، فإنها تثير أيضاً مخاوف جدية حول تآكل الخصوصيات الثقافية، وهيمنة نماذج ثقافية معينة، وتحديات الحفاظ على الهوية في مواجهة تيارات التجانس. 

من منظور علم الاجتماع، يُنظر إلى هذه العلاقة المعقدة ليس كعملية أحادية الاتجاه، بل كتفاعل ديناميكي ينتج منه تحولات وتحديات وفرص جديدة. لكن، كيف لنا تقديم تحليل اجتماعي معمّق للآثار المتعددة للعولمة على الهوية الثقافية، واستكشاف أبعاد هذه الظاهرة، وتقديم رؤى حول كيفية تعامل المجتمعات والأفراد مع هذا الواقع المتغير؟ وأيضاً رؤية اللغة ومساراتها المتبعة لاستكشاف مخاطر العولمة على ثقافات مجتمعاتنا في العالم العربي؟

واللغة هنا ليست مجرد أداة محايدة لوصف الواقع، بل هي نظام من العلامات يسهم في بناء "الواقع" وتشكيله، وغالباً ما يكون محمّلاً بعلاقات القوة، خصوصاً في ظل انهيار ما يسمى بـــ "الدولة المدنية الوطنية" العربية التي باتت في هشاشة، وكذلك الفساد المجتمعي الذي يعكس مستوى الانحطاط الفكري والثقافي والعلمي وتزايد نسب الفقر والجهل.

عند معالجة الكثير من الظواهر المجتمعية يحضر هذا المفهوم بقوة، وعند النزول إلى الواقع المعاش وتفسير أزمات اجتماعية وسياسية وحتى اقتصادية، يجب أن نقف عند تفكيك الثقافة السائدة وفهم خصائصها وسماتها الراهنة. إذ إنها وليدة نظامٍ تربويٍ بالإضافة إلى تدخل التعليم، والعمل، والمؤسسات، والدولة، والأحزاب، والدين، بمستويات ومراحل مختلفة.

***

ما حدث للمثقف ما بعد الأزمة السورية وقبلها احتلال العراق من قبل القوات الأميركية التي "قوننت" تقسيم البلد و"دسترته"، تجاوز المعقول، ووضع تاريخه تحت مشرحة الفقهاء وأمراء الجماعات والميليشيات. إذ تحوّل المثقف إلى حامل لراية هؤلاء ومنظّر لهم و"قاتل" باسمهم.

الحاجة اليوم ملحّة إلى مقاربات أو "أصوات" نقدية شرسة، كفيلة بتشخيص أعطاب البنى الذهنية لهؤلاء المرابطين في عمق مداراتهم المسدودة، وتشخيص خلفيات ظاهرة العجز العام والتام عن تحقيق الحد الأدنى من الانخراط في سيرورة ثقافية وحضارية فعلية. وهو أمر سيظل مستبعَداً جداً على الأقل لعقود وعقود، في ظل غياب ما يوحي باحتمال تشخيص موضوعي وعقلاني لهذا العجز، وبفعل تفاقم البؤس الحضاري والثقافي الذي يحتل المشهد بثقة منقطعة النظير، وبتزكية من القيمين على هيمنة ظلاميته.

نحن نعيش في عالم يموج بالصراعات والأزمات، حيث يبرز التطرف الفكري والإرهاب كأحد أخطر التهديدات التي تواجه الأمن والاستقرار والسلام العالمي. هاتان الظاهرتان، وإن كانتا متمايزتين، فإنهما غالباً ما تكونان مترابطتين، إذ يمكن للتطرف الفكري أن يمهد الطريق ويبرر الأعمال الإرهابية. 

إن فهم الأسباب الجذرية التي تدفع الأفراد والجماعات نحو تبني أيديولوجيات متطرفة، واللجوء إلى العنف لتحقيق أهدافها، يمثل تحدياً معقداً يتطلب تحليلاً سوسيولوجياً ونفسياً وسياسياً عميقاً. 

كما يجب العمل على توضيح دور الثَّقافة في رسم حدود العلاقات الاجتماعيَّة ومعالمها، واختلاف الثَّقافات ومكوّناتها وهويّاتها عن بعضها البعض، فليست الثَّقافة واحدة في كلِّ المجتمعات، فهناك ثقافات تنتجها وسائل إعلاميَّة وشركات البرامج التلفزيونيَّة، ولها أثر سلبيّ في مجمل الثَّقافة والمجتمع. إذ لم تتعامل هذه الوسائل مع الثَّقافة كما يجب، بل أفرغتها من مضامينها العميقة والطبيعيّة، وقدَّمتها للشعوب على أساس أنّها ثقافتهم.

***

رغم إطلاق أنطون سعادة حركة العقل في مجتمعنا، بل وتبنّيه تحفيز مشغل نقد العقل، لتعرية تاريخ محنة وطننا وهشاشته، بقي المثقف وكأنه شكل لجرح نرجسي نستعيده في الخفاء، وندرك من خلاله حجم الخراب الذي تعيشه الأنتلجنسيا في كل سوريا الطبيعية، وواقعها المأزوم بعطالة النقد، والطاعن باستيهامات المثقف المُقنّع بقناع الضحية، والباحث عن ملاذ جماعاتي أكثر من ملاذ وجودي - مجتمعي، رغم أنه عاش واقعاً قهرياً للسلطات وللجماعات الأصولية ذاتها، الذي أخضع النظام العام إلى مرجعياته وتوصيفاته، وعطلّ أي فاعلية حقيقية للمواجهة، أو لإمكانية اصطناع ملاذات مضادة.

هذا التحول المثير للغرابة أفقد المثقف الكثير من شروط وظيفته الحقيقية في تداول المعرفة وإبانة تحولاتها، وفي امتلاك القدرة على فصل الجهل عن العلم، والوهم عن الحقيقة، وفي توصيف الأشياء في سياق علائقها، مثلما أعاده – هذا التحوّل – إلى السرير (الفرويدي) بوصف هذا المثقف مريضاً، نكوصياً ويعاني من قمعيات موت الوعي، وأن سقوطه هو تعبير عن الهواجس اللاواعية والنكوصية والراسبة في أعماقه!

نكتب نصوصنا، نرتكبها كردود أفعال بصيغة عمل ثقافي عنيف، غير أن هذه النصوص وبمجرد الإعلان عن حضورها في الفضاءات العامة، وشروعها في توسيع هوامشها الضيقة، فإنها لا تلبث أن تفقد صلاحيتها، وتتحول إلى دعوة مباشرة لإعلان حرب مفتوحة على كل احتمالاتها التدميرية. الشيء الذي تسبّب في وقوع "احتباس" ثقافي معرفي واجتماعي حاد، أبطل إمكانية الوعي بحضور ظاهرة حضارية ما، تحمل اسم مثقف حداثوي.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك