صنع الله إبراهيم... المتمرد يخرج عن النظام والحياة

عاش ومات متمرداً، لم يتاجر بقضية، ولم يتسوَّل على موائد الجوائز. إليكم حكاية صنع الله إبراهيم.

صباح 13 آب/أغسطس 2025، أعلنت الدولة المصرية على لسان وزير الثقافة، أحمد فؤاد هنو، وفاة الكاتب والأديب صنع الله إبراهيم (1937 – 2025)، بعد صراع مع المرض، عن عمر ناهز 88 عاماً. 

ولعل في الإعلان الرسمي عن الوفاة إشارة واضحة إلى التفات رسمي، ولو متأخر، إلى أهمية وقيمة الرجل في الحياة الثقافية المصرية والعربية، وهو الذي لا يحتاج إلى توثيق حكومي أو شهادة منحتها له الجماهير وأعماله الروائية الخالدة بكل ثقة.

وسائل إعلام محلية أعلنت أن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وجَّه بعلاج إبراهيم واتخاذ ما يلزم بخصوص حالته الصحية، بعدما تدهورت في آذار/مارس الماضي، ودخل على إثرها المستشفى مرات عديدة، مصاباً بكسر في الحوض، بالإضافة إلى متاعب في الرئتين. 

هذا التوجيه الرئاسي المعلن عبر مواقع صحفية محلية، إشارة أخرى إلى محاولة إعلام الدولة المصرية الالتصاق بقيمة أديب عارض الأنظمة الحاكمة بشجاعة نادرة وبمواقف لا تُنسى.

ضد التطبيع

  • رفض صنع الله إبراهيم جائزة
    رفض صنع الله إبراهيم جائزة "ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي" احتجاجاً على التطبيع

فمثلاً، لا يمكن نسيان الموقف الذي رسّخه صنع الله إبراهيم ضد المحتل الإسرائيلي، وذلك حين ذهب إلى مقر تسلم جائزة "ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي" التي يمنحها "المجلس الأعلى للثقافة" في مصر في 22 تشرين الأول/أكتوبر عام 2003، وفاجأ الجميع بوقوفه على المسرح معلناً رفض الجائزة على الملأ، معتبراً حكومة بلاده، مانحة الجائزة، "لا تملك مصداقية منحها، لأسباب منها إبقاؤها سفير الاحتلال الإسرائيلي، رغم الممارسات الإسرائيلية ضدّ الشعب الفلسطيني".

صنع الله إبراهيم واحد من أبرز الأسماء الأدبية في مصر منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وله أعمال روائية كثيرة، مثل "ذات" و"اللجنة" و"العمامة والقبعة" و"أمريكانلي" و"بيروت بيروت"، و"تلك الرائحة"، جعلته إحدى القامات في عالم الأدب والثقافة حافلاً بالحضور الدائم المتطور في فن الرواية العربية،  فضلاً عن مواقفه السياسية والمبادئية التي تخلده كرمز أدبي ونضالي بارز.

مصر اليوم تفقد برحيل صنع الله عموداً بارزاً من أعمدة قوتها الناعمة، باعتباره واحداً من أهم الروائيين العرب في الحقبة الحديثة. إذ ظل صديقاً للأفكار المتمردة، قابضاً على جمر الحرية والتغيير، ولم ينحنِ وهو يرى العالم الذي حلم به يتداعى بقسوة لم يتصورها. فهو قبل أن يكون أديباً لامعاً، كان إنساناً صاحب موقف، يمشي في الحياة بضمير يقظ، لا يهادن ولا يساوم على الحقيقة والمبدأ، ليطرح نموذجاً يؤكد أن الأدب الصادق يمكن أن يكون مقاومة، وأن الصدق يمكن أن يُكتب بحبر من نار.

رحل صنع الله إبراهيم، ففقد ضمير الكتابة أحد المتحدثين باسمه، مثقف وطني لم يتاجر بقضية، ولم يتسوَّل على موائد الجوائز، ولم يبع رائحة الوطن بالتماهي مع "الصَّهْينة" وإمساك العصا من المنتصف.

السخرية سلاحاً

  • كان اسم صنع الله إبراهيم بالإضافة إلى جسده النحيل الهزيل على لسان مدرسيه علامة تنمُّر
    كان اسم صنع الله إبراهيم بالإضافة إلى جسده النحيل الهزيل على لسان مدرسيه علامة تنمُّر

في الساعات الأولى لميلاد صنع الله إبراهيم في يوم 24 شباط/فبراير 1937، لم يكن والده قد استقر على اسم مولوده الجديد، لكنه استخار الله، وبعد الاستخارة فتح المصحف، وقال إن أول كلمة ستنزل عليها عينه ستكون اسماً لابنه فكانت "صنع الله"، في الآية 88 من سورة النمل: "وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۖصُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون..".

وكان اسم تدليله بين أسرته "صُنْعُه"، مثلما ينطق المصريون "عَبدُه" إن كان الاسم الأصلي "عبد الله"، لكن مدرِّسيه، مثلما يحكي هو بنفسه، كانوا شديدي الولع بالسخرية من اسمه الغريب، وربما هذا ما كان يبذر في نفسه سلاح مقاومة ضد الطبقية عبر تلك السخريات التي واجهها بسبب اسمه، وربما كان هذا مفتاحاً من مفاتيح تكوينه الروائي، فقد كان الاسم، بالإضافة إلى جسده النحيل الهزيل، على لسان مدرسيه علامة تنمُّر. إذ كان معلمه يسأله صباح كل يوم: "أكلت إيه النهاردة؟"، وبالتبعية يسخر منه بناء على طعامه، ومن ثمَّ يقلل من شأن طبقته الاجتماعية.

واستكمالاً لسرد بذور التشكُّل النفسي والروائي للأديب صنع الله إبراهيم، يحكي هو بنفسه مقتطفات من نشأته الملتهبة في حوار صحفي أجرته معه مجلة "الدوحة"، في عدد أيلول/سبتمبر 1985، فيقول: "طفولتي كانت شقية، فقد كان أبي موظفاً من الطبقة الوسطى وكانت زوجته الأولى من نفس مستواه، وكنت أنا ابن الزوجة الثانية التي كانت أقل اجتماعياً منهما، وكانت تتعامل كممرضة لزوجته الأولى المشلولة".

ويضيف: "كانت أمي صغيرة وجميلة ومتعلمة ومتدينة، وكانت حريصة على تسجيل يومياتها، وعانت في حياتها ضغوطاً نفسية قادتها إلى مستشفى الأمراض العقلية وأنا ما زلت في السادسة من عمري، وكان ذلك حكماً على تلك المرحلة المبكرة بالنفي النفسي".

أكذوبة الوحي

  • صنع الله إبراهيم: الكتابة شغلانة زي أي شغلانة
    صنع الله إبراهيم: الكتابة شغلانة زي أي شغلانة

لم يعش صنع الله إبراهيم حالة الفخر والتعالي في برج عاجي. تلك التي يعيشها أغلب الكتاب. إذ رأى أن الإلهام والوحي والتيه وما شابه "أكذوبة حطّها الكُتَّاب علشان يعملوا هالة حوالين نفسهم، لكن في النهاية هي شغلانة زي أي شغلانة، لازم يبقى فيه بينك وبينها حالة عشق، لكن هي شغلانة زي الراجل بتاع الجزم/الأحذية اللي بيتفنن أنه يعملك جزمة شكلها حلو، وبعد ما يخلص يقعد يبص لها كدة بإعجاب، هو ده عشق المهنة"، حسب قوله في أحد اللقاءات –القليلة- المصوَّرة معه.

الوسط الأدبي المصري والعربي يعزي نفسه في رحيل صنع الله إبراهيم، ولعل ما كتبه الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد، عبر حسابه الرسمي على "فيسبوك"، كان أصدق تمثيل للحزن الذي أصاب مصر بفقدان صاحب "أمريكانلي" و"بيروت بيروت". إذ نعى عبد المجيد "معلِّمه" قائلاً: "يا إلهي.. رحل صنع الله إبراهيم.. كل كلام الدنيا لا يكفي تعبيراً عن حزني يا مُعلّمنا وصديق العمر الجميل.. إلى جنة الخلد يا صنع الله يا حبيبي.. الدموع تجعلني لا أرى يا حبيبي".

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك