عن مجاعة تلتهمنا جميعاً

إلى من يقرأ اليوم، إن كنتَ تعتقد أن ما يحصل لا يعنيك أو لا يخصّك فقط لأنك لم تعِشه بعد، تذكّر أن الحروب لا تميّز، وأنّ التاريخ يعاقب الجميع، خاصةً من صمتوا عن الحق.

  • غزة
    غزة

تلاحقنا صرخات الأمعاء الخاوية يومياً، كلما تصفحنا مواقع التواصل الاجتماعي. أجساد أطفال بالكاد ترى، تتضرع لكسرة خبز في غزة، فيما تعلو موسيقى مهرجانات صيف 2025 في عالم سطحي بات يطفو تبلداً ولا إنسانية.

أحقاً نحن في عام 2025؟ العام الذي وُعدنا فيه بالسلام والازدهار في هذا الشرق الذي لا يزال لا ينتج سوى الموت.
تبلدنا، نعم تبلدنا. أنا، ومثلي كثر من شباب اليوم، أو لا أعلم إن كنا كثراً فعلاً، نخرج يومياً إلى أعمالنا أو جامعاتنا لنستكمل حياتنا المفروضة علينا، على وقع المجازر والدمار، وها نحن اليوم أمام مجاعة. هل باتت هذه الأحداث عادية؟ روتينية؟ نتخطاها ونكمل؟

غزة يا غزة، يموت أطفالك اليوم جوعاً. من بين الركام والحصار والأشلاء، تُحصى أعداد من يموتون قهراً بسبب نقص الدواء والطعام. خبر يمر مرور الكرام؟ أهناك من يسمع صرخاتهم؟ إبادة؟ جريمة حرب؟ إنه القهر المطلق!

قهرنا جميعاً لعجزنا عن مواجهة هذا السرطان الذي زُرع في بلادنا للقضاء علينا. أما نحن في لبنان فيطاردنا شبح الموت في الجنوب.
أطفال الجنوب ينامون ويستيقظون على أصوات الغارات اليومية المتفرقة، التي تستهدف شباب الجنوب في بيوتهم، على طرقاتهم، بين أشجارهم، في حضن جنوبهم. من قبريخا جنوب لبنان، هنا غزة. أطفال الجنوب يعانقون أطفال غزة في السماء.

في حين يضج صيفنا الحار بالحفلات والمهرجانات والأعراس، يتفوق صوت الموسيقى الصاخبة على صرخة طفلة استشهد أهلها أمامها بقصف صهيوني، على منزلها الصغير الذي احتوى أنينها، وأنفاسها اللاهثة، التي حاولت كتمها كي لا تموت!

فهل هناك من يسمع صوتك، أيها الجنوب؟ أيها الجنوب الذي لا يسمع أنينه سوى أهله، سوى نحن. نحن الذين لا نراه مجرد أرض، بل فرداً من عائلتنا، من دمنا. نحبه، نخاف عليه، نشتاق إليه، ومهما حدث، لا نتركه. أيترك الإنسان أهله؟ أيخرج إلى العالم من دون هويته؟ نحن لا نترك الجنوب.

هو عالم غير عادل! أصبحت فيه الإنسانية انتقائية، والضمير متحيزاً، والقضايا استنسابية. صور ومشاهد لا يتفاعل الناس معها كما يتفاعلون مع فضيحة خيانة أو عرس ملكي.

هل هو فعلاً تطبيع افتراضي أم واقعي؟ إنه تطبيع اجتماعي وإعلامي مع الألم، لا يقل خطورة عن التطبيع مع الاحتلال.
تطبيع للإنسانية مع التبلد، وسبات الضمير، وانعدام الإحساس. هل أصبح الألم أليفاً إلى هذا الحد؟ التطبيع مع مشاهد العنف والقتل والتجويع جريمة صامتة.

يموت الإنسان مرات قبل موته الحقيقي؛ حين يُخذل، حين يُهان، حين يُظلَم. وهذا تماماً ما يحصل مع أطفالنا وشعوبنا اليوم.
وهذا ما يحصل معي، من عجزي أمام كل هذا القهر.
يموت الناس اليوم، ليس فقط من التجويع والقتل، بل من الخذلان، ومن الصمت المريب الذي يحيط كل من هو قادر على المساعدة ورفع الظلم عنهم.

لماذا أكتب؟ كي يسمع صوتنا العالم؟ قد تبدو كلماتي غير مسموعة اليوم، لكنني أؤمن أن كل صوت يُرفَع في وجه الاحتلال هو صوت مدوّ.

سألني أحدهم: لماذا هذا التعلق بالجنوب؟ بفلسطين؟ فأجبته: لم أنشأ في بيت إلا ورائحة الجنوب فيه، ولم يُذكر إلا وذكرت فلسطين معه. وُلدت من أب مقاوم بالعلم والعمل. وشرف المحاولة بالكتابة يكفيني. فالموقف مقاومة، والكتابة مقاومة، والعمل مقاومة.

أما إلى من يقرأ اليوم، إن كنتَ تعتقد أن ما يحصل لا يعنيك أو لا يخصك فقط لأنك لم تعِشه بعد، تذكر أن الحروب لا تميز، وأن التاريخ يعاقب الجميع، خاصةً من صمتوا عن الحق.

ثم يقولون: ألا يكفينا ما نعيشه اليوم؟ هل يجب أن نموت قهراً كي ندعم قضية؟ نحن لا نتحدث هنا عن الألم الذي يقودنا نحو الاكتئاب والهلاك، بل عن الوعي، وعينا الجماعي، عن تربية أجيالنا على الحق، ولا شيء سوى الحق.

ألم نمر بصدمات خلال الحرب الأخيرة في لبنان؟ نعم، ولا نزال حتى الآن نلملم آثارها النفسية علينا. لكننا ربينا وعينا لنعرف عدونا جيداً، ولنجاهر بكلمة "لا" في وجه هذا الشيطان.

أما عن السلام المزعوم الذي ينادي به المجتمع الدولي، فهو ليس سوى مخدر مؤقت، على حساب دمائنا وحقنا في الحياة.

يقول الإمام علي: "يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم". تلك حال الأجيال التي ستأتي بعدنا، رافضةً للسلام مع عدو لا يعرف سوى القتل والإبادة. أجيال تقف إلى جانب المظلوم في هذا العالم.

ضميرنا سيَحيا، مهما عَلت أصوات التطبيع والسلام الكاذب! فنحن أهل الأرض، تلك الأرض ذاكرتنا الجماعية، تلك الذاكرة التي لن ننسى فيها، ولو بعد حين، من صمت عن قتلنا.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك