فزعة، وهوشة، وطوشة، والبقية تأتي..

نحن أمام لحظة بدوية بامتياز بغياب فكرة المواطنة، ما سهّل الانزلاق إلى هويات صغرى بوصفها ملاذاً آمناً ومخدة من ريش النعام في استدعاء منامات تنتصر على الخصوم من القبائل المجاورة.

  • أفراد من قوات الأمن السورية في مدينة السويداء في 15 تموز/يوليو 2025 (رويترز)
    أفراد من قوات الأمن السورية في مدينة السويداء في 15 تموز/يوليو 2025 (رويترز)

في توصيف ما نحن فيه كسوريين خلال هذه اللحظة الملتهبة، تتفوّق مفردة "فزعة" على ما عداها من مفردات، كأن لا دولة ولا قوانين ولا تشريعات. فقط طوائف منفلتة من عقالها، تؤسس خرائطها الضيّقة بحدّ السيف، الأمر الذي يستدعي حضور ابن خلدون على عجل لفحص ما طرأ على البلاد من تحوّلات بعد 5 قرون على تحقيقه كتابه "المقدّمة"، ليس بما يخص العصبية القبلية وحدها، إنما شيخوخة الدول وانهيارها، والصدمات الوحشية التي لا علاج لها. 

لعلها لحظة بدوية بامتياز بغياب فكرة المواطنة، ما سهّل الانزلاق إلى هويات صغرى بوصفها ملاذاً آمناً ومخدة من ريش النعام في استدعاء منامات تنتصر على الخصوم من القبائل المجاورة، وستبشّر بعض النخب بكنعانيتها أو أمويّتها أو فينيقيتها باستعمال حبوب مهدئة لا تحتاج إلى وصفة طبية، فهي متوفّرة في جميع الصيدليات بما فيها صيدلية "غوغل" التي تبيع بضاعتها بالمجّان. 

هكذا تكشّف الموزاييك السوري عن عطب بالمحرّك بما لا يفيد في اجتياز المسافات الطويلة مهما كان الميكانيكي ماهراً في إصلاح الأعطال: أقليّات أم مكوّنات، طوائف أم قبائل، بدو أم حضر؟ 

هذه الأسئلة طفت على السطح كبديل للأمة السورية التي كانت بحجم بلاد الشام قبل أن تمزّقها الكولونيالية الأوروبية إلى خرائط متجاورة ومتنافرة. ولكن هل توقّفت المسألة عند رياح "الفزعة" التي هبّت من مختلف الجهات؟ 

ذلك أن المعجم يحتشد بمفردات موازية تحضر حين الطلب، مثل "غزوة"، و "طوشة"، و"هوشة" ولكل مفردة أسبابها تبعاً للعصب المشدود لهذه القبيلة أو تلك، طالما أن قرابة الدم هي من يحدّد حجم الغزو، ونسبة العماء في تدبير طبقات الكارثة. 

اليوم لا أحد ينادي بسوريته التي كانت تحتضن 5 آلاف عام من الحضارة، بحسب النشرات السياحية وفهارس التاريخ. ما نعيشه هو ارتداد جماعي إلى حضن القبيلة أو الطائفة، أو الإثنية، ليس كبيئة أولى أو قيم وأعراف، إنما كعصبية في المقام الأول، نستثني هنا "زمرة" ضالة ومنبوذة من قاموس الطوائف والقبائل والإثنيات، تتخذ وضعية اللقلق الذي يقف عند تخوم المستنقع بساق واحدة وجناح مكسور. 

أن تكون سورياً فحسب، هذه تهمة مرذولة، عليك إذاً، أن تتخندق داخل الحظيرة الضيّقة للعشيرة أو القبيلة أو الطائفة، وأن تساهم في "الهوشة" الافتراضية. ذلك أن الحائط الأزرق اصطبغ بالأحمر، وبقاموس الهجاء لكل من وقف خارج أسوار العصبيات، أدلق ما لديك من فواتير الكراهية و"الهستيريا الجماعية"، فهذا أوان المعركة الفاصلة. إحمل بندقيتك أو عصاك أو سيفك واتبعني، ففي هذا التوقيت لا مكان للعقلانية. 

لكن مهلاً، أنت لم تجرّب مذاق "الطوشة" بعد، كتلك التي شهدتها دمشق عام 1860 بحق النصارى. إذ اشتعلت الشرارة في جبل لبنان أولاً لتمتد النيران إلى دمشق بدمغة أخرى، إذ "كُلّفَ" بعض الغوغاء برسم الصلبان في شوارع أحياء المسيحيين وإجبار الأهالي على الدوس فوقها، ما أشعل فتنة طائفية كبرى راح ضحيتها نحو 5000 شخص. 

في خلفية هذه الصورة سنقع على أسباب أخرى لإشعال فتيل هذه "الطوشة": كانت القنصلية الفرنسية بالتواطؤ مع والي دمشق العثمّاني، أحمد باشا، تضمر أمراً آخر، هو احتكار الحرير لزوم النهضة الصناعية في أوروبا، وكانت دمشق مركزاً حيوياً لصناعة المنسوجات الحريرية الفاخرة، في الوقت الذي كانت صناعة الحرير تحتضر في فرنسا، نتيجة آفة أصابت دودة القزّ، ليس في فرنسا وحدها، وإنما في الصين التي كانت تورّد كميات كبيرة من الحرير الصيني إليها، فكان على دمشق أن تخرج من مشهد السوق العالمي للحرير، وذلك بالتخطيط لمذابح دينية تمتد من بيروت إلى دمشق، فرُصدت الميزانيات الضخمة لسيناريو المذابح، وذلك بالاعتماد على الغوغاء وتجّار الدم لإثارة الهلع بين الأهالي. 

وصلت الحملة العسكرية الفرنسية إلى بيروت بمهمة أساسية هي نقل الفلاحين اللبنانيين الذين يربّون دود القز، في بوارج فرنسية إلى الجزائر، على أن تؤمن الحكومة الفرنسية لهم الأراضي الزراعية الخصبة، وتوريد منتجاتهم من الحرير إلى الموانئ الفرنسية، بذريعة حماية المسيحيين، وكان الرد قاطعاً، وهو الرفض، وهذا ما جعل الفرنسيين يستهدفون ورشات صناعة الحرير في دمشق، وإحراق بيوت ومشاغل الحرفيين لتهجيرهم إلى بيروت، واغتيال تجّار الحرير الكبار في بيروت ودمشق. نعم، هناك المزيد، في وليمة الدم السورية المفتوحة على اتساعها أمام الضيوف!

 

اخترنا لك