من صوتٍ للمظلومين إلى أداة للهيمنة

ثقافة الاستهلاك حوّلت القارئ إلى مستهلك، والمبدع إلى موظف في خط إنتاج ثقافي. أصبحنا نرى أعمالاً أدبية تُكتب وفق معادلات تسويقية، تغيب عنها الروح ويغيب عنها الجوهر الإنساني.

  • (بانكسي)
    (بانكسي)

"لا يصلح الأدب إلا في المكان الذي يصلح فيه الضمير"، قال عباس محمود العقاد قبل عقود، كأنه يستشرف زمناً يصبح فيه الأدب سلعة تُقاس بقيمتها السوقية لا بقيمتها الإنسانية. 


لطالما كان الأدب والفن نبض الحياة في شرايين التاريخ، دمعة المقهورين وابتسامة الثائرين، وصرخة الحق في وجه الباطل. كان القلم رفيق الحرفيين والفقراء، والريشة مرآة تعكس آلام المسحوقين وأحلامهم. لكن الزمن دار دورته، فتحوّل هذا السلاح الشريف في معركة الوجود إلى أداة طيّعة في يد القوة والمال.

من ميادين الشعوب إلى صالونات النخب

في الأزمنة الغابرة، كان الشعراء الجوالون يحملون قصص الناس من قرية إلى قرية، والرسامون يسجلون مآسي المجاعات في لوحات صامتة تصرخ بالوجع. كانت الكلمة والفن سلاح الضعيف الذي لا سلاح له، لسان الذين حُرمت أصواتهم الوصول إلى مسامع الحكام.

وفي هذا السياق، يذكرنا إدوارد سعيد أن "المثقف الحقيقي هو من يقف مع المظلومين ضد الظالمين"، لكن ما نشهده اليوم هو تحوّل جوهري في بنية المشهد الثقافي. فقد استولت "الرأسمالية المتوحشة" على هذا التراث الإنساني العريق، فحوّلته إلى سلعة في سوق النخاسة الحديثة. أصبحت دور النشر الكبرى تبحث عن "المنتج" الأدبي الذي يدرّ أرباحاً، لا عن العمل الذي يزعزع اليقينيات ويهزّ عروش الظلم.

السجادة الحمراء أم الشاشة الكبيرة؟

هكذا امتد هذا المنطق التجاري الاستهلاكي ليطال أقدس حصون الفن، فلم تعد دور السينما وحدها هي ساحة الصراع، بل تحوّلت المهرجانات الفنية والسينمائية العالمية نفسها، إلى مناسبات لعرض الأزياء والتسريحات وأدوات الزينة من مجوهرات وسواها.

لقد تجاوزت "السجادة الحمراء" كونها مجرد مدخل احتفالي لتكريم العمل الفني، لتصبح هي البوديوم الرئيسي والحدث الأبرز إعلامياً في كثير من الأحيان. فتصدرت صور النجوم وأناقتهم و"إطلالاتهم" عناوين الصحف، متقدمة على نقاش جوهر العمل الفني والسينمائي بوصفه قيمة إنسانية وإبداعية أولى. 

أصبحت قيمة الفنان ومكانته تقاس بعلامة الأزياء التي يرتديها وقلادة المجوهرات التي تزينه، لا بعمقه الفني أو جُرأة أدائه. وهكذا، يجري تطويع الفن مرة أخرى، لا عبر منعه، بل عبر تحويله إلى حدث استهلاكي ضخم، تتصدر فيه الشكلية والمظاهر على حساب المضمون والرسالة.

آليات الهيمنة الخفية

لقد أتقن نظام الهيمنة الجديد لعبة ترويض الإبداع عبر آليات متعددة، وكما يقول نعوم تشومسكي: "إن وسائل الإعلام جزء من نظام السيطرة، تنتج الموافقة وتصنع الإجماع". هكذا امتدت هذه الآلية لتشمل كل أشكال الإبداع:

- ثقافة الاستهلاك التي حوّلت القارئ إلى مستهلك، والمبدع إلى موظف في خط إنتاج ثقافي. فأصبحنا نرى أعمالاً أدبية تُكتب وفق معادلات تسويقية، تغيب عنها الروح ويغيب عنها الجوهر الإنساني.

- صناعة الشهرة التي تمنح الأضواء لمن يرقص على النغم الرسمي، وتطمس من يجرؤ على تحدي التيار. وكما يقول الفنان العالمي بانكسي: "إن أسوأ عدو للفنان هو الشهرة التي تجعله عبداً لذوق الجمهور".

- جوائز الأدب والفن التي تحوّلت من وسائل تشجيع للإبداع إلى أدوات لـ"كمّ الأفواه" وتوجيه البوصلة الفنية. وفي هذا الصدد، يتساءل باولو كويلو: "كم من كاتب شاب ضحى بأحلامه وأفكاره على مذبح الجوائز والاعتراف الرسمي؟"، "إن النظام السائد لا يكتفي بشراء الضمائر، بل يمارس سياسة الإقصاء المنظم لكل صوت حر". ذلك أن آلة التهميش تعمل بدقة وحرفية عالية، حيث يُطوَّق المبدعون أصحاب المواقف عبر سياسات متعددة الأوجه. فهم إما أن يواجهوا حظر النشر المباشر، أو التعتيم الإعلامي الذي يحوّلهم إلى أشباح في المشهد الثقافي.

في المقابل، ترفع الآلة الإعلامية والمؤسسات الثقافية المهيمنة أصوات اللا موقف إلى واجهة المشهد، فتتحوّل "اللا موقفية" إلى فضيلة، والانحياز للسلطة إلى حكمة، والتبعية الفكرية إلى واقعية. يجري تلميعهم وتسليط الأضواء عليهم، بينما تُدفَن الأصوات الحرة في زوايا النسيان.

وهكذا، "تتحول المعرفة إلى سلطة، والسلطة إلى معرفة"، في دائرة مغلقة تنتج "الحقيقة الرسمية" وفق قول ميشال فوكو، وتسوقها على أنها الحقيقة المطلقة.

صرخات في برية الصمت

في خضم هذا الطوفان من الترويض والتطويع، تبقى أصوات قليلة تشقّ جدار الصمت. هؤلاء المبدعون الشجعان الذين يرفضون أن يكون فنهم مجرد ديكور في قصور الظالمين، يذكروننا بالدور الأصيل للأدب والفن، وبأن "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، كما كتب محمود درويش.

وفي ظل الجرائم التي ترتكب في فلسطين، نرى تجسيداً حياً لكلمات غسان كنفاني: "إن القضية ليست قضية حبر على ورق، إنها قضية دم على تراب". فالفنان الحقيقي لا يمكن أن يكون محايداً أمام الظلم.

إن تحوّل الأدب والفن من صوت المظلومين إلى أداة للهيمنة يمثل إحدى أعظم المآسي الإنسانية في عصرنا. إذ بقدر ما يكون الإبداع حراً، تكون الإنسانية حرة. وعندما يُسجن الإبداع في أقفال المصالح والأيديولوجيات، تفقد البشرية بوصلة أخلاقها وجوهر إنسانيتها.

يبقى الأمل في تلك القلة التي ترفض أن تكون جزءاً من آلة الهيمنة، أولئك الذين يذكروننا بأن الأدب الحقيقي هو أدب المقاومة، والفن الأصيل هو فن التحدي، وأن الإبداع لا يستحق اسمه إلا إذا كان شجاعاً، لا يخشى سوى الخيانة للقضية الإنسانية العادلة.

فالكاتب الحقيقي "لا يستطيع أن يصير إلى خدمة الذين يصنعون التاريخ، بل إلى خدمة الذين يعانونه"، بحسب ألبير كامو. هذه هي الرسالة الخالدة التي يجب أن تبقى شعلة تنير درب الإبداع الحقيقي.

اخترنا لك