وقف النار حسابات امريكية معقدة بين الداخل المنقسم والتوازنات الدولية
ففي خضم حرب تجاوزت حدود الجغرافيا، انخرطت فيها "إسرائيلُ" في مواجهة مفتوحة مع إيران، بينما تحركت الولاياتُ المتحدة وفق حسابات صرفة تُعيدُ رسم أولوياتها على خارطة الصراع الدولي. لم تقرأ واشنطن على ما يبدو هذه الحرب كملف إقليمي معزول، بل كعُقدة إستراتيجية تتداخلُ فيها توازناتُ القوة على المسرح الدولي ، وتتقاطعُ عندها مصالحُ الأمن القومي مع معادلات الداخل الأميركي. إدارةُ ترامب سارت على حافة التصعيد، بين ضرورات الردع وضغوط الشارع، بين هاجس استعادة الهيبة ومخاوف السقوط في مستنقع جديد. كانت من دون شك لحظة اختبار للنظرية الواقعية بكُل فروعها: أدت في النهاية الى هندسة الإدارة الاميركية لمخرج يُلبي مصالحها أولا. توقُفُ النارِ بين "إسرائيل" وايران لكن منَ المِنظارِ الأميركي ماذا بعد؟
نص الحلقة
كمال خلف: سلام الله عليكم مشاهدينا في دوائر القرار نبحث في هذه الساعة الحسابات الأمريكية الصرفة من الكونغرس إلى الساحة الدولية خلال العدوان الإسرائيلي على إيران.
ففي خضّم حرب تجاوزت حدود الجغرافيا، انخرطت فيها إسرائيل في مواجهة مفتوحة مع إيران، بينما تحرّكت الولايات المتحدة وفق حسابات صرفة تُعيد رَسْم أولويّاتها على خارطة الصراع الدولي.
لم تقرأ واشنطن في ما يبدو هذه الحرب كملفّ إقليمي معزول، بل كعقدة استراتيجية تتداخل فيها توازنات القوّة على المسرح الدولي وتتقاطع عندها مصالح الأمن القومي مع مُعادلات الداخل الأمريكي.
إدارة ترامب سارت على حافّة التصعيد بين ضرورات الردع وضغوط الشارع، بين هاجِس استعادة الهَيْبة ومخاوِف السقوط في مستنقعٍ جديد.
كانت من دون شكّ لحظة اختبار للنظرية الواقعية بكل فروعها، أدّت في النهاية إلى هَنْدَسة الإدارة الأمريكية لمخرج يُلبّي مصالحها أولاً.
توقّف النار بين إسرائيل وإيران، لكن من المنظار الأمريكي: ماذا بعد؟
أهلًا بكم.
كمال خلف: أرحّب بضيفنا الذي سيرافقنا في كل هذه الحلقة، السيّد جورجيو كافييرو، المدير التنفيذي لمركز تحليلات دول الخليج من واشنطن.
سيّد جورجيو، مساء الخير، حيّاك الله. سنكون معك في ثلاثة محاور، ثلاث دوائر نسلّط فيها الضوء بشكلٍ أساسي على الولايات المتحدة الأمريكية وحساباتها خلال الحرب التي شنّتها إسرائيل على إيران، والحسابات ما بعدها.
سأبدأ معك من الدائرة الأولى، وعنوانها: ما بعد وقف النار في حسابات كافة الأطراف؟
كمال خلف: مشاهدينا، في هذه الدائرة سنعرض أولًا هذا التقرير، وبعد هذا التقرير الذي نتابعه معًا، سوف نطرح الأسئلة من خلال مضمونه. نتابع.
تقرير:
دخل وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل حيّز التنفيذ بعد 12 يومًا من تبادُل الضربات الأعنف بين الطرفين منذ عقود، والذي بدأته إسرائيل بسقفِ أهدافٍ مُرتفع لم تتحقّق.
الإعلان المُفاجئ للرئيس الأمريكي دونالد ترامب وضع حدًا مؤقّتًا لحرب كانت تتّجه نحو تصعيد إقليمي خَطِر، لكن في عُمق المشهد يتّضح أن المعركة لم تُحْسَم، وإن إيران خرجت من هذه الجولة بحجم يصعب ابتلاعه.
الحسابات اليوم باتت أكثر تعقيدًا مما كانت عليه لحظة اندلاع الشرارة.
إسرائيل حقّقت ما تراه ضربة نوعية ضدّ البرنامج النووي الإيراني، لكنها في المقابل لم تنجح في كَسْر إرادة طهران، ولا في تقليص قُدرتها على الردّ.
=إيران أثبتت أنها ليست خَصْمًا عابرًا في حسابات الردع، بل لاعب كبير يعرف متى يتقدّم ومتى يكتفي بضربة محسوبة، كما فعلت حين قصفت قاعدة العديد الأمريكية في قطر برسالةٍ دقيقة.
الولايات المتحدة التي هَنْدَسَت وقف إطلاق النار، تدرك أن التصعيد ضدّ إيران له سقف لا يمكن تجاوزه من دون زلزال استراتيجي يفوق طاقتها على التحمّل.
ترامب، الذي وجد في الوساطة فرصة للظهور بمظهر صانَع السلام، كان في الوقت نفسه حريصًا على تثبيت نقاط القوّة الأمريكية في الخليج من دون الانجرار إلى حربِ استنزافٍ مفتوحة.
على الجبهات الأخرى، تتداخَل ارتدادات هذه الحرب مع المشهد في غزّة ولبنان، وربما في سوريا لاحقًا.
في غزّة، يبدو أن إسرائيل ستكون وجهًا لوجه أمام السؤال عن أهداف الحرب وملف الأسرى، وسيُركّز اليمين المُتطرّف على أن الأولويّة تحوّلت إلى تثبيت الردع مع إيران، وهذا يتطلّب الإصرار على لازِمة القضاء على حماس والنصر.
أما في لبنان، فحزب الله يقرأ بدقّة دروس الحرب الأخيرة، ويُدرك أن إيران باقية في معادلة القوّة والنفوذ، ما يعني أن الجنوب اللبناني سيبقى مُرشّحًا ليكون ساحة تحدٍّ في وجه أيّ اختلال قادم في ميزان الردع.
اللافِت أن إيران خرجت من هذه المواجهة بقَدْرٍ من التماسُك السياسي والعسكري يمنحها مساحة أوسع للمناورة. لم تتراجع عن مشروعها النووي، ولم تُجْبَر على تقديم تنازلات وجودية، بل على العكس، أثبتت أنها قادرة على امتصاص الضربات وتوجيه رسائل نارية من دون الانجرار إلى فخّ الحرب الشاملة.
في الحسابات الإسرائيلية، لا يمكن اعتبار ما تحقّق انتصارًا. فإيران، على الرغم من الضربات القاسية، لا تزال في قلب معادلة القوّة الإقليمية. كما أن الحرب تركت تساؤلات مفتوحة حول فعّالية الردع الإسرائيلي، بعد أن اخترقت الصواريخ الإيرانية العُمق الاستراتيجي، رغم أنظمة الدفاع المُتطوّرة.
أما واشنطن، كما تبدو، فقد استعادت زِمام المبادرة، لكنها تدرك أن وقف النار ليس سوى استراحة مؤقّتة. فالمواجهة مع إيران لم تُغْلَق صفحاتها بعد، بل أُعيد ترتيبها على طاولة المفاوضات، وربما على خطوطِ تماسٍ جديدة.
هذه الحرب التي بدت في أيامها الأولى كأنها قد تتدحرج إلى اصطدام شامل، تنتهي الآن بتوازن هشّ.
لكن الثابت الوحيد أن إيران أثبتت أنها أكبر من أن تُبْتَلع، وأصعب من أن تُخْضَع، فيما يبقى الإقليم كله مُعلّقًا على خيطٍ دقيقٍ بين معادلات الردع والانفجار.
كمال خلف: سيّد جورجيو كافييرو، بعد هذا التقرير، يُطرَح السؤال المباشر: هل نستطيع في هذه اللحظة أن نضع استنتاجات في هذه الحرب؟ على الأقل استنتاجات واضحة؟
جورجيو كافييرو: شكرًا، يسرّني أن أعود للمشاركة في البرنامج، ويشرّفني دائمًا أن أكون ضيفًا على الميادين.
أعتقد أن في هذه المرحلة، بعض التداعيات الناتِجة منن هذا النزاع لا نفهمها، ونحتاج إلى المزيد من الوقت كي نفهم.
ولكن هناك بعض النقاط التي يمكن الحديث عنها في هذه اللحظة، بعد فترة وجيزة من وقف إطلاق النار المُفترض، بعد دخول هذا الاتفاق حيّز التنفيذ.
عندما ننظر إلى الوضع داخل إيران، من المهمّ أن نشير إلى أن البلد أثبت بأنه لم يرضخ. هناك قوّتان نوويّتان: أولًا الولايات المتحدة، نتحدّث عن أقوى جيش في العالم، وثانيًا إسرائيل أقوى جيش في الشرق الأوسط. وهذه الأطراف سعت إلى تحقيقِ أهدافٍ مُعيّنة، وذلك من خلال مهاجمة إيران عسكريًا.
الإسرائيليون والأمريكيون لم يحقّقوا هذه الأهداف، والهدف الإسرائيلي بتغيير النظام لم يتحقّق.
وبالتالي، أعتقد نتيجة لذلك، نتيجة كل ما حصل منذ الثالث عشر من يونيو، الإيرانيون داخل إيران، ومَن هم من غير الإيرانيين خارج البلد، سينظرون إلى إيران على أنها بلد رفعت من شأنها على صعيد أن تكون قوّة أكبر على المسرح الدولي.
ويجب الإشارة أيضًا إلى أن العديد من الإيرانيين الذين لا يدعمون بالضرورة الجمهورية الإسلامية، كان لهم الخيار، خيار محاولة استغلال الفوضى، وذلك من أجل الإطاحة بحكومتهم. ولكن بدلًا من القيام بذلك، توحّدوا.
كمال خلف: هنا، سيّد كافييرو، لديّ سؤال أيضًا: هل بتقديرك هناك سوء تقدير حدث في إسرائيل، بشكلٍ خاص، وربما في الولايات المتحدة لاحقًا؟ سوء تقدير حول قوّة النظام في إيران؟ لأننا في الأيام الأولى سمعنا الإسرائيليين يقولون: "الهدف ربما يكون أبعد من البرنامج النووي... نريد إسقاط النظام". هل أخطأت الحسابات؟ أم ما شهدناه هو امتحان بالنار لقوّة النظام في إيران؟
جورجيو كافييرو: سؤال رائع. أولًا أريد أن أشير إلى نقطة: بينما شنّت إسرائيل هذه الحرب رسميًا من أجل تدمير برنامج إيران النووي، وذلك من خلال استهداف مُنشآت الطاقة والمطارات وأيضًا قواعد أو محطّات الشرطة وأماكن أخرى لم تكن لها أية صلة بالبرنامج النووي، من الواضح أنه كان لدى الإسرائيليين عدد أكبر بكثير من الأهداف، بما في ذلك تغيير النظام.
تغيير النظام في إيران أمر يفكّر فيه اليمين الإسرائيلي منذ أعوام عدّة، ومن الواضح أن قيادة نتنياهو في إسرائيل أخطأت في الحسابات.
أعتقد أنهم - أي القيادة الإسرائيلية - أجروا تقييمًا، وهذا التقييم كان: إنه عندما تسقط القنابل على طهران وأماكن أخرى في إيران، حينها سينتفض المواطنون الإيرانيون ضدّ حكومتهم.
هذا شكّل سوء قراءة للديناميكيات الاجتماعية المجتمعية في إيران. العديد من الإيرانيين، بما في ذلك من يعشق الجمهورية الإسلامية والذين لا يعشقون الجمهورية الإسلامية، توحّدوا.
وهذه النظرية، أن الإيرانيين الذين لا يحبّون حكومتهم سينظرون إلى هذه الهجمات من إسرائيل على أنها تستهدف الجمهورية الإسلامية بدلًا من أن تكون تستهدف إيران كأمّة — هذه النظرية كانت خاطئة تمامًا.
ونعم، إجابة على السؤال: خطأ كبير في الحسابات من قِبَل صُنّاع القرار في إسرائيل. هناك العديد من الحقائق التي تفيد بأن الأهداف الإسرائيلية كانت أبعد بكثير.
كمال خلف: أيضًا من الأسئلة، سيّد كافييرو، الرائجة أو التي تخطر على بال المُراقب للحرب بعد وقف النار، هل برأيك كانت عملية وقف إطلاق النار تعكس إرادة أمريكية مباشرة؟ أم جاءت نتيجة توازن ردع غير مرغوب فيه أمريكيًا خلال الحرب؟
جورجيو كافييرو: هذا سؤال وجيه، والمسألة ليست واضحة بالكامل، ولكن أعتقد أن الرئيس ترامب يريد تجنّب سيناريو تُجرّ فيه الولايات المتحدة إلى حربٍ طويلةِ الأمد في الشرق الأوسط.
وأعتقد أن ترامب أراد اتّخاذ إجراءات حاسِمة من خلال توجيه هذه الضربات ضدّ إيران في الثاني عشر من حزيران/يونيو، أن يُسمّى ما حدث "بالنصر"، ومن ثم ممارسة الضغوط على إسرائيل كي توقِف الأعمال العدائية ضدّ إيران، وذلك قبل أن نرى المزيد من التصعيد في النزاع، وربما انجرار الولايات المتحدة بشكلٍ أكبر.
ويجب أن نشير إلى أن ترامب تعرّض لضغوطٍ هائلةٍ من قاعدته، بما في ذلك شخصيات مثل تاكر كارلسون وعضو الكونغرس مارجوري تايلور جرين، وشخصيات بارزة أخرى في معسكر "اجعلوا أمريكا عظيمة مُجدّدًا".
ولكن لديّ في نفس الوقت شُبُهات، ومن الممكن أن ما يفعله ترامب وما يفعله الإسرائيليون هو مجرّد إعطاء إسرائيل فرصة لإعادة التموضُع، لإعادة التسلّح، أخذ استراحة، واستعادة بعض الزُخم، ومن ثم مهاجمة إيران في مرحلةٍ لاحقةٍ حيث يمكن مفاجأة الإيرانيين.
=هذا احتمال موجود. لديّ شبهات أن الأمور بالفعل ستسير بهذا الاتجاه، ولكن سنرى.
كمال خلف: كل الاحتمالات واردة، لكن اليوم أيضًا سمعنا، سيّد كافييرو، دونالد ترامب يمتدح الإيرانيين. قال: "هم قاتلوا"، في اجتماع الناتو في هولندا، في المؤتمر الصحفي، قال: "لقد قاتلوا بشجاعة"، وقال: "سنتواصل معهم للتفاوض". أنا هذا يدفعني أيضًا للتساؤل: إنْ كانت نتائج الحرب ومُجرياتها في الـ12 يومًا التي جرت فيها أعادت نوعًا ما حسابات الولايات المتحدة في كيفية التعامُل مع إيران. بمعنى أنه ما قبل الحرب كانت التصوّرات الأمريكية حيال إيران شيئًا، والآن، بناءً على نتائج المعركة، أصبحت هناك تعديلات على كيفيّة التعاطي مع الإيرانيين. هل تعتقد أن هذا صحيح؟
جورجيو كافييرو: سؤال جيّد.
أعتقد أن ترامب كان يرى بأن إعطاء الضوء الأخضر لحرب إسرائيل على إيران، ومن ثم أن تصبح إسرائيل مُتورّطة بشكل مباشر بهذه الحرب من خلال توجيه الضربات على مواقع إيران النووية، أعتقد بأن ذلك سيُساهم بدفع الإيرانيين باتجاه طاولة المفاوضات، بحيث ستكون طهران مُستعدّة لتقديم المزيد من التنازُلات لواشنطن.
قبل الثالث عشر من حزيران/يونيو، القضية الأساسية خلال المحادثات الأمريكية الإيرانية كما بدا كانت التخصيب.
أعتقد أن ترامب يرى أن هذا العدوان العسكري من قِبَل إسرائيل وأمريكا كان سيؤدّي إلى جعل إيران تركع، وأن تكون =مُستعدّة لصفقة تصبّ أكثر في صالح الولايات المتحدة، وذلك من موقع ضعف. أعتقد أن ترامب يرى أن هذا سيحصل، ولكن أعتقد بأن هذا التقييم ضعيف جدًا من قِبَل ترامب. لا أرى أن إيران ستقدِّم المزيد من التنازُلات على طاولة المفاوضات بسبب الأعمال العدائية التي شُنَّت ضدّ إيران.
أعتقد حاليًا أن إيران لا تثق على الإطلاق بالولايات المتحدة، وصراحة لا يمكن لأحد أن يُلقي باللّوم على طهران كونها لا تثق بواشنطن، وذلك بعد كل ما حصل في الثالث عشر من حزيران.
كمال خلف: سيد كافييرو، بعدما قال نتنياهو بشكلٍ واضح إن الرئيس الأمريكي شاركنا في تضليل الإيرانيين -وهذا كان تصريحًا أثار الكثير من الجَدَل - كيف رئيس الولايات المتحدة الأمريكية يشارك في تضليل الإيرانيين لصالح إسرائيل؟ بكل الأحوال، هذا سنتحدّث عنه لاحقًا.
لكن ما دفعني لطرح السؤال السابق، سيّد كافييرو، هو التصريحات التي تحمل مُصطلحات جديدة. اليوم، المبعوث ستيف واتكوف قال - مرتين - قال: "الآن، هذه الليلة، وهذا النهار" جملة تقول: نريد سلامًا شاملًا مع الإيرانيين. "سلام شامل" هذه، أعتقد، حسب مُراقبتي لكل التصريحات الأمريكية السابقة، لم نستمع لهذا المُصطلح على الإطلاق. وعندما تحدّث دونالد ترامب اليوم، قال: "سنبحث مع الإيرانيين أن يكون لدينا مستوى ما من العلاقات." هل هنا لا يتحدّث ترامب وواتكوف عن اتفاق بحدوده، بإطاره النووي؟ هم يريدون، من خلال المفاوضات، ما هو أبعد من اتفاقٍ نووي، لأن كلمة السلام الشامل تعني علاقات دبلوماسية، تعني تعاونًا اقتصاديًا، إلى آخره من الأشياء. هل يقصدون المُصطلح تمامًا، خاصة - أكرِّر - أن واتكوف قاله مرتين اليوم، في زمنين مُختلفين، ليس بنفس التصريح؟
جورجيو كافييرو: ليس لديّ أيّ شكّ بأن ترامب وواتكوف سيُدلون بمثل هذه التصريحات، وذلك كي يبدو الأمر وكأن الضربات العسكرية الأمريكية ضدّ إيران ستمهّد الطريق من أجل فتح مرحلة جديدة من السلام في الشرق الأوسط.
هذا شيء اعتدنا عليه من ترامب أن يستخدم مثل هذه اللغة، ولكن أعتقد بأن هذا مُنفصل عن الواقع، واقع المنطقة حاليًا.
أعتقد أنه نتيجة لكل ما فعلته الولايات المتحدة وإسرائيل سنرى مزيدًا من انعدام الاستقرار، ولا أرى أيّ تقدّم دبلوماسي بين الولايات المتحدة وإيران في المرحلة الحالية.
أعتقد أن هناك غيابًا تامًا أو انعدامًا تامًا للثقة، والإيرانيون على الأرجح لم يروا بأن هناك جدوى للمجيء إلى طاولة المفاوضات والحديث مع الولايات المتحدة حول أيّ شيء كان.
في صحيفة واشنطن بوست، قالوا إن هذه الحرب الإسرائيلية على إيران في شهر حزيران/يونيو جرى التخطيط لها في شهر =آذار/مارس، وبالتالي الإيرانيون كما يرون، وهذا أمر مفهوم. الأمريكيون كانوا يجرون مفاوضات في مسقط وفي روما، ولكن ليس بنيّة صادقة.
وبالتالي، المسألة ستستغرق وقتًا حتى يستطيع الأمريكيون ترميم الضَرَر الناتج عن هذا الانتهاك الكبير لأيّ مستوى من الثقة ربما كان موجودًا في مرحلةٍ سابقةٍ من هذا العام.
كمال خلف: سيّد جورجيو كافييرو، مشاهدينا، اسمحوا لي أن ننتقل إلى الدائرة الثانية.
في هذه الدائرة، سيّد كافييرو، سنحاول معًا أن نُسلّط الضوء أكثر على الداخل الأمريكي، على المؤسّسات الأمريكية، كيف تفاعلت مع الحرب.
الدائرة الثانية عنوانها، مشاهدينا: الداخل الأمريكي وتفاعُلات الحرب، كيف ارتسمت دوائر القرار؟
إسمحوا لي، مشاهدينا، في هذه الدائرة أن نستعرض بدقّة مواقف المؤسّسات الأمريكية والمجتمع، حسبما رَصَدناها خلال الحرب.
سأبدأ من الكونغرس: الجمهوريون غلّبوا دعمهم لضرب إيران، زعماء مثل مايك جونسون وجون تيون يدافعون عن حق ترامب بالتصرّف بموجب صلاحياته الدستورية.
الديمقراطيون قادوا حملة لتمرير قرار سلطات الحرب وطرحوا إجراءات لوقف هجمات مستقبلية وتقنينها.
بعض الجمهوريين المُحافظين مثل توماس ماسي وراند بول كانوا هناك أيضًا، انقسام في داخل الجوب، ورفضوا الغزو من دون مُبرّر واضح. هذا كان الكونغرس.
أما البيت الأبيض، مشاهدينا، فكان هناك في البيت الأبيض قرار مُفاجئ، تمّ تنفيذ عملية "ميدنايت هامر"، وقرار مُفاجئ آخر بالوساطة ووقف الحرب.
طبعًا، تنفيذ الضربة على إيران من دون التشاور الكامل مع الكونغرس أعلن عنها ترامب عبر تويتر بعد الضربات.
الازدواجية التكتيكية كانت موجودة في البيت الأبيض؛ فبينما وصف ترامب العملية لتدمير البرنامج النووي، أشار مسؤولون إلى أنها ليست حربًا كاملة.
كان هناك في البيت الأبيض توازن في الرسائل؛ إدارة ترامب وعدت بتجنُّب التورّط المباشر في مواجهة طويلة، بينما ركّزت على نشر القوّة للردع من دون إعلان الحرب.
لنلقِ، مشاهدينا، أيضًا نظرة على البنتاغون.
في البنتاغون، اكتفى البنتاغون بتفاصيل العمليات، قال إن القيادة المركزية وجّهت ضربة بـ125 طائرة و75 سلاحًا دقيقًا استهدفت ثلاثة مواقع نووية إيرانية.
أيضًا، البنتاغون نشر وثائق أو أشار إلى نجاح مُباغِت، والمُضيّ قُدُمًا بخطط دفاعية، وأولويّات لحماية القوات الأمريكية.
طبعًا، إيران ردّت على قاعدة العديد في قطر من دون تهديد بالردّ الأمريكي المباشر، وأصبح جَدَل حول تقرير الاستخبارات الأمريكية.
ماذا عن الرأي العام والإعلام واستطلاعات الرأي أثناء الحرب؟
61% من الأمريكيين عارضوا تدخّلًا عسكريًا مباشرًا في إيران، و25% فقط يدعمون، حسب "ويغوف" و"الواشنطن بوست"، 61% يعتبرون البرنامج النووي الإيراني تهديدًا جادّاً، لكن غالبيّة تؤيّد التفاوض بدل الضربات.
ماذا عن الأقطاب الحزبية؟
أيضًا، 65% من الديمقراطيين ضدّ التدخّل، مقابل 53% من الجمهوريين يعارضون التدخّل.
لكن دعمت "ميغا" قاعدة ترامب الانتخابية ضرباته.
ماذا عن الإعلام، مشاهدينا؟
الإعلام المُحافظ مجَّد الضربة الناجحة ضدّ إيران، بينما الإعلام الليبرالي ركَّز على المسائل الدستورية والخطر من التورّط. هذا بالنسبة للداخل الأمريكي.
سيّد كافييرو، كيف تقرأ هذه النتائج؟ وأريد أن نعرف: هل هذا التوجّه الذي ذكرناه بين الكونغرس، البيت الأبيض، جمهوريين، ديمقراطيين، إعلام، وبنتاغون ساهم بشكل كبير في صياغة القرار الأمريكي النهائي بوقف هذه الحرب؟
جورجيو كافييرو: نتيجة الحروب الطويلة التي جرى خوضها في العراق وأفغانستان، ليست هناك شهيّة تُذْكّر لدى الشارع الأمريكي للدخول في حروبٍ جديدة في الشرق الأوسط، وأن نكون عالقين في نزاعات تتحوّل في ما بعد إلى مُستنقعات مُقْلِقة جدًا.
الشارع الأمريكي يدرك بأن هذه النزاعات كلّفت الولايات المتحدة تريليونات ماديًا، كما أنه جرى سَفْك الكثير من الدماء الأمريكية، وعليه، حاليًا الدبلوماسية تحظى بشعبيةٍ سواء في اليسار أو اليمين، بالإضافة إلى معسكر الوسط من كافة الأطياف السياسية.
الأمريكيون يريدون من حكومتهم أن تبحث عن الحلول الدبلوماسية للتحدّيات على المسرح الدولي، وذلك بدلًا من الدخول في حروبٍ جديدة.
=وبالتالي، أعتقد أنه من المهمّ أن نأخذ بعين الاعتبار أن ترامب كان يواجه موضوع السياسات الداخلية عندما كان يتّخذ القرارات في وقتٍ سابقٍ من هذا الشهر حول الأعمال العدائية بين إسرائيل وإيران ودور واشنطن في هذا النزاع.
أعتقد أن ترامب، بالطبع، كما نعرف، عندما ترشّح للرئاسة العام الماضي، تعهّد للناخبين بأنه سيكون صانعًا للسلام، وتعهّد بإبقاء الولايات المتحدة خارج الحروب، وأعتقد أنه يحاول أن يوفي بهذا الوعد.
بالطبع، وجّه الضربة على إيران، وهذا أدّى إلى إغضاب العديد في الولايات المتحدة، والأرقام التي أظهرتموها بيّنت بأن غالبيّة الأمريكيين عارضوا هذا القرار.
ولكنه لم يوجّه ضربات إضافية، بدا وكأنه هجوم واحد فقط، ومَن كان يعتقد أنه ربما لدى ترامب فرصة، لا تزال لديه فرصة لمواصلة السعي لتحقيق هذا الهدف، أي أن يكون "صانِع سلام" بين قوسين.
ولكنه أيضًا يذهب باتجاهات مُتناقضة، اليوم لا يمكن التكهُّن به، وبالتالي لا يمكن أن نتكهَّن بثقة ما الذي سيقوم به.
كمال خلف: هذه الحرب كذلك أدّت إلى إعادة طرح السؤال الكلاسيكي: هل أمريكا تُقاد من واشنطن أم من تل أبيب؟ أيضًا، هذا السؤال خلال الحرب أُعِيْد طرحه مرة أخرى. رأيك فيه هنا، سيّد كافييرو؟
جورجيو كافييرو: سؤال وجيه، والخبراء في السياسة الخارجية يمضون الكثير من الوقت وهم يناقشون هذا الموضوع.
أعتقد أنه من المهمّ أن نشير إلى أن الولايات المتحدة وإسرائيل، يبدو أن هناك الكثير من المصالح المُتطابِقة في ما بينهما، وحتى لو لم تكن إسرائيل موجودة، المؤسّسة الأمريكية ستعتبر إيران تهديدًا أساسًا.
وأعتقد أنه سواء كان تحت رئاسة ترامب، بالإضافة إلى الرئيس بايدن، الولايات المتحدة أو النُخَب الأمريكية ترى أن العدوان الإسرائيلي ضدّ إيران وضدّ لاعبين آخرين في محور المقاومة مثل حزب الله في لبنان، النُخَب ترى بأن هذه العمليات أو هذا العدوان يصبّ في صالح الولايات المتحدة.
وعمومًا، الدول الأوروبية لديها نفس الموقف على صعيد قيام إسرائيل بالعمل القَذِر بالنيابة عن الغرب.
ولكن لا يمكن أن ننكر في نفس الوقت أن لدى الإسرائيليين تأثيرًا كبيرًا، تأثيرًا هائلًا في واشنطن، ودائمًا ما يبذلون الجهود، جهودًا مُكثّفة من أجل الدفع في واشنطن نحو مواجهة إيران ولاعبين آخرين في المنطقة، والتعاطي مع إيران ولاعبين آخرين بشكلٍ يصبّ في صالح إسرائيل أو يخدم مصالح إسرائيل، ولكن لا يخدم بالضرورة مصالح الولايات المتحدة، حتى وإنْ كان عمومًا هناك الكثير من القواسِم المشتركة في مصالح الطرفين.
كمال خلف: عند الحديث عن قرار الحرب أو الانخراط فيها، دائمًا يبرز أيضًا السؤال عن الشركات ومصالح الشركات وتأثيرها في القرار.
الشركات، سيّد جورجيو كافييرو، لدينا شركات التصنيع العسكري، شركات السلاح الكبرى، لديها مصلحة في التصعيد لتعزيز عقود التسلُّح مع إسرائيل، حتى مع دول الخليج.
شركات الطاقة في الولايات المتحدة ليست لديها مصلحة في التصعيد، لأن هذا سيُهدّد قطاع الطاقة بشكلٍ كبير.
برزت أيضًا شركات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة، التي أصبحت مُتقدّمة ربما على شركات الطاقة وشركات السلاح في الاهتمام.
موقف ما يسمّى بالدولة العميقة، وموقف الشركات الكبرى من القرار الأمريكي والتأثير فيه، هل أنصت إليها دونالد ترامب؟ وهل كانت فاعِلة في صياغة القرارات الأمريكية خلال الحرب؟
جورجيو كافييرو: أعتقد أنه لا يمكن أن ننكر بأن مؤسّسات الصناعة العسكرية في الولايات المتحدة، لا يمكن أن ننكر بأن هذه المؤسّسات موجودة، والمقاولون دائمًا لديهم حوافز، دائمًا ما لهم مصلحة في استغلال انعدام الاستقرار في العالم من أجل جَني المزيد من الأموال عبر بيع الأسلحة.
وعندما نرى التوتّر في الشرق الأوسط، وعندما تشتري الدول المزيد من الأسلحة الأمريكية أو تتلقّى المزيد من الأسلحة الأمريكية، دائمًا ما يصبّ في صالح هذه الجهات على صعيد أعمالهم وتجاراتهم.
أعتقد بأن المسألة لم تختلف في هذه الحرب، أعتقد لو استمرّت الأعمال العدائية بين إسرائيل وإيران، هذا بالتأكيد سيصبّ في صالح هذه الشركات العسكرية.
ولكن سأضيف بأنه وفي مُنتصف أيار/مايو، أجرى ترامب هذه الجولة، هذه الزيارة الشهيرة في الخليج، زار السعودية، وقطر، ودولة الإمارات، ووقّع على مُذكّرات تفاهم، ووقّع على صفقاتٍ بقيمة مئات المليارات.
وهذا كان إنجازًا كبيرًا لترامب، وكان مهمّاً على صعيد قُدرته على تقديم نفسه بأنه زعيم يحقّق الإنجازات، يُنْجِز، ويأتي بنتائج إيجابية للاقتصاد الأمريكي وللشركات الأمريكية البارزة في قطاعات مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة والسيارات، إلخ.
=وهذا يفيد بأنه فيما لو جرى تصعيد هذه الحرب بين إيران وإسرائيل، وفيما لو توسّعت لتشمل دولًا أخرى في المنطقة، هذا سيكون لديه تأثير سلبي جديد، سيُزَعْزِع الاستقرار في دول مجلس التعاون الخليجي، وبالتالي سيؤدّي أو سيُعرّض هذه الصفقات إلى الخطر.
الصفقات التي جرى التوقيع عليها بين ترامب والدول الخليجية العربية.
وبالتالي، أعتقد أن هذا أيضًا كان موجودًا، كان يفكّر ترامب في هذا الموضوع خلال النزاع الذي استمرّ 12 يومًا بين إسرائيل وإيران.
كمال خلف: هناك عوامل أخرى، سأجمعها مع بعضها من أجل الوقت، ومن أجل أن نُعطي أيضًا استراحة قصيرة قبل أن نكمل الحلقة.
لدينا العامِل الديني، لأنه اليوم ناتنياهو أمام الإيرانيين طرح نفسه، أعاد صياغة المسألة اليهودية وأنبياء إسرائيل، وغيره.
هنا أسأل عن تأثير التيّارات الإنجيلية المُتشدّدة في هذه الحرب، وإن كان لها دور. موضوع اللوبيات أيضًا: "إيباك"، ولوبيات مثل "جي ستريت"، وغيرها من اللوبيات. إلى أيّ حدّ كان تأثيرها كذلك؟
والموضوع الآخر هو شبكات تمويل الحملات الانتخابية وكبار مُموّلي دونالد ترامب. أتحدّث عن ثلاثة عوامِل، أيّها كان قادرًا على التأثير؟ وهل كانت تتناقض في ما بينها؟ وهل هذا يُفسّر أحيانًا التردّد أو التناقُض الذي نراه أحيانًا في تصريحات دونالد ترامب؟
جورجيو كافييرو: إذا، بالنسبة للإنجيليين المسيحيين الذين يؤمنون أو لديهم مُعتقدات دينية حول موضوع شعب الولايات المتحدة ووجوب دعم الولايات المتحدة إسرائيل بشكلٍ غير مشروط، أنا شخصيًا لا أعتقد أن لدى هؤلاء ذاك التأثير على ترامب حاليًا.
وأقول ذلك لسببين إثنين:
أولًا، ترامب لن يترشّح كرئيس، وهذا ليس موسمًا انتخابيًا، وبالتالي ترامب لا يحاول تحشيد هؤلاء كما كان يفعل في عام 2016 أو 2020 أو عام 2024.
وثانيًا، هذا جزء من الشارع الأمريكي، وهذه الفئة تحديدًا لن تصوِّت لصالح الديمقراطيين.
عندما ننظر إلى مواقف الديمقراطيين في القضايا الاجتماعية - هذا ربما نقاش وموضوع آخر مختلف أتركه لوقتٍ آخر - ولكن لدى الحزب الديمقراطي مواقف معيّنة إزاء قضايا اجتماعية، وهذه المواقف تتعارَض بشكلٍ كبيرِ مع معايير الإنجيليين المسيحيين، بحيث يستطيع ترامب أن يُطَمْئِن بأن الناخبين الإنجيليين سيبقون خلفه وخلف الحزب الجمهوري.
بمعنى آخر، لا يمكن أن يقوم ترامب بأيّ شيء تجاه إيران سيؤدّي إلى أن هؤلاء الناخبين الإنجيليين ينتقلون إلى صف الديمقراطيين أو البقاء خارج السياسة.
كمال خلف: أنا مضطرّ للتوقّف عند هذا الحدّ، سيّد جورجيو كافييرو، بسبب الوقت. سأعطيك فرصة للاستراحة، استراحة قصيرة بطبيعة الأحوال، بعدها سنتحدّث عن التأثيرات في ميزان المسرح الدولي الأوسع. فاصل ونعود.
كمال خلف: تحيّة من جديد، مشاهدينا، في "دوائر القرار"، نبحث وقف النار وفق الحسابات الأمريكية المُعقّدة، بين الداخل الأمريكي المُنقسم، والتوازُنات الدولية.
وصلنا إلى الدائرة الثالثة والأخيرة في حلقة اليوم، عنوانها: "المصالح والتنافُس على المسرح الدولي في قلب القرار الأمريكي لوقف الحرب".
كمال خلف: حول الميزان الدولي الواسع، الذي بلا شكّ أثّر في قرار دونالد ترامب وقف الحرب، وفي حسابات الولايات المتحدة وهي تتعامل مع هذه الحرب، سنعرض هذا التقرير الذي يشير إلى ما قلته قبل قليل، وبعدها نسأل ضيفنا حوله.
تقرير:
=في أيام الحرب الإسرائيلية على إيران، دخلت الولايات المتحدة مُجدّدًا مسرح الشرق الأوسط مُحَمّلة بحسابات دقيقة تتجاوز حدود الساحة الإقليمية، فواشنطن لم تحسب خطواتها بمنطق الحرب الكلاسيكية، بل بعينٍ مزدوجة تَرْقَب التوازن مع القوى الكبرى في مناطق باتت أكثر حساسيّة في منطق المصالح والتنافس.
في قَلْب هذه المعادلة، أدركت الإدارة الأمريكية أن كل ضربة في الشرق الأوسط قد تعني مساحة من الفراغ تملأها بيكين في بحر الصين الجنوبي، أو يتقدّم نحوها الروس في أوكرانيا ومناطق النفوذ الأوروبي.
وفق منطق الواقعية الكلاسيكية، الحرب ليست مجرّد معركة بل توزيع جديد للقوّة في النظام الدولي، حسمت الإدارة خيارها، فهي لن تخوض معارك الشرق الأوسط على حساب مساحات التفوّق في آسيا وأوروبا.
روسيا كانت تترقَّب الفرصة لاستنزافٍ أمريكي يُعيد إليها بعضًا من هوامش المُبادرة التي فقدتها في أوكرانيا، فيما الصين راقبت بدقّةٍ كل انهماك أمريكي يسمح لها بتوسيع طموحاتها في المحيط الهادئ من دون أيّ صِدام مباشر.
على المستوى الاقتصادي، وجدت واشنطن نفسها أمام مُعضلات بنيوية، فقد قفزت أسعار النفط بما يتجاوز 120 دولارًا للبرميل، ما هدّد بارتداداتٍ تضخّمية داخلية قد تُطيح جهود ترامب في تثبيت الانتعاش الاقتصادي.
أما في العُمق الاستراتيجي، فقد وقفت واشنطن بين شَبَح مُستنقعات الماضي وعقيدة نهاية الحروب الكبرى التي تشكلّت بعد أفغانستان.
فالنظرية الواقعية البنيوية ترى أن القوى العظمى تحاول تقليل تكلفة الانخراط المباشر وتبحث عن قيادةٍ من الخلف عبر الوكلاء.
لكن إدارة ترامب مالت إلى استعراض القوّة المباشرة ولو في حدود ضربات محسوبة، كرسالةٍ مزدوجةٍ إلى إيران والخصوم الدوليين.
المُعاداة خلال الحرب كانت بلا شكّ أبعد من ميدان واحد، بل كانت معركة تداخلت فيها المسارح، حيث يختلط الاقتصاد بالجغرافيا، وتتصارع الأولويّات بين الشرق الأوسط وآسيا.
وفق كل ذلك، اكتشفت الإدارة أنها لا تمتلك رفاهية حرب طويلة، وأن حسابات الداخل الأمريكي الدقيقة والمُعقّدة تُجْبِرها على الانسحاب من المواجهة، والظهور بمظهر الوسيط وصانع السلام كما يحبّ الرئيس ترامب أن يصف نفسه أو يصفه الآخرون.
كمال خلف: سيّد جورجيو كافييرو، هنا هل نستطيع القول إن هناك نوعًا من التمايُز بين الأهداف أو بين الرؤى الأمريكية والتصوّرات الأمريكية الواسعة في العالم؟ لديهم تحدّي التنافُس مع الصين اقتصادي جيوسياسي في مناطق مهمّة كثيرة في العالم، ولديهم روسيا في شرق أوروبا، ولديهم نقاط المستقبل في المحيط الهادئ وفي القطب الشمالي، الأمريكيون.
بينما إسرائيل لديها حسابات تبدو إقليمية ترتبط بمنطقة الشرق الأوسط بشكلٍ واضح.
هل نستطيع أن نتحدّث أن الحسابات الأمريكية في الميزان الدولي هي ما تفرض على الرئيس الأمريكي تصوّرات قد لا تعجب نتنياهو، ومنها الضغط لوقف الحرب على إيران؟
جورجيو كافييرو: نعم، أتّفق مع هذا التقييم عمومًا.
أعتقد أنه هنا في واشنطن، هناك تركيز كبير على هذا التنافُس بين القوى الكبرى أو ديناميكيات التنافُس بين القوى الكبرى على المسرح الدولي.
=الحرب في أوكرانيا، واحتمال أن تتوسّع الحرب في أوكرانيا إلى دولٍ أخرى في أوروبا، وأيضًا ملف تايوان، وقضايا أخرى مُرتبطة بالصين، وإدارة ترامب على ما يبدو تركّز بشكلٍ كبيرٍ على مواجهة الصين.
وأعتقد أنه عندما تنظر إدارة ترامب إلى الوضع في الشرق الأوسط، تنظر إلى هذه المنطقة من مِنظار التنافُس بين القوى الكبرى في الكثير من الأحيان.
وعودة إلى الزيارة أو الجولة إلى ثلاث دول خليجية التي قام بها ترامب مُنتصف أيار/مايو، أعتقد أن الهدف هنا كان بشكلٍ أساسي يتعلّق بمساعي أمريكية لتوطيد العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول مجلس التعاون الخليجي، ووضع المزيد من المسافة بين تلك الدول والصين.
وهذا تطلّب من البيت الأبيض أن يأخذ بعين الاعتبار بشكلٍ أكبر مصالح دول الخليج العربية، وفي بعض الأحيان على حساب المصالح الإسرائيلية.
الوضع في سوريا مثلًا يُشير بهذا الاتجاه، وأعتقد أن الولايات المتحدة لا تريد الإخفاقات في الشرق الأوسط التي قد تفتح الباب للصين كي تستغلّ هذه الإخفاقات، وأن تحقّق المزيد من النفوذ على حساب النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط.
وأعتقد أن هذه العوامل، وهنا أتحدّث عن النقطة التي أثرتها أنت، هذه الخطوات أحيانًا ما تؤدّي إلى عدم تطابُق بين أمريكا وإسرائيل، حتى وإنْ كان هناك الكثير من المصالح المشتركة.
كمال خلف: هنا في الاستراتيجية الأمريكية، سيّد جورجيو كافييرو، أنت تعرف أكثر مني بهذا الأمر ومُطّلع أكثر مني بطبيعة الأحوال.
لكن في الاستراتيجيات الأمريكية في السنوات الماضية، التركيز على مناطق تعتبرها الولايات المتحدة الأمريكية ذات أهميّة كبرى. نتحدّث عن بحر الصين الجنوبي، حماية تايوان، المضائق هناك. نتحدّث عن منطقة القُطب المُتجمّد الشمالي والاستثمارات فيه.
الولايات المتحدة، استراتيجيّتها تقول: هذه المناطق ذات أهميّة قصوى، ولديهم الشرق الأوسط كذلك.
الاهتمام الأمريكي يعود بشكلٍ دائمٍ إلى الشرق الأوسط، بسبب حروب إسرائيل، وبسبب التحدّيات التي تقول إسرائيل إننا نواجهها.
كيف ستوازِن الولايات المتحدة من الناحية الاستراتيجية، وليس في القرارات التكتيكية، بين توجّهها نحو التنافُس الوجودي الذي تعتبره وجوديًا في النظام الدولي مع قوى صاعِدة وتجمّعات دولية تحاول بناء نظام عالمي جديد، وبين الحسابات الإسرائيلية في منطقة الشرق الأوسط؟ كيف ستتمّ الموازنة بين الأمرين؟ وهل ستبقى الولايات المتحدة تعود كل مرة إلى الشرق الأوسط بشبح الانخراط بحربٍ شبيهةٍ بأفغانستان أو العراق؟
جورجيو كافييرو: وبالفعل هذا يفرض علينا أن ننظر إلى الموضوع على الأمد الطويل.
أعتقد صحيح، الولايات المتحدة لديها علاقة خاصة جدًا مع إسرائيل، ونحن لسنا على وشك انتهاء هذه العلاقة في أيّ وقتٍ قريب.
وعندما نتحدّث عن سبب ضرورة إبقاء الولايات المتحدة تركِّز على الشرق الأوسط، العديد في واشنطن ومؤسّسات السياسة الخارجية سيؤكّدون على أهمية الوقوف إلى جانب إسرائيل كحليفٍ، وبالتالي هذا يساعدنا على تفسير ما يجري، وهذا عامل مهمّ يدفع بصُنّاع السياسة الأمريكية إلى اتّخاذ قرار بإبقاء الولايات المتحدة مُنْخَرِطة في الشرق الأوسط.
هناك عوامل أخرى، ولكن بالطبع إسرائيل من ضمن العوامل.
ولكن أعتقد أنه من المهمّ في حال ننظر إلى التحوّل في الرأي العام الأمريكي بشكلٍ مهمّ، وذلك في فترة ما بعد السابع من أكتوبر، الأمريكيون ينظرون إلى إسرائيل على أنها عبء أكثر مما هي تصبّ في مصلحة أمريكا.
ونرى في الشباب الأمريكيين بشكلٍ خاص نرى هذا التوجّه، الدعم لإسرائيل هو أقل لدى الشباب الأمريكيين بالمُقارنة مع الأجيال السابقة، وكذلك لدى الأقلّيات في الولايات المتحدة، الدعم لإسرائيل أقل بالمُقارنة مع الأمريكيين البيض.
وبالتالي، نظرًا إلى هذه العوامل الديمغرافية، يمكن بالفعل أن نسأل عن المسار الطويل الأمد للتحالف الأمريكي الإسرائيلي.
قد يأتي يوم، ليس في وقتٍ قريبٍ، ولكن في النهاية قد نرى أن الولايات المتحدة ستُقلّل من التزاماتها حيال إسرائيل، وأعتقد أن الأذكياء في إسرائيل يجب أن يأخذوا هذا في الحسبان، وعلى إسرائيل أن تبدأ بمحاولة التوصّل إلى السلام مع جيرانها عبر الدبلوماسية، وهذا يبدأ أولًا بالسلام مع الفلسطينيين، وألا تعتمد على القوّة العسكرية الأمريكية.
كمال خلف: الأمريكية إلى الأبد، كما اعتمدت عليها في الحرب مع إيران.
سيّد جورجيو كافييرو، انتهى الوقت، أشكرك جزيل الشكر على هذه المشاركة معنا، المدير التنفيذي لمركز تحليلات دول الخليج، كنت معنا مباشرة من واشنطن. شكرًا جزيلًا لك.