غزة وسوريا.. الصفقة الكبرى
تعمل آلة الحرب الإسرائيلية على تهجير سكان غزة قسرًا عبر تجميعهم في مناطق ضيقة، في إطار مخطط يهدف إلى دفعهم خارج القطاع. وفي موازاة ذلك، تواصل "إسرائيل" مساعيها لتفكيك سوريا وإنهاء وحدتها. في المقابل، تبدي المقاومة استعدادها للانخراط في أي حل منصف وعادل، بينما يواصل بنيامين نتنياهو المناورة لإطالة أمد الحرب في غزة، وحصد جائزته الكبرى: التطبيع مع سوريا.
نص الحلقة
حمدين صباحي: تحية عربية طيّبة، هل آن الأوان أن تضع حرب الإبادة على غزّة أوزارها؟
وأن نشهد هدنة ولو قصيرة يُحْقَن فيها الدم الفلسطيني؟ الأنباء والتسريبات والتكهّنات عمّا يدور الآن في التفاوض غير المباشر ما بين حماس ممثّلة المقاومة، وما بين الكيان الصهيوني، نعرف منها أن المقاومة على عهدها، موقفها في التفاوض ثابت كما موقفها في الميدان.
مطالبها: انسحاب كامل، وقف الحرب، وأن تدخل كل المساعدات والإغاثة عن طريق هيئات الأمم المتحدة.
إسرائيل كعادتها غائمة، ونتنياهو يطمح ليس إلى صفقة في غزّة، إنما إلى صفقة أكبر في الإقليم. تمارس المقاومة بشجاعة وبسالة وإنجاز هائل التفاوض تحت النيران، أعطت دروسًا في الأيام القليلة الفائتة لكيف يفتدي الفلسطيني شعبه وحقّه =بالروح، وتتالت التوابيت لجنود جيش الدفاع لتقول للكيان إن المقاومة باقية، وهي أول رسالة، لأن هدف نتنياهو كان القضاء عليها، بينما هي تقتل جنوده وضبّاطه.
والرسالة المُكَمّلة: إن الشعب الفلسطيني باقٍ متجذّر في أرضه، لم يُهجَّر، والتهجير كان الهدف الأكبر غير المُعلن لحرب الإبادة التي شُنّت على غزّة.
نعرف أن المقاومة الثابتة في التفاوض كما هي ثابتة في الميدان، لن تفوّت فرصة لكي تصل إلى هدنة تحترم تضحيات الشعب الفلسطيني، وهي أيضًا في نفس الوقت لن تقبل بأية شروط، لأنها لن تبيع تضحيات الشعب الفلسطيني بثمنٍ بخس.
أَيًّا كان، وصلنا لاتفاق خلال ساعات أو أيام أو لم نصل، فإن الذين وقفوا مع المقاومة، مع فلسطين، مع الكرامة، عليهم أن يستقبلوا الاتفاق إذا تمّ بما يُعبّر عن ثقتهم في المقاومة وجَدارتها بأن تتّفق كما كانت ولا زالت جديرة بأن تقاتل.
أما الذين لم نسمع منهم طوال سنتين كلمة أو نرى موقفًا مع المقاومة، فنذكّرهم بالقول الذائع: "لا يفتي قاعد لمجاهد".
حمدين صباحي: في كل مراحل التفاوض بين الكيان وحماس المقاومة، سيلحظ الجميع أن المقاومة لم تكن أبدًا ضدّ أيّ مُقترح قدّمه الوسطاء من أجل وقف هذه الحرب بشروط مُنْصِفة للمقاومة وللشعب الفلسطيني ولأهل غزّة.
التحايُل والرغبة في إدامة الحرب كان هو الموقف الدائم لحكومة نتنياهو، ولا مرة أغلق المتحدّثون عن الجانب الفلسطيني من حماس الباب أمام إمكانية الوصول إلى حل =يوقِف هذه الإبادة، ولا مرة نتنياهو قَبِل بأيّ حل، ودائمًا لديه ذرائع يختلقها وحِجَج جديدة يسوّقها، بحيث كلما اقتربنا من إمكانية اتفاق ينسفه نتنياهو. طبعًا، هذا تعبير عن فكر كيان صهيوني عدواني بطبعه، وعن مصالح تخصّ نتنياهو الذي يرى في إدامة الحرب ضمانة لاستدامة وجوده على كرسيّ الحُكم.
والكل يعلم أنه مُهدَّد إذا ما خرج من موقعه بكثير جدًا من المحاسبة، بعضها جنائي، يتهرّب منها ويراوغ القضاء.
ما المعروض الآن في هذه الجولة من المفاوضات على المقاومة خريطة، نريد أن نراها معًا لنحكم: إذا كان نتنياهو يقدّم هذه الخريطة، فهل من المنطقي أنه يريد الوصول إلى اتفاقٍ يوقف الحرب؟
الخريطة هذه فيها استيلاء صهيوني على 40 في المئة من قطاع غزّة، شريط ممتدّ من البحر شمالًا، ثم يتّجه شرقًا، ويبيت جنوبًا ثم غربًا، حتى وصوله للبحر بمُحاذاة حدود القطاع، تصل في الجنوب في اتجاه رفح لـ3700 متر، عُمق هذا الشريط، وأقل نقطة فيه 1200 متر.
إذا كان نتنياهو يودّ الوصول لاتفاق يقتطع فيه 40 في المئة من مساحة غزّة، فمن أين يحصل على موافقة أيّ فلسطيني، فضلًا عن المقاومة، على مثل هذا الاتفاق؟
تريد آلة الوحشية والإبادة الصهيونية أن تجمع ما يقرب من 700 ألف من أهل غزّة إلى مليون، في ما تسمّيه "المدينة الإنسانية".
المدينة الإنسانية هذه موجودة في شمال رفح، وموقعها على الخريطة: أنها في الجنوب الغربي، مُلاصقة لساحل المتوسّط، وفي أقرب نقطة من الحدود مع مصر.
لماذا هذا المكان تحديدًا؟ هذا المكان مُصمَّم بتآمُر صهيوني لكي يكون الـ700 ألف إلى مليون فلسطيني من أهل غزّة في النقطة التي تسمح بدفعهم قسْرًا إلى خارج غزّة، هذا تنفيذ لخطّة التهجير تمامًا.
أما سيكون هناك سور ما بين رفحيْن المصرية والفلسطينية، لكن البحر سيكون أسهل، لأن خط الحدود ما بين فلسطين =المُحتلّة ومصر يصل إلى حدّ بداية مياه البحر المتوسّط، بحيث يستطيع أيّ إنسان أن يسير على قدميه مسافة داخل البحر، ويلتفّ حول السور، ويصبح داخل مصر، وتمّ تهجيره. لا يحتاج لسفينةٍ أو مركبٍ ولا حتى يسبح، "يا دوب يبلّ رجله".
تصميم هذه الخريطة بالـ40 في المئة المُقْتَطعة، وبموقع ما يسمّى "مدينة إنسانية"، معناه أن الكيان الصهيوني مُصرّ على أهدافه في التهجير، وفي الاستيلاء =على غزّة ولو تدريجيًا، وعلى بناء مستوطنات في هذه المساحة المقتطعة الـ40 في المئة وأكثر.
وطبعًا جريًا على عادة الكيان الصهيوني، يحترف الكذب، يسميها المدينة الإنسانية، لا إنسانية في هذه المدينة. أقرب تشبيه حقيقي لهذه المدينة هي معسكرات الاعتقال النازي، هتلر قام بها مع اليهود، ما عانوا منه على يد هتلر، يعيدون إنتاجه لكي يعاني منه الشعب الفلسطيني.
وطبعًا المدينة الإنسانية، هذا اسم يذكرنا أيضًا بمؤسسة غزة للإغاثة الإنسانية، التي شهدنا خلال الأيام الفائتة كيف كانت مصائد للموت تستدرج الجوعى العطاشى، حتى يقفوا في طوابير الحصول على إغاثة، فيلاحقهم الموت الصهيوني. 700 شهيد من أهل فلسطين صعدوا وهم يقفون في طوابير هذه الإغاثة، التي كانت كمائن للشعب الفلسطيني.
ما جرى في واشنطن هو أوسع في الرؤية وأخطر على فلسطين وأمتنا العربية، وهذه المنطقة من العالم، من مجرد استمرار الحرب على غزة، لأنه يعبر عن رؤية تشمل باقي الوطن العربي والإقليم، وهذا أعتقد كان المحور الرئيسي في حوار نتنياهو ـ ترامب في الأسبوع الماضي في أمريكا.
وهذا الذي سننتقل إليه بعد قليل.
صلاح صلاح – عضو المكتب السياسي السابق للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين: هذا الوضع الذي يعيشه أبناء غزّة، يتعايشون مع الموت، هو الذي عطّل إمكانية أن يحقّق العدو الإسرائيلي أهدافه التي أعلنها منذ البداية: تهجير أبناء غزّة، إطلاق سراح أسراه من دون تقديم أية تنازلات ومن دون مساومات، إلخ.
تجريد حماس من سلاحها، إلخ. هذه الأهداف لم يحقّقها، رغم مرور سنة ونصف السنة على الجرائم التي يرتكبها، ومع ذلك، رغم هذه الجرائم، هو يجدّد أساليبه في تحقيق أو في طرحه أهدافه.
سابقًا، كان يطرح بشكل مكشوف خطة إجلاء أبناء غزّة من قطاع غزّة، الآن يطرح مدينة إنسانية، والتي هي عمليًا سجن كبير لإخراج الناس من قطاع غزّة. الآن يطرحون موضوع إخراج القيادات الفلسطينية من قطاع غزّة، ولكن من خلفية أنه مُنتصر، والحقيقة أنه ينتصر فقط في الإبادة الجماعية، وينتصر فقط بقتل الأطفال والنساء، لكنه على صعيد المقاومة، على صعيد المواجهة، هو لن يستطيع أن يحقّق أي شيء.
=الآن نحن نعيش مرحلة إبادة جماعية يحاول العدو الإسرائيلي أن يخرج منها بثمن سياسي بعجزه عن تحقيق انتصارات عسكرية، لم يستطع أن يحقّق أيّ انتصار عسكري، ولهذا من خلال المفاوضات بدعم أمريكي، من خلال بعض الوسطاء الذين يمكن أن يشكّلوا عامل ضغط، يعتقد بأنه يستطيع أن يحقّق انتصارات، وهذا مستحيل، وهناك موقف فلسطيني موحّد تلتزم به حماس، الالتزام بموقف هو رفض إخراج أيّ أحد من دون ثمن: الانسحاب الكامل لقوات العدو الإسرائيلي من قطاع غزّة، رفض الإخلاء لأيّ مواطن خارج القطاع، رفع الحصار بشكل كامل عن قطاع غزّة، سحب كل القوات الإسرائيلية من قطاع غزّة. هذه شروط ثابتة لن يتخلّى عنها المفاوض الفلسطيني.
حمدين صباحي: الثمن السياسي الذي يريده نتنياهو، كما أشار الصديق العزيز المناضل الفلسطيني صلاح صلاح، ثمن كبير، ولعلّ معظم حواره في واشنطن مع ترامب كان له علاقة بطبيعة هذا الثمن. نتنياهو يريد جائزة كبرى، جائزة كبرى في الإقليم، تنعكس على تمكُّن داخل الكيان الصهيوني والسيادة لنتنياهو، فإذا إن نتنياهو يقول لترامب: نعم، أنا موافق أن أبرم صفقة وأوقف إطلاق النار، وأعطيك فرصة لتكون رجل سلام، أعطني جائزتي التي أطمح لها في نظام إقليمي، وأثر هذا عندما أقدمه في انتخابات قادمة، يريد نتنياهو أن يخوضها، وهو حاصل الآن على أعلى درجة من درجات تأييد الرأي العام في استطلاعات الرأي، هو يحكم منذ 18 سنة، لم يصل لدرجة تأييد الرأي العام له كما هو الآن بعد عملياته المتعدّدة، وآخرها مع إيران.
طبعًا هو يُروّج مقولة زائفة عن نصرٍ على سبع جبهات، وهو ما يزال عاجزًا في غزّة، كما قال الأستاذ صلاح صلاح، عن تحقيق أيّ هدف من أهدافه، لكن نتنياهو باعتباره حيوانًا سياسيًا مُحترفًا، وحاصل حاليًا على تقدير لم يحصل عليه رئيس وزراء في إسرائيل من أيام بن غوريون، رئيس الوزراء المؤسِّس للكيان الغاصِب، يريد أن يستخدم هذه الفرصة بطريقةٍ تمكّنه، أنه إذا دعا لانتخابات، يكون ضامِنًا أنه سيفوز فيها منفردًا من دون أن يكون مرهونًا كما هو الآن لفرط اليمين كسموتريتش وبن غفير، وهذا يمكن أن يمكِّن نتنياهو من أن يفوز بانتخابات على حساب مُعارضيه، وعلى حساب حلفائه أيضًا، لينفرد مَلِكًا مُتوّجًا على مملكة إسرائيل.
=لاحظوا أن هذا التوقيت، الذي يريد أن يُطبخ فيه نتنياهو جائزته الكبرى التي يريد الحصول عليها في الإقليم، وأولها وعنوانها التطبيع مع سوريا، لكنها لا تقتصر على ذلك.
ذهب نتنياهو وجلس مع ترامب، في نفس الوقت، كان أحمد الشرع، رئيس السلطة المؤقّتة في سوريا، يستقلّ طائرة لأبو ظبي، ثم يعود ويذهب إلى باكو، عاصمة أذربيجان. في عاصمة أذربيجان وقّع اتفاق شراكة استراتيجي مع أذربيجان، بموجبه ستعطيه الغاز ضمن أشياء أخرى.
تنبّهوا، أذربيجان هي التي تمدّ الكيان الصهيوني بـ40 بالمئة من احتياجاته من الغاز، وهو سيمدّ سوريا أيضًا عبر خط لنقل الغاز يعبر بتركيا، وربما هو نفس الخط الذي سيمتدّ إلى حيفا، في إطار مشروع التطبيع مع سوريا.
=وتنبّهوا هنا من فضلكم، المعيار ليس الدين، مش الإسلام، وليس الشرع. المعيار هو الموقف من قضية فلسطين.
الشيعة إذا كانوا في إيران مع فلسطين، يتّهمهم أحمد الشرع كل هذه التّهم الزائفة، لكن أذربيجان، لأنها مع إسرائيل ضدّ فلسطين، يعقد معهم شراكة استراتيجية.
هذا الترخّص باستخدام الدين حفاظًا على المصالح السياسية ينبغي أن يتوقّف، الضحك على الناس باسم الدين، واتّهام كل الواقفين مع فلسطين بما ليس فيهم، وتبرئة حلفاء إسرائيل وتابعي أمريكا من كل تهمة، هو نوع من القِسمة الضيّقة التي تعبّر عن خلل في الدين وخلل في السياسة.
لأنه الحقيقة، بالنسبة لأيّ عربي وكل عربي، بالنسبة لأيّ مسلم وكل مسلم، بل بالنسبة لكل صاحب ضمير إنساني، فلسطين هي مسطرة القياس الحقيقية، وليست الطائفة ولا الدين ولا المذهب.
المسلم أو المسيحي، الشيعي أو السنّي، المؤمن أو حتى الكافر، ينبغي أن يُقاص على مسطرة: إذا كان مع فلسطين، فهو مع الحق والقِيَم الإنسانية، إذا كان مع إسرائيل، فهو مع التوحّش والانحطاط الأخلاقي والإبادة، ضدّ كل قيمة وكل خُلُق ديني أو إنساني.
فيديو:
=مواطن من غزّة: أوقفوا هذه الإبادة، أوقفوا هذه الحرب، حسبي الله ونِعْمَ الوكيل.
مواطن من غزّة: سنموت هنا، لو مهما يحصل يحصل، نطلع إلى المواصي أو الجنوب أو هنا أو هناك، لو يقولوا لنا نعطيكم ذهباً، لن نغادر، سنُستشهد هنا، ونموت هنا، ولن نخرج، ونجلس هنا.
مواطنة من غزّة: لن نخرج، لو أرادوا تهجيرنا، أينما نُهجَّر؟ هذه بلادنا، ورأس مالنا، وأهلنا، كلنا سنموت، لو يبقى طفل رضيع، إلا ما يبقى يدافع عن آخر شبر فيكِ يا فلسطين. صامدون صامدون صامدون صامدون.
حمدين صباحي: والله، الواحد كلما يسمع فلسطينية أو فلسطيني من أهل غزّة، بتعبيراتهم الصادقة المباشرة، يُدرك أن هذا شعب لن يُهْزَم أبدًا، مهما تكالب عليه أعداء أقوياء، ومهما كانت هناك مؤامرات، ومهما كان الخُذلان، كلنا نكبّر هذا الشعب العظيم وننحني له، وبإذن الله سيرى نصره المُستحقّ بعد صبره وانتظاره الطويل.
ونعود لنتنياهو، وهو في زيارة كفيله ترامب، ويريد الجائزة الكبرى. أكيد ترامب يحب أن يعطيه الجائزة الكبرى.
هو يريد أن ينقضّ على النظام القضائي في الكيان، ويُخْرِج نتنياهو من المحاكمة التي يستحقّها عن جرائمه.
=لكن هذا ليس معناه أن الإدارة الأمريكية مُتطابقة في طريقة تنفيذ ما يرغب به نتنياهو.
سوريا في مقدّمة المُستهدفين بالتطبيع، حتى نتنياهو يعتبرها جزءًا رئيسيًا من الجائزة التي يريد الفوز بها ويقدّمها كثمنٍ لانتصاره في الانتخابات القادمة بلا شركاء.
لكن أمريكا لا ترى الأمور بطريقة نتنياهو.
هناك عدّة نقاط:
الأولى: الإعلان عن تفاصيل اتفاق التطبيع، الذي يجري التحضير له سرًا منذ زمن بلقاءاتٍ مُتعدّدة، طبعًا برعاية أمريكية، ما بين مسؤولين في سوريا وفي إسرائيل، بالذات أمنيين.
رئيس الحُكم الانتقالي في سوريا لا يمانع التطبيع، كما هو واضح، لكنه لا يريد أن يُعلن جزءًا رئيسيًا في شروط هذا التطبيع، وهو تنازُل سوريا عن الجولان للعدو الصهيوني.
ومن المُتداول أن أحمد الشرع وسّط السعودية والإمارات وتركيا، حتى يخاطبوا ترامب يطلب من نتنياهو بلا الإعلان عن التنازُل عن الجولان.
المشكلة ليست في التنازُل، المشكلة في إعلان هذا التنازُل.
والحقيقة، هذا مؤشّر مهمّ، معناه أنه مهما كان الحاكم حريصًا على الكرسي، ومُستعدّاً لبيع أي شيء حتى يحتفظ بكرسيّه، كما هي الحال في سوريا، لكنه في النهاية يعلم عِلم اليقين أن الشعب السوري لن يقبل التنازُل عن أرضه، وهذا مؤشّر يجب أن نضعه بعين الاعتبار، حتى مَن يُروّج أن التطبيع مع سوريا آتٍ لا مفرّ منه، يَرْعَوا ويتمهّلوا ويتأنّوا قليلًا، لأنه حتى الذي سيوقّع على =التنازُل عن الجولان، يعرف أن هذا سيجعله يلقى جزاءً من الشعب السوري، يخشى معه الإعلان.
وهناك نقطة ثانية أيضًا متعلّقة بأن سوريا ويعقبها لبنان، والأمريكان أقرب لهذا الفَهْم، وإلا سوريا ولبنان معًا، لأن نتنياهو في جَشَعه وتلهّفه يريد سوريا ولبنان، يعني يودّ أن يُكمل التخلّص من دول الجوار، دول الطوق، مصر والأردن خرجوا بـ"كامب ديفيد" من قبل و"وادي عربة"، وحاليًا الدور على سوريا ليكتمل تحويل الطوق الذي كان ذات يوم هو الأمل في الاشتباك مع الكيان الصهيوني، لكي يتحوّل إلى "بفر زون" أو منطقة عازِلة مُتصالحة، لكن طبعًا على المستوى الحكومي الرسمي، لأنه لا في مصر ولا في الأردن الشعب قابِل التطبيع، ولا يوافق عليه، ولا بعمره سيوافق عليه، وهذا نفس الأمر بسوريا ولبنان، حتى ولو حكوماتهم وافقت على التطبيع، فالشعب في سوريا ولبنان سيبقى مُخلصًا لوطنيّته وهويّته العربية ولقِيَمه ولكرامته.
هذا الكلام ظهر في تصريح رئيس جمهورية لبنان جوزف عون، تصريح يستحقّ عليه التحيّة، لأنه مع تقديم الأسئلة التي جاء بها باراك للبنان، فردّ الرئيس جوزف عون كان واضحًا، على أسئلة توم باراك صرّح بوضوحٍ أنه لا تطبيع مع إسرائيل، والسلام بالنسبة لنا في لبنان يعني أن لا حرب، وهذا الموقف دعمه فيه الرئيس نبيه برّي والرئيس نواف سلام، الرؤساء الثلاثة في إجاباتهم على أسئلة باراك انتصروا لقيمة وطنية لبنانية، ولكرامة لبنان، وبدا أنهم مستوعبون جيّدًا الدرس التاريخي في لبنان، الذي جُرّ تحت وطأة احتلال الكيان الصهيوني الذي وصل للعاصمة بيروت في 82، وعُقِد اتفاق 17 أيار 83، الذي لم يصمد أمام الشعب اللبناني، ومزّق الاتفاق، وذهب الذين وقّعوه، وبقي لبنان.
=نقطة ثالثة في الخلاف ما بين الطريقة الأمريكية والطريقة الصهيونية هي حدود استخدام القوّة.
يبدو نتنياهو مندفعًا لاستخدام القوّة الغاشِمة في أي وقت تجاه أي أحد، لدرجة أنه كان سيصطدم مع تركيا خوفًا من أن يكون لها من النفوذ في سوريا ما يهدّد أمن إسرائيل، وهذا تخوّف لا زال قائمًا إلى الآن.
النقطة الرابعة أن نتنياهو يريد سوريا مُقسّمة على مذاهب وطوائف وأثنيات.
تمزيق سوريا وإنهاء وحدتها كتراب وطني وسلطة سياسية واحدة هو هدف إسرائيل، لأن إسرائيل تحبّ أن تكون بجوارها دول ليست مؤسّسة على بنيان وطني وشعبي وكيان له مفهوم عن الأمن الذي ينبغي أن يصونه.
هو يريد دول طوائف، لأن إسرائيل نفسها، هذا الكيان، هي دولة طائفة، هي دولة مؤسَّسة، ولم تعد تقبل من إعلان ذلك في وثائقها القانونية وإعلامها العالمي.
هذه دولة لليهود، دولة طائفية، دولة =عُنصرية، دولة ضدّ كل المفاهيم التي استقرّت عليها الدنيا بتطوّرها وتحوّلت إلى نصوص في القانون الدولي، فيريد دول طوائف جنبه، هذا أفضل له.
الأمريكيون لا، الأمريكيون يفضّلون دولة ضعيفة، وليس دولة مُقسّمة، لأن هذا شأن لا ينتهي من المشكلات والتداخُلات والتعقيدات في مساحات النفوذ الأمريكي.
ربما لذلك، وحتى يكون هناك عقل يفهم ويُدير على أساس هذه الرؤية الأمريكية، نحن أمامنا الآن بول بريمر جديد، هو الحاكم الذي دخل مع الدبّابات الأمريكية لكي يُدير العراق بعد الغزو الأمريكي.
بول بريمر سوريا هو توماس باراك أو توم باراك.
تقرير:
لم يحتج المشهد السوري كثيرًا كي ينتقل إلى الخطوة التالية: التطبيع مع إسرائيل هو الممرّ الأقصر والأسرع والأكثر ضمانًا لرضا الولايات المتحدة.
=نتيجة لم تكن غائبة عن بال مَن يحكم دمشق اليوم، حتى قبل أن يطأ العاصمة، وقبل أن تبدأ الوساطات والعروض.
المشكلة في التطبيع اليوم ليست في أنه انتقال من محور إلى آخر، فعالم السياسة يتّسم بالتقلّبات الحادّة، والتحالفات حتى مع أعداء الأمس، لكنه انتقال في الجغرافيا والتاريخ والقِيَم الوطنية إلى مربّع العدو، في توقيت صعب وخطر، يشهد أشنع وأقصى حرب على فلسطين وشعبها.
بغضّ النظر هل يترافق هذا التطبيع مع وقف الحرب في غزّة مؤقّتًا أو دائمًا، فالنتيجة واحدة، وهي أن سوريا، بكل ما تمثّله من عامود أساسي في إسناد فلسطين، ستكون غدًا، طوعًا أو جبْرًا، على الخط النقيض، بل ستصير مُلزَمة تقديم أوراق اعتماد أكثر من غيرها لمَسْح الماضي الذي حمل النقيض.
مشكلة أخرى: إنه ليست هناك ضمانات في المعاهدات مع إسرائيل، لا في القصيرة =المدى كالهدن في غزّة، ولا في اتفاقات التسوية كالتي مع مصر والأردن، وحديثًا مع البحرين والإمارات.
والشواهِد على ذلك أكثر مما تُعدّ أو يُعطى عليها مِثال.
لكن خصوصيّة سوريا ستجعل أيّ اتفاق في مهبّ الريح، لأسباب إسرائيلية أو حتى سورية داخلية.
=كما في فلسطين، لم ينجح مبدأ "السلام مقابل الأرض"، أيضًا في سوريا، التي زادت أراضيها المحتلّة، لن يكون الانسحاب الإسرائيلي إلا ضمن اعتبارات أمنية، لا تأخذ سيادة سوريا ووحدة أراضيها في الاعتبار، بمعنى أن الثمن المدفوع أقل بكثير من البضاعة المقبوضة.
وغياب التوازن في مثل هذه الصفقات يعني حُكمًا أن الرابح هو الذي حصد أعلى نتيجة بأقل الأثمان.
حمدين صباحي: بول بريمر سوريا أو توم باراك هو مهندس إدارة رؤية أمريكا لإعادة ترتيب الأوضاع في هذه المنطقة، هو طبعًا مُعيَّن رسميًا، عيّنه ترامب في مايو الماضي سفيرًا للولايات المتحدة الأمريكية في تركيا، بكل أهمية تركيا، ثم أصبح هو الممثّل الأمريكي في سوريا يدير الشأن السوري، ثم حلّ محلّ مورغان في إدارة الشأن اللبناني.
طبعًا في فارِق، مورغان أورتاغوس سيّدة لديها قَدْر من الجمال تتباهى به، 43 سنة، امرأة ناضجة، هي دبلوماسية تهوّدت سنة 2013 وتزوّجت محامٍ يهودي كبير وشهير، لكن عندما مارست دورها، لم تسعفها اللياقة الواجبة في الدبلوماسية، وتعاملت بجلافة، لدرجة أنها كانت تزور الرؤساء وهي تضع شعارات نجمة داوود وتقف من القصر الجمهوري لتُملي تعليمات على الدولة اللبنانية بأن انتزعوا سلاح حزب الله.
هذه الجلافة التي استاء منها كل اللبنانيين، وليس فقط الرؤساء، بل أيّ حد لديه حسّ وطني، حتى لو لم يكن من بيئة المقاومة أو من مُناصريها، أفضت إلى أن الإدارة الأمريكية سحبتها وركنتها جانبًا من دون قرار رسمي، وحلّ مكانها باراك، هذا الرجل المُخضرَم، مواليد سنة 1947، يقترب من الـ80 سنة الآن، رجل أعمال، ليس قادمًا من الدبلوماسية التقليدية، صاحب استثمارات، بعضها في السعودية والإمارات، وجه مُحنَّك.
الفارق بين جلافة أورتاغوس وبين كياسة باراك أيضًا يمكن أن نعيده لأنه من أصول لبنانية.
لذلك عندما جاء يتلقّى ردّ لبنان على الأسئلة، كان كثير ممّن أرادوا أن "تدلع" الأمور وتوقّعوا أنه سيلاحق، جريًا على نهج السيّدة التي كانت قبله، الدولة اللبنانية =بلغةٍ مُتعالية مُتغطرسة، بدا ردّه ناعمًا كَيّسًا فيه الكثير من الدهاء، الذي يلائم المهمّة الكبيرة التي ينهض بها الآن، لأن هذا هو الذي سيرتّب داخل سوريا مستقبل السلطة والأطراف الموجودة في سوريا، بمن فيهم الأكراد، المعروف أنهم كانوا تحت رعاية أمريكية لأمدٍ طويل.
ولذلك، النفوذ المتعدّد الطامح لأن يأخذ من الكعكة السورية نصيبًا، سواء تركيا أو روسيا أو السعودية أو قطر أو الإمارات أو إسرائيل، الذي يُهنْدِس خطوط السير =وإشارات المرور الحمر والخضر، بحيث أن كل هؤلاء، ولهم وصْل بالسيّد الأمريكي جميعًا، لا يصطدموا، هو بريمر سوريا: توم باراك، ويجب أن نتتبّع أداءه، لأنه سيكون كاشفًا لما يُراد لسوريا ولبنان وبوطننا العربي ولصالح إسرائيل في الأيام القادمة.
طارق الأحمد – قيادي في الحزب السوري القومي الاجتماعي: دعيني أقول لك إن الجائزة قد حصلت، حصلت حتى قبل التطبيع، التطبيع وغير التطبيع أصبح بالمعنى القتالي للكلمة، أو بالمعنى التوازن العسكري والجيوسياسي، أصبح تحصيل حاصل.
أنت الآن أمام منطقة مُسيطَر عليها من قِبَل مَن؟ من قِبَل أمريكا، ومن قِبَل إسرائيل، ومن قِبَل تركيا، ومن قِبَل جهات هي أصلًا مقابِلة للمقاومة، مُعادية للمقاومة، وهي تسيطر على كل المنطقة الآن في سوريا، وبالتالي نحن أصبحنا أمام عصر للهيمنة الأمريكية.
ولكن يجب أن أسجّل: إنه صحيح أنه عصر للهيمنة الأمريكية، ولكنه في نفس الوقت عصر غير مُكتَمِل، بمعنى أن هناك تناقضات، أمام عدم استقرار، ونحن أمام =خلل حتى في السيطرة ما بين هذه القوى التي كانت متحالفة.
هناك وضع جيوسياسي وُضِعت سوريا فيه تحت كمّاشة لعبة الأمم، وهناك موقع للشرع، وُجِد بأنه يسيطر على القرار من الناحية الإسمية، من الناحية الإسمية فقط، وهناك عوامل من جهة، هي مُساعدة، مطرقة وسِندان.
مَن من تريدون من القوى يستخدم مع الحاكم في سوريا نظرية المطرقة والسِندان؟ مَن الإسرائيلي إلى الأمريكي إلى التركي إلى العربي، الجميع.
أكبر شاهد على ذلك هو الوضع المعيشي والاقتصادي السوري. لماذا؟ لأنه لا يوجد شيء مجّانًا.
نحن أمام ابتزاز للمجتمع السوري، ولكل =مَن هو في سوريا.
هناك سيطرة، وهناك صفقات يريدها كل طرف يعتبر ذاته مُنتصِرًا، ولكن لن تستقرذ المنطقة، لأن هناك انشقاقات بين المُنتصرين ذاتهم، في داخل الحلف الواحد، وهذا ما سيظهر مع الأشهر القادمة.
حمدين صباحي: الجائزة الكبرى التي يطمح إليها نتنياهو من اتفاق غزّة إلى تطبيع مع سوريا ولبنان، تمتدّ إلى الإقليم، في ما يُسمّيه الصهاينة الآن "درع إبراهيم"، الذي =يتضمّن تطبيعًا مع السعودية أيضًا.
لكن، هل هذا الطمع واتفاق نتنياهو مع كفيله عليه معناه أنه سيتمّ؟ لا.
هذه كلها أطماع يُرجَّح أنها ستفشل، ليس فقط لأن شركاءها بينهم خلافات، كما ذكر الأستاذ طارق الأحمد، لكن لأن هناك شعبًا واعيًا بحقوقه، لن يوافق على هذه الخطّة بالتطبيع.
ودول، مهما كان استعدادها للتطبيع، فهي غير مستعدّة لأن تنحني لقيادة صهيونية فوق كل الحكّام.
ولأن من بين النتائج المؤكّدة لطوفان الأقصى، التي نشهدها الآن، ثلاث نتائج مهمّة:
أن عقد الأمان ما بين المُستجلبين للكيان الصهيوني وما بين الدولة الصهيونية قد انفصم وتمزّق بصواريخ القسّام، والاقتحام العظيم يوم 7 أكتوبر، وبصواريخ إيران التي نالت العُمق الصهيوني.
=أن إسرائيل، وجودها مرهون بكلمة واحدة: القبول العربي.
درس المجازر والإبادة الجماعية قال إن كراهية إسرائيل تضاعفت أضعافًا، الكراهية لهذا الكيان المُنحطّ في كل الوطن العربي.
لأن إسرائيل تعيش على أنها واحة الديمقراطية، وفي طوفان الأقصى، انكشفت حقيقة وجهها القبيح، المُعادي لكل قيمة إنسانية.
والشاهِد العظيم على هذا أن فلسطين أصبحت محلّ تأييد الإنسانية وأصحاب الضمائر فيها في كل مكان.
يكفي أن نشهد مؤتمرًا لليهود المُعادين للصهيونية، الذين يتحدّثون عن فلسطين من النهر إلى البحر، دولة لكل الأديان، ليس الكيان الصهيوني.
يكفي أن نرى مغّنيًا يخرج في حفلة تقاطعها الـBBC، شعاره الرئيسي، والألوف المؤلّفة تردّد وراءه: "الحرية، الحرية لفلسطين، والموت لإسرائيل".
يكفي أن نرى، بالأمس، عمّال ميناء في اليونان يرفضون تفريغ أو شحن سفينة لأنها ذاهبة لإسرائيل.
يكفي روعة الضمير الذي تجلّى في فرانشيسكا ألبانيز، التي باسم الأمم المتحدة، لأنها هي مقرّرة لشؤون الفلسطينيين في الضفة والقطاع، كتبت تقريرًا عظيمًا.
ومن مخازي أمريكا أنها عاقبت فرانشيسكا ألبانيز، لأنها أخلصت لضميرها ولقِيَم حقوق الإنسان، في نفس اليوم الذي كانت ترفع فيه عن "هيئة تحرير الشام" صفة أنها إرهابية.
ثم يتبجّح نتنياهو، المجرم المُدان من أعلى محكمة دولية، فيرشّح كفيله ترامب لجائزة نوبل للسلام! مُنتهى العَبَث والاستهتار بأيّ قيمة، والابتذال.
الجَدير بجائزة نوبل ليس مُرتكب جريمة الإبادة الجماعية، الجَدير بها فرانشيسكا ألبانيز، الإيطالية العظيمة التي أخلصت لضميرها ومهمّتها، والتي أدعو كل إنسان لديه ضمير أن يدعم الحملة الدولية الآن من أجل ترشيحها لجائزة نوبل للسلام.
حمدين صباحي: أحترف الحزن والانتظار، أرتقب الآتي ولا يأتي، تبدّدت زنابق الوقت، عشرون عامًا وأنا أحترف الحزن والانتظار، عبرت من بوابة الدموع إلى صقيع الشمس والبرد، لا أهل لي، في خيمتي وحدي، عشرون عامًا وأنا يسكنني الحنين والرجوع.
=تمدّدت العشرون عامًا فصارت سبعينًا، والفلسطيني يحترف مع الحزن والانتظار، الفداء والصمود والكبرياء، والصبر المُعجز، ليبقى في فلسطين، ولتبقى فلسطين.
وأقسم، من رموش العين سوف أخيط منديلًا، وأنقش فوقه شعرًا لعينيكِ، واسمًا حين أسقيه فؤادًا ذاب ترتيلًا، يمدّ عرائش الأيكِ، سأكتب جملة أغلى من الشهداء والقبل، فلسطينية كانت ولم تزَلِ.