سقوط الشرعية الدولية: من غزة إلى أوكرانيا… من يضبط الجريمة؟
بعد الإبادة في غزة، والفوضى في سوريا والسودان، والعدوان على لبنان واليمن وإيران، والحرب المستمرة في أوكرانيا... ما الذي تبقّى من النظام الدولي؟ أمم متحدة غائبة، ومحاكم مهدَّدة، وقانون دولي يُختزل في بيانات "قلق". أهو عجزٌ مؤسسي؟ أم تفكيكٌ متعمَّد لشرعية ما بعد الحرب العالمية الثانية؟ من "هندسة الفراغ" إلى لحظة الفوضى الكاملة، تُرسم خرائط القوة اليوم بالدم لا بالدبلوماسية. فهل دخلنا فعلاً زمن اللاشرعية؟ وهل يشهد العالم ولادةً جديدة... أم انهياراً شاملاً؟
نص الحلقة
كمال خلف: سلام الله عليكم مشاهدينا في دوائر القرار.
ما الذي تبقّى من النظام الدولي بعد الإبادة في غزّة، والفوضى في سوريا والسودان، والعدوان على لبنان واليمن وإيران، والحرب المستمرّة في أوكرانيا، ومحاولات العَبَث بالخرائط ومصائر الدول والشعوب؟
أمم متحدة غائبة، قانون دولي يُخْتَزَل ببيانات قلق، ومحاكم تُهدَّد، وقانون دولي لا يُحْتَرَم. هل نحن أمام عجز مؤسّسي؟ أم تفكيك مُتعمّد لشرعية ما بعد الحرب العالمية الثانية؟
من هَنْدَسة الفراغ إلى لحظة الفوضى الكاملة، تُصاغ خرائط القوّة بالدم، لا بالدبلوماسية. فهل دخلنا زمن اللاشرعية؟ وهل العالم أمام ولادة جديدة في طريقه إلى الانهيار؟
في دوائر القرار اليوم نُعَنْوِن: سقوط الشرعية الدولية من غزّة إلى أوكرانيا: مَن يُضْبُط الجريمة؟
أهلًا بكم.
كمال خلف: أرحّب بضيفي من الأردن الدكتور أنيس قاسم، الخبير في القانون الدولي، ومن مؤسّسي الهيئة الفلسطينية المستقلّة لحقوق المواطن.
دكتور أنيس، حيّاك الله، نتشرّف بوجودك معنا في دوائر القرار.
أنيس قاسم: أهلًا بك.
كمال خلف: حيّاك الله.
سنمرّ معك دكتور على ثلاث دوائر بثلاثة محاور لموضوعنا الذي يتعلّق بوضع القانون الدولي والشرعية الدولية في هذه اللحظة من العالم.
سنبدأ من الدائرة الأولى، عنوانها: عالم يشتعل بلا قاضٍ ولا شهود.
مشاهدينا، نستعرض في هذه الدائرة الوقائع والشواهِد على تهميش الأمم المتحدة واحتقار القانون الدولي، وغياب المجتمع الدولي، وتهميش المؤسّسات الدولية، والهجوم على المحاكم الدولية المولَجَة بتطبيق القانون الدولي. سأعرض تقريرًا يشمل هذا العنوان وأعود بعده إلى ضيفنا.
تقرير:
في قلب النظام الدولي الذي أُسِّس على =أنقاض الحرب العالمية الثانية، ينبض مفهوم الشرعية الدولية وقواعد القانون الدولي، حجرَ أساسٍ لتنظيم العلاقات بين الدول وضمان حقوق الشعوب.
هذه الشرعية التي رسمت خطوط السلوك، وعيّنت مؤسّسات أممية، وضعت آليات لحلّ النزاعات سلمياً، باتت اليوم في مأزق وجودي.
هاري ترومان – رئيس الولايات المتحدة الأمريكية (1945): لو كنا نمتلك هذا الخطاب قبل بضع سنوات، وقبل كل شيء الإرادة لاستخدامه، لكان الملايين ممّن لاقوا حتفهم اليوم أحياء بيننا. نعم هنالك وقت لوضع الخطط، وهنالك وقت للعمل، والوقت للعمل هو الآن... هنا.
منذ عقود، كان يُفترض أن تكون الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمحاكم الدولية درعًا يحمي الدول والسيادة من العدوان، ويردع القوى الطامِعة عن تجاوز حدود القانون. لكن ما نشهده اليوم هو عكس ذلك تمامًا.
في غزّة، تتكرّر مأساة إبادة جماعية تحت سَمْع المجتمع الدولي وبصره، من دون تدخّل فعّال أو تحرّك يحمي المدنيين، ومن غير أن تلتزم إسرائيل بأبسط قواعد القانون الدولي الإنساني التي تحظّر استهداف المدنيين.
ولا تختلف الحال في لبنان، حيث تتكرّر الاعتداءات، وفي اليمن، حيث يتواصل العدوان المُدمّر بلا رقابة دولية حقيقية.
في سوريا، يغيب المبعوث الأممي، وتتوالى الانتهاكات من دون مُساءلة. فيما يندلع عدوان مُعْلَن على إيران خارج أُطُر الشرعية الدولية، ولا أحد يُحرّك ساكنًا.
في السودان، تسود الفوضى، ويغيب دور الأمم المتحدة الفعّال، وتفشل مؤسّسات النظام الدولي في فرض أيّ دور للحماية أو إعادة بناء السلام.
حتى في أوكرانيا، التي تبدو القضية العالمية الأبرز، يظهر تهميش لنظام الأمم المتحدة في إدارة الصراع، فيما تُعطَّل آليات مجلس الأمن، وتُغْفَل المعايير القانونية.
ليس هذا فحسب، إذ تخطّى الأمر التهميش ليصل إلى التعدّي المباشر على مؤسّسات القانون الدولي ذاتها، فمحكمة العدل الدولية تواجه انتهاكات صارِخة تهدّد مصداقيّتها، والقضاة في المحكمة الجنائية الدولية يتعرّضون لتهديدات وعقوبات سياسية تحول دون تحقيق العدالة أو مُساءلة مُرتكبي الجرائم الكبرى.
هذا التفكّك المُتعمَّد، أو العجز المرئي للشرعية الدولية، يكشف عن حالٍ من انهيار النظام داخل المؤسّسات التي وُجِدَت لضبط الفوضى الدولية.
إذ لم يعد هناك بديل سوى شريعة الغاب التي تحكمها موازين القوى وحسابات المصالح الضيّقة، ما يجعل القانون الدولي في حال صراعٍ مع نفسه، ويُرْبِك قواعد السلوك الدولي.
كمال خلف: دكتور أنيس، أعود وأحيّيك.
كيف نُفسّر كل ذلك، كل ما عرضناه قبل قليل بهذا العرض الشامل، بغياب كامل لمؤسّسات الشرعية الدولية، في لحظةٍ تاريخيةٍ لم تشهدها الكرة الأرضية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية؟
أنيس قاسم: شكرًا على الاستضافة أستاذ كمال، وتحيّة إلى جمهورك الكريم.
في الواقع، ما نشهده حاليًّا هو -صحيح- انهيار شبه كامل للمنظومة الأخلاقية والقانونية، في ظلّ رأس الدولة الإمبريالية الأولى التي تُهَيْمِن على المسرح العالمي حاليًّا، وهي الولايات المتحدة.
إلا أنه يجب أن نأخذ ذلك في السياق التاريخي، وذلك اعتبارًا من تفكّك الاتحاد السوفياتي، وأصبحت القُطبية العالمية محصورة في قُطبٍ واحد.
وللدلالة على خطورة الوضع الذي نحن بصدده، يجب أن نستذكر ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية في اليابان في الحرب العالمية الثانية، حين كانت الدولة الوحيدة التي تملك السلاح النووي، استخدمته من دون رادع.
=حتى الآن، لم تُحاسب أمريكا على الإبادة الجماعية لشعبٍ كاملٍ في ناغازاكي وهيروشيما.
بانهيار هذه المنظومة القُطبية، التي كانت تقوم على وجود قُطبين: الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، بدأنا نرى العنجهيّة الإمبريالية الأمريكية تسيطر على كل الحركات الدولية وكل النزاعات الدولية في العالم.
أعطني نزاعًا في العالم ليس للولايات المتحدة فيه يد أو إصبع؛ جميعها تعود في جذورها إلى الولايات المتحدة والهيمنة الأمريكية.
كمال خلف: لكن دكتور، معك حقّ في العودة إلى الوراء منذ الحرب العالمية، لكن ما نشهده اليوم، في هذه اللحظة، لم نشهده سابقًا.
عندما غزت الولايات المتحدة الأمريكية العراق في العملية الأولى "ثعلب الصحراء" أو "عاصفة الصحراء" عام 1991، احتاجت إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن ولقرارات دولية.
وسنة 2003، تحرّكت خارج مجلس الأمن، لكن أيضًا عقدت شراكات دولية – ثلاثين دولة، إلى آخره...
حتى مجلس الأمن، لم نرَ هذه المؤسّسات تُحْتَقر كما تُحْتَقر اليوم في مرحلتنا الراهنة. وهذا ما يحتاج إلى تفسير.
أنيس قاسم: صحيح، لأن الولايات المتحدة بدأت تتدرّج في تآكُل المنظومة الدولية رويدًا رويدًا.
في الحرب العراقية الثانية، حرب الخليج الثانية، وهي حرب تحرير الكويت، استطاع مجلس الأمن الدولي أن يتّخذ مجموعة قرارات بموجب الفصل السابع. هذه القرارات كانت مُلْزِمة للمجموعة الدولية، واستطاعت الولايات المتحدة أن تتذرّع بتلك القرارات، وتمّ تحرير الكويت من الاحتلال العراقي وقتها.
هذا تدريجيًا بدأت الولايات المتحدة تشعر بأنه لا يوجد نظام دولي قادر على لَجْم الولايات المتحدة، ولذلك حين اعتدت على العراق سنة 2003، حتى هذه اللحظة، لم تحاول أمريكا أن تغطّي على جرائمها في العراق باتّخاذ قرار من هيئة الأمم، لأنها لم تعد ترى ضرورة في اتّخاذ قرار من هيئة الأمم. هي قامت بعدوان، كلمة "عدوان" بالتعريف القانوني تُطبَّق على الحال التي قامت بها بريطانيا والولايات المتحدة بالاعتداء على العراق. ليس ذلك، وتفسيخ العراق، وتدمير العراق، وتجويع العراق، لأنه لم تجد هناك قُطبًا آخر يستطيع أن يوازن بين هذه الهيمنة الإمبريالية المُنْفَلِتة من عِقالها، ورويدًا رويدًا نرى هذا الأمر يتسارع في التصرّفات الأمريكية المنفلتة من عِقالها، إلى أن نصل الآن إلى قمّة هذا الانهيار، وهو وجود شخص مدان بـ34 تهمة وجريمة في الولايات المتحدة من قِبَل هيئة المُحلّفين في المحكمة في نيويورك، وهو يسيطر على العالم بكل هذه القُدرات اللامحدودة للولايات المتحدة. رجل مثل هذا موبوء، موبوء سياسيًا وثقافيًا وأخلاقيًا، حتى الآن قضية أبستين لم تُطوَ. هذا الرجل الآن يشعر أنه الحاكِم المُطلق في العالم، لا يستطيع أن يقترب من دول تستطيع أن تقطع يده إذا اقترب منها، إلا أن العالم أصبح مسرحًا له، يعيث فيه فسادًا، هو ويجد الآن ضالّته.
كمال خلف: نحن الآن أمام نموذج غزّة مثلًا. مؤسّسة الأنروا، الآن، مؤسّسة الأنروا في كل تاريخها، منذ تأسيسها بعد الـ48، إلى اليوم، لم تواجه هذا الكمّ من الهجمات والاحتقار والتطويق. موضوع المساعدات، الأمم المتحدة في غزّة ليس لها علاقة فيه على الإطلاق. لا يوجد مبعوث أممي لغزّة، لا توجد مؤسّسات أممية تتولّى موضوع غزّة. نأتي على نموذج سوريا، اختفى غير بيدرسون، الآن نحن أمام توماس باراك فقط. لا توجد أمم متحدة في الحال السورية والأزمة السورية.
أوكرانيا كذلك الأمر، في الهجوم على إيران كذلك الأمر، لا يوجد مبعوث لليمن، وكأن المبعوثين الأمميين أصبحوا عاطلين عن العمل، جالسين، والذين يتحرّكون هم مندوبون ساميون يتبعون للولايات المتحدة؟
أنيس قاسم: هذه إحدى المظاهر التي تُنبئ على أننا بصَدَد انهيار المنظومة العالمية التي قام العالم ببنائها بعد الحرب العالمية الثانية. الآن وُجِد ترامب، واحد مثله، شخص فارّ من وجه العدالة، إسمه نتنياهو، وجد ضالّته في نتنياهو. يُطلق يده في تدمير غزّة، شعبًا وأرضًا وبناءً ومؤسّسات، من دون أن يجد رادِعًا لذلك.
=حتى إن الدول العربية أصبحت دولًا أشبه بدول جمهوريات الموز في أمريكا الجنوبية، لا تستطيع دولة عربية أن تأتي بعلبة دواء لأهلنا في غزة.
هذا الانهيار يدلّل على أن المنظومة العالمية كاملة أصبحت الآن رهينة للإمبريالية الأمريكية، وبالتالي نحن ندخل...
كمال خلف: إذا كانوا يستخدمون المؤسّسات الدولية والأمم المتحدة، منذ نشأتها، تسييسها واستخدامها كأداة، والضغط على بعض الأطراف لتمرير بعض القوانين، "تنييم" بعض القوانين، خاصة القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن بخصوص القضية الفلسطينية، كلها دخلت إلى الأدراج. لكن، يستطيعون توظيف الأمم المتحدة. لماذا توقّفوا عن ذلك وأصبحوا أصلًا لا يرونها؟ إذا كانوا قادرين على تسييسها وتوظيفها، تحتاج لبعض الدبلوماسية والجهد والضغط على أطراف ودول من هنا وهناك، كانوا يفعلونها، لكن اليوم حتى هذا لا يفعلونها ولا يحتاجون إليه. لماذا؟
أنيس قاسم: بالضبط، هذا لأن الولايات المتحدة تدريجيًا أطلقت يدها، وجرّبت، وامتحنت النظام الدولي. مثلًا، في تحرير الكويت، اضطرّت الولايات المتحدة أن تأخذ قرارات بموجب الفصل السابع. حين وصلنا إلى 2003، وجدت الولايات المتحدة أنه لا يوجد أحد يردعها في الهجوم وتدمير العراق.
وبالتالي، لغاية الآن، الولايات المتحدة وبريطانيا تُفلِتان من العِقاب، لأنه لا توجد =مؤسّسات لملاحقتهما، ولا توجد مؤسّسات لمعاقبتهما، وبالتالي لا يوجد هناك الآن رادع لهذه الإمبريالية الأمريكية المتوحّشة. متوحّشة بكل معنى الكلمة، لدرجة أنها شأنها شأن إسرائيل.
إسرائيل الآن تقتبس نفس السلوك، وهي جزء معبّر عن هذا الانهيار. أن قُضاة محكمة دولية يتعرّضون للتهديد والابتزاز والحصار، إلخ...
هذه أكبر إهانة، وأكبر تدليل على انهيار المجتمع الدولي. السيّدة فرانشيسكا ألبانيزي، التي هي أستاذة قانون دولي، وأستاذة حقوق إنسان، وشخصية قانونية مهمّة، وتتمتّع بمصداقيةٍ وبجُرأةٍ وباحترامٍ دولي، تواجه هذه الهجمة من إسرائيل ومن الولايات المتحدة.
كمال خلف: صحيح، أصبحت إرهابية. فرانشيسكا ألبانيزي، وتوصيفها إرهابية ومُعادية للسامية، وأصبحوا يريدون مُلاحقتها، مُنسّقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية.
أنيس قاسم: نحن الآن لدينا مؤشّرات...
كمال خلف: دكتور، اسمح لي أن أنتقل إلى الدائرة الثانية، فيها أيضًا أسئلة عن الدوافع، وعنوانها: تفكيك الشرعية: مشروع أم انهيار؟
أيضًا، حول هذا السؤال، سنعرض تقريرًا، سنرى من خلاله إذا كان هذا الذي يحصل طبيعيًّا أم مُتَعَمّدًا، وسنأخذ رأي ضيفنا أيضًا بما يرد في التقرير. نتابع.
تقرير:
تفكيك الشرعية: مشروع أم انهيار؟
سؤال مصيري يفرض نفسه بقوّة في لحظةٍ تاريخيةٍ تتهاوى فيها أركان النظام الدولي الذي تأسّس على قواعد القانون والشرعية، بعد أن أرادت البشرية أن تضع حدًّا لفوضى الحروب المُدمِّرة.
=فهل نحن أمام عجز بائِن، أم خطة مُدبَّرة نُسِجَت خيوطها بدقّة في غُرَف القرار السياسي العميق، بحيث تتحوّل المؤسّسات الأممية من صروحٍ حامية للحقوق، إلى أدواتٍ مُخْتَرَقة وموجَّهة لخدمة مصالح القوى العظمى ولوبيات السلاح والإعلام؟
في قلب هذه المنظومة تتجلّى ازدواجية المعايير كأبرز مظاهر تفكيك الشرعية، إذ لا يُعدّ الاعتداء على دولةٍ ذات سيادة خسارة للقانون الدولي، في حين تُعلَن حال الطوارئ وتُفرَض العقوبات القُصوى على أخرى ضعيفة أو معزولة.
هنا تتآمر الإرادات السياسية على تفريغ القانون الدولي من مضمونه، فتتحوّل الشرعية التي كانت تعبيرًا عن وحدة القِيَم والأخلاق، إلى مجرّد أداة سياسية انتقائية، لا تتبايَن في مآلاتها عن شريعة الغاب التي تحكمها قوانين القوّة والبلطجة.
تعمل الولايات المتحدة بالتوافق مع إسرائيل ولوبيات السلاح والإعلام على تعطيل عمل المبعوثين الدوليين، وتحويل التمويل الدولي إلى أداة ابتزاز وتوجيه، وممارسة ضغوط مُمَنْهَجة لإسكات المحاكم الدولية وتغييبها عن محاسبة المُرتكبين الحقيقيين للجرائم البشعة.
هنا، يصبح التجويع مشروعًا، ويصبح التهجير جزءًا من الحلول، والقتل يصبح مُبرّرًا، مهما بلغت الأرقام ومستوى بُرَك الدم.
مواطن من غزّة: نحن ركضنا كما ركض الناس، ودخلنا، وبدلًا من أن يعطونا الأمريكان مساعدات، رشّوا علينا فُلفُل، وصار وجهي أحمر، وأمسكوني وضربوني، وهم لا يأتون لنا بمساعدات، تُذلّونا علشان كابونا. لماذا؟
إنها هندسة فراغ ممنهجة، تُفْقِد المؤسّسات الدولية استقلاليتها، وتحوّلها إلى آلات صمّاء تردّد صدى رغبات أسيادها، مُفْرَغة من كل قيمة جوهرية أو مبدأ ناظِم.
=في هذا السياق يتحوّل الحديث عن الشرعية الدولية إلى مجرّد طَيْف يتلاشى أمام تحالفات المصالح العابرة للحدود، حيث تُكْسَر الأعراف، ويُعاد تشكيل النظام العالمي على مقاس قوى الهيمنة الجديدة، في مسار تصادُم عميق بين منظومة القِيَم القديمة التي تتداعى، وأخرى ناشئة تحكمها قواعد القوّة والإكراه.
هكذا لا يمكن عدّ ما نشهده من تفكيك للشرعية مجرّد عجز عابِر، بل هو مشروع مُخطَّط له بعناية، يُعْلَن صراحة نهاية عهد الدولة والقانون، وبدء عصر جديد تتغلّب فيه المصالح الضيّقة على القواعد العالمية، ويُفُتَح باب الفوضى التي تُنْذِر بإعادة رَسْم خريطة العالم في ظلّ غياب أيّ إطار قانوني أو أخلاقي.
=وفي ظلّ هذا الواقع يبرز سؤال محوري: كيف يمكن للعالم أن يواجه هذا التفكّك، وأن يستعيد الشرعية التي تمّ اختطافها؟ وهل يكمن الحلّ في إعادة بناء النظام الدولي من أساسه، أم أن مستقبل العلاقات الدولية يحمل في طيّاته مزيدًا من التفكّك والصراعات بلا حدود أو قيود؟
كمال خلف: دكتور أنيس قاسم، التقرير طرح سؤالًا عن العجز أم التعمّد. هل ما نشهده بسبب العجز، أم تفكيك مُتعمَّد؟ وإذا كان مُتعمّدًا، فبأيّ هدف؟ لماذا؟ للانتقال نحو ماذا؟
أنيس قاسم: التفكيك في ظنّي، والدلائل تؤيّد ذلك إلى حدٍ بعيد، أن التفكيك هو تفكيك مقصود ومُبَرْمَج، لأنه إذا أخذنا إحدى التصريحات الأولى لترامب حين تولّى السلطة في الولايات المتحدة، رأسًا أعلن أنه سيضمّ كندا كالولاية الـ51، وسيطالب السويد بالتنازل عن غرينلاند، جزيرة غرينلاند، ويطالب المكسيك وتلك الدول وبعض الدول هنا وهناك، يطالبها وكأنه السيّد الآمِر والسيّد المُطلق، وليس هناك دول ذات سيادة أو دول لها قيمة في ذِهنه.
كمال خلف: وهذا ما قام به مبعوثه، دكتور أنيس، توماس باراك، عندما تحدّث عن ضمّ لبنان إلى بلاد الشام، عودة لبنان إلى بلاد الشام، وتحدّث عن خرائط سايكس ـ بيكو؟
أنيس قاسم: صحيح، بالضبط. والاحتلال الإسرائيلي لسوريا، دولة ذات سيادة، إلخ... ولا كلمة صدرت عن الإدارة الأمريكية في ذلك بالمقابل. أو تأييدًا لخطة ترامب، نلحظ ما كان يُبَرْمِج له نتنياهو.
نتنياهو صورة مُصغّرة عن ترامب، نتنياهو له تصريحات سنوات 2011 و2012 و2013 و2014، واجتمع مع مجموعة من المحامين الإسرائيليين، طالبهم بإعادة صياغة مبادئ القانون الدولي لتلائم مصالحنا.
=هذه الجُرأة على إعادة الصياغة تُنبئ أنه مع مَن يتعاون. في قانون في إسرائيل صدر إسمه "قانون المُسلّحين غير المُقاتلين"، هذا القانون عديم الشرعية، لا أساس له في القانون الدولي، وهو القانون الذي جِيء به بعد اعتقال الحاج الديراني، وهو من قادة حزب الله وقتها.
هذا القانون، بدلًا من أن أمريكا تنتقده، والمؤسّسات القانونية في العالم تنتقده، أصبحت أمريكا تتبنّى نفس القانون، وهو غير قانوني وغير شرعي.
نتنياهو يقول: كيف يُقال عني إنني مستوطن في بلاد هي لي؟ هو يعتبر "يهودا والسامرة" هي أرضه، هو لم يعد يعتبر نفسه مُحتلًّا، هو جاء يقول: أنا جئت إلى بيتي.
هذا الموجود، هذه القِيَم الجديدة التي تُفرض على المنظومة الدولية، من دون اعتبار لأية آراء استقرّ عليها المجتمع الدولي منذ الحرب العالمية الثانية، تُنبئ أن عملية التفكيك عملية مخطّط لها ومُبَرْمَجة، وبتدبيرٍ وبتواطؤٍ أمريكي إسرائيلي. إسرائيل تقوم بذلك.
كمال خلف: إلى أيّ هدف تُجرى الآن عملية تفكيك الشرعية الدولية، القانون الدولي، مؤسّسات الأمم المتحدة، تهميشها وضربها؟ لأجل الوصول إلى نظامٍ تتفرد فيه الولايات المتحدة، أم إلى شيءٍ بلا ضوابط؟ إلى فوضى؟
أنيس قاسم: لا، حتى تُهيمن الولايات المتحدة والشركات الأمريكية.
يجب أن نستعيد الحملة الصارِخة القذرِة التي شُنّت على فرانشيسكا ألبانيزي، بسبب أنها فضحت تواطؤ الشركات الكبرى في الولايات المتحدة، من لوكهيد إلى مايكروسوفت إلى إنتل، إلخ... جميعها تمتصّ وتسري.
70 بليون دولار في شهر واحد جنتها هذه الشركات من دماء أهلنا في غزّة.
70 بليون، وهذا الذي أثار حفيظة الإمبريالية الأمريكية، ولاسيما الإسرائيلية الأمريكية، على فرانشيسكا ألبانيزي، لأنها فضحت أن الدم الفلسطيني أصبح مصدر ثراء لهذه الشركات العالمية.
وهذه شركات عالمية، وليست شركات صغيرة أو قليلة الحجم، وثمّة حوالى 60 شركة ذكرتها ألبانيزي في تقريرها.
كمال خلف: صحيح.
أنيس قاسم: وبالتالي، نحن نشهد، وهذا التقرير يؤشّر إلى أننا سوف ننتهي بعد عدّة سنوات إلى عملية فوضى عارمة في العالم، باستثناء الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية على المنطقة.
ترامب ذهب إلى العالم العربي، إلى الجزيرة العربية، وكأنه ذاهب إلى مقر =صرّاف آلي. هو ذاهب إلى صراف آلي، معك كرت، وضعه في الـATM ماشين، وسحب 4 تريليون دولار. لذلك، هو في ذهنه، هذه الدول لا شعوب لها، ولا قيادات لها، هي عبارة عن ماكينات صرّاف آلي.
كمال خلف: هذه النظرة الأمريكية، دكتور. نقطة أخيرة قبل أن أذهب إلى فاصل: ما نراه حاليًّا، وهذا أصبح مكشوفًا وواضحًا، أنه ضَرْب وتهميش وتشويه لكل مؤسّسات الأمم المتحدة، رغم انتقاداتنا عليها، وعدم فعّاليتها، بنسبة، أقلّه على قضيّتنا فلسطين،
لكن تهميش محكمة العدل الدولية، واتّهامها، واتّهام قُضاتها، ومحكمة الجنايات الدولية، والمُنسّقة الأممية للشؤون الإنسانية... هل نحن ننعى، دكتور، بشكل واضح وللرأي العام، شيئًا إسمه القانون الدولي؟ لم يعد هناك قانون دولي موجود الآن؟
أنيس قاسم: القانون الدولي يظلّ قائمًا، لأن هذا إنتاج بشري عبر قرون.
نحن لم نشهد القانون الدولي الآن، إنما ما نلحظه هو تفكيك المؤسّسات التي تحرص على تطوير وتطبيق والإفادة حول هذا القانون الدولي.
تهديد الإدارة الأمريكية والإسرائيلية للمحكمة الجنائية الدولية، هذا مقصود فيه، لأن هذه تطاولت على نتنياهو والمؤسّسات العسكرية الإسرائيلية.
وأنا بظّني أن كريم خان ربما يصدر =مذكّرات جَلْب لمجرمين آخرين في المؤسّسة العسكرية الإسرائيلية.
لكن الولايات المتحدة، فيها قانون تشريع شَرّعه الكونغرس، إنه إذا طالبت المحكمة الجنائية الدولية بتحريك أية دعوى ضدّ أيّ متّهم من الضباط الأمريكيين الذين عاثوا فسادًا في يوغوسلافيا أو العراق، سوف يتمّ احتلال لاهاي.
بهذه الصيغة، القانون هدّد باحتلال لاهاي، وهي مقرّ المحكمة الجنائية الدولية. هذه العنجهيّة، وهذا الاستكبار، وصل إلى المشرّعين في الولايات المتحدة الأمريكية.
كمال خلف: دكتور، إسمح لي أن أتوقف مع فاصل قصير، بعده إلى الدائرة الثالثة والأخيرة في حلقتنا. فاصل ونعود.
كمال خلف: تحيّة من جديد مشاهدينا في دوائر القرار، سقوط الشرعية الدولية من غزّة إلى أوكرانيا، مَن يضْبط الجريمة؟
أعود وأرحّب بالدكتور أنيس قاسم، الخبير القانون الدولي ومن مؤسّسي الهيئة الفلسطينية المستقلّة لحقوق المواطن.
مشاهدينا، وصلنا إلى الدائرة الثالثة، الدائرة التي سنطرح فيها ما هو قادم، ما هو الحلّ؟ عنوانها: الفراغ الدولي، فوضى أم لحظة ولادة جديدة.
سنتابع كذلك هذا التقرير الذي يتحدّث عن إمكانية وجود بدائل في ظلّ الوضع القائم. نتابع.
تقرير:
حين تنهار قواعد اللعبة القديمة، لا تعود =الفوضى مجرّد خطر، بل قد تصبح فرصة. نحن نعيش في زمن الفراغ، فراغ يتمدّد في قاعات الأمم المتحدة التي صارت شاهد زور، فراغ يطغى على مجلس الأمن مع انعدام الأمن.
فراغ في الردع، في المحاسبة، في النظام العالمي نفسه. فهل هذه نهايتنا؟ أم إنها البداية؟
في الشرق الأوسط، لا تعني نهاية الشرعية سوى إعادة رَسْم موازين القوى بقوانين الدمار والدم والعَبَث بالخرائط من دون أيّ رادع أخلاقي أو ضوابط سياسية، حيث تتراجع الدولة، ويصعد السلاح، وتتهاوى الوساطات والحوار أمام لغة الغارات والحِصار وتوظيف الإرهاب.
لكن في المقابل، يولّد هذا الفراغ أسئلة جديدة: هل تملأ تجمّعات مثل "البريكس" أو "شانغهاي" هذا الفراغ؟ هل تنهض تحالفات الجنوب العالمي جسدًا واحدًا في مواجهة الهيمنة السافِرة؟ هل تملك المحاكم الشعبية والعدالة الرمزية ما يكفي لتُعيد للحقّ مكانته، ولو خارج جدران لاهاي؟
وماذا عن فلسطين؟ هل تظلّ قضية خارج القانون أم تصبح هي قلب القانون الجديد؟ هل نواصل الرهان على أممٍ متحدةٍ منزوعة الإرادة أم نعيد بناء منظومة ردع وعدالة خارج أسوار البيت الأبيض؟
إن العالم الآن أمام مُفْتَرق طرق، إما أن =يغرق أكثر في العدميّة والأنانية والتفرّد بمصائر الشعوب، أو أن يبدأ ولادة مؤلِمة لنظامٍ جديدٍ أكثر عدالة ومشاركة واحترامًا للبشر.
من رَحْم هذا الفراغ، قد تولَد معادلة جديدة، تنتزع الشرعية من أروقة مُهْتَرِئة وتكتبها بلغة الواقع، لا بلغة التبعية.
كمال خلف: دكتور أنيس، عدّة أسئلة في هذا المحور، في هذه الدائرة. السؤال الأول: أين الآخرون؟
تحدّثت حضرتك في الدائرتين الأولى والثانية عن التفرّد الأمريكي، إسرائيل فوق القانون الدولي، تفكّك النظام الدولي من أجل الهيمنة والسيطرة، رجال المال والأعمال الذين ينظرون إلى كثيرٍ من مناطق العالم، هنا منطقتنا، إلى مناطق فارِغة أو صرّافات آلية أو محطّات بنزين على الماء، كما كان يقول محمد حسنين هيكل رحمه الله. لكن الآخرون؟ هناك شركاء في النظام الدولي، لديك أقطاب دولية موجودة حاليًّا، وهي أقطاب توصَف بالصاعِدة ولها أوزان. هل هي واقفة تتفرّج؟ ولماذا؟
أنيس قاسم: في الواقع، شكرًا على هذا السؤال الهام جدًّا، وذلك استجداءً لبصيص أمل لمستقبل هذا العالم، ولهذه المنطقة بالتحديد.
أعتقد أن هناك تجمّعًا بدأ ينشأ لموازاة القُطب الأمريكي، وهو ما يُسمّى بـ"البريكس"، وهي مجموعة الدول التي تضمّ روسيا، والصين، والبرازيل، والهند، وبعض الدول الأخرى. هذا التكتّل تكتّل هام جدًّا إذا انتقلوا به من مرحلة التفكير إلى مرحلة التنظيم لتشكيل قُطب يكون ندًّا لهذا الجبروت الأمريكي المتوحّش.
وهذا يحتاج إلى أمرين إثنين:
=أولًا: بناء قوّة عسكرية هائلة، وهم بصَدَد ذلك، وأعتقد أن القُدرات الموجودة في هذه الدول قُدرات هائلة.
ثانيًا: لا بدّ من التأثير على الدولار، ألا يظلّ هو العملة السائدة في العالم، يجب تقويض هيمنة الدولار على السوق العالمي. وأعتقد توجد هناك قُدرات هائلة في دول البريكس لكي تحدّ من هذا النفوذ الأمريكي. وإذا لم تحدّ من النفوذ، إذا تمّ لَجْم هذا التوحّش الأمريكي، سوف نشهد عالمًا أكثر انتظامًا وأكثر عقلانية مما نشاهده الآن.
كمال خلف: دكتور أنيس، من خلال خبرتك، أنت لست فقط خبير قانون دولي، أنت أيضًا شاهِد على العصر ومنخرط بشكل كبير حتى في المفاوضات السياسية والتحوّلات التي جرت في ما يخصّ القضية الفلسطينية.
هل ترى بشكلٍ مباشر الآن، ونحن نتحدّث للرأي العام العربي، بأن "البريكس" وتحالفات الجنوب يمكن أن تشكّل بديلًا فعليًّا للتوحّش ولنظام دولي يتداعى وغير فعّال، بشروطٍ تحدّثت عنها: الجيش أو القوى العسكرية، وموضوع الدولار، الاقتصاد؟
أنيس قاسم: أعتقد أن هذه الدول لديها الطاقات والإمكانيات لكي تنهض ببناء قُطب آخر مُناهِض، ويكون نقيضًا لهذا الوحش الأمريكي المُنفلت من عِقاله.
=لأن الصين الآن كدولةٍ صناعيةٍ، دولة صناعية الآن تُعتبر في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، وهي في طريقها للّحاق بأمريكا. يضاف لها الاتحاد السوفياتي بكل قُدراته العسكرية والعلمية.
تُضاف لذلك دولة مثل البرازيل والقيادة الجديدة في البرازيل، تُضاف أيضًا الهند.
لكن إيران الآن دولة صُلبة، وتقوم على منهج ثابت لم يهتزّ عبر 45 عامًا، وصمدت في حربٍ عدوانيةٍ قاسيةٍ ولم تهتزّ هذه الدولة.
هذا يُنبئ على أننا أمام دولة مهمّة، صُلبة، قادرة على النموّ، ولديها احتياط نفطي هام.
وبالتالي، هناك مقوّمات، خصوصًا إذا نظرنا إلى بعض الدول العربية مثلًا السعودية، إذا انضمّت، انضمام السعودية إلى "البريكس" سوف يؤثّر على الدولار تأثيرًا حاسِمًا.
وأعتقد أن هذه الدول تستطيع أن تشكّل هذا =القطب الثاني لِلَجْم هذه الهمجية الأمريكية.
كمال خلف: دكتور، كلام مهم للغاية عن لحظة ولادة قد تكون مُرتقبة، وكلام مهمّ من حضرتك كخبيرٍ في القانون الدولي.
لكن لحظة الولادة تسبقها - كما نعلم - تسعة أشهر، وخلال فترة الحَمْل، هي انتظار. نحن في الشهر الثاني؟ الثالث؟ الرابع؟ الله أعلم.
لكن دكتور، أنا قلت بأننا إذا كنا نُشخّص لحظة ولادة لنظامٍ عالمي جديد، فتسبق لحظة الولادة مرحلة الحَمْل، وهي مرحلة انتظار، كما تعلم.
في مرحلة الانتظار هذه، وفي ظلّ هذا التفكيك للنظام الدولي وغياب الشرعية الدولية، ما هي التأثيرات في منطقتنا؟ اليوم هناك إحساس لدى شعوب هذه المنطقة، أنه طالما لا يوجد قانون دولي، نحن ذاهبون إلى اقتتال، تغيير خرائط، سقوط أنظمة، توظيف إرهاب، تفتيت، وقيام عدّة دول في دولةٍ وطنيةٍ واحدةٍ، ربما الدولة الوطنية نفسها، مثلما قال توماس باراك: "سايكس بيكو خطأ" أي أنه يقول الدولة الوطنية هذه، المئة عام، تعالوا لنُغيّرها.
بالتالي، التأثيرات في هذه المرحلة، مرحلة ما قبل ولادة عالم جديد أو منظومة جديدة تضْبط العالم، ما هي المخاطر برأيك على منطقتنا هنا في ظلّ غياب القانون الدولي والشرعية القانونية؟
أنيس قاسم: أعتقد أنه لو لم تكن هناك غزّة، =لكان يجب أن نخترع غزّة، رغم الوجع والألم الذي نعيش فيه كل لحظة.
في اعتقادي، أنا، سيكون العالم العربي بعد غزّة غير العالم العربي قبل غزّة. ويجب أن نستذكر أن العالم العربي بعد العام 1948 هو غير العالم العربي قبل 48. هذه المأساة الكبرى، التي تولّد طاقات غير مسبوقة. لنا أن نتمعّن في الجيل الذي سيقاوِم في غزّة. هذا الجيل، جيل، كل النظريات العسكرية لا تُطبّق عليه ولا تنطبق عليه. هذا الجيل، لا يمكن أن ينهض من تحت الرماد ويظلّ هو الجيل الذي كان قبل غزّة. وسوف نشهد في العالم العربي أجيالًا أخرى تحاكي جيل مقاومي غزّة، التي سوف تفرض فرضًا قواعد جديدة من النظام ومن الحُكم والرشاد بالإدارات العربية قاطبة. هكذا أتوقّع، إنه كما حصل بعد حرب 48، سوف يحدث بعد غزّة.
كمال خلف: بالنسبة للمؤسّسات الدولية الراهنة، العاجزة، المُهمّشة، كما قلنا في بداية الحلقة، مبعوثون دوليون عاطلون عن =العمل، قانون دولي مُعطّل. هل يمكن أن تستعيد الأمم المتحدة ومؤسّساتها حضورها؟
ومسألة رَبْط كل ما يجري بترامب، هل هذا صحيح؟ أم أنه لا، الولايات المتحدة، شاهدنا ذلك في عهد بايدن، تمّ تهميش الأمم المتحدة والتغطية على الإبادة، رغم أن الديمقراطيين في أمريكا "شوي قليل" يحاولون مُراعاة بعض الأشياء، وليسوا بفجاجَة إدارة ترامب، لكن هل الموضوع مربوط بترامب؟ أم أنه لا، هناك اتجاه عام في الولايات المتحدة نحو التفرّد، وعدم الانصياع للقانون الدولي والنظام الدولي الذي يقودونه هم، المنظومة الغربية تقوده؟
أنيس قاسم: ما يجري في الولايات المتحدة، ترامب أحد حلقاته، لم يكن هو الحلقة الوحيدة.
منذ العام 1990 – 1991، بدأنا نشاهد في =الولايات المتحدة نموّ القطبية الأمريكية المتفرّدة، والتي بدأت تبني ذاتها منذ ذلك الحين. ولذلك بدأنا نشاهد ما يُسمّى بالمحافظين الجُدُد، وتذكر أن قضية المحافظين الجُدُد كانت مُرعبة في الولايات المتحدة لفترةٍ قصيرةٍ، ثم اختفت، وجاء ترامب أعاد إحياءها.
إنما قبل ترامب، بايدن كان أحد مظاهرها أيضًا، لأنه المقياس على ذلك ما جرى في أوكرانيا، وما جرى في غزّة. بايدن نفسه جاء إلى إسرائيل بُعيد حرب غزّة، بعد المجزرة، جاء بنفسه وحضر جلسة المجلس الوزاري الأمني الإسرائيلي، ولا يحضر ذلك إلا مَن كانوا من أهل الدار، فهو ووزير خارجيته ووزير دفاعه كانوا من روّاد جلسات المجلس الأمني الإسرائيلي، بمعنى أنهم من أهل الدار.
وما ترسمه إسرائيل يحتاج لموافقة أمريكا، وما تطلبه أمريكا ترسله لإسرائيل لتخطّط له، وهكذا. ولذلك هذا المسار لم يتوقّف منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، ولا سيما بعد تدمير العراق.
كمال خلف: شكرًا دكتور أنيس قاسم، الخبير في القانون الدولي، من مؤسّسي =الهيئة الفلسطينية المستقلّة لحقوق المواطن، كنت معنا مباشرة من الأردن، أشكرك جزيل الشكر على هذه المشاركة معنا، دكتور أنيس.