هل تُغيرّ العقوبات الأميركية سلوك أنظمة؟

لعلّ سيف العقوبات الذي تشهره الولايات المتحدة بوجه أعدائها، هو اليوم الأشدّ فتكاً بين أسلحة الحرب الناعمة. هل تحكم أميركا العالم بالعقوبات، هل تتحكّم بالدول، والشعوب، والكيانات، والأفراد، تبعاً لأهوائها ومصالحها الإستراتيجية؟ وهل تتجاوز بذلك الشرعية الدولية، ضاربة عرض الحائط بحقوق الإنسان التي تدّعي حمايتها؟ هل يحقّ للإمبراطورية وحدها أن تحدّد الأخيار على الكوكب، وتعاقب الأشرار، كالشريف في أفلام «رعاة البقر» القديمة؟ هل العقوبات جزءٌ من هيمنة الاستعمار الأميركي والغربي على العالم؟ ما شرعية تلك العقوبات، من منظور القانون الدولي، واتفاقيات جنيف؟ هل يمكن اعتبارها «جرائم ضدّ الإنسانية»؟ وأخيراً، ما المسارات القانونية الممكنة، في مواجهة العقوبات؟

نص الحلقة

 

بيار أبي صعب: مساء الخير. لعلّ سيف العقوبات الذي تشهره الولايات المتحدة بوجه أعدائها هو اليوم الأشدّ فتكاً بين أسلحة الحرب الناعمة. هل تحكم أميركا العالم بالعقوبات؟ هل تتحكَّم بالدول والشعوب والكيانات والأفراد تبعاً لأهوائها ومصالحها الاستراتيجية؟ وهل تتجاوز بذلك الشرعية الدولية ضارِبةً عرض الحائط بحقوق الإنسان التي تدَّعي حمايتها؟ هل يحقّ للإمبراطورية وحدها أن تُحدّد الأخيار على الكوكب وتُعاقِب الأشرار كال Sheriff  في أفلام رُعاة البقر القديمة؟ هل العقوبات جزءٌ من هيمنة الاستعمار الأميركي والغربي على العالم؟ ما شرعيّة تلك العقوبات من منظور القانون الدولي واتفاقيات جنيف؟ هل يمكن اعتبارها جرائم ضدّ الإنسانية؟ وأخيراً ما المسارات القانونية المُمكنة في مواجهة العقوبات؟

للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها معنا الليلة في الاستوديو الدكتور جمال واكيم أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية، ومن واشنطن معنا الدكتور زياد الحافظ الكاتب والباحث في الاقتصاد السياسي، ومن برلين الإعلامي والمُحلّل السياسي أكثم سليمان، أهلاً بكم جميعاً. دكتور جمال لنعود إلى البداية، ما هي فكرة العقوبة؟ كيف يمكن لأحد في العالم أن يُقرِّر مَن هو المُذنب ومُعاقبته؟ أو ما هو الفَرْق بين التدابير الانفرادية والعقوبات الجماعية التي تفرضها منظّمات مثل الأمم المتحدة؟

 

جمال واكيم: أولاً مساء الخير لك وللضيوف الكرام وللمستمعين والمشاهدين. في الأساس مسألة العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة هي استنسابية ولا تمرّ عبر قرارات تُمرَّر من الأمم المتحدة بل إن الولايات المتحدة تتّخذ قراراً ما إذا اقتضت الحاجة، وهي تبني على حاجة الآخرين للدولار من منطلق هيمنتها على التجارة الدولية من جهةٍ وعلى السوق المالي العالمي أو الفضاء المالي العالمي من جهةٍ أخرى، وهذا انطلق من عدّة مسائل، أولاً في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مع انطلاقة الرأسمالية المالية وسيطرتها على الرأسمال الصناعي والزراعي، ثانياً انطلاق ما يُسمّى Federal reserve system ومنه Federal reserve bank في الولايات المتحدة وهو هيئة =مستقلّة في أدائها والتي شكّلت مُرتكزاً لانطلاقة الرأسمالية المالية. ثالثاً انطلاقة الولايات المتحدة لتصبح القوّة المُهيمنة عالمياً وهذه الهيمنة لم تكن على شكل الهيمنة الاستعمارية بمعنى إرسال الجيوش والاحتلال المباشر بل كانت عبر الهيمنة الاقتصادية.

 

بيار أبي صعب: سنتحدّث بالتفصيل عن هذا الأمر ولكن ما يهمّني معرفته أن الأمر ليس محصوراً بالولايات المتحدة، يمكن لفرنسا أن تفرض العقوبات أو روسيا ولكن فكرة الانفراد بالعقوبات، العقوبات الأحادية الجانب بالمُقارنة مع العقوبات الجماعية التي تفرضها منظّمات أممية، ما هو الفرق؟

 

جمال واكيم: الفارِق أنه من المُفترض أنّ ما يصدر عن الأمم المتحدة يكون صادراً عن مجلس الأمن رغم التشوّه البنيوي ببنية المنظّمة الدولية ولكن يبقى هنالك مفهوم الشرعية، ينطلق هذا من حجّة أن دولة اعتدت على أخرى أو خالفت قانون الدولة أو ارتكبت جرائم حرب. الدول في ما بينها في العلاقات الثنائية تستنسب أحياناً بأن تضع عقوبات على دولٍ أخرى، مثلاً يمكن لفرنسا أن تضع عقوبات على الصادرات الألمانية. 

 

بيار أبي صعب: ولكن ليس على أطرافٍ ثالثة.

جمال واكيم: بالنسبة للولايات المتحدة لماذا عقوباتها مؤْذِية؟ بحُكم سيطرتها على الفضاء المالي العالمي وعلى التجارة الدولية، فبالتالي يصبح أيّ طرف آخر تحت رحمتها. مثلاً ما حدث عند الانسحاب الأحادي الجانب للولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران في العام 2018، كانت شركات أوروبية قد بدأت الاستثمار في إيران، فصدر قرار عن أنجيلا ميركل وماكرون بأنهما لن يلتزما بالعقوبات. في القرار السياسي هما لم يلتزما بالعقوبات لكن الشركات الفرنسية والألمانية اضطرّت بأن تلتزم لأنه لو لم تلتزم لكانت حُرِمَت من الدخول إلى السوق الأميركي أو لكانت قد حُرِمَت من الوصول إلى السوق الدولي. 

 

بيار أبي صعب: دكتور زياد الحافظ أنت في واشنطن في قلب عاصمة القرار، ماذا يعني أن تقرّر دولة مهما عَظُم شأنها معاقبة دول أخرى وكيانات وأفراداً خارج نطاق صلاحياتها وسيادتها الوطنية؟ هل هي حرب في النهاية تخوضها الدولة المُعاقِبة على خصومها بوسائل أخرى غير العُنف العسكري؟ حرب اقتصادية بالدرجة الأولى.

 

زياد الحافظ: في البداية تحيّة لك ولضيوفك الكرام ولمشاهدي الميادين، لديّ نوع من التحفّظ على تصنيفك بأنها عاصمة القرار، ربّما كان ذلك صحيحاً في الماضي، اليوم لم تعد كذلك، ولهذا السبب نرى الجنون في الإدارات الأميركية المُتتالية، ترامب ثم بايدن ثم ترامب وقبل ذلك أوباما، لفُقدان هذه السيطرة على مُقدّرات العالم أو التأثير على قرارات العالم. اليوم العالم يختلف كلياً عمّا كان عليه حتى عشيّة سقوط الاتحاد السوفياتي، في فترة التسعينات ففترة اعتبرت الولايات المتحدة أن الساحة مفتوحة لها وتستطيع أن تقوم وتعمل ما تريد من دون رادع. لا ننسى أنها في العام 2000 احتلّت العراق من دون موافقة مجلس الأمن وقامت بتحالف الدول الراغبين. القانون الدولي لم يعد مهمّاً أو =رادِعاً للقرارات السياسية، هذا النوع من التفوّق أو الشعور بالتفوّق دفع الولايات المتحدة لاتّخاذ قرارات لمُعاقبة كل مَن يخالفها في السياسة. الخلاف السياسي يكون نسبياً وحسب الظرف ولكن بالنسبة للولايات المتحدة هي لا تقبل أيّ اعتراض على قراراتها بغضّ النظر عمّا إذا كانت قانونية أو غير قانونية، وفي معظم الحالات قراراتها بالنسبة لدول العالم غير قانونية وتفتقر إلى أية شرعية ممكنة. إذاً الموضوع هو موضوع ميزان قوّة، عندما كانت الولايات المتحدة تعتقد بأن ميزان القوّة لصالحها كانت تقوم بما تريد وكما تشاء، أما اليوم فاختلف الوضع، الولايات المتحدة لم تعد بتلك القوّة لا الاقتصادية ولا السياسية ولا حتى العسكرية، التجارب التي حصلت مؤخّراً في أوكرانيا أو في البحر الأحمر وقبل ذلك بفترةٍ قصيرةٍ في أفغانستان والعراق تدلّ على أن القُدرة العسكرية الأميركية لم تعد تلك التي تستطيع أن تعتمد عليها لفرض إرادتها. اعتقدت أن المشهد الاقتصادي وخاصةً سيطرتها على شرايين المال في العالم ودور الدولار في التداول التجاري وكعملةٍ أساسيةٍ في الاحتياط النقدي لهذه الدول، تمكّنت الولايات المتحدة من تمويل كل حروبها عبر الطباعة من دون أية مساءلة أو محاسبة. أما اليوم فالوضع يختلف كلياً، دَيْنها العام وصل إلى 37 تريليون دولار بينما الناتج الداخلي لا يتجاوز الخمسة وعشرين تريليون دولار، هذا إذا ما كانت هذه التقديرات صحيحة وبتقديري أنها أقلّ. كذلك نأخذ بعين الاعتبار الدَيْن الداخلي وليس الدَيْن العام بمعنى أن القطاع الخاص والأفراد والأُسَر عليها ديون، إجمالي الدَيْن للقطاع الخاص وللأُسَر حوالى أربعين تريليون دولار أي أن إجمالي الدَيْن على كاهل الولايات المتحدة كدولةٍ وكحكومةٍ وكأفرادٍ المجتمع يفوق السبعين تريليون دولار بينما إمكانية التسديد غير ممكنة، وبالتالي ردّة الفعل في دول العالم هي رفض هذا الواقع، فقامت تجمّعات اقتصادية في البداية للتنسيق والتعاون مثل مجموعة بريكس وبعض التجمّعات الأمنية كمنظّمة شنغهاي أو منظّمة التعاون الأمني، واليوم أصبحت هذه المجموعة مُتكامِلة وتشكّل ثقلاً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً أقوى بكثير من الثقل الاقتصادي والعسكري والسياسي الذي كانت تتمتّع به الولايات المتحدة وحتى دول أوروبا الغربية. إذاً ميزان القوى على الصعيد الاستراتيجي انتقل من هذه المنظومة الغربية وخاصةً الولايات المتحدة إلى عالم الجنوب الإجمالي وإنْ كانت المرحلة الحالية بقيادة روسيا والصين ومجموعة البريكس. ونرى اليوم اندفاعاً الدول للانضمام إلى مجموعة بريكس كأعضاء كاملين أو حتى كشركاء، هذا يدلّ على أن هناك ابتعاداً عن كافة المنظومات التي تتحكّم بها الولايات المتحدة والدول الغربية. اليوم أصبح هناك بديل كمنظّمات سياسية واقتصادية للتعامُل غير الدول الأوروبية وأميركا.

 

بيار أبي صعب: سنعود إلى هذه النقطة بعد قليل، ننتقل إلى برلين لنسأل الأستاذ أكثم سليمان، مَن يعطي لدولةٍ مثل الولايات المتحدة أو سواها لكنه نَهْج ثابت في السياسة الخارجية الأميركية ومُتصاعِد منذ التسعينات رغم ما قاله الأستاذ زياد الحافظ، مَن يُخوّل دولة ما أن تفرض هذا الخيار أو ذلك السلوك أو تلك السياسة على كيانٍ مستقلّ، على طرفٍ خارجي لا يخضع لسلطتها؟

 

أكثم سليمان: كل التحيّة أستاذي لك وللضيوف الكرام والسادة المشاهدين. لا أحد يُخوّل ولا قانون في العالم يسمح بمثل هذا الأمر، ولكن هذا الأمر يحدث بشكلٍ مُتواتِر وخطير عشناه في منطقتنا، ذكرتم الحال الإيرانية في مكانٍ ما من النقاش. هناك الحال الأكثر نجاعةً من وجهة النظر الأميركية وهي الحال السورية، عندما توصّل شعب كامل إلى الرقص على رأسه جوعاً أو همّاً أو كما يُقال من كثرة هموم المستقبل وتراجُع العملة والسعي كل يوم من أجل الحياة فتفعل به بعد ذلك ما تشاء وتذهب به إلى حيث تشاء وهو يتبعك مُغمّض العينين. هناك نماذج ناجحة يجب الوقوف عندها ومنها النموذج الروسي تحديداً في الحرب مع أوكرانيا، أيضاً حاولت أميركا فرض عقوبات كثيرة عليه لكنه استطاع التعامل معها. القضية ليست قانونية وما من قانون يسمح لواشنطن أو غيرها بفعل هذا الأمر، وهي قضية غير أخلاقية، مَن يُعاقِب مَن ولماذا، واشنطن هي التي يجب أن تُعاقَب على أمورٍ كثيرة في المنطقة لكن القضية عملية كما قال بيل كلينتون عندم سُئِل لماذا فعل ما فعله في مكتبه في البيت الأبيض مع لوينسكي المُتدرّبة العملية قال لأنني أستطيع فعل ذلك، عنجهيّة القوّة. واشنطن تستطيع فعل ذلك مع دول كسوريا وليبيا وإيران في فترةٍ ما لكنها غير قادرة على فعل ذلك مع دول كروسيا والصين لأن هذه الدول تستطيع العيش على السوق الداخلية والموارد الداخلية والمواد الخام الأساسية الداخلية، لن تقف سيارة الروسي، لن يمتنع الفرّان عن بيعه الخبز لأن لديه القمح، لن يمتنع أحد عن تسليمه السَماد لأنه سيقوم بذلك بنفسه. أما الدول المُعتمدة على غيرها بشكلٍ كبير فإن العقوبات تُمْسِك بخوانيقها، وإذا كان المُمْسك هو "أزعر الحارة" الذي هو واشنطن فليكن الله في عَوْن الجميع.

 

بيار أبي صعب: منطق الاستقواء بشكلٍ =عام بدءاً بالعقوبات المُستمرّة على كوبا منذ العام 1960 وانتهاءً بالعقوبات على إيران المتواصٍلة تصاعُدياً منذ 46 عاماً، ومن قانون ماغنيتسكي المُفصّل على قياس روسيا إلى قانون قيصر الذي ابتُكِر خصّيصاً لسوريا مروراً بقانون مُكافحة أعداء الولايات المتحدة تبدو العقوبات وسيلةً فتّاكة في حرب الهيمنة الأميركية على العالم، استعادة سريعة لبعض أهمّ المحطات.

 دكتور جمال واكيم أليس غريباً بأن يسمح العالم لأميركا بأن تلعب دور ال Sheriff على الساحة الدولية وتفرض العدالة في الوقت الذي تخدم فيه مصالحها الاستعمارية وتوسّع دائرة نفوذها وتدافع عن أمنها القومي؟ الأمر يبدو بديهيّاً ونحن نقبله ولكن هناك أمر غريب.

 

جمال واكيم: القضية أقلّه حتى وقتٍ قريب هي عدم قُدرة الدول التي تريد التملّص من الهيمنة الأميركية على المواجهة لأن هناك نمط حديث من الهيمنة في التاريخ لا يتمّ عبر التواجُد العسكري أو عبر قواعد، طبعاً هي مُنتشرة بقواعد حول العالم ولكن ليس هذا هو الأساس بالهيمنة، الهيمنة مُرتبطة بالدرجة الأولى الهيمنة المالية وهذا يدفعها لأن تموّل هيمنتها، هذه الهيمنة انطلقت بعد الحرب العالمية الثانية، قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية كانت الولايات المتحدة قد رسَّخت أُسُس هيمنتها عبر رَبْط اقتصاد الدول التي تسمّيها بالعالم الحرّ بها عبر بريتون وودز، حينها تحفّظ الاتحاد السوفياتي على توقيع هذه الاتفاقات واكتمل الأمر بمشروع مارشال الذي ربط كل أوروبا بمركز القرار في نيويورك. خلال الحرب الباردة كان الاتحاد السوفياتي يطرح منظومة اقتصادية بديلة وكان هناك نظام تكامُل اقتصادي بين دول المنظومة الشيوعية أو الدول التي تتعاون مع هذه المنظومة، كوبا مثلاً كانت مُتخصّصة بإنتاج السكر وتورّده بشكلٍ كاملٍ إلى منظومة الدول الاشتراكية وتأخذ مقابل ذلك حاجتها من اللحوم. انهيار الاتحاد السوفياتي هو الذي أتاح للولايات المتحدة أن توسّع دائرة هيمنتها المالية على العالم. 

 

بيار أبي صعب: دكتور زياد الحافظ ضحايا العقوبات غالباً هم الشعوب والمجتمعات المحليّة التي يُحْكَم عليها الخِناق إلى منع اللقاحات عن سوريا واليمن مثلاً خلال جائحة الكورونا، لكن ما هي عواقب هذه الحرب الأميركية الناعمة على الاقتصاد العالمي؟ مثلاً الأطراف الثالثة من حكومات وشركات كبرى، تلك التي تتوقّف مشاريعها واستثماراتها وتُغْلَق بوجهها الأسواق، ما الذي منع هذه الأطراف حتى الآن من التحرّك للدفاع عن مصالحها وحقوقها؟

زياد الحافظ: أعتقد أن الدول المُسْتَهْدفة تشكّل أصواتاً كبيرة للشركات والدول الأخرى التي تتعامل معها، وبالتالي تُرِكَت هذه الدول لمصيرها، ما هي الدول التي كانت تستفيد من سوريا مثلاً؟ قليلة جدأً ولا تشكّل في المعادلة الاستراتيجية ثقلاً ولكنه لا يعطي السبب لمواجهة قوية ضدّ الأطماع والمواقف الأميركية. أنا أتّفق معك بأن الشعوب هي التي تدفع الثمن ولكن لا النُخَب الحاكِمة في هذه =الدول تدفع الثمن ولا الشركات والمصالح الأخرى التي قد تضرَّرت من هذه العقوبات تكترث كثيراً لخسارة ذلك السوق، هناك الكثير من البدائل والدول التي اسْتُهْدفت بهذا الشكل القاسي عددها قليل، ولكن نحن نرى اليوم في هذه الإدارة الجديدة إعلان الحرب على العالم بأكمله عبر فرض العقوبات والتعرِفات لتصحيح موازين التجارة التي لم تكن لصالح الولايات المتحدة. في هذه الحال نرى تكاتُفاً لجميع الدول المُسْتَهْدَفة لمواجهة هذا الموضوع. بعض الدول لديها القُدرات الاقتصادية الذاتية التي تسمح لها بالمواجهة كالصين، الصين عندما ووجِهت بالعقوبات قرّرت وقف تصدير المعادن النادرة التي تعطّل الصناعة الأميركية أو ما تبقّى منها وخاصةً الصناعات التسليحية العسكرية. اليوم الصناعات العسكرية في الولايات المتحدة تتراوح حاجيّاتها بين 40 و60% من الصين فكيف لها أن تقوم بإنتاج عسكري وهي على عداء مع الصين. وبالتالي استطاعت الصين أن تفرض على الإدارة الأميركية إعادة النظر في تلك العقوبات. في نهاية المطاف الموضوع هو موضوع موازين قوى، فرداً فرداً قد لا تستطيع الدول المُسْتَهْدَفة بالعقوبات ولكن إذا تجمّعت فهذا ما يمكن أن يحصل وهذا ربّما هو الخطر المُحْدِق بالولايات المتحدة، التجمُّعات التي نراها في مجموعة البريكس وشنغهاي إلى آخره، هذا هو الطريق الوحيد للمواجهة.

 

بيار أبي صعب: أستاذ أكثم سليمان تدّعي الولايات المتحدة أنها تفرض العقوبات باسم أهداف أو مبادئ يُفْتَرض أنها تخصّ العالم أجمع كحقوق الإنسان أو النووي أو الفساد أو الديمقراطية، أليست هذه مسؤولية الأمم المتحدة؟ 

 

أكثم سليمان: يا سيّدي الكريم عندما تخرج من الاستوديو ولو أنها بعيدة عنك أستاذ تيّار اِبحث عن أيّ أحد في الشارع، اِعتبر أنه بلطجي وقُمْ بحماية مدينة بيروت منه بلكمه على وجهه وسترى أن أحداً لن يستمع إلى مثل هذه الحِجَج وإنما تكون المُعتدي أنت. تصوّراتنا عن العالم الخارج وأين هي الأخطار وماذا يجب فعله هذه ناحية، القوانين التي تحكم سلوكنا وتصرّفاتنا في ما يتعلّق بهذه الأخطار وغيرها،. هذه هي النقطة الثانية أو النقطة الأهمّ بمعنى أن الولايات المتحدة الأميركية من حقّها أن ترى في إيران خطراً، هذه قضية فلسفية، هناك مصالح أميركية تهدّدها إيران لكن أن تقوم بلَكْم إيران في وجهها لمُجرّد أنك تعتقد أنها تشكّل خطراً فهذه هي القفزة الأميركية، تحويل عملية البلطجة لتصبح عملية حماية أمنية. هناك لعب حتى في المُصطلحات، هو يحميك أمنياً، هو يحمي العالم من أسلحة الدمار الشامل، من الإرهاب، أحياناً يُدْخِل الإرهاب إلى حكومات بعض دول المنطقة لكن هذه قضية على الهامش. هو يقوم بحماية العالم الحرّ، هو يقاوم الستار الحديدية ويقاوم محور الشرّ في العالم ويرمي ثمانين ألف طن أو ثمانين ألف كيلوغرام من القنابل في وسط بيروت لأنه يرى في هذا خطراً، إذاً هو نجح أيضاً كما أشار بعض الضيوف الكرام في فرض مفاهيم، في فرض تصوُّر عن العالم يسمح له بهذا الأمر. ملاحظة أخيرة لو سمحتَ لي لماذا يصمت الكثيرون؟ بسبب التورّط، عندما أدِين لك بعشرة دولارات ولا أستطيع سَدَادها فأنا في مشكلة، أما إذا كنتُ مُديناً للأستاذ بيار بمئة مليون دولار ولا أستطيع سَدَادها فهذه مشكلته وليست مشكلتي.

 

بيار أبي صعب: أعزّائي المشاهد فاصل ونعود.

=أهلاً بكم مجدّداً أعزّائي المشاهدين في هذه الحلقة من على محمل الجد، أعيد الترحيب بضيوفنا: الدكتور جمال واكيم في بيروت، الدكتور زياد الحافظ في واشنطن، والأستاذ أكثم سليمان في برلين. نصل الآن أعزّائي المشاهدين إلى الجزء الثاني في حلقتنا مع فقرة "على محمل النقد"، قَصَدنا الدكتور حسين العزّي وهو أستاذ جامعي وباحث في القانون الدولي وسألناه عن فلسفة العقوبات وخلفيّاتها، فأجاب "العقوبات الاقتصادية جزءٌ من الحرب المالية على الشعوب"، نستمع معاً.

 

حسين العزّي: ما يُصْطَلح على تسميتها بالعقوبات الاقتصادية، هي أدوات الهيمنة والسيطرة الاستعمارية الأميركية على مُقدّرات الشعوب، فمن حيث المُصطلح العقوبات الاقتصادية هي مجموعةٌ من التدابير القَسْرية الأحادية التي تتّخذها الدول الكبرى صناعياً، تتّخذها بمواجهة خصومها السياسيين سواءً من الدول أو من غير الدول تحقيقاً لأهدافٍ سياسية أو اقتصادية أو تجارية. تدقيقاً للمصطلح يُقال إنها عقوبات اقتصادية والصحيح أنها ليست بعقوبات لأنّ مَن يُطلق العقوبات يجب أن يكون مصدراً شرعياً كالمحكمة، إنما ما تفرضه الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي اليوم على أمم وشعوب العالم هو مجرّد تدابير قَسْرية أحادية الجانب تُتّخذ تحقيقاً لأهداف سياسية، وبالتالي هي أداة من أدوات الحروب. لذلك من منظور العلاقات الدولية تُعْبَر العقوبات الاقتصادية جزءاً من الحرب المالية على الشعوب، وبالتالي هي تدخل ضمن ما يُسمّى بالحرب الناعمة عبر استخدام الأدوات المالية والسوق المالي من قِبَل الدولة الفارِضة للعقوبات على خصومها السياسيين من أجل عَزْل ذلك الخصم أو تجفيف أمواله ومُقدّراته الاقتصادية. شَهِدَت العقوبات الاقتصادية نقلةً وتحوّلاً نوعياً بعد أن تزعّمت الولايات المتحدة العالم ضمن ما يُسمّى بالأحادية القُطبية حيث تزايدت العقوبات المفروضة على الدول أو على خصومها السياسيين في عام 2001 وتجلّت في العام 2005 حيث عمدت الولايات المتحدة الأميركية إلى مأْسَسَة العقوبات حيث أنشأت ضمن وزارة الخزانة الأميركية مكتباً لجمع المعلومات والتحليل الاستخباري المالي، وبالتالي ربطت وزارة الخزانة بوزارة الأمن القومي وبالأجهز الأمنية. وهذا ما يُدلّل على أن العقوبات التي تُفْرَض ما هي إلا جزء أساسي من الحروب المالية المُكمّلة للحروب الصُلبة بالحديد والنار. العقوبات الاقتصادية هي مُخالفة بإجماع الفُقهاء، هي تخالف مجموعة كبيرة من مبادئ القانون الدولي العمومي وهي من المبادئ أو القواعد الآمرة في قانون الدول العمومي. بعد هذا التوصيف كيف يمكن لنا أن نواجه هذه العقوبات من منظورٍ قانوني؟ حقيقة الأمر توصّل العلماء والخبراء إلى مسارين أساسيين جديدين في هذا الإطار، المسار الأول هو اتفاق جميع الدول المُتضرّرة من العقوبات على وضع مبادئ توجيهيّة تمنع أو تُحظّر العقوبات الاقتصادية، ثانياً التوجّه نحو الجمعية العامة للأمم المتحدة والطلب منها إصدار فتوى في مدى مشروعيّة هذه العقوبات الاقتصادية أو التدابير الأحادية القَسْرية الاقتصادية. وبالتالي إذا صدر الرأي الاستشاري وبكل تأكيد سيصدر بعدم شرعية هذه العقوبات عندئذٍ يُبنى على هذا المسار تكوُّن عُرْف دولي أو قاعدة عُرْفية دولية مفادها أن فرض العقوبات الاقتصادية على الدول هو أمرٌ مرفوض وممنوع بشكلٍ عُرْفي، وبالتالي يجب على جميع الدول الالتزام به لأن هذه القاعدة العُرْفية تولّد التزاماً تجاه كافة الدول بعدم فرض العقوبات وبعدم التعاون مع هذه العقوبات بل باتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهتها.

 

بيار أبي صعب: دكتور زياد الحافظ قال الدكتور حسين العزّي إن العقوبات الاقتصادية مُخالفة بإجماع الفُقهاء لمجموعة من المبادئ العامة والمبادئ الآمرة في القانون الدولي العمومي، ما رأيك؟

 

زياد الحافظ: أنا لستُ خبيراً في القانون ولكن لديّ خلفيّة قانونية وحائز على إجازة في القانون، ولكن من خلال كل المُطالعات في هذا الموضوع أتّفق مع ما قاله الدكتور عزّي، لكن أنا أريد أن ألفت النظر إلى نقطةٍ مُحدّدةٍ أن العقوبات لم تنجح الا إذا واكبها عمل عسكري. العقوبات نجحت في حالين فقط في تغيير النظام في روديسيا وفي أفريقيا الجنوبية من دون أيّ عملٍ عسكري، ونجحت في العراق وفي سوريا بسبب العمل العسكري. ما عدا ذلك كافة العقوبات التي فُرِضَت على الدول من كوبا إلى كوريا الشمالية إلى إيران لم تنجح من دون العمل العسكري. إذاً فعّالية تلك العقوبات مرتبطة بعدّة عوامِل أهمّها وجود عامِل عسكري، لذلك أنا لا أعتقد أن هنالك صعوبة في مواجهة العقوبات بل باستطاعة دول العالم أن تُحيِّد إن لم نقل أن تلغي مفاعيل تلك العقوبات وهذا ما نشهده في المرحلة الحالية، وجود منظومات موازية أو مختلفة عن المنظومة التي تُهيمن عليها الولايات المتحدة والدول الغربية سواءً على مؤسّسات التمويل الدولي أو على طريقة التعامُل والتبادُل الاقتصادي والتجاري. لذلك لا أعتقد أن سلاح العقوبات مكتوبٌ له النجاح إن لم يكن مُقترناً بمواكبة عسكرية وما عدا عن ذلك فدول العالم تستطيع أن تواجه وتنتصر على كل تلك المنظومة، ونرى ذلك اليوم في حرب العقوبات المُتبادلة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا ونرى أيضاً ما تريد أن تفرضه الولايات المتحدة على دول العالم من التعريفات والعقوبات الاقتصادية للانصياع لرغبتها، لا ترى أيّ تجاوب وليس هنالك الآن قُدرة عسكرية لا للولايات المتحدة ولا لدول الاتحاد الأوروبي أن تعطي فاعِلية لتلك العقوبات.

 

بيار أبي صعب: أسأل السؤال نفسه للأستاذ أكثم سليمان، نادراً ما حقّقت العقوبات أهدافها مثلما قال الدكتور زياد الحافظ لا في كوبا ولا في فنزويلا ولا في إيران ولا في روسيا. لماذا تواصل الولايات المتحدة هذه الاستراتيجية غير المُجدية إلا في استباحة حقوق الدول والإساءة إلى الشعوب؟

 

أكثم سليمان: بالتأكيد هناك ناحية نفسية، هناك ناحية تتعلّق برؤية الذات ورؤية الآخر ورؤية الذات لدى الأميركي أنه مركز العالم وأن الآخر لا قيمة له، وعلى أساس هذه الرؤية يسامِح مرةً ويعاقِب مرة، كما ذكرنا قبل قليل ما هي المرجعية، مَن الأستاذ ومَن الطالب، مَن الأب ومَن الإبن، أعتقد أن دولة عُمرها أقلّ من أربعمئة عام لا يمكن أن تكون هي التي استولدت باقي الدول بل العكس هو الصحيح، لكن أنا أختلف مع الرأي القائل بأن العقوبات بالذات كسوري بالمناسبة أن العقوبات لا تأتي بنتائج مُرعبة، هي ناجحة بالنسبة لصاحبها لكنها تأتي دائماً بنتائج مُرعبة لأن العقوبات هي من أسلحة الدمار الشامل، أنت تُدمِّر أرواح البشر، أنت تُدمِّر أيام هؤلاء البشر.

 

بيار أبي صعب: أستاذ أكثم هل ساهم قانون قيصر بإسقاط النظام في سوريا مثلاً؟

 

أكثم سليمان بالتأكيد، لا خلاف بين الخبراء في هذا الموضوع، الساسة سيتناولونه بهذا الاتجاه لكن من حيث المضمون نعم هذا القانون كان أساسياً لأنه لم يعاقب فقط سوريا أو جهات سورية بل عاقب كل مَن يتعامل مع سوريا. هذا العزْل لهذا البلد بشكلٍ اقتصادي، هذا السَحْق للطبقات، أنت لا تمتنع عن الطعام فقط، أنت تمتنع عن القراءة، عن التفكير، عن اتّصالك بالتاريخ، أنت تمتنع عن اتّصالك بالآخر في الوطن ونشهده الآن، ترى مناظِر لا علاقة لها أحياناً بالكائن البشري، لنكن صريحين، أطفال خرجوا من المدارس، جلسوا في المخيّمات، عملوا كمُسلّحين بغضّ النظر عن الناحية السياسية، كل هذا تأتي به العقوبات. تخيّل مواطناً سورياً معه خمسون ليرة قبل عشرين عاماً، هذه كانت تعادل دولاراً، اليوم سيضحك السوريون عندما يصنعون هذا الرقم، لم تعد ورقة الخمسين ليرة موجودة. نعم العقوبات سلاح مُتْعِب جداً للمجتمع إذا كان المجتمع غير مُحصّن نحو الداخل وغير مرتبط بالشكل الاستراتيجي نحو الخارج. كوبا كان وراءها معسكر اشتراكي كامل لذلك نجت، روسيا وراءها الاقتصاد الداخلي وتلك الكنوز الداخلية، أما دول كسوريا والعراق وغير ذلك ممّن جرّبوا به هذه الأسلحة فلم يكن أمامها الكثير. وفي نهاية المطاف في سوريا عندما يكون مدير مكتب عسكري أو قائد فرقة عسكرية يقبض عشرين دولاراً في الشهر.تخيّل فمن السهل الاختراق المالي قبل الأمني في هذه الحال. 

 

بيار أبي صعب: دكتور واكيم الفكرة الأساسية أن العقوبات هي آلة إخضاع وإكراه وقمع ووصاية وهيمنة تحاول أميركا من خلالها تحقيق ما فشلت بتحقيقه بأشكالٍ أخرى منها الحرب والدبلوماسية، ما هو رأي القانون الدولي بكل ذلك؟ هل ينسجم كل ذلك مع القانون الدولي؟

 

جمال واكيم: بالتأكيد لا ينسجم، أتّفق بنسبة 90% مع ما قاله الأستاذ أكثم، بالنسبة للقانون الدولي مثلاً في حال العراق عندما فُرِضَ الحصار على العراق أو العقوبات على العراق بعد 1991، هذه العقوبات صدرت عن الأمم المتحدة خلافاً لعقوبات بالنسبة لدولٍ أخرى، هناك نصف مليون طفل عراقي ماتوا، هذا كان يُفترض أن يندرج في باب قتل الأطفال والإبادة الجماعية، والقانون الدولي يُعاقب مُرتكبه التي هي الولايات المتحدة ولكن لماذا لم يتحرّك القانون الدولي؟ لأن القانون ليس بنوداً فقط ولكن هو أيضاً آلية تطبيق للقانون. مثلاً محكمة العدل الدولية فيها الكثير من أوجه القصور، المحكمة الجنائية الدولية هناك الكثير من أوجه القصور في بنيتها التي تجعل قراراتها قابلة للتطبيق.

 

بيار أبي صعب: ولكن ترامب فرض العقوبات عليها.

 

جمال واكيم: صحيح، أكثر من ذلك أحياناً =يتمّ اختلاق فضائح لشخصٍ معيّن، مَن منّا بلا خطيئة ولكنهم يقومون بابتزازه، فبالتالي ما هي الآلية لتطبيق القانون الدولي؟ لا توجد آلية واضحة، هناك الكثير من الاستنسابية حتى في موضوع الفصل السابع، هذا إذا صدر عن مجلس الأمن قرار ما، مثلاً الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة بالحروب في السنوات الخمس والعشرين الأخيرة لم يكن هنالك من قرار صادر عن الأمم المتحدة.

 

بيار أبي صعب: لا لزوم للقانون الدولي.

 

جمال واكيم: حين درستُ مادة القانون الدولي في الجامعة الأميركية كان أستاذنا هو الدكتور شفيق المصري،قلنا له لماذا ندرس كل هذا، وحينها كان الدكتور كميل حبيبي عميداً لكلية العلوم السياسية كتب أيضاً أنه نادم على كل لحظة علّم فيها مواد القانون. القانون ليس مبادئ فقط بل آليات تطبيق وآليات فرض عِقاب ومَنْع ظلم عن المُعتدى عليهم. 

 

بيار أبي صعب: دكتور زياد الحافظ سؤال أخير، تكيّفت معظم الدول المُحاصرة بالعقوبات الأميركية والأوروبية مع الأمر الواقع، وأوجدت أطراً موازية للاستمرار مع مصاعب اقتصادية ومالية كبرى تناولناها. هل الاقتصادات الموازية هي الحلّ أم أن الخضوع للإملاءات الأميركية أمرٌ لا بدّ منه؟ كيف يمكن مواجهة هذه الآلة الحربية الساحِقة على الساحة الدولية اقتصادياً وقانونياً؟

 

زياد الحافظ: هذا سؤال كبير ومن الصعب الإجابة عليه سريعاً، ولكن من الواضح أن هناك عدداً كبيراً من الدول في العالم، دول وازِنة أصبحت ترى أن سياسات الولايات المتحدة ومعها سياسات الدول الأوروبية لا تتماهى مع مصالح شعوبها ومصالحها الاستراتيجية، بدأت تتكتّل وهذا التكتُّل لم يكن موجوداً مثلاً في الخمسينات حين أُنشئت منظومة باندونغ وفي ما بعد دول عدم الانحياز، لم يكن هناك نوعٌ من التكامُل الاقتصادي والسياسي. اليوم الوضع مختلف كلياً، هنالك تكامل وقُدرات اقتصادية لم تكن موجودة. لا ننسى أنه في الخمسينات والستينات وحتى مطلع الثمانينات كانت الولايات المتحدة والدول الأوروبية هي الدول الصناعية الأساسية، عندما قرّرت أوروبا والولايات المتحدة الخروج من الحُقبة الصناعية وإعادة توطين القاعدة الإنتاجية في دول عالم الجنوب الإجمالي تغيّرت الموازين، واليوم نرى ثمار تلك القرارات الاستراتيجية التي اعتقدت أن الولايات المتحدة باستطاعتها عبر سيطرتها على شرايين المال بألا تكترث للإنتاج، واليوم هي تدفع ثمن هذا الموضوع في عدم إمكانيّتها خوض حروب طويلة أو متوسّطة المدى لأن ترسانتها العسكرية لم تعد تتزوّد والشركات الصناعية التي كانت تزوّدها لم تعد تستطيع أن تزوّدها بالكميات والسرعة المطلوبة. إذاً هناك تغيُّر كبير في الموازين العسكرية بسبب القرارات الاقتصادية والسياسية التي اتّخذتها الولايات المتحدة. اليوم نرى النموذج الصيني الذي يشكّل منافساً جدّياً للنموذج الغربي الاقتصادي، دور قوي للقطاع العام مع دور للقطاع الخاص يخضع لتوجيهات القطاع العام والدولة وهذا ليس موجودأً في الدول الغربية ولا حتى في الولايات المتحدة. هناك شركات ليس لها اعتبار وطني أو قومي أو استراتيجي إلى آخره، الربح هو الأساس بينما هذا غير موجود لا في روسيا ولا في الصين ولا في الدول التي بدأت تنظر إلى هذا النموذج بعين الرضا أن هذا ربّما هو الطريق الوحيد للخروج من الحُقبة التي فرضتها الدول الاستعمارية في القرن التاسع عشر وحتى مُنتصف القرن العشرين. اليوم هناك نماذج مختلفة والعالم يتّجه نحو تلك النماذج، هناك سقوط للنموذج الغربي والأميركي.

 

بيار أبي صعب: أستاذ أكثم سليمان كيف تواجَه العقوبات؟ هل من الممكن وقفها والتمرّد أو الالتفاف عليها والاعتراض عليها أمام العدالة الدولية؟

 

أكثم سليمان: رحم الله العدالة الدولية، بالنسبة للانتفاض عليها أو مقاومتها هو أمر ممكن لكن لا يمكن إلا بعملية عدم الاستخفاف بها، أما أن نقول هذه لن تؤثّر بنا ونحن أصحاب الكرامة والأرض فهذا لا ينفع، روسيا انتصرت بالمناسبة في مقاومة العقوبات الأخيرة، أكثر من خمسة عشر حزمة، أعتقد في الحزمة الثامنة عشرة الآن من قِبَل أوروبا ضدّ روسيا ليس لأنها تصرّفت بكرامة أو عنجهيّة او غير ذلك بل لأن لديها أيضاً جيوش من الاقتصاديين الذين يبحثون تماماً كالجندي على الجبهة عن الثغرات ويسدّونها، يضعون السيناريوهات ويُجيبون عليها وهذا ما فوّتناه نحن، ربّما لأن حجمنا كان أصغر، إذاً الأمر ممكن. الأمر الثاني الذي يجب التفكير به بشكلٍ جدّي، كيفيّة الهروب من هذه العَوْلَمة سأكون صريحاً معك في قضية، قبل سنواتٍ قليلة أُجريت مقابلة مع السيّد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، وسُئِل في هذه المقابلة عن الأجر الذي يأخذه وأجاب برقمٍ اعتبره البعض صغيراً ويدلّ على التواضع لكن الإشكالية أنها كانت بالدولار، إنما أنت كحركة مقاومة ما زلت تقيّم الأمور مضطرّ في هذا النظام العالمي الموجود بالدولار فأنت مُمْسَك بك في مكانٍ ما في هذه القضية سواء بالدولار، سواء بالبيجر، سواء بأطنان القنابل التي هبطت بعد ذلك. إذاً نحن نحتاج للعودة إلى بعض البدائية في الاقتصاد، من المُعيب أن تجوع بعض الدول التي فيها أرض وفيها أمطار أو فيها بعض مصادر المياه لكنها تجوع لأن المُنتج الغذائي صار يلفّ العالم قبل أن يصل إليك مُغلّفاً بطريقةٍ معيّنة فنسيت أنت أنّ بإمكانك أن تحلب البقرة هنا وأن تصطاد الطير هناك.

 

بيار أبي صعب: دكتور جمال دكتور جمال واكيم أختم بك، في البداية هل يمكننا تصنيف هذه العقوبات كجرائم ضدّ الإنسانية، ثانياً اقتراح الدكتور حسين العزّي بالتوجّه إلى الهيئة العامة للأمم المتحدة ومحاولة انتزاع فتوى أو اجتهاد بعدم قانونية هذه العقوبات يمكنه أن يكون جزءاً من الحلّ؟ الدكتور زياد الحافظ سلّط الضوء على فكرة خَلْق تكتّلات وشركات اقتصادية موازية ضدّ هيمنة نظام الدولار؟ هل التوجّه إلى الهيئة العامة للأمم المتحدة قد يكون مفيداً؟

 

جمال واكيم: بتقديري لا يفيد، لنأخذ كوبا كمثال، قضية كوبا تنتصر قضيّتها دائماً في الجمعية العامة للأمم المتحدة، تصوّت لصالحها مئتا دولة وهيئة لفكّ العقوبات، مَن يصوّت ضدّ فكّ العقوبات في الجمعية العامة هي الولايات المتحدة وإسرائيل وميكرونيسيا ولكن بالنهاية لايكون هناك أيّ أثر. بتقديري أن المواجهة يجب أن تكون بفكّ الارتباط وهذا ما يحصل ولكنه يحصل بالتدرّج، هذا بالنسبة للتكتّلات التي تحصل والتي فيها الكثير من التناقضات، على صعيد البريكس هناك تنافس هندي صيني أو الهند تحاول عَرْقلة بعض التوجّهات، مثلاً إقامة فضاء مالي لكي يكون هناك نظام مستقل عن سويفت وهو نظام التحويل المالي الذي تسيطر عليه أميركا، هناك النظام الروسي الذي حذت إيران حذوه وكذلك النظام الصيني.

 

بيار أبي صعب: إذاً إيجاد منظومات بديلة.

 

جمال واكيم: نعم ولكن هل من الممكن أيضاً مواجهة العقوبات؟ ليس من السهل المواجهة ولكن بتقديري في الحال الكوبية والحال السورية، كوبا خلال الحرب الباردة استفادت من دعم الاتحاد السوفياتي أما بعد الانهيار فلم تستفد وباتت محاصرة، الذي خوّلها بأن تصمد هو قُدرتها على تأمين السلّة الغذائية للمواطن الكوبي بدرجةٍ كبيرة. في سوريا المشكلة أن الخزّان الغذائي في شرق سوريا ذهب وفي الوقت نفسه الحِصار الكبير الذي أدّى إلى فكّ عُرى النظام بالنهاية. 

 

بيار أبي صعب: كلمة الختام لأرنستو تشي غيفارا "كل نضالاتنا ليست سوى صرخة حربٍ ضدّ الهيمنة الاستعمارية ودعوة إلى وحدة الشعوب في مواجهة العدوّ الأكثر والأكبر للجنس البشري، الولايات المتحدة الأميركية". شكراً لضيوفي مع حفظ الألقاب جمال واكيم، زياد الحافظ، أكثم سليمان، شكراً على المتابعة وإلى الأسبوع المقبل.