«إسرائيل»... إبادة بلا شهود

لم تعرف البشرية، عبر الحروب الحديثة، توحشًا كالذي تمارسه "إسرائيل"، على مرأى ومسمع من العالم، وبتواطؤ الغرب الجماعي. لم يحدث أن استُهدف الصحافيون بطيران حربي، إلا في غزة؛ حيث استُشهد مؤخرًا أنس الشريف ومحمد قريقع ورفاقهم، في غارة على خيمتهم داخل مجمع الشفاء. وقبلهم، سقط 242 صحافيًا، بحسب بيان الأمين العام للأمم المتحدة. الناطق باسم غوتيريش دان الجريمة ودعا إلى تحقيق مستقل، وكذلك فعلت اتحادات ومنظمات عربية ودولية، فيما المجزرة مستمرة. إن قتل الصحافيين دليلٌ فاضح على النيات الإجرامية المعلنة، وعلى الفشل العسكري والسقوط الأخلاقي لـ«محور الإبادة»، في مواجهة قطاع محاصر منذ سنوات، يتعرض للتجويع والإبادة الممنهجة منذ 22 شهرًا. ومع إطلاق خطة احتلال غزة، يبقى السؤال: هل ينجح نتنياهو في إخفاء جرائمه ضد الإنسانية؟ أم أن قتل الشهود لا يكفي لدفن الحقيقة تحت الأنقاض؟

نص الحلقة

 

بيار أبي صعب: مساء الخير. لم تعرف البشرية على مرّ الحروب التي شهدها العالم الحديث مثل هذا التوحّش الإسرائيلي على مرأى ومسمع من الجميع وبتواطؤٍ كاملٍ من الغرب الجَمَاعي. لم نسمع من قبل بطيرانٍ حربي يستهدف الصحافيين، هذا يحدث فقط في غزّة حيث استشهد أخيراً أنس الشريف ومحمد قريقع ورفاقهما في غارةٍ على خيمتهم في مُجمّع الشفاء. وهكذا استشهد قبلهم مئتان وإثنان وأربعون صحافياً بحسب بيان الأمم المتحدة. الناطق باسم غوتيريش استنكر ودان ودعا إلى تحقيقٍ مستقلٍ ونزيهٍ ومثله فعلت الاتحادات والمنظّمات العربية والدولية. في تلك الأثناء تتواصل المجزرة، قتل الصحافيين، أيُّ دليل أكثر بلاغة على النيّات الإجرامية المُعلنة وعلى الفشل العسكري والسقوط الأخلاقي لمحور الإبادة أمام القطاع المُحاصَر منذ سنوات يتعرّض =للإبادة المُمَنْهجة وللتجويع منذ 22 شهراً. مع إطلاق خطّة احتلال غزّة هل ينجح نتنياهو في إخفاء جرائمه ضدّ الإنسانية أم أنّ قَتْل الشهود لا يكفي لدَفْن الحقيقة تحت الأنقاض؟

 

لتناول هذا الموضوع معنا الليلة في الاستوديو الطبيب الفلسطيني الدكتور غسان أبو ستّة، ومن القاهرة الأستاذة هند الضاوي الصحافية والأكاديمية المصرية المُتخصّصة بالشؤون العربية والدولية، ومن لندن الأكاديمي الفلسطيني الدكتور مكرم خوري مخوّل المُتخصّص بالعلاقات الدولية والإعلام السياسي. دكتور أبو سّتة عدا عن أنك غزّاوي أنتَ عشتَ جزءاً أساسياً من هذه التجربة الصعبة في بداية العدوان على غزّة كطبيبٍ في المستشفيات ورأيتَ هذا الكابوس بأمّ العين، هذه الهمجيّة التي حصدت المدنيين وتستهدف المشافي والجسم الطبّي، حتى أن هناك أطباء زملاءك اسْتُشِهدوا، الدكتور حسام أبو صفية لا زال في السجن  في ظلّ ظروف صعبة وفق ما صرَّحت به مُحاميته، تحدّثتَ عن كل ذلك في اللقاءات والبرامج وحتى في الوثائقيات، هذه الهمجيّة الفريدة في التاريخ كيف يمكن أن ننظر إليها وأن نقرأها وأن نتعاطى معها، هذه الهمجية التي تقتل المدنيين وتستهدف المشافي وطواقِم المُسْعِفين والصحافيين؟  

 

غسان أبو ستّة: من دون أدنى =شكّ هناك حاجة عند الاستعمار الاستيطاني لأن يكون عُنفه استعراضيّاً بالتغوّل بالدم، جزء استعراضي لأن المُسْتَعْمِر يريد أن يُهيمن فكرياً على وعي الضحية بأن لديه القُدرة على فعل ما يشاء وأن يراه العالم من دون أن يستطيع أحد إيقافه. هذه السطْوَة الموجودة في الذهنية الاستعمارية تسمح للإسرائيلي بارتكاب جرائم غير مُبرَّرة أمنياً وعسكرياً لكي يرى الفلسطيني الجريمة تُرْتَكب ويرى العالم أن الإسرائيلي يخرج من كل مجزرة من دون أيّ عِقاب، وهذا ما أدّى منذ 17 أكتوبر مجزرة مستشفى الأهلي إلى الوضع الحالي الذي دُمّرت فيه المُستشفيات، من أصل 36 مستشفى لم يتبقَّ إلا ثلاث مستشفيات، فهذا الاستعراض هو الهدف من كل هذه الجرائم.

 

بيار أبي صعب: ولكن هذا الأمر يُشوّه صورته أمام الرأي العام العالمي، اليوم إسرائيل مؤبْلَسة إلى أبعد حدود في العالم. 

 

غسان أبو ستّة: الغريب في هذا المشروع الإبادي أن إسرائيل لم تعد تحسب حساب لليوم التالي ما بعد الحرب، =الهَوَس الإسرائيلي بالعلاقات العامة المُرتبط بحروبها السابقة انتهى وهي غير معنيّة ولكن الإسرائيلي كان على صواب، بالنهاية المنظومة الغربية بكل مؤسّساتها وحكوماتها حكوماتها حَمَت إسرائيل وحَمَت المشروع الإبادي على مدى 22 شهراً، الإسرائيلي مُحقّ ونحن مُخطئون، لديه مناعة كاملة لارتكاب كل هذه الجرائم من دون أيّ حساب. 

 

بيار أبي صعب: أستاذة هند الضاوي، 242 صحافياً شهيداً خلال أقل من عامين وهناك مَن يطرح أرقاماً أكبر، هذا رقم مهول يفوق حسب منظّمة العفو الدولية شهداء الصحافة في كل الحروب منذ بداية القرن العشرين، كيف يمكن ذلك؟ أين القوانين الدولية؟ أين العالم الحرّ؟

 

هند الضاوي: أقول لحضرتك إن القاعدة الأساسية هي أنّ مَن أمِنَ العقاب أساء الأدب، إسرائيل أمِنَت العقاب لمدّة عامين بفضل حلفائها الغربيين سواء كانت أميركا وأوروبا، لم نستطع أن نُعاقبها كمجتمعٍ دولي سواء كانت الدول الشرق أوسطية أو حتى دول المعسكر الآخر كروسيا والصين على جرائمها بحقّ الشعب الفلسطيني. هذا أعطاها دفعة كبيرة للانتقام لكل مَن يحاول مُساندة الشعب الفلسطيني في غزّة أو نقل حقائق تحدُث على الأرض حول هذه الإبادات، فكما كانت لإسرائيل منهجية لإبادة الشعب الفلسطيني وقتله نفسيا ًحتى تُهيّئه للرحيل  من أرضه كانت لديها أيضاً منهجية لكَتْم صوت الإعلام في داخل قطاع غزّة، وبالتالي كانت تستهدف دائماً الإعلاميين والصحافيين والمُراسلين بالإضافة إلى أنها منعت المُراسلين الأجانب من دخول قطاع غزّة. الآن أعتقد أن العالم بدأ ينقلب لأن حجم جرائم إسرائيل التي ارتُكِبَت خلال العامين لم يعد أحد يتحمّلها، =والمُعسكر الغربي الذي دعم إسرائيل أصبح غير قادر على تحمُّل تَبِعات ذلك في الشارع الأوروبي والأميركي فبدأ الجميع ينفض يداه عن إسرائيل، هذا لم يردعها بالمناسبة بل جعلها تستخدم قوّة مُفْرِطة الآن في قطاع غزّة لأنه كما قال نتنياهو إما أن نقضي عليهم أو يقضوا علينا. وبالتالي الآن أصبحت معركة وجود بالنسبة لإسرائيل، ليس هناك مجال للعقل أو للحِكمة في الداخل الإسرائيلي إذا ما لاحظتَ التصريحات التي تصدر من الحكومة سواء من نتنياهو أو من الوزراء المُتطرّفين مثل سموتريتش وبن غفير لكن على أية حال هذا لن يستمرّ لفترةٍ طويلة، ستُعاقَب إسرائيل وسيُعاقَب نتنياهو وسيُعاقب جيش الاحتلال على كل هذه الجرائم. وكما رأينا الشعب الفلسطيني صامِد في قطاع غزّة وفي أرضه، أنا أعتقد أيضاً أنه حتى بعد اغتيال الشهداء الزملاء أنس الشريف وغيره سيكون هناك الكثيرون من الشعب الفلسطيني يحملون هذه الراية من أجل مواكبة ونقل ما يحدث في القطاع للعالم. وهذا بالفعل قد حدث وهناك الكثير من الأشخاص أعلنوا بأنهم سيتولّون مسؤولية نقل الحقائق للعالم عن جرائم الاحتلال في قطاع غزّة. 

 

بيار أبي صعب: إسمحي لي أستاذة هند أن أهنّئكِ على تفاؤلك لأننا بحاجةٍ إلى هذا النوع من التفاؤل. أنتقل إلى لندن، دكتور مكرم خوري مخوّل الشعب الفلسطيني هو الذي يتعرَّض للإبادة. وكل المدنيين في غزّة يُقْتَلون تجويعاً وقصفاً وحَرْقاً حتى في مراكز المُساعدات لكننا نتحدَّث تحديداً عن الصحافيين الفلسطينيين وهم شريحة لها حصانتها ومحميّة في القوانين والمُعاهدات الدولية، وهم عيون وآذان العالم في غزّة في غياب المُراسلين الأجانب كما تفضّلت الأستاذة هند وكما ذكر بيان الاتحاد الدولي للصحافيين، فكيف ترى هذه الاستِهانة بوضع الصحافيين وبكل القوانين التي تحميهم؟

 

مكرم خوري مخوّل: أهلاً بك أستاذ بيار وبالضيفين الكريمين. أعتمد هنا للإجابة على سؤالك القيِّم على ثلاثة أمور، بدايةً على أنني كنت الصحافي الذي زفّ ميلاد الانتفاضة الفلسطينية الأولى وأصيب بعيارٍ معدني بالمطّاط في غزّة وعولِجتُ في مستشفى الشفاء، وبعدها تخصّصتُ بالإعلام السياسي، وثالثاً ضلوعي باللغة العِبرية، وأراقب نتنياهو وبالتحديد إعلامه السياسي واستراتيجيّته منذ ثلاثة عقود تماماً. يجب ألا ننسى بأن نتنياهو إلى جانب أنه سياسي ماكِر هو تخصَّص بالتسويق في أميركا في الجامعة، وهو يعتقد هذا الاعتقاد المبني على فرضيّة أن الشمس ستُشْرق كل يوم، ونحن الحركة الصهيونية وبين مزدوجين الاحتلال الإسرائيلي نحن الشمس وبالتالي الأرض تدور حولنا، والشمس أيضاً هي المَحْرقة الأوروبية المُقدّسة، وبما أن هناك شمساً تشرق كل يوم ومَحْرقة أوروبية كرَّسناها ورسَّخناها في عقول البشر جميعاً إذاً لن يكون هناك مَن يعترض على هذه الفرضية. مُشكلته وأزمته هي أنه اعتمد على قاعدتين في الفيزياء وعِلم الفلك ولكن العقل البشري لا يعمل وفقاً للفيزياء وعِلم الفلك. وبالتالي هو قال إن ما حدث في الماضي سيحدث اليوم وستقبله البشرية غداً وبعد غد. ولكن هنا أصيب بنكسةٍ إعلاميةٍ وأقول إن نتنياهو في هذه =العربدة وما يحصل في قطاع غزّة قانونياً هي عربدة، هي إبادة جماعية وتطهير عِرقي وفقاً للقانون الدولي، وبالتالي هو قال ليس هناك مشكلة، نحن سنبدأ بقتلهم وسنقتل الصحافيين ليس كعملٍ ثأري وإنما هو يريد أن يسيطر على الذاكِرة وكتابة التاريخ والسرديّة المُستقبلية، هو لا يقتلهم لكي يرى الدم ولكي ينتفض العالم، هو ليس فقط يفكّر بالدقيقة الحالية وإنما يقول ويحسبها، لا مشكلة سنقتل الصحافيين الآن، سيثور العالم قليلاً ولكن سنكسب المعركة المستقبلية في كتابة التاريخ والسيطرة على الذاكِرة. هذا ما يريده نتنياهو، وحسب رأيي فشلت في إدارة الخِداع هذه المرة. 

 

بيار أبي صعب: اتضّحت الفكرة، لنتابع كليب الدكتور ناصر حسين وهو عضو الاتحاد الدولي للصحافيين وعضو نقابة الصحافيين المصريين. في شهادته يدعو إلى اتحاد كل الشُرفاء وكل الصحافيين في العالم لحماية هذه المهنة خصوصاً في مناطق النزاع والتوتّر، نستمع معاً. 

 

ناصر حسين: بالطبع غيَّب الموت أشقاء وزملاء لنا وهم يؤدِّون رسالتهم الإعلامية والصحافية في قطاع غزّة لكي ينقلوا الحقيقة إلى العالم وكي يكشفوا جرائم العدو الصهيوني وجرائم الإبادة الجماعية، لا بدّ  من أن يكون هناك صوت ينقل =نَبَض وعذاب ومُعاناة الكثيرين سواء الموت بالتجويع أو الإبادة الجماعية التي يتعرّضون لها. فبالتالي لا بدّ  من أن يكون هناك صوت ينقل الحقيقة. نحن نتعجّب أنه حتى الآن استُشِهد وقُتل أكثر من 283 صحافياً وإعلامياً في قطاع غزّة من العرب والفلسطينيين والعالم لا يتحرّك، لو كان الصحافي أميركياً أو أوروبياً وحدَثَ له شي بسيط تقوم الدنيا ولا تقعد لاستعادة حقّه. نحن جميعاً يجب أن نتّحد كصحافيين على مستوى العالم، وأنا كعضوٍ في نقابة الصحافيين المصريين أعتقد أن النقابة لا زالت حتى الآن تحتفظ بصوَر كل الصحافيين الشهداء، ومنذ استشهاد الزميلة شيرين أبو عاقلة كانت هناك ندوات واحتجاجات تحت شعار التغطية مستمرّة، وفعلاً هو شعار رائع، التغطية سوف تستمرّ، واليوم كان هناك حِداد في نقابة الصحافيين المصريين. يجب أن يتّحد كل الصحافيين والشرفاء على مستوى العالم وأن يكون هناك تفعيل لميثاق الأمم المتحدة في حماية الصحافيين الذين يعملون في مناطق التوتّر والنِزاع لدرجة أن الاتحاد الدولي للصحافيين أصدر تقريراً بعنوان الأخبار القاتِلة بسبب استشهاد الكثير من الصحافيين في قطاع غزّة. نتمنّى أن يتّحد كل الشرفاء وكل صحافيي وإعلاميي العالم لحماية هذه المهنة على مستوى العالم وفي كل مناطق النِزاع والتوتّر. 

 

بيار أبي صعب: دكتور غسان أبو ستّة الصحافي الفرنسي إدوي بلينيل كتب إن التنكّر أو اللامُبالاة تجاه الوضع الذي يواجهه الصحافيون الفلسطينيون هو تنكّر لأصل المهنة وهويّتها وأصولها وتخلٍّ عن روحها، أين الإعلام العربي والإعلام العالمي من إبادة الصحافيين وإبادة أهل غزّة. 

 

غسان أبو ستّة: برأيي أن =الإعلام العالمي وعدم قُدرة الصحافي الغربي إلا نسبة قليلة بالتعاطُف مع شهداء الصحافة الفلسطينية والإعلام الفلسطيني سببه أنه لا تزال هناك درجة عالية من العُنصرية موجودة في الخطاب أو بالهوية الغربية الأوروبية والأميركية التي تجعل الإعلامي الغربي لا يرى نفسه بالإعلامي الفلسطيني، مفهوم عدم القُدرة أن تُنْعى، مفهوم أساسي بالعُنصرية فبالرغم من الأعداد الهائلة لا يرى الصحافي الغربي نفسه بأنس الشريف أو بحمزة الدحدوح لأن أحد أسباب نجاح المشروع الإبادي الصهيوني هو قُدرته على خلق تماسٍ مع العُنصرية الكامِنة بالهوية الغربية التي لا ترى في مقتل عشرين ألف طفل فلسطيني أزمة نفسية، في الوقت الذي لو كانت إسرائيل قتلت عشرين ألف قطّة صغيرة لكان انهار الوجدان الليبرالي الغربي، فكرة عدم القُدرة على أن ينعاك الآخرون هي جزء أساسي مما نراه بردّة الفعل. أما الإعلام العربي برأيي فهو جزء من الأزمة الثقافية التي يمرّ بها العالم العربي، بالرغم من أهمية القَمْع كأحد الأسباب، هي أعمق من القَمْع. الوضع في العالم العربي وعدم التحرّك في الجامعات العربية أو في الإعلام العربي أو في مؤسّسات المجتمعات العربية، يجب محاولة فَهْم هذا الغياب، قرار أن تخرج من التاريخ، كل الشعوب العربية تعلم عِلم اليقين أن دورها قادم من دون أدنى شك ولكن بالرغم من هذا التحرّك الاستباقي لإفشال هذا المشروع غير موجود. هذا الشَلَل التاريخي الذي تُعاني منه الجماهير العربية عدا عن أنه مُسْتَهْجن هو غريب، فطرة الحيوان أن يدافع عن نفسه فكيف بالإنسان وهو يستشرف السكّين. 

 

بيار أبي صعب: أستاذة هند الضاوي فتور الإعلام الغربي ولامُبالاته إزاء اغتيال الصحافيين في غزّة صادِم بحدِ ذاته، تخيّلي لو أن جريمة واحدة من هذا النوع كما تحدَّث الدكتور أبو ستّة حدثت في أوكرانيا مثلاً، لكن الأخطر هو قيام مؤسّسات إعلامية مُحترمة بتجرُّع السمّ الإسرائيلي مثل بي بي سي البريطانية، فرانس إنتر الفرنسية وبيلد الألمانية وغيرها ممّن روَّجوا لرواية الاحتلال من دون أيّ تدقيق أو دليل =ومفادها أن الشهيد أنس الشريف مسؤول خليّة في حماس، ما يُبرّر قتله مع كل مَن حوله، كالعادة الإعلام الغربي المُهَيْمِن شاهِد زور وشريك في الإبادة. 

 

هند الضاوي: أعتقد أن المشكلة الحقيقية لم تكن في الإعلام الغربي ولكن في مفهومنا للإعلام الغربي لأننا صدَّقنا منذ سنواتٍ طويلة بأن الإعلام الغربي يتمتَّع بالنزاهة والشفافيّة ونقل الحقيقة وحرية الرأي والتعبير، لكن الصدمة لنا كمُحلّلين حتى، أنا كنتُ أظهر على كثيرٍ من وسائل الإعلام الغربية في أثناء حرب غزّة، قيل لي قولاً واحداً إنك لا تستطيعي أن تُدافعي عن الفلسطينيين بهذه الطريقة وإلا ستُصنّفين بأنك داعِمة للإرهاب. وبالفعل تمّ تصنيفي بمُعاداة السامية ومنع ظهوري في عدد من القنوات التابعة للاتحاد الأوروبي. هنا أدركتُ بأن هذه الدول لا تخضع فقط للسرديّة الإسرائيلية، وهذه الدول التي تموّل وسائل الإعلام لها منفعة ولها مصالح استراتيجية في منطقة الشرق الأوسط تقدّم عليها إسرائيل. لم يعد الأمر يتعلّق فقط بأن هناك ارتباطاً دينياً أو عقائدياً أو حتى سياسياً بإسرائيل ولكن لفترةٍ طويلة جدّاً كانت هذه الدول تدعم إسرائيل وتعتبر أن العمل المُقاوِم هو عمل إرهابي، وترى بأن إسرائيل من حقّها الدفاع عن نفسها وأن تقتل كما تشاء. الآن تحرّكت هذه الدول وحتى لم يصل الأمر لوسائل الإعلام ولكنها تحرّكت حينما تحرّكت شعوبها ضدّها وقالت بأنها مُتواطِئة في إبادة الشعب الفلسطيني. لم يكن الأمر نابعاً من أن الضمير الغربي استيقظ أو بأن هناك مبادئ تحكم الغرب. لا ننسى أيضاً بأن هذه الدول الاستعمارية هي مَن خلقت إسرائيل ووضعتها في منطقة الشرق الأوسط لخدمة مصالح الدول الاستعمارية بعد انسحاب قوّاتها العسكرية. وبالتالي أنا لم أكن مُتفاجِئة، هذا هو المُتوقّع منهم، سقطت رواية أن الغرب يتمتّع بحرية الرأي والتعبير منذ الحرب الأوكرانية، شاهدتُ كيف تمّ حَجْب كل وسائل الإعلام الروسية حتى يستمع العالم إلى صوتٍ واحدٍ وهو صوت الغربيين، وأيضاً جاءت حرب غزّة لتُسْقِط ورقة التوت. لكن على أية حال من الأحوال رسالة الفلسطينيين وصلت إلى كل الجامعات العالمية وإلى كل الشعوب، أصبحنا الآن نرى تغيُّراً حتى لو شكلياً في بعض مواقف الدول الغربية نتيجة الضغط الشعبي، ضغط بعض أعضاء البرلمانات الأوروبية. وأنا أعتقد أن استمرار نتنياهو وحكومة المُتطرّفين في هذه الجرائم سيؤدّي لأن يغسل الغرب يديه بشكلٍ كامل عن إسرائيل. وسائل الإعلام في النهاية هي مموّله، هناك سيطرة صهيونية كبيرة على وسائل الإعلام في الغرب ومراكز إنتاج الأعمال السينمائية والتلفزيونية وغيرها. كثيرٌ من القنوات الفرنسية تابعة لرجال أعمال يهود في فرنسا معروفين وكذلك بريطانيا هي إسرائيلية أكثر من الإسرائيليين أنفسهم. وبالتالي أعتقد أن هذا الأمر كان مُتوقّعاً لكنني أعوِّل على أن الشعوب ستُغيِّر أشياء كثيرة وأعوِّل على براغماتية الغرب. التحوّل الذي شاهدناه في الفترة الأخيرة لم يكن نابعاً من أن هناك حال استيقاظ للضمير الغربي ولكن لأن نتنياهو الذي كان يُعْتَبر قاعدة عسكرية =مُتقدّمة وخادماً لمصالح الغرب أصبح يشكّل عبئاً كبيراً على مصالحهم وبالتالي سيضغطون وربما حتى يتخلّصوا منهم كما تخلّصوا من القاعدة وداعش وغيرها من الجماعات الإرهابية التي انتشرت حول العالم لخدمة مصالحهم ومن ثم تمّ القضاء عليها.

 

بيار أبي صعب: دكتور مكرم =خوري مخول جمعية مراسلون بلا حدود تقدّمت إلى المحكمة الجنائية الدولية بأربع شكاوى ضدّ إسرائيل بتهمة ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية. مُنظّمات كثيرة توثّق جرائم الاحتلال مثل منظّمة العفو الدولية، هيومن رايتس ووتش، أطباء بلا حدود وحتى منظّمة "بتسيلم" الإسرائيلية. أنا لستُ مُتفائلاً متل الأستاذة هند، ما نفع كل ذلك ما دام لا أحد يردّ ولا أحد يستطيع مُحاسبة إسرائيل ووقف الإبادة في غزّة؟

 

مكرم خوري مخول: سؤال ثاقِب أستاذ بيار، وهنا نقول إنه علينا النظر إلى الأمور على المدى القصير والمُتوسّط والبعيد. بدايةً أنا أؤمِن جدّاً ليس فقط بالنشاط  الإعلامي وتوثيق كل هذه الجرائم ولكنني أيضاً أؤمِن بالنشاط القضائي، ولذلك فإن هذا النشاط القضائي مهمّ جدّاً لعدّة أمور، أولاً لمُعاقبة المُجرمين لارتكابهم جرائم الإربادة في قطاع غزّة، وثانياً لكي يكونوا أمثولة، وثالثاً للذاكِرة الجماعية، ورابعاً لكي يُكْتَب التاريخ ليس وفقاً للمُعتدي والظالِم والمُبيد وإنما لكي يُكْتَب التاريخ وفقاً للضحية. وهذه مسألة مهمّة أنه يجب ألا نفقد هذا الأمل على الإطلاق. أستاذ بيار بدايةً وأنا استمعتُ إليكم جميعاً، صحيح أن الإعلام الغربي والرأي العام الغربي كان نوعاً ما واقفاً مع السرديّة الإسرائيلية ومع الخطاب الإعلامي الإسرائيلي، ولكن إذا ما وضعنا أمور التغطية الإعلامية في الغرب على المنحنى وفقاً للوقت نرى أن الرواية الإسرائيلية خسرت وهُزِمَت وأن هناك اليوم تغييراً كبيراً، لماذا هذا التغيير؟ هو بسبب استعمال الفلسطينيين صحافيين وشباباً ونُشطاء عاديين للتكنولوجيا. نحن نعرف أن غالبيّة الصوَر والفيديوهات والقصص والروايات وصلت عبر تصويرهم لكل هذه الجرائم في قطاع غزّة، ولكن الموضوع أيضاً هو ما الذي يفعله الطرف العربي تجاه كل هذه الجرائم وهل هو يحاول موازاة نشاطه للنشاط الصهيوني، هذه هي المسألة الكبرى.

 

بيار أبي صعب: وصلت الفكرة دكتور مكرم سنتابع بعد الفاصل، أعزّائي المشاهدين فاصل قصير ونعود. 

 

أكرم دلول: أنا كصحافي فقدت عيني اليسرى نتيجة الاستهداف أثناء تغطيتي للأحداث في حيّ الزيتون بغزّة، وتعرَّضتُ لإصابة قاتِلة لكن عناية الله حالت دون استشهادي، وهذا قَدَر الله بالمناسبة. ربّما يعجز اللسان عن التعبير عن مدى غضبي مما يجري بحقّ الصحافيين. لقد قتلوا أنس ومحمد وحسن، وقتلوا قائمة طويلة من الصحافيين. لكن بإذن الله طالما بقينا حتى لو =تكالَب علينا الجميع سنستمر في نقل الحقيقة ولو كان الثمن أرواحنا ودماءنا.

 

بيار أبي صعب: أهلاً بكم مُجدّداً في هذه الحلقة من "على محمل الجد"، إسمحوا لي أن أعيد الترحيب بضيوفي: الدكتور غسان أبو ستّة في بيروت، والأستاذة هند الضاوي في القاهرة، والدكتور مكرم خوري مخول في لندن. نصل الآن إلى الجزء الثاني من الحلقة مع فقرة "على محمل النقد"، سألنا الدكتورة رانيا ماضي وهي خبيرة في القانون الدولي عن رأيها بجرائم إسرائيل من وجهة نظر القوانين والمُعاهدات الدولية، فكان ردّها حاسِماً "الدول الاستعمارية التي وضعت كل هذه القوانين ليست بريئةً من تِهمة التواطؤ مع الكيان"، نشاهد معاً.

 

رانيا ماضي: نحن نعرف أن دولة الكيان لا تريد أن تصل الحقيقة إلى العالم، والوحيدون الذين يستطيعون نقل الحقيقة عبر التحقيقات هم الصحافيون الموجودون في غزّة، والسبب هو أن دولة الكيان منعت أيّ صحافي أجنبي أو قناة أجنبية من الدخول إلى القطاع للقيام بالتصوير أو العمل أو التحقيق من أجل نقل الحقائق، والسبب معروف أن الكيان يريد دائماً تكذيب أيّ خبر أو نشر أخبار مغلوطة للحقيقة. كافة المواد القانونية المُتعلّقة بالقانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان هناك فقرات مهمّة جدّاً تتحدّث عن دور الصحافي. صحيح أن الاستهداف كان سابقاً، وهنا أودّ أن أذكر المادة 79 من البروتوكول الإضافي لاتفاقية جنيف الرابعة 1977 التي تتحدّث عن الدور المهمّ للصحافي بل إن على الدولة العدوّة في حال أيّ نزاع أن تلتزم بحماية الصحافيين مثل حماية المدنيين، ولكننا رأينا أن دولة الكيان لا يهمّها لا المدنيين ولا الصحافيين ولا كبار السن وغيرهم، لهذا أقول إن ما يحدث يُعدّ جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية.

 

=هناك العديد من التصريحات التي صدرت سواء عن المُقرّرة الخاصة للحقّ في المعلومات في الأمم المتحدة أو عن غيرها من المُقرّرين الخاصّين، وحتى بيان المُقرّر السامي الذي انتقد هذه الانتهاكات ولكن، حقيقةً نحن سئمنا من هذه الانتقادات التي لم تؤدِّ حتى الآن إلى أية نتيجة إيجابية. والمشاهدون يدركون كيف أن العالم الغربي بأجمعه لم يستطع وضع حدٍّ لهذه الانتهاكات التي اقتربت من عامين وما زال الكيان الصهيوني مستمراً في استخدام كافة الآليات التي تُعدّ ليس فقط مُخالفةً للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني بل جرائم حرب ورغم ذلك لم يُدَن حتى الآن. وهنا أودّ أن أقول إن هذا العالم الغربي الذي وضع آليةً لكافة هذه القوانين والمواثيق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ليس بريئاً من التواطؤ مع الكيان سواء بطريقةٍ رسمية أو سريّة. لذلك نحن نحاول استخدام كافة الآليات لتذكير الغرب بالآليات القانونونية التي وضعها لحماية الإنسان، والصحافي هو إنسان أيضاً، فلو تمّ اغتيال صحافي في حربٍ أخرى أو نزاعٍ آخر لقامت الدنيا لكن للأسف نحن نعلم أن هناك تواطؤاً مع هذا الكيان بطريقةٍ مختلفة.

 

بيار أبي صعب: أستاذة هند الضاوي استهداف الصحافيين ليس فقط تجسيداً لما نعرفه عن الاحتقار الكامل الذي يكنّه الكيان الغاصِب لحقوق الإنسان الأساسية، بل هناك ما هو أهمّ، اعتراف إسرائيل غير المباشر بالفَظائع التي ترتكبها في القطاع وحاجتها إلى إلغاء كل القرائن والإثباتات، ما رأيك؟

 

هند الضاوي: أنا أعتقد أن هذا إنْ دلّ فإنما يدلّ على أنه مُحتلّ مُختلّ، هذه المُطالبات وهذه الفَجَاجة التي تتعامل بها إسرائيل تؤكّد أنها في نهايتها. لدينا في مصر قناعة في هذا السياق.، الدكتور عبد الوهاب المسيري الخبير في الشؤون الإسرائيلية والصهيونية عندما سُئِل قبل وفاته متى نقول إن زمن الاحتلال ينتهي وتنتهي إسرائيل؟ فأجاب حينما يتوحّش، وهو بالفعل الآن يتوحّش، وهذا دليل على حال عدم اليقين التي يعاني منها الإسرائيليون في الداخل. انظر كيف هم في حال  حرب مع أية دولة كإيران مثلاً، تراجعوا سريعاً وتوسّلوا إلى أميركا لوقاف الحرب، بينما مع المدنيين العزّل الذين لا حول لهم ولا قوّة يستخدمون أبشع الجرائم لإظهار قوّتهم. وأنا أتّفق مع ضيفك الكريم الذي قال إن لدى إسرائيل منهجية تقوم على تعمُّد إظهار القوّة عبر القتل وغيره، وهذا الإفراط في استخدام القوّة حتى على المستوى الشخصي إنما يؤكّد أن الإنسان داخلياً يعاني من ضعف شديد، وهذا ما يعانيه الإسرائيليون حالياً. إذا نظرتَ حتى في المُناظرات السياسية للمُحلّلين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين السابقين لاحِظ لغة الجسد تشعر بأنهم يرتعشون أثناء المُناظرة. وهذا إن دلّ فإنما يدلّ على حال عدم اليقين الداخلي لديهم وشعورهم بأنهم اقتربوا من النهاية. إسرائيل لن تستطيع أن تُغيّر القانون الدولي، وبالمناسبة العالم على شفا حرب كبرى حتى بعيداً عن قطاع غزّة. الأنظمة أو المنظّمات الحاكمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية واتفاقية يالطا وغيرها أصبحت على المحكّ. لقد فَقَدَ العالم كله ثقته بهذه المنظّمات لأنها لم تستطع أن تفرض قوانينها أو تُلْزِم العالم بها سواء في حرب أوكرانيا أو في حرب غزّة، وبالتالي نحن نعيش نهاية مرحلة ينتهي معها الاحتلال. أنا مُتفائلة بالمناسبة رغم أني أعلم ولديّ يقين بأن عامي 2025 و2026 سيكونان من أصعب الأعوام لأن إسرائيل لا تستطيع الاستمرار طويلاً في غزّة. هي تمزَّقت من الداخل، نحن دائماً ننظر إلى تداعيات الحرب على الشعب الفلسطيني لكن في المقابل يجب أن ننظر أيضاً بنفس العين إلى تداعيات هذه الحرب الإجرامية داخل إسرائيل، إسرائيل تتمزَّق، جيشها لا يجد احتياطياً، هناك هروب جماعي من الجنود الذين دخلوا الحرب في غزّة. هل رأيتم جيشاً يقتل بعضه عن طريق الخطأ بسبب اهتزاز نفسي؟ لم نرَ ذلك من قبل. هناك أكثر من 4000 عنصر في جيش الاحتلال مبتورو الأيدي والأقدام بسبب القتال، هناك أزمة كبيرة في إسرائيل.

 

فكرة أن نتنياهو يحاول القفز إلى الأمام ستدفعه إما لضرب إيران مرة أخرى فيُقضى بذلك على الكيان، أو لمواجهة مصر عسكرياً، ومصر تستعدّ لهذه الخطوة. أقصد أني متفائلة لأنني أعلم حقيقة هذا الكيان وأنه لن يستمرّ في حرب غزّة، حتى يحقّق انتصاراً استراتيجياً لا بدّ من أن يصطدم بإحدى الدول الكبرى في منطقة الشرق الأوسط وقد شاهدنا جولة صغيرة مع إيران وما انعكس على هذا الكيان الذي تدخّل دونالد ترامب سريعاً لإنقاذه لأنه شعر بالوَهْن الشديد.

 

بيار أبي صعب: دكتور مكرم خوري مخول لنعود إلى =إشكالية الصحافة في غزّة. بعد طول إقصاء للإعلام عن غزّة صرّح نتنياهو عن نيّته إدخال صحافيين أجانب برفقة جيش الإبادة. بمعنى آخر هو يريد إسكات الإعلام الفلسطيني وسيأتي بمُراسلين مُتواطئين مع الاحتلال لطَمْس جرائمه ونشر سردياتّه المُضلّلة.

 

مكرم خوري مخول: نتنياهو والاحتلال الإسرائيلي يعملان ولغاية هذه اللحظة وفقاً لقوانين الطوارئ التي وضعها الاحتلال البريطاني أثناء الانتداب في فلسطين. وهذه أنظمة طوارئ قمعيّة للغاية يمكن وفقاً لها قَتْل الصحافيين أو أيّ إنسانٍ آخر، إذ أن هذه الدولة التي تقول للعالم إنها دولة ديمقراطية ما زالت تعمل وفقاً لأنظمة قمعيّة ديكتاتورية منذ الحرب العالمية الثانية وما قبل. وبالتالي فهو يفرض الرقابة الذاتية والعسكرية والمدنية، يمنع الصحافيين ويقتلهم، يُدْخِل مَن يشاء ويمنع مَن يشاء. هو يريد أن يُعيد ما عرفناه في الحرب على العراق بإرسال بعض الصحافيين مع قوات وعصابات الاحتلال الإسرائيلي لكي يعكس الصورة، ولكن كما تقول أمّ كلثوم "فات الميعاد"، الوقت فاته نتنياهو لأنه في استراتيجياته الإعلامية ظنّ أنه يجب عليه أن يعتمد على العادة والتكرار، أن ما كان في الماضي سيكون في المستقبل ونسيَ موضوع الاستنتاج اليقيني. هذه مسألة مهمّة لأول مرة أستاذ بيار وأنا أسمعهم صباحاً ومساءً باللغة العِبرية كيف يتكلّمون بين بعضهم، =لأول مرة أقول لكم وبصراحةٍ إنهم فقدوا البوصلة العلمية، هم يتفوّقون على العالم العربي بالعلوم ولكن عندما أخطأوا بالعلوم وبكل ما يتعلّق بدراسة السيكولوجيا والسوسيولوجيا العالمية، عندما ظنّوا – وهذه ربّما أهم نقطة، هم ظنّوا ونتنياهو ظنّ  أنه حتى لو رأى العالم كل هذه الجرائم والفظائع التي ارتكبها نتنياهو خلال هذه العربدة فإن العالم سيدخل في مرحلة التطبيع. ماذا نعني بالتطبيع؟ عندما يعتاد الإنسان على مشاهدة القتل والدم، ولكن الذي حصل أستاذ بيار أن العالم =دخل في مرحلة هائجة من التحسّس لكل هذه الصوَر وإلا لما كنا رأينا كل هذه الصوَر الدموية على الصفحات الأولى للصحف البريطانية والفرنسية والإيطالية، ولما كنا رأينا شخصاً مثل جوزيف بوريل وزير خارجية الاتحاد الأوروبي الذي كان في البداية جزءاً من جرائم العربَدة، أصبح الآن يقول لا يمكن لمحرقة أوروبا أن تغطّي على جرائم العِرقبادة التي يرتكبها نتنياهو.

 

بيار أبي صعب: أشكرك دكتور مكرم، نعود إليك بعد انتظار، عذراً على التأخير دكتور أبو ستّة. نتنياهو صرّح تصريحاً غريباً وعجيباً قال فيه أنا مُنزَل بمهمّة تاريخية وإلهية انطلاقاً من فكرة إسرائيل الكبرى، من الواضح أن العدو يهرب إلى الأمام وأن مرحلة الإبادة لن تتوقّف، إلى أين يذهب العالم عِلماً أن الإبادة لن تتوقّف عند حدود الضفة أو القطاع، وبالتالي العالم العربي كله مُهدّد بهذه الرؤية المجنونة، إسرائيل الكبرى.

 

غسان أبو ستّة: عندما سمعتُ خطاب نتنياهو تذكّرت خطاب شاه إيران عندما أعلن أنه شاهن شاه المنطقة، ملك الملوك. من دون أدنى شكّ فكرة اللجوء إلى الأيديولوجية للهروب من الواقع المريض، إسرائيل دخلت مرحلة الإبادة والمشروع الصهيوني لم يتبقَّ منه إلا العنف، فالسؤال الأساسي الذي يُسأل ليس فقط أين تذهب غزّة بعد الحرب بل ما الذي سيتبقّى من المشروع الصهيوني بعد الحرب، كأن الأمر أشبه بجيران يكتشفون أن أحد سكان الحيّ قاتل مُتسلسل حتى لو لم تُمسك به الشرطة أو يُحاكَم أو يُعاقَب أو يُسجَن فإن باقي الجيران يعلمون أنه قاتل مُتسلسل.

أعتقد أن الأزمة سببها ليس الصمود الأسطوري بل الخُرافي لشعبنا في قطاع غزّة. في المرحلة الأولى حاول التطهير العِرقي بدفع الناس من الشمال إلى الجنوب، ففوجئ بعودتهم من الجنوب إلى الشمال. حاول مرة أخرى، والآن يحاول للمرة الثالثة طرد الفلسطيني من أرضه، حاول تجويعه لإجباره على الخروج، لكن صمود شعبنا لم يتوقّعه الصهاينة ولا الغرب. لديّ قناعة أنه في الأسبوع الأول بعد السابع من أكتوبر عندما اجتمع كل قادة الدول الغربية مع نتنياهو تمّ الاتفاق على المشروع الإبادي بكل تفاصيله، لكن ما لم يتمّ الاتفاق عليه هو فشل نتنياهو في إنجاز المهمّة وبقاء المهمّة غير مُنْجَزة قرابة السنتين وشعبنا صامد. أنا لا أقلّل من هوْل المُعاناة، كمية الفُقدان للأحبّة، للأطفال، للأهل، للأرض، للبيوت ولكن الفلسطيني لم يخرج من أرضه، صمد، كل مؤسّسات المجتمع الفلسطيني جنّدت نفسها كجزءٍ من المقاومة ضدّ هذا المشروع. زملائي في القطاع الصحّي لا يزالون يداومون في مستشفياتهم، وعندما يُدمَّر مستشفى يذهبون إلى آخر. اللجان المُختصّة داخل وزارة الصحّة تجتمع دورياً لإدارة حياة الناس. هذا الصمود هو الذي أفشل المشروع، ودفع نتنياهو – كما قلتُ – للحاجة إلى الهروب إلى الأمام، بالدخول في معارك مُهاجمة لبنان ثم مُهاجمة إيران ثم مُهاجمة سوريا، وسيستمر بهذه الحرب لأنه غير قادِر على الانتصار في الحرب الأساسية.

 

بيار أبي صعب: أستاذة هند الضاوي بنفس الاتجاه دعيني أسألك، الحديث بهذه الطريقة عن إسرائيل الكبرى هل يستفزّ الأنظمة العربية؟ هل يستفزّ الشعوب العربية؟ كيف كانت =ردّة الفعل العربية حول هذه الرؤية المجنونة والهذيانية والربّانية والتاريخية التي تُسمّى إسرائيل الكبرى؟

 

هند الضاوي: أعتقد أن هناك انقساماً ما بين محاولة تسطيح هذا الأمر على اعتبار أن إسرائيل لن تستطيع أن تفعلها، أن تبني دولة من النيل إلى الفرات لأن نتنياهو يواجه من خلاله عقبات شديدة، وهو في حال لا تسمح له حتى بخوض حرب مع دولةٍ كبيرةٍ. والجزء الآخر يطالب بردّ جماعي عربي على نتنياهو، وأن هذا الأمر يمسّ بالسيادة، وأنه لا بدّ من أن يكون هناك مشروع عربي لمواجهة إسرائيل، لكننا للأسف تجاوزنا كل هذه الطروحات. لم يكن لدينا مشروع عربي، نحن نتحدّث عن مشروعٍ غربي، مشروع أميركي، مشروع إسرائيلي، مشروع تركي، مشروع إيراني. هذه الدول لديها استراتيجيّات للتعامُل. نحن كدولٍ عربيةٍ لم نعد نملك تأثيراً قوياً وحقيقياً وجماعياً لكنني كمصريةٍ لا أعوّل على العمل الجماعي العربي لأننا فشلنا فيه. أنا أعوّل على أن مصر لن تسمح بهذا الأمر، وهناك تصريحات رسمية لا تقبل التأويل سواء من رئيس الدولة أو من القيادات العسكرية كان آخرها من محافظ شمال سيناء، وهو لواء أركان حرب سابق وكان قائداً للجيش الثاني، وقال إن مصر تستطيع التصدّي لإسرائيل بما هو غير مُعْلَن وليس فقط المُعْلَن، ويقصد تسليح الجيش المصري. إذاً أنا أعوّل على حُلم استعادة سيناء لأنك تعلم أنه في العقيدة التوراتية اليهودية فإن سيناء أكثر قَدَاسة عند اليهود من القدس نفسها لأن رسالة اليهود وفقاً لمُعتقداتهم منذ بدايتها وحتى نهايتها كالنبيّ الأكثر قداسة موسى كانت في سيناء المصرية، وهذا الأمر تحدّث عنه سموتريتش ونتنياهو =مؤخّراً لكنني أعتقد أن نتنياهو مهما فعل، لن يستطيع أن يُحقّق هذا المشروع. للأسف حدثت طامّة كبرى وإخفاق كبير بأن نتنياهو يتجوّل بجيش الاحتلال في جنوب سوريا، وبالتالي أصبح على مَقْربةٍ من الفرات. تعلمون أن نُبوءة إشعياء التي تحدّث عنها نتنياهو في الأسبوع الأول من الحرب على غزّة، وتعهّد لشعبه بتطبيقها تقول بتدمير سوريا ثم تدمير مصر للسيطرة عليها من قِبَل اليهود. هذا هو مُخطط نتنياهو لكن تحقيقه أصبح صعباً، أنت ترى ما حدث له في غزّة، في لبنان لم يستطع أن يُكمل الحرب، في إيران ثلاثة أيام وبكى، أيّ منطق أو أيّ عقل يقول إن إسرائيل تستطيع أن تفعل كل ذلك؟ مصر بالمناسبة لا تأخذ مسألة إسرائيل الكبرى على محمل السُخرية أو التهريج، هي تعلم أنه مشروع إسرائيلي كبير، ومنذ وصول البقرات الحُمر عام 2022 نبّهنا كثيراً – نحن كإعلاميين مصريين – أن إسرائيل تُهيّئ المنطقة لحرب هرمجدون. وحينما تحدّث أبو عُبيدة بعد أيامٍ من عملية السابع من أكتوبر قال إن هذا ردّ على قدوم البقرات الحمر أي هدم المسجد الأقصى. المُخطّط كبير ولكن فُرَص تطبيقه الآن اصبحت أصعب بكثير من بداية الحرب لأن مَن دعم نتنياهو وشجّعه على نشر الفوضى في منطقة الشرق الأوسط أصبح غير قادر الآن على تقديم المزيد.

 

بيار أبي صعب: إسمحي لي مرة أخرى أن أشكرك وأهنّئكِ على تفاؤلك. دكتور مكرم خوري مخول سؤال أخير حول الصحافيين في غزّة، هؤلاء نذروا أنفسهم للشهادة، أنس الشريف كان ينتظر مصيره وكتب قبل أربعة أشهر من استشهاده وصيّة مؤثّرة قال فيها: "أوصيكم بفلسطين، نبض قلبي كل حرّ في هذا العالم، أوصيكم ألا تستسلموا لقيودكم، ولا تقعدكم الحدود حتى تُشرق شمس الكرامة والحرية على بلادنا السليبة". كيف تفاعلتَ مع هذه الوصية باختصار؟

 

 

مكرم خوري مخول: أشعر دائماً عندما أقرأ هذه الوصايا أثناء وجودي في قطاع غزة وهذه مسألة مهمّة ممهورة بالدم، هذه دماء حوالى 240 صحافياً فلسطينياً في قطاع غزّة لم تنقل فقط المعلومة وتكسر الهيمنة الصهيونية على الإعلام فحسب بل ساهمت في الحفاظ على الذاكِرة وفي كتابة التاريخ لأول مرة من قِبَل الضحية. هذه مسألة كبرى وهذه هي الرسالة الرائعة التي يقوم بها الصحافيون جميعاً في قطاع غزّة. نعم استشهدوا والثمن باهِظ جدّاً ولكن الشعب الفلسطيني وكل مَن يُناصره سيكسب معركة كتابة التاريخ، وهذه المرة وإن كانت ممهورة بالدماء إلا أنها ستكون تاريخ انتصار الضحية الفلسطينية.

 

بيار أبي صعب: دكتور أبو ستّة سوف نختم معك، كيف يمكن أن نواجه اليوم هذا المشروع في هذه اللحظة السياسية المُعقّدة، هذا المشروع الاستيطاني الاستعماري الذي هو الكيان الصهيوني في أوج جنونه وتوحّشه وتغوّله؟

 

غسان أبو ستّة: على الجماهير العربية أن تتحرّك لأنها هي الوحيدة القادرة على لَجْم هذا المشروع وهزيمته لأنه أعلن عن نواياه التي تمتدّ إلى العالم العربي كله، وإذا لم يُهْزَم هذا المشروع في غزّة فإنه سيمتدّ إلى العالم العربي كله. سيحاول مرة أخرى دخول لبنان، سيحاول احتلال الأردن ومصر والوصول إلى العراق. يجب على الجماهير العربية أن تتحرّك لهزيمة هذا المشروع. 

 

هند الضاوي: أنا أتحفّظ على فكرة احتلال مصر، هو لم يجرؤ على احتلال مصر وليس كل ما يتمنّاه المرء يُدركه ونحن نستطيع مُحاربة إسرائيل.

 

بيار أبي صعب: من دون شكّ، دكتور غسان أبو ستّة لم يقل غير ذلك، هو قال لو تُرك لإسرائيل لتغوّلت واحتّلت هذه الدول.

نترك كلمة الختام لجوليان أسانج "في كل مرة نكون شهوداً على الظلم ولا نفعل شيئاً نروّض أنفسنا أكثر على الإذعان والخضوع، هذا سيجعلنا نفقد شيئاً فشيئاً كل =قُدرةٍ على الدفاع عن أنفسنا وعمّن نحبّ." شكراً لضيوفي مع حفظ الألقاب غسان أبو ستّة، هند الضاوي، مكرم خوري مخول، شكراً على المتابعة وإلى الأسبوع المقبل.