" إسرائيل الكبرى " حين تتحول المزاعم الدينية إلى خرائط على الطاولة

في خطوة غير مسبوقة، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو دعمه الكامل لما يسمى "رؤية إسرائيل الكبرى"، معتبرًا نفسه في مهمة تاريخية وروحية لتحقيق هذا المشروع التوسعي وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، ذهب أبعد من ذلك حيث عرض خريطةً تظهر امتداد إسرائيل لتشمل أجزاءً من الأردن وسوريا ودول عربية ،ما أثار موجةً من الإدانات، وفي الولايات المتحدة، صرح الرئيس السابق دونالد ترامب أن "إسرائيل" “بقعةٌ صغيرةٌ” في الشرق الأوسط/ مقترحًا لتوسيع حدودها لتشمل مزيداً من الأراضي. هذه التصريحات تطرح تساؤلات عن حقيقة المشروع التوسعي الإسرائيلي وجذوره وكيفية تنفيذه ؟ وتثير مخاوف من تبعاته على الأمن والاستقرار الإقليمي.

نص الحلقة

 

كمال خلف: سلام الله عليكم مشاهدينا، في دوائر القرار، في خطوةٍ غير مسبوقة أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو دعمه الكامل لما يُسمّى رؤية إسرائيل الكبرى، مُعتبراً نفسه في مهمّة تاريخية وروحية لتحقيق هذا المشروع التوسّعي.

وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سمودريتش ذهب أبعد من ذلك حين عرض خريطة تظهر امتداد إسرائيل لتشمل أجزاء من الأردن وسوريا ودول عربية، ما أثار موجة من الانتقادات.

أما في الولايات المتحدة الداعمة لإسرائيل، فصرّح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن إسرائيل بقعة صغيرة في الشرق الأوسط، مُقترحاً توسيع حدودها لتشمل مزيداً من الأراضي.

هذه التصريحات تطرح تساؤلات عن حقيقة المشروع التوسّعي الإسرائيلي وجذوره وكيفية تنفيذه، وتُثير مخاوف من تبعاته على الأمن والاستقرار الإقليمي. حيّاكم الله.

أرحّب بضيف هذه الحلقة من القدس المحتلّة، الأستاذ وليد حبّاس الباحث في المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية. أستاذ وليد حيّاك الله، ستكون معنا في دوائرنا الثلاث التي سنطرح فيها عناوين متنوّعة تتعلّق بهذا الموضوع. أرحّب بك في دوائر القرار وسأبدأ معك من الدائرة الأولى وعنوانها "خرائط إسرائيل الكبرى من الوعد التوراتي إلى الطاولة السياسية".

أستاذ وليد، سأبدأ معك من التوقيت السياسي لهذا الإعلان. ما الذي جعلهم الآن يتحدّثون ويعلنون ذلك من دون أية حسابات للتداعيات؟ ما هي الظروف التي أوصلتنا إلى هذه اللحظة؟

 

وليد حباس: أعتقد يجب أن ننظر إلى ثلاثة عوامل عامة، وهناك عامل ذاتي تحقّق شرطه خلال هذه الحرب الجارية منذ عامين.

العوامل الثلاثة هي: هناك ضعف وترهّل في محيط إسرائيل، يجب أن أذكر هنا ليس فقط الدول العربية أو الأنظمة العربية وإنما مُجْمَل التركيبة الموجودة في الشرق الأوسط. هناك عدم تجانُس، لا يوجد هناك مشروع واحد قومي إلخ. وهذا مفهوم.

العنصر الثاني هو المجتمع الدولي، المجتمع الدولي يرى إسرائيل منذ عام 48 وهي تستوطِن وتحتلّ وتتوسّع وتنتهك كل الأعراف الدولية. وأنا أتحدّث هنا عن الاعتداءات على الأراضي، بمعنى تمّ ضمّ القدس سنة 67، تمّ احتلال الضفة الغربية سنة 67، تمّ التعامل مع الجولان قطعة من إسرائيل سنة 67. نذكر اتفاقية كامب ديفيد التي أبرمت مع مصر، هناك خلاف على طابا استمرّ عشر سنوات بعد توقيع الاتفاق. إذاً الـDNA لإسرائيل هو هذه التوسّعية، وهذا أمام المجتمع الدولي يدركه، وهناك ضعف شديد وهناك غضّ نظر، وقد نستخدم كلمة أكثر: هناك تواطؤ من المجتمع الدولي.

العامل الثالث هو قوّة إسرائيل. إسرائيل هي دولة قوية جدّاً، أنا أذكر كلمة قوية بحذر شديد وبرؤيةٍ نقدية، هي قوية لأنها دولة مؤسّسات، دولة تصرّ على الرؤية.

 

كمال خلف: مُسلّحة؟

 

وليد حباس: دولة مُسلّحة. العامل الذاتي الذي تحقّق خلال هذه الحرب هو يتلخّص بعبارة قالها بن غوريون خلال الخمسينات عندما تأسّست دولة إسرائيل، وسألوه: هل هذه حدود دولة إسرائيل بعد الـ48؟ قال: لا، حدود دولة إسرائيل هي حيثما يقف جيشنا.

 

كمال خلف: آخر جندي إسرائيلي. أستاذ وليد، لنلقِ نظرة على الخرائط في هذه الدائرة، أنا وأنت نناقشها معاً. نتنياهو، مشاهدينا، قال صراحة إنه في مهمّة تاريخية وروحية، وعبّر عن تبنٍ علني لرؤية إسرائيل الكبرى. فما تفاصيل هذه الخريطة التي يتمّ الحديث عنها؟

سأبدأ من سوريا: سوريا، منطقة الجنوب السوري كاملاً: القنيطرة، درعا، السويداء، وأيضاً أجزاء من منطقة ريف دمشق وصولاً إلى العاصمة دمشق. بالمناسبة طبعاً الجولان السوري بالكامل، لكن الامتداد هنا إلى مدينة حمص كلها، أجزاء من مدينة حماة وصولاً إلى هنا إلى نهر الفرات، هذا ما تقتطعه إسرائيل من سوريا.

بالنسبة للبنان: طبعاً لبنان، جنوب لبنان بشكل كامل: صور، صيدا، النبطية، مرجعيون وبنت جبيل حتى نهر الليطاني هنا جنوب لبنان، إضافة إلى كامل سهل البقاع وصولاً إلى مدينة بعلبك.

بالنسبة للعراق: كل المحافظات الغربية تقريباً: الأنبار، هنا نينوى، الموصل، أجزاء من صلاح الدين، طبعاً سهل نينوى بالكامل أيضاً ضمن هذه الخريطة هنا بعد الفرات بهذا الاتجاه شمالاً. أيضاً الحديث عن تخوم دولة إسرائيل الكبرى المزعومة إلى حدود كركوك وضمّ سهل نينوى. هذا بالنسبة للعراق.

ماذا عن مصر؟ شمال سيناء، هنا في مصر، شمال سيناء بالكامل: رفح، الشيخ زويد، العريش، وسط سيناء حتى مشارف قناة السويس. في هذه المنطقة الشمال الغربي أيضاً من السعودية، المملكة العربية السعودية، هنا حتى تبوك في هذه المنطقة. طبعاً تشمل حقل، سواحل خليج العقبة وكل هذه المناطق هنا. واللافِت أيضاً أن خريطة سمودريتش ونتنياهو وبن غفير تصل إلى منطقة نيوم، المنطقة الاقتصادية التي أعلن عنها وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان.

الأردن: الخريطة بالنسبة للأردن كامل في خريطة التيّار القومي الديني المُتشدّد، لكن خرائط أخرى يتضمّن بعضها أجزاء من الضفة الشرقية في الأردن: منطقة وادي الأردن والبادية الغربية. في خريطة سمودريتش التي عرضها في باريس عام 2023: الأردن كاملاً.

هذه هي إسرائيل الكبرى التي تبنّاها نتنياهو وأعلنها صراحة وتحدّث عنها سمودريتش.

أستاذ وليد، كيف نقرأ دلالة هذه الخريطة، دلالاتها السياسية وتفاصيلها؟

 

وليد حباس: بداية دعني أذكر لك مثالا من التاريخ قد يكون ذا دلالة، إذا عدنا إلى عام 1800 وتذكّرنا ما كان يقوله رئيس الولايات المتحدة جيفرسون عندما كانت الولايات المتحدة فقط في الثلث الشرقي مما أصبح لاحقا الولايات المتحدة، وقال سوف نتوسّع ونحتلّ كل القارّة. قد يكون هذا ضرباً من الخيال في حينه، لكن بالفعل اشترى لويزيانا من فرنسا، ثم جاء مونرو وأخذ فلوريدا واشتراها، ثم احتلّوا واحتلّوا واحتلّوا وطُرِد كل الهنود الحمر وتوسّعت الولايات المتحدة. الطبيعة الاستعمارية التوسّعية للولايات المتحدة هي ذاتها لإسرائيل في حالتنا الآن. قد نقول هذا كلام غريب، كلام مُتَعَجْرف، ولكن طالما هذا الطموح وهذه الرؤية موجودة ومُترسّخة لدى إسرائيل، علينا أن نأخذها على محمل الجد.

الآن بالعودة إلى الخريطة، بالأمس فقط كنت أشاهد فيديو يرصُد الخرائط التوراتية: كيف أن سيّدنا إبراهيم ولِدَ في جنوب العراق ثم انتقل إلى حلب ثم وصل إلى فلسطين. كل هذه المسيرة التاريخية مرسومة بالخرائط ومطبوعة في ذهنية الإسرائيلي. بالتالي هو لا ينظر إلى الأردن من منظور العلاقات الدولية وأن هناك دولة أخرى ولها سيادة وهناك قوانين دولية، هو ينظر إلى نفسه على أنه في مهمّة تاريخية. وهذه بالمناسبة هي ما أشار لها نتنياهو، أنه أنا في مهمّة روحانية. هو يُشبّه نفسه بملوك الأسطورة التوراتية مثل الملك داود أو الملك شاؤول أو الملك سليمان أو يحس كامي إلخ. هؤلاء كانوا ملوكاً لديهم رسالة روحانية، أنهم يريدون أن يقيموا حُكم الله على الأرض. وهذا الاتفاق بالعبرية "العهد" الذي عقد بين الله سبحانه وتعالى والنبي موسى على جبل الطور أن أورثه هذه الأرض. هنا باختصار أودّ أن أذكّرك بسفر الخروج في الإصحاح ثمانية الآية 3 جاء: "فنزلت لأنقذهم من يد المصريين وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيّدة وواسعة"، ويكمل الآية ولا أريد أن أطيل بها: "أرض اللبن والعسل إلى مكان الكنعانيين والحثّيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين".

 

كمال خلف: سأتحدّث عن هذا الجَدَل التوراتي أستاذ وليد، لكن اسمح لي أيضا بما أنه عرضنا إسرائيل الكبرى ماذا يريدون، لنعرض على ماذا يسيطرون. الخريطة الثانية مشاهدينا: ما أبرز المناطق التي سيطرت عليها إسرائيل الآن؟ سأبدأ من جنوب لبنان والبقاع، منطقة البقاع القريبة من الحدود السورية اللبنانية.

في جنوب لبنان، مشاهدينا، نرى أن إسرائيل تسيطر على خمس تلال تتمركز فيها، هي محور خلاف الآن، لا تريد الخروج منها. هذه هي التلال في الأزرق، أبرزها تلة الحمامص وجبل بلاط واللبونة، خمس تلال تقريبا. إسرائيل تتوغّل في هذه المنطقة هنا في إصبع الجليل وهنا على الحدود بعد الخط الأزرق بحدود 1 إلى 2 كيلومتر داخل الأراضي اللبنانية، أنشأت نقاط مراقبة متقدّمة، نشرت جرّافات تعمل على تمشيط المنطقة. بالنسبة إلى البقاع، محيط منطقة المصنع، أنا أتحدّث عن البقاع، هذه المنطقة الممتدّة على الحدود مع سوريا، محيط المصنع، شمال البقاع الشرقي، نقاط مراقبة إسرائيلية قريبة من الحدود على مسافة تتراوح بين 15 و20 كيلومترا عن الحدود الداخلية.

ماذا سيطرت في سوريا أخيرًا؟ بعد سقوط النظام في سوريا، إسرائيل تقدّمت، أخذت منطقة جبل الشيخ، كل التلال تقريبا، منطقة جبل الشيخ شمال غرب القنيطرة. القوات الإسرائيلية سيطرت على التلال الاستراتيجية هناك، هذه منطقة استراتيجية جدا، أنشأت نقاط مراقبة وتحصينات عند حدود المرتفعات الجغرافية لمسافة تتراوح بين 8 و10 كيلومترات بعيدا عن قرى قطنا. عندما أتحدّث عن قطنا، أتحدّث عن منطقة تقع هنا، قريبة جداً من العاصمة السورية دمشق، 11 كيلو تقريبا بين قطنا وبين العاصمة السورية دمشق.

صحيح لا توجد سيطرة إسرائيلية مباشرة على قطنا أو على مناطق ريف دمشق، لكن ثمة توغّلات تطال المنطقة التي كما ذكرت تبعد كيلومترات قليلة جدًا عن دمشق.

أما السويداء فقصّة أخرى. السويداء وريفها منطقة كبيرة جدًا في جنوب سوريا. هنا أيضا إسرائيل لا تسيطر براً مباشرة، ولكن الكل يعرف أنها أصبحت منطقة نفوذ إسرائيلية. بعض النقاط الحدودية، نقاط المراقبة بالقرب من حوض اليرموك أنشأتها إسرائيل حديثًا، وفي مناطق جنوب غرب السويداء تحرّكات القوات الإسرائيلية اقتصرت على غارات جوية، نقاط رَصْد بمسافات تتراوح بين 15 و20 كيلومترا. بالنسبة لسوريا طبعًا سنتحدّث عن الضفة لاحقًا وسنتحدّث كذلك عن نواياهم وإعلانهم احتلال غزّة والمجزرة التي تحدث هناك.

سؤالي لك أستاذ وليد، قبل أن نعرض مزيدًا من الخرائط مع ما عرضناه الآن في سوريا ولبنان، أقلّ طبعًا مما يجري في غزّة، وسأتحدّث معك عن الضفة بعد قليل: هل نستطيع القول إن هذا المشروع الآن يُنفّذ، بدأوا يتحدّثون عنه في العلن الآن من دون تردّد وبوقاحةٍ لأنهم بدأوا فيه وهذه الخرائط نعتبرها دليلًا على أن المشروع بدأ التنفيذ فعلًا؟

 

وليد حباس: أودّ أن أعلّق على هذه الخرائط. هناك فرق بين التواجُد الإسرائيلي الآن في جنوب لبنان وبين تواجده في سوريا، وكلاهما اعتداء وقح واحتلال إلخ، هذا مفهوم. ولكن قبل هذا دعنا لا ننظر بشكل مُبسّط جدًا لمفهوم السيطرة الإسرائيلية، بمعنى يجب أن يكون هناك جندي موجود على تلك الأرض. إسرائيل الآن فعلًا تسيطر على كل سوريا ولبنان بشكلٍ كامل، هي تسيطر على الأجواء وهي تخضعها لأفضل أنظمة الرقابة، وهي قادرة على أن تطلق النار على أية بقعة داخل لبنان وداخل سوريا، وهي أيضا قادرة على تنفيذ إنزال جوّي ووضع جنود في أيّ مكان داخل دمشق وداخل لبنان. بهذا المعنى هناك سيطرة كاملة، هذا لم يكن في السابق، وهذا يجب أن نراه أيضًا كجزءٍ من مدّ النفوذ، ليس فقط لدواعٍ عسكرية أو أمنية كما تدّعي إسرائيل، وإنما جزء من رؤيتها التوسّعية. موطئ قدم لا رَيْب، ولكن عندما نذهب إلى ما يحصل الآن في لبنان، ولكن قبله هناك ثلاث منظّمات إسرائيلية تعمل على الاستيطان المدني، نقل سكان إسرائيليين للاستيطان. هناك منظّمة تدعى "عرويتسافيو" بمعنى جنود الشمال، تضع على نجمة داود وفي وسطها شجرة الأرز، وهي مُختصّة بالاستيطان داخل لبنان، قامت بثلاث محاولات وأخلاها الجيش الإسرائيلي، وتم تصويرهم حتى يدّعوا أن الجيش لم يأتِ هنا للاستيطان.

وأيضا في داخل سوريا كانت بالأمس محاولة لبناء مستوطنة إسمها "نافيه شيكل"، وتمّ وضع خيام وعَلَم قبل أن يتمّ إخلاؤها.

ولكن في سوريا المعادلة مختلفة، هناك تمتطي إسرائيل على ظهر الأقلّية الدرزية التي أسْرَلتها بفعل كل مشروع الاستعمار منذ عام 48 وتحوّلت لأداة لمدّ نفوذها داخل سوريا، وهي تستخدمها الآن حتى تبني جسور ثقة ما بين الدرزي والدرزي على جانبي الحدود، وربما يكون هذا سببا حتى تمدّ نفوذها فعلاّ، تضمّها وتصبح جزءًا من إسرائيل، وفي هذا دعنا لا نستبعد.

 

كمال خلف: باختصار هنا أستاذ وليد، نحن نتحدّث عن فرصة. أنت تحدّثت عن فرق بين القُدرة، قُدرة إسرائيل. لدى إسرائيل الآن مَقْدِرة على الوصول إلى دمشق.

لديها مَقْدِرة يد مُطلقة في لبنان وفي أجواء بيروت، لكن أيضًا في تقدّم جغرافي برّي يحصل الآن بتثبيت نقاط هنا ونقاط هناك كما شرحنا قبل قليل، وبالتالي =نحن نتحدّث عن مشروع يرى الإسرائيليون أن هناك فرصة الآن لتنفيذه، وهم لهذا السبب لا يغلقون الحروب التي يخوضونها في المنطقة، صح؟

 

وليد حباس: هذا كلام دقيق، هذا كلام دقيق مئة بالمئة، وأريد أن أضيف، في هذه الحرب رأينا ثلاثة عوامل تتفاعل مع بعضها. كان هناك البُعد العسكري الأمني الذي تأتي به إسرائيل في المقدّمة، مثلا قمّة جبل الشيخ التي تحتلّها داخل الأراضي السورية خارج الجولان أصلا السوري المحتلّ، هي بالنسبة لها منطقة أمنية استراتيجية مهمّة، هذا أولا. وأيضا البُعد التوراتي الأركيولوجي، قتل أكثر من شخص، هم أساتذة ودكاترة في جامعات إسرائيلية، كانوا من بين الجنود في جنوب لبنان، يبحثون ويحاولون أن يروا ويجدوا رواية توراتية حتى يبرّروا وجودهم وعدم خروجهم من هناك. وهناك أيضًا البُعد المتعلّق في ضعف الدولة العربية التي تدخلها إسرائيل، للأسف سوريا ولبنان.

 

كمال خلف: أستاذ وليد، لنلقِ نظرة على الضفة الغربية. في الرابع عشر من هذا الشهر، آب/أغسطس، أعلن وزير المالية الإسرائيلي بتسائيل سمودريتش خطّة استيطانية جديدة تُعْرَف باسم E1. هنا في هذه المنطقة تهدف إلى ربط مستوطنة معالي أدوميم بمدينة القدس المُحتلّة. لنرى أيضا خريطة الضفة الغربية، المنطقة المُستهدفة تقع بين القدس الشرقية شرق القدس هنا ومستوطنة معالي أدوميم في هذه المنطقة.

المشروع يفصل بين شمال الضفة الغربية وبين جنوب الضفة الغربية، ويعزل المدن الفلسطينية عن بعضها البعض، ويعزل شرق القدس هنا عن محيطها الفلسطيني. تشمل الخطة بناء نحو 6000 وحدة سكنية استيطانية، وتوسيع المُستوطنات القائمة، وتوطين مزيد من المُستوطنين في الأراضي.

المشروع الذي أثار جدلًا الأسبوع الماضي، مشاهدينا.

أستاذ وليد، هنا في الضفة الغربية، المشروع هذا الذي تمّ الإعلان عنه، أعلن عنه =سمودريتش. هل هذا المشروع، إذا ما نفّذ، يعني أن الدولة الفلسطينية، مشروع الدولة الفلسطينية، انتهى وإن تغيّر الواقع جذريًا في منطقة الضفة الغربية؟

 

وليد حباس: قبل أن أجيبك، دعني أقول لم تكن هناك دولة فلسطينية أو مشروع دولة فلسطينية، وإذا كان هذا انتهى منذ أكثر من 15 عاما. ولا أدري لماذا الناس ما يزالون في الأسطوانة أنه انتهى وهناك ضمّ إلخ.

مَن يأتي إلى الضفة الغربية ويزورها يدرك تماما أنها أصبحت للأسف، وبكل ألم، وأنا أقع في قلب القدس الآن، منطقة ذات سيادة إسرائيلية في الرموز وفي الشوارع وفي كل المعالم في ما يخصّ هذه المنطقة. نعم، صمّمت أوسلو طريقة الحياة للفلسطينيين على أنها تمرّ من بين جيوب معزولة. كل جيب يرتبط بجيبٍ آخر من خلال شارع، إذا فصل هذا الشارع وإذا قطع انقطعت الأوصال ما بين هذين الجيبين. الآن هذه المنطقة E1 هي تفصل الثلث الجنوبي من الضفة الغربية، أقصد بيت لحم والخليل وقراهم ومخيّماتهم، عن الثلثين الشماليين من الضفة الغربية. أفصلهم. بالنسبة للإسرائيلي، هذه الحواجز والتخوم غير مرئية، هو يمرّ من شوارع مختلفة. نعم، بالنسبة للفلسطيني سوف تتحوّل الضفة إلى ضفتين والمكان إلى مكانين. نعم، الآن تحديدًا في اللحظة التي نحن نتحدّث فيها هناك استصعاب كبير جدًا أن يخرج واحد من رام الله إلى نابلس أو من نابلس إلى بيت لحم.

 

كمال خلف: هم بالنسبة لهم طبعًا، احتلال غزّة مهم، لكن الضفة الغربية أهمّ بكثير للعمل عليه.

أستاذ وليد، اسمح لي أريد أيضًا في هذه الدائرة أن نعرض منذ قيام إسرائيل كيف توسّعت إسرائيل وكيف انحسر هذا التوسّع لاحقًا. الآن شرحنا كيف توسّعت.

في عام 1948، عام النكبة، قيام دولة إسرائيل على جزء من أرض فلسطين التاريخية، نزوح مئات الآلاف من الفلسطينيين من مدنهم وقراهم، السيطرة على 78 في المئة من أراضي فلسطين التاريخية. عام 1956، العدوان الثلاثي على مصر بالتعاون مع بريطانيا وفرنسا، احتلّت إسرائيل شبه جزيرة سيناء مؤقّتا، انسحابها تحت ضغط دولي بعد تدخّل الأمم المتحدة والولايات المتحدة.

في عام 1967، احتلّت إسرائيل الضفة الغربية والقدس الشرقية من الأردن، قطاع غزّة من مصر، الجولان من سوريا، وسيناء من مصر كذلك، وتوسّعت بشكلٍ جغرافي كبير في قلب الدول العربية.

عام 1973، حرب أكتوبر، محاولة مصر وسوريا استرجاع الأراضي المحتلّة عام 1967، فشل جزئي أدّى لاحقًا إلى مفاوضات بين مصر وإسرائيل، وقّعت كامب ديفيد عام 1979، وقّعت اتفاقية كامب ديفيد، إسرائيل أعادت سيناء مقابل ما عُرِف بالسلام، رَسْم أول حدود رسمية بين إسرائيل ودولة عربية بعد توسّعها.

عام 1982، الاجتياح الإسرائيلي للبنان، الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني بهدف مُحاربة منظمّة التحرير الفلسطينية، أدّى إلى اجتياح بيروت واستمرار السيطرة على الجنوب حتى عام 2000. عام 2000، انسحبت إسرائيل من جنوب لبنان انسحاباً كاملاً بعد مقاومة حزب الله، إبقاء إسرائيل على مزارع شبعا كجزءٍ من النزاع المستمر مع لبنان. عام 2006، حرب لبنان الثانية، مواجهة مع حزب الله، قصف واسع للجنوب من دون توسّع فعلي على الأرض.

ما بين عامي 2011 و2024، سوريا، مع الحرب السورية، الإسرائيلية توسّعت عبر القصف الجوّي والتدخّلات المباشرة، بعد سقوط النظام السوري العام الماضي توسّعت إسرائيل في جنوب سوريا والقنيطرة وصولًا إلى قطنا وسيطرت على جبل الشيخ ومحيطه.

عام 2024، حرب لبنان الأخيرة، إسرائيل سيطرت على نقاط مُحدّدة في الجنوب اللبناني لتعزيز النفوذ وإضعاف حزب الله مع استمرار المراقبة الجوية. عام 2025، إعلان نتنياهو مشروع إسرائيل الكبرى، خطّة لتوسيع السيطرة على مناطق إضافية في الدول العربية بما فيها الضفة الغربية وقطاع غزّة.

إذًا، مشاهدينا، هذا هو التوسّع والانحسار.

سآخذ تعليقاً من قبل أن نذهب إلى الدائرة الثانية أستاذ وليد: إسرائيل توسّعت وتراجعت كما لاحظنا في العرض، التالي، المرحلة الآن هي مرحلة توسّع، ستليها أيضًا مقاومة وتراجع، أم الأمور اختلفت الآن؟

 

وليد حباس: لا يمكن أن تختلف الأمور كما يقال، تشاؤم العقل لا يلغي تفاؤل الإرادة، لا يمكن أن تختلف طالما هناك جسم سرطان في هذه المنطقة، سوف تظلّ هناك مقاومة وتَقَهْقُر وتراجع وتمدّد. نعم، إسرائيل قوية وهي قادرة على التمدّد، ولكن الشعوب العربية أيضا لدينا الثقة بها. أريد هنا أن أشير إلى نقطة مهمّة ربما لم يتمّ ذِكرها في هذا التقرير الأخير، لأنه كان الحديث فقط عن الأرض، ولكن أنا أريد أن أشير أيضًا إلى الانسحاب الإسرائيلي. كشخص، عام 2005 قرّر شارون سحب المستوطنين من قطاع غزّة، كان لهذا الانسحاب أهمّ دلالة وأهمّ شَرْخ داخل إسرائيل، أهمّ بكثير من الانسحاب أو التقدّم أو التوسّع بالأراضي، لأنه ترك ندبة على جبين المجتمع الإسرائيلي وأخذ عهدًا داخل المجتمع الإسرائيلي، وخصوصا النواة الصلبة الإيديولوجية الإسرائيلية الدينية، أنه بعد اليوم لا تراجع لإسرائيلي من أرض استوطن بها، وإنما تمدّد أكثر وأكثر.

 

كمال خلف: جيّد، هنا إسمح لي أن أنتقل إلى الدائرة الثانية وعنوانها: من الموروث التوراتي إلى العقيدة السياسية، مسار قرن من التبلور؟

أبدأ مشاهدينا هذه الدائرة بهذا العرض: كيف تحوّلت الأساطير إلى مشروع سياسي، نتابع التقرير.

 

تقرير:

منذ أكثر من قرن خرجت فكرة إسرائيل الكبرى من بطون النصوص القديمة إلى أروقة السياسة الحديثة، حُلم لم يعد مجرّد مزاعم دينية بل تحوّل إلى مشروع توسّعي تحمله أحزاب وقادة جعلوا من الأسطورة برنامجًا سياسيًا. قال بن غوريون يوماً: سنقيم الدولة ولو على جزء يسير من الأرض، ثم نحطّم الحدود. فكان ذلك بذرة لعقيدة توسّعية تُعيد سيرة أقوام بائدة كالمغول والتتار. مع بيغن والليكود عام 1977 أعيد تسمية الضفة الغربية رسمياً بأسماء توراتية: يهوذا والسامرة، لتتربّع في جوهر الفعل السياسي. واليوم يقف نتنياهو وسمودريتش وبن غفير، جيل من القادة المهوسين والمرضى الساديين، يقدّمون للعالم رسميًا خريطة تتسّع على حساب شعوب ودول ذات حضارات راسِخة.

خريطة إسرائيل الكبرى تمتدّ من فلسطين إلى لبنان وسوريا والعراق، بل وجزء من مصر والأردن والجزيرة العربية، ليست جغرافيا سياسية بقدر ما هي وَهْم يصغوه خيال جامِح، ومثل شخصية راجح في فيلم السيّدة فيروز الشهير، شبح من الوَهْم صار كابوسا يسيطر على القرية.

لكن الخطر هنا ليس في الحكاية، بل في حجم الدماء التي تُراق بحدود تصنع بالدم والنار، حيث تتغطّى الإبادة بعبارات توراتية مُؤوّلة توظيفًا سياسيًا لا علاقة لها بروح الدين وتعاليم الخالق. فأيّ إله ذلك الذي يبارك محو المدن وتمزيق أجساد الأطفال وخنقهم بالجوع والمرض؟

ما يُسمّى العالم الحر يقف أمام كل هذا العَبَث مُتفرّجًا أو شريكًا، فعلتها بريطانيا مع وعد بلفور عام 1917، وتفعلها أمريكا اليوم بدعمٍ سياسي واقتصادي يمدّ الاحتلال بوسائل القتل والغطاء من المحاسبة.

تلك قصة ستعيد روايتها الأجيال بعيدًا عن موازين القوى الحاكمة اليوم وعن هيمنة القوّة على السردية والقانون.

في النهاية، يبقى الفلسطينيون في خيامهم وبيوتهم المُهدّمة عنوان الحقيقة أمام الأسطورة، فالأرض تعرف أهلها، والخرافة لا تدخل حيّز الواقع إلا في عقول المُشعوذين.

 

كمال خلف: أستاذ وليد، لديّ نقطتان في هذه الدائرة: الأولى، هل يمكن القول إن العقيدة التوسّعية جزء من الهوية السياسية الإسرائيلية ككل منذ تأسيس هذا الكيان أو هذه الدولة، أم أنها ترتبط فقط بالتيّار اليميني المُتشدّد كما يُقال أو يشير البعض؟

 

وليد حباس: طبعًا كليًا، لا، لا ترتبط هي كما ذكرت في بداية الحلقة، هي في الـDNA لكل إسرائيلي، لكل صهيوني. لنتذكّر، إذا رغب البعض أن نميّز ما بين إسرائيلي ويميني داخل هذا الكيان المسخ، أن الذي أقام النكبة وتوسّع على 78 في المئة هم درّة التاج: اليسار الإسرائيلي، موشي ديان، غال ألون، بن غوريون، الخ.

الذين احتلّوا أربعة أضعاف مساحة إسرائيل من الجولان حتى سيناء أيضًا هم درّة التاج لليسار الإسرائيلي، وكان رئيس هيئة الأركان ووزير الدفاع، لم يكن هناك أصلًا يمين في إسرائيل قد وصل للحُكم، وصل لأول مرة عام 77. فبالتالي، لا، هي غير مرتبطة، ولكن هي تتمحور مع كل تيّار جديد، تأخذ صبغة مختلفة. دعني أعطيك مثالاً: جابوتينسكي، والذي هو الأب الروحي لليمين الإسرائيلي، لم يكن لديهم نظرة دينية توراتية، وعندما وضع رؤيته للتوسّعية، إسرائيل استندت إلى مؤتمر سان ريمو سنة 1920، مؤتمر سان ريمو الذي أعقب الانتداب واحتلال فلسطين من قِبَل بريطانيا، وعد الانتداب في صكوك الانتداب وتوزيع التركة، أن ترجمة وعد بلفور تكون على ضفتيّ نهر الأردن. فبالتالي، هو رأى بهذا شرعية دولية لاحتلال ليس فقط الأردن، إنما أيضًا الضفة الغربية.

 

كمال خلف: على ذِكر بريطانيا، وهذه النقطة الثانية: الموقف الغربي الداعم لإسرائيل، دعم مطلق من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، هل سيكون داعمًا لمثل هذا التوسّع لإسرائيل الكبرى؟ هو داعم لإسرائيل الآن، نعم، لكن سيكون داعمًا لإسرائيل على حساب السعودية ومصر والأردن والعراق. هل مشروع إسرائيل الكبرى يحظى بذات الدعم الغربي الذي تحظى به إسرائيل بشكلها العدواني اليوم؟

 

وليد حباس: نحن نتحدّث الآن عن الرؤية الكبرى لإسرائيل، ولكن لم تتوفّر الشروط. بمعنى، من غير المنطقي، ومن غير المعقول أن إسرائيل الآن تذهب وتحتلّ السعودية وتطرد سكانها وتصبح جزءًا من إسرائيل. لا، موازين القوى الدولية تسمح بذلك، ولا الشروط، ولكن الشروط الحالية، مثلاً، من المُرجّح جدًا أن إسرائيل تبقي ما احتلّته من أراضي سوريا، وتلقي عينها على ما هو أبعد من ذلك. ولكن استجابةً إلى سؤالك، إذا نظرنا إلى أهمّ تيّار مؤثّر داخل الولايات المتحدة، وهم الإنجيليون أو المسيحية الصهيونية، هم يتشاركون مع إسرائيل رؤية أنه يجب أن تقوم إسرائيل الكبرى ما بين النهرين، بين الفرات والنيل.

 

كمال خلف: حتى عقائديًا أستاذ وليد، ودينيًا، هناك مَن يؤمن فيها بالولايات المتحدة، وبعضهم موجود في مراكز القرار. إذا لا أعرف إذا سنعود في هذه المنطقة حقيقةً للحرب الدينية مرةً أخرى.

على كل الأحوال، سأتوقّف مع فاصل، أستاذ وليد، وبعدها سنفتح الدائرة الثالثة والأخيرة في هذه الحلقة، فاصل ونعود.

 

كمال خلف: حيّاكم الله مرةً أخرى، مشاهدينا، إلى الدائرة الثالثة في حلقتنا: الدول المُسْتَهْدَفة بين العجز العربي وانهيار الأمن القومي.

تحت هذا العنوان، مشاهدينا، سنعرض تقريرًا يسلّط الضوء على البيئة العربية وكيف ساهمت في جعل إسرائيل تندفع بلا تردّد في أفعالها. نتابع.

 

تقرير:

صدّام حسين: من أقرأ اسمَه يقوم ويردّد الشعار ويلحق ربعَه: إسماعيل إبراهيم النجار، بدن فاضل.

الواقع العربي الحالي يعكس تراكماتٍ تاريخية من الانقسامات الداخلية والاضطرابات السياسية التي =تجاوزت مجرّد الخلافات بين الدول إلى مستوياتٍ عميقة داخل الدولة نفسها. الهشاشة المؤسّساتية، سواء في الأجهزة الأمنية أم النُخَب السياسية والعسكرية، جعلت أيّ مشروع توسّعي خارجي يواجه أقلّ مقاومة ممكنة، خصوصًا عندما يفتقد العرب القُدرة على التنسيق الاستراتيجي على مستوى الإقليم.

أزمات الربيع العربي كشفت نقاط ضعف إضافية: انهيار بعض الأنظمة، صراعات أهلية طويلة الأمد، وتفكّك الهياكل التقليدية للسلطة. كلها عوامل منحت إسرائيل مجالًا غير مسبوق للتحرّك في مساحات حيوية من جنوب لبنان إلى جنوب سوريا والضفة الغربية، وتنفيذ الإبادة في غزّة من دون مواجهة حقيقية للقُدرة الردعية العربية.

إضافةً إلى ذلك، الانقسامات الإقليمية بين القوى العربية وفشل مشاريع التكامُل الأمني والسياسي أضعف ردّ الفعل الجماعي.

فغياب رؤية عربية مشتركة للأمن القومي وتداخُل النفوذ الدولي في المنطقة جعل أيّ إعلان عن توسّع إسرائيلي يبدو شرعيًا ضمن ميزان الأمر الواقع، حتى لو كان استراتيجيًا تهديدًا كبيرًا للمصالح العربية.

في هذا السياق، مشروع إسرائيل الكبرى لم يظهر فقط كنتيجةٍ لقُدرة عسكرية أو سياسية، بل هو انعكاس مباشر لضعف الاستراتيجيات العربية الداخلية والتشرذُم بين النُخَب وغياب أمن قومي متماسِك. باختصار، ما نراه اليوم ليس مجرّد توسّع إسرائيلي، بل انعكاس لواقع عربي يسمح للإعلان عن مثل هذا المشروع من دون خشية مواجهة حاسِمة ويفتح الباب لتداعيات مستقبلية كبيرة على الاستقرار الإقليمي.

 

كمال خلف: أستاذ وليد، لنلقي نظرة على الواقع العربي ومسؤوليّاته في ما تفعل إسرائيل. سأبدأ من الربيع العربي، مازال ما يعرف بين قوسين بالربيع العربي محلّ جَدَل بين النُخبة العربية والمراقبين والباحثين، بين أنه حال تصحيح لأوضاع كانت رديئة أو هو بوابة إسرائيل لتنفيذ مشروعها الحالي، وهو المسؤول عن انهيار الأمن القومي العربي أو ما كان موجودًا فيه بالحدّ الأدنى.

رأيك أنت، هل فعلاً ما سُمّي بالربيع العربي كان مُخطّطًا بهدف ضرب المجتمعات العربية من داخلها، وبالتالي فتح الباب لإسرائيل؟

 

وليد حباس: أنا لست من أنصار نظرية المؤامرة، ولكن أنا لا أنظر أيضًا إلى الربيع العربي باعتباره فعلًا عربيًا خالصًا، ثم آلت إلى ما آلت إليه، بمعنى أنه كانت هناك تدخّلات.

أعتقد أنه يجب أن ننظر إلى الربيع العربي من خلال سياقين تاريخيين:

السياق الأول، أن الدول العربية هي أيضًا صنيعة اتفاقيات وضعها الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي، الخ.

وإسرائيل تدرك هذا الأمر جيّدًا. في صُلب هذا الموضوع، الأنظمة العربية ليست أنظمة صديقة للشعوب. كل الأدبيات، إذا عدنا إلى الخمسينات والستينات، عندما كان الفكر القومي واضحًا جدًا، أن عدو الشعوب العربية من جهة، وعدوّها الإمبريالية الأمريكية والصهيونية، والنُظم الرجعية هي جزء من معسكر الأعداء. هذه الأنظمة فعلت ما فعلت من خلال عقود من الزمن، إلى أن وصلنا إلى الربيع العربي. الربيع العربي ليست نقطة الانطلاق، وإنما هي نتيجة لما آلت إليه الأوضاع تحت هذه الأنظمة التي خرّبت عن قَصْد وعن عَمْد الشعوب العربية، هذا أولًا.

ثانيًا، الوطن العربي أو الدول العربية ليست حظيرة من التدخّل الخارجي، وإنما هي مرتع لكل أنواع المخابرات والتدخّلات ورؤوس الأموال والبنك الدولي. كل هذا فعل فعلَه. فعندما نهضت شعوب عربية لتنتفض، ربما في هذه الدولة كانت صادقة وحقيقية، وربما في دولة أخرى كانت مختلقة. ونحن نعلم عن أيّ مِثال أذكر هنا، وعن أيّ مِثال أذكر هناك، ولكن في المُحصّلة النهائية لم يكن لدى الشعوب العربية.

 

كمال خلف: هناك نظرية، أستاذ وليد، تقول بأن المناعة العربية في تراجع مع الزمن. إذا أجرينا مقارنة بين مرحلة الاستعمار التقليدي القديم، الفرنسي والبريطاني، والمقاومات التي كانت، حتى فكرة المقاومة، وفكرة مقاومة الاستعمار، وخطاب النُّّخبة من شعراء وقادة ومفكرين ومثقّفين، مرورًا بكل مراحل النضال العربي ضدّ الاستعمار، ولاحقًا حتى نضال فلسطين ضدّ إسرائيل في منتصف الثلاثينات، الثورة الفلسطينية الكبرى، وصولًا للثورة الفلسطينية المعاصرة 1965.

هناك نظرية تقول بأن المناعة بدأت تضعف، واليوم وصلنا إلى صفر مناعة عربية، ما يجعل إسرائيل مُرتاحة في ما تقوم فيه. المناعة والحصانة العربية انهارت مع الزمن. هل توافق فعلاً على هذا؟

 

وليد حباس: إسمح لي ألا أوافق. أنا لا أنظر بهذه السوداوية، ولكن أنا لست متفائلًا جدًا. دعني أذكر تجربة حزب الله، حزب الله هو من أفضل التجارب على مستوى العالم في المقاومة، انظر إلى تجربة حماس، انظر إلى تجربة الفلسطينيين في السبعينيات والثمانينيات، انظر الآن إلى الوعي المتولّد لدى الشعوب العربية. هذا طبعًا نقابله بقمع الأنظمة مرة أخرى. يجب أن نذكر دور الأنظمة القامِعة، التي تتحكّم بمناهج التعليم، في وسائل الإعلام، والسوشيال ميديا، في كل شيء. فبالتالي، كل زمن شكّل وهيئة كيف ننظر إلى المناعة، ومن هم اللاعبون، وكيف تتمظهر بأيّ إقليم، بأيّ مكان. نعم، هناك اختلاف، ولكن لا أنصح أن ننظر إليه باعتباره هبوطًا أو صعودًا، وإنما تشكّل وتحوّر عبر التاريخ. لنتذكّر هذه سنة التاريخ البشري: طالما هناك ظلم، هذا ليس رجاءً ولا تمنيًا، طالما هناك ظلم، طالما هناك استعمار، طالما هناك احتلال، طالما هناك أرض مقموعة، سوف تظلّ هناك شعوب قادرة على أن تنتج من داخلها. قد تكون في لحظة من لحظاتها أكثر عجزًا، أقلّ قدرة، أقل قمعًا، أكثر قمعًا، وقد تكون في لحظة لديها أدوات أكثر، الخ.

ولكن لا تنتهي أبدًا، وتصل إلى المرحلة الصفرية.

 

كمال خلف: جرى ويجري تيئيس المواطن العربي والشعوب العربية لتصل إلى مرحلة تعتبر فيها الاحتلال قدرًا بالنسبة للدول. الآن، أستاذ وليد، هل يمكن للدول المُستهدفة اليوم بمشروع إسرائيل الكبرى صياغة استراتيجية دفاعية؟ هل يمكن أن يتمّ ترميم ما يمكن ترميمه الآن من الأمن القومي العربي عبر تحالفات داخلية بين هذه الدول، أو تحالفات خارجية مع قوى دولية، أم أن الواقع كما يقول البعض يذهب إلى مزيدٍ من التآكُل؟ ما نعيشه اليوم، سنعيش بعده أسوأ غدًا؟

 

وليد حباس: مرة أخرى، الفيل الكبير الموجود في الغرفة هو الأنظمة العربية. إذا كان هناك سؤال جَدَلي مهمّ طرحه محمد عبد الجابري، المفكّر المغربي، أعتقد في كتابه في الستينات، سأل: هل الوحدة العربية هي الطريق إلى تحرير تل أبيب أم تحرير فلسطين من إسرائيل هو الطريق للوحدة العربية؟ وهذا =سؤال يتعلّق بالمنطق السببي: ماذا يؤول إلى ماذا؟ أنا لا أعتقد أنه قد تكون هناك استراتيجية وطنية واحدة أو خطّة مشتركة أو الخ، من دون أن تكون هناك انتفاضات شعبية تشرك الشعب. الشعب مقموع، لا نتخيّل أن نظامًا كـ "إكس".

 

كمال خلف: هنا في مشكلة، أستاذ وليد، إذا اعتبرنا أن الربيع العربي مثلاً جاء كردّة فعل طبيعية على رداءة النظام الرسمي العربي، وأن الشعوب العربية من حقّها أن تختار أن تكون مثلاً مثل باقي الأمم، تختار مَن يحكمها والتنمية الاقتصادية والتعليم وغيره.

المشكلة أنه عندما تكون هذه الانتفاضات، يأتي الغرب ليتحكّم بناصيتها ويختار لها نُخَبِها ويركّب لها حكوماتها، كما جرى. رأينا ذلك نحن، لا نتحدّث عن التاريخ، نتحدّث أنا وأنت، كنا نتابع يوميًا: ما كان يجري؟

 

وليد حباس: نعم، صحيح، هذا ما حصل، ولكن هذا لا يعني أن هذه "شبلونة" تاريخية سوف تتكرّر في كل مرة، وفي كل محاولة. النضال هو طريق طويل، ربما على قِصار النفس أن يتنحّوا جانبًا. أنا أدرك تمامًا أن هذا الكلام قد لا يكون مهمًا أو يعطي أملًا لأطفالٍ تموت الآن، ولشعوبٍ تُهْدَم بيوتها الآن، ولكن نعم، هذا هو تاريخ النضال. تاريخ النضال طويل ومُعبّد بالأشواك، الخ.

لا يوجد هناك مفرّ أمام العربي، أو يندثر، يندثر من التاريخ، أو أنه يتحرّر. الحرية هي مفهوم واسع جدًا: أولًا، يحرّر عقله، يحرّر ساعده، ويتحلّى بالعِلم والتكنولوجيا والإصرار، ثم تّكون لديه أحزاب قوية بعيدة عن الفساد، ثم يتحرّر من هذه الأنظمة أيضًا العميلة. هذه طريق طويل ومعقّد، كل مركب يعتمد على الآخر في داخلها. وبالتالي هذا فن، لا يمكن أن يجيب عليك شخص واحد مثلي. هذا يحتاج أيضًا لتفكيرٍ جماعي، ديمقراطي، شعبي، ثوري. كل هذه الأمور ليست شعارات، هي فعلاً البَلْسَم الوحيد للشعوب العربية.

 

كمال خلف: هنا سأختم معك، أستاذ وليد، في ما بدأنا به: إسرائيل الكبرى والخريطة.

بالنسبة للمستقبل، إسرائيل ستُكْمِل. في هذا اليوم نحن أمام السويداء، القنيطرة، حوض اليرموك، درعا، ستكمل إلى دمشق. أنت تحدّثت في نقطة بغاية الأهميّة حول موضوع القُدرة الإسرائيلية.

بالنسبة للبنان، الآن الحديث عن نقاط خمس تلال حاكمة وعن توغّلات 1 إلى 2 كيلومتر داخل الأراضي اللبنانية، مع شروط طبعًا: نزع سلاح حزب الله، وكل هذه المسائل. لديك أيضًا الأردن في الخريطة، والعراق وغيره، الضفة الغربية، احتلال غزّة بالكامل.

ستكمل هذه الخرائط، ومَن يمنعها؟ بيانات الاستنكار من دون قرارات تصدر من المؤسّسات الدولية أو من الأنظمة العربية؟

 

وليد حباس: الأمر واضح جدًا. أنت عرضت قبل قليل خريطة للتوسّعات والانسحابات الإسرائيلية. أريد أن أذكر عام 56، عندما احتلّت إسرائيل قطاع غزّة وسيناء، استمر الاحتلال فقط أربعة شهور، وانسحبت إسرائيل لأنه كان هناك ضغط دولي كبير وحقيقي وجدّي. الآن يجب أن تنسحبوا. ولكن عندما احتلّت الضفة الغربية على سبيل المثال، لا أحد رفع صوته أو حذاءه في الأمم المتحدة وقال: يجب الآن أن تنسحب. الآن، في ما يخصّ السويداء أو لبنان، هناك ثلاثة شروط: القُدرة الإسرائيلية موجودة، موجودة: القُدرة والحافِز والرؤية الأحادية التوراتية كلها متوفّرة. العنصر الثاني: الضعف العربي. هذا لست مُتأكّدًا. نعم، هناك ضعف، هناك هزائم هنا أو هناك، ولكن لا أفسّر هذا الضعف الكامل. لدينا شعوب كاملة في سوريا، وفي لبنان، وفي العراق تأكل الأخضر واليابس، صحيح لا يوجد هناك سلاح، لا يوجد هناك، ولكن الشعوب موجودة. العنصر الثالث ربما يكون هنا الأهمّ: كيف ينظر المجتمع الدولي أصلاً، المُهَيْمَن عليه من أمريكا وبريطانيا وفرنسا؟ هل هناك فرصة تاريخية بالمفهوم الدبلوماسي ومفهوم إخراجها أمام هذا لتمكّن إسرائيل فعلاً أنها تمدّ نفوذها الجغرافي إلى السويداء؟ كل هذه الأمور برسم التاريخ ممكنة نظريًا، ممكنة قُدرتها على التعبير، لكن في النهاية أريد أن أذكر: ما ذكر في التوراة ليس نتانيا، ولا تل أبيب، ولا الخضيرة، لم تُذكر أبدًا في التوراة. وما ذكر في التوراة هو الضفة الغربية، القدس، مؤاب موجودة في الأردن. المناطق التي ذكرت في التوراة ليست المناطق التي تأسّست عليها إسرائيل عام 48.

 

كمال خلف: واضح، أشكرك أستاذ وليد حباس، الباحث في المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، كنت معنا مباشرة من القدس المحتلّة.

مشاهدينا، دوائر القرار انتهت لهذا الأسبوع.