حين تتقاطع نيودلهي مع موسكو وبكين: ملامح عالم ما بعد أميركا
من قلب آسيا، حيث تتقاطع طرق التجارة، وتتشابك مسارات القوة، تقف الهند اليوم أمام مفترق طرق تاريخيّ… بين موسكو وبكّين من جهة، وواشنطن وحلفائها من جهة أخرى.الهند التي كانت يوما “جوهرة التاج البريطانيّ”، تحوّلت إلى لاعب جيوسياسيّ لا يمكن تجاوزه، تمتلك اقتصاداً صاعداً، وجيشا متناميا، وموقعا يفتح لها أبواب المحيطات ويمنحها أوراق نفوذ في المعادلات الكبرى. لكنّ السؤال: ماذا بعد فرض إدارة ترامب الرسوم الجمركية القاسية على الشريك الهنديّ ، مترافقة مع إملاءات وتصريحات تنتقص من السيادة الهندية واستقلالية قرار نيودلهي الاقتصاديّ وفق هذا إلى أين تميل نيودلهي؟ هل ستبقى جزءا من مشروع أميركيّ لاحتواء الصين؟ أم إنّها ترسم، بصمت مدروس، مساراً جديداً يجعلها ركيزة في بناء نظام عالميّ ما بعد أميركا؟
نص الحلقة
كمال خلف: سلام الله عليكم مشاهدينا في دوائر القرار من قلب آسيا حيث تتقاطع طرق التجارة وتشابُك مسارات القوّة، تقف الهند اليوم أمام مُفترق طُرق تاريخي بين موسكو وبكين من جهةٍ وواشنطن وحلفاؤها من الجهة الأخرى.
الهند التي كانت يومًا جوهرة التاج البريطاني تحوّلت إلى لاعبٍ جيوسياسي لا يمكن تجاوزه، تمتلك اقتصادًا صاعِدًا وجيشًا مُتناميًا وموقعًا يفتح لها أبواب المُحيطات ويمنحها أوراق نفوذ في المعادلات الكبرى.
لكن السؤال: ماذا بعد فرض إدارة ترامب الرسوم الجمركية القاسية على الشريك الهندي مُترافقة مع إملاءات وتصريحات تنتقص من السيادة الهندية واستقلالية قرار نيودلهي الاقتصادي؟
وفق هذا إلى أين تميل نيودلهي في هذه اللحظة؟ هل ستبقى جزءًا من مشروعٍ أمريكي لاحتواء الصين؟ أم أنها ترسم بصمتٍ مدروسٍ مسارًا جديدًا يجعلها ركيزة في بناء نظام عالمي لما بعد أمريكا؟
مشاهدينا في هذه الحلقة نفتح ثلاث دوائر نقرأ فيها ملامِح الدور الهندي ونفكّك أبعاد التحوّلات الآسيوية لنقترب من سؤال اللحظة حين تتقاطع نيودلهي مع موسكو وبكين كيف يرسم العالم ملامِح ما بعد أمريكا.
حيّاكم الله.
كمال خلف: سيرافقني في هذه الحلقة في الدوائر الثلاث الدكتور وائل عواد الكاتب والخبير في الشؤون الآسيوية، يطلّ معنا مباشرة من نيودلهي. دكتور حيّاك الله سعيد جدًا أنك معي في هذا الموضوع أحيّيك وأرحّب بك في دوائر القرار.
وائل عواد: أسعد الله أوقاتكم بكل خير، شكرًا للاستضافة أستاذ كمال.
كمال خلف: حيّاك الله. سنبدأ مع الدائرة الأولى إذا سمحت لنا دكتور وعنوانها: الهند بين الضغوط الأمريكية وتقاطُع المصالح الآسيوية.
دكتور سأبدأ هذه الدائرة بسؤالٍ افتتاحي: كيف ترى هذه العقوبات التي فُرِضَت على الهند وسنأتي عليها طبعًا خلال الحلقة؟
هل تراها مجرّد خلاف تجاري من الزاوية الاقتصادية أم هي بداية مراجعة، بداية تفكّك الرهان الأمريكي على الهند في خطّتها الاستراتيجية منذ عقدين وهي مواجهة النفوذ الصيني؟
وائل عواد: شكرًا لك. أعتقد أن هناك أكثر من سبب لهذه الضغوطات الأمريكية خاصة وأن هذه التعريفات تدخل حيّز التنفيذ مُنتصف هذه الليلة، وبالتالي الهند تحاول مواجهة التحدّيات الجديدة التي فرضتها عليها إدارة الرئيس ترامب من خلال تعزيز موقفها كقوّةٍ لا تؤمِن بالتحالفات المُعادية لجيرانها، خاصة التعاون الجنوبي-الجنوبي، وأنها تريد الحفاظ على التوازُن التعدّدي من خلال استقلاليّتها في سياستها الخارجية. لذلك الهند تقول للولايات المتحدة وللعالم إنها ستواجه هذه التحدّيات، وأنها ستُعزّز من علاقاتها مع الصين وكذلك مع روسيا، بالإضافة إلى الحفاظ على العلاقات المتينة مع الولايات المتحدة. في المقابل هناك مُباحثات أيضًا تجارية بين الطرفين لحلّ الخلافات، لكن في الواقع الحكومة الهندية مُتمسّكة بموقفها على أنها ستكون أكثر توازُنًا في التعامُل مع الولايات المتحدة في المقام الأول.
كمال خلف: دكتور إسمح لي أن نعرض أنا وأنت تسلسُل أحداث لنُطْلِع المشاهدين عمّا نتحدّث وما الذي جرى بين الهند والولايات المتحدة خلال هذا الشهر الحالي، شهر أغسطس.
مشاهدينا، الولايات المتحدة فرضت 50 بالمئة رسومًا جمركية على بعض الواردات الهندية بدأت بـ25 في المئة في السابع من أغسطس وازدادت تدريجيًا لتصبح 50 في المئة بدءًا من السابع والعشرين من أغسطس 2025. اليوم الهدف منها الضغط على الهند لوقف استيراد النفط الروسي.
زيارة المفاوضين التجاريين الأمريكيين نيودلهي في الخامس والعشرين والتاسع والعشرين من أغسطس جرى إلغاؤها. قال ترامب: لن نسمح لأية دولة بممارسة سياسة تضرّ بأمننا الاقتصادي.
وزارة التجارة الأمريكية قالت إن الرسوم مستمرّة حتى تتوقّف الهند عن شراء النفط الروسي.
ردّت الهند بأن الرسوم غير عادلة لكنها تؤكّد التزامها بالتوازن بين القوى الكبرى، بينما قالت روسيا إن الرسوم غير قانونية وإنها ستستمر بتزويد الهند بالنفط.
بالتزامُن زار وزير الخارجية الصيني يومي الثامن عشر والتاسع عشر من أغسطس الحالي نيودلهي وعقد لقاء مع رئيس الوزراء مودي ووزير خارجيته، إثر الزيارة جرى الاتفاق على ما يلي:
تحسين العلاقات واستئناف الرحلات الجوية المباشرة وتعزيز التعاون التجاري وتسوية النزاعات الحدودية.
تسهيل التأشيرات للأعمال وهي تشمل كبار التنفيذيين لشركات صينية كبرى.
أما على صعيد روسيا فقد عقد اجتماع بين وزير خارجية الهند جايشانكار ولافروف في موسكو في الواحد والعشرين من أغسطس وجرى الاتفاق على ما يلي:
مشاريع الطاقة المشتركة مثل استخراج النفط في الشرق الأقصى الروسي والقطب الشمالي.
زيادة التجارة الثنائية الهدف منها مئة مليار دولار سنويًا خلال خمس سنوات تشمل صادرات الهند من الأدوية والزراعة والنسيج.
وقالت موسكو إن علاقاتنا مع الهند استراتيجية ومستمرّون بدعم التعاون التجاري والطاقة.
هذا تسلسُل الأحداث من شهر تقريبًا، هنا أسألك دكتور قبل أن ندخل بتفاصيل هذه الاتفاقات وكيف اندفع الصينيون والروس مباشرة بعد إعلان ترامب الرسوم الجمركية.
بالنسبة للولايات المتحدة اليوم، الأسئلة التي تتردّد على لسان كثيرٍ من الخبراء: القسوة على الهند بهذه الرسوم 50 في المئة رسوم غير مسبوقة وهي حليف، بينما مثلًا الصين تفعل نفس الأمر أيضًا تستورد النفط الروسي ولم تفرض عليها الولايات المتحدة رسومًا بهذا القَدْر.
أكثر من ذلك بالتزامُن مع فرض الرسوم على الهند يلتقي ترامب ببوتين ويبحثان أيضًا عدّة ملفات منها الحرب في أوكرانيا وغيرها، بمعنى أن مَن فرض دونالد ترامب العقوبات على الهند بسببهم هو أصلًا يتعاون معهم من جهة مثل روسيا ولم يفرض عليهم ما فرضه على الشريك الاستراتيجي الهند.
ما تفسير ذلك؟
وائل عواد: طبعًا سؤالك مهمّ جدًا، في الواقع هذا السؤال مطروح أولًا لأكثر من سبب.
لأنه ليس فقط قضية الحرب الروسية الأوكرانية التي دفعت بالرئيس ترامب لفرض هذه التعريفات الجمركية، على الإطلاق كما تفضّلت، هناك أيضًا قطاعات زراعية والصحّة التي تحاول الولايات المتحدة اختراقها في الهند، والهند حريصة على الأمن الغذائي وبالتالي هذه تعتبر محميات بالنسبة للسياسة الهندية لا تقبل بدخول الولايات المتحدة وفورًا تسيطر الولايات المتحدة على هذه الأسواق، تتحكّم بالأمن الغذائي بأية دولة في العالم، وهذا ما فعلته في العديد من دول العالم التي أصبحت أكثر تبعيّة للسياسة الأمريكية. لذلك أنا أعتقد أن السياسة الأمريكية هي لممارسة الضغوط والحصول على أكبر نسبة من التنازُلات من الجانب الهندي، هذا أولًا.
ثانيًا: الابتعاد عن فرض العقوبات على الصين لأكثر من سبب أيضًا لأن الولايات المتحدة بحاجة للتبادُل التجاري مع الصين وبحاجة المُنتجات الصينية. نعم الخلافات كما تعلم كمال بين الولايات المتحدة والصين هي لأكثر من عقد من الزمن، لكن مع دخول الرئيس ترامب البيت الأبيض للمرة الثانية هناك تركيز على أمريكا أولًا، هناك محاولة من الرئيس الأمريكي أن يمارس أقصى الضغوط على الصين، لكن في حقيقة الأمر واليوم أدلى بتصريحاتٍ أثارت حفيظة المراقبين هنا في بكين عندما قال إنه قادر على إيذاء الصين وتحطيم الصين إذا أراد ذلك، لكنه أيضًا يحضر إلى قمّة مع الرئيس شي جين بينغ قريبًا جدًا، وبالتالي هو يخفّف من عدائه للصين لكنها مرحلة من مراحل التكتيكات، والهند تدرك أن هذه التقارُبات والتقلّبات في السياسة الأمريكية تؤثّر على مستقبل اعتماد الولايات المتحدة بشكل أساسي على الهند، لذلك هي تريد أن تلعب ورقتها بشكلٍ صحيحٍ وتُعيد التوازن إلى الترويكا الروسية الصينية الهندية.
كمال خلف: كلام مهمّ جدًا دكتور وائل، لكن إسمح لي أيضًا أن أنتقل لنتحدّث عن الهند وأهميّتها في الاستراتيجية الأمريكية الحالية منذ عشرين عامًا وليس الراهنة في هذه الأيام.
مشاهدينا هذه هي الهند قلب جنوب آسيا كما تلاحظون هنا في الخريطة هذه حدودها الواسعة والمُتوتّرة مع الصين، ما يعطيها أهمية حيوية في جوهر الاستراتيجية الأمريكية في احتواء الصين. حدود استراتيجية في الشمال تؤثّر على تجارة الصين مع دول مثل دول آسيا الوسطى هنا، وطبعًا نتحدّث عن باكستان في هذا المكان.
هنا في باكستان هناك الممرّ الأهمّ بالنسبة للصين، معبر كاراكورام، هذا هو باللون الأصفر، هذا المعبر يمتدّ مشاهدينا من الصين يدخل من شمال باكستان إلى ميناء غوادر هنا على بحر العرب قرب مياه الخليج. هذا المعبر يمنح الصين منفذًا مباشرًا نحو بحر العرب ونحو المحيط الهندي، هذا المعبر هدف مباشر للتحرّكات الأمريكية في كل هذه المنطقة لأنها إحدى ركائز مشروع الحزام والطريق الصيني.
قبل أن أتحدّث أريد أن أقول إن الفضاء الهندي الذي اعتمدت عليه للتعويض عن جغرافيا الهند، الصينيون هذا الفضاء باكستان، أفغانستان وإيران، هذا هو المجال الذي تتحرّك فيه الصين بديلًا عن استراتيجية الولايات المتحدة بالتحالف مع الهند.
الهند تطلّ على المحيط الهندي وتسيطر هنا على طرق الشحن البحرية الحيوية في هذه المنطقة. منطقة المحيط الهندي أيضًا هي شريك أساسي في تحالف رباعي، تحالف "كواد" الذي يضمّ الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا. هذا التحالف يعمل في نطاقين: في نطاق المحيط الهندي هنا والمحيط الهادي، لكن المهمّة الأساسية لهذا التحالف هنا في هذه المنطقة بحر الصين الجنوبي. هذه منطقة حيوية جدًا بالنسبة للصين. التحالف يعمل على حماية طرق التجارة في هذه المنطقة ومواجهة النفوذ الصيني في هذه المنطقة.
الهند بلا شكّ وفق هذا المعنى مُنافِس جيوسياسي واقتصادي للصين.
ثالث أكبر اقتصاد في آسيا وقاعدة صناعية وزراعية ضخمة وقوّة في البرمجيات والطاقة المُتجدّدة.
هذا بالنسبة للهند. دكتور وائل أعود إليك: الاستراتيجية الأمريكية كما ذكرت قبل قليل، قبل عقدين اعتمدت على قوّتين في آسيا، قوّتين كبيرتين. اعتمدت على جَذْب كل دول آسيا من أجل مواجهة الصين، لكن الركيزتين: الهند واليابان، عملت على جَذْب هاتين القوّتين للتحالف معها.
ما الذي جرى الآن حتى يبدو دونالد ترامب كأنه تخلّى عن ذلك؟
وائل عواد: لا أعتقد أنه تخلّى عن ذلك لأنه يريد أن يُعيد صياغة المواجهة مع الصين في المستقبل. هذا من ناحية التخلّي عن الهند كما تفضّلت في هذه المُقدّمة الهامّة، أولًا سيكون ضربة قوية بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية، يعني كما نقول لا يوجد تواصُل حدودي مع الصين سوى مع الهند، لذلك التنافُس والحرب البحرية لا تكفي في أية حروب مستقبلية إن لم يكن هناك غزو =برّي. وبالتالي وجود الهند في هذا التحالف الرباعي يخدم السياسة الأمريكية، لكن في حقيقة الأمر الهند أدركت أيضًا وتدرك أنه بعد الحرب الروسية الأوكرانية وبعد هذه الدروس في الشرق الأوسط بأن أية حرب في هذه المنطقة ستحارب الولايات المتحدة الصين بآخر جندي هندي. لذلك هي لا تريد أن تكون هناك حرب مع الصين وتحاول أن تقلّل من مخاوف الصين.
لهذا السبب سنجد أن رئيس الوزراء سيكون في قمّة منظّمة شانغهاي الشهر الجاري وأيضًا سيزور اليابان بنفس الوقت قبل ذهابه إلى يانجينغ. لهذا السبب نجد أن هناك تأكيداً لهذه الدول إعادة التوازُن في منطقة آسيا الباسيفيك من خلال التقارُب الأمريكي الأسترالي الياباني الهندي وكذلك الأمر التجاوب الهندي مع مُتطلّبات الصين في ما يتعلّق بتايوان وفي ما يتعلّق بإعادة المسار الطبيعي لهذه العلاقات. لذلك ما قامت به الولايات المتحدة كما قلت يوم أمس في المقالة ربما ضربة نافِعة، بمعنى أن الولايات المتحدة سمحت لهذه الدول الثلاث بأن تعود إلى التوازن، إلى المواجهة، وليس للحصار الولايات المتحدة، بل فقط لتراجع النفوذ الأمريكي وأيضًا لإيجاد صوت لهذه الدول في مجتمع مُتعدّد.
كمال خلف: هنا نحن نفكّر دكتور وائل بالدوافِع، لأن الأولويّة في الاستراتيجية الأمريكية هي لاحتواء الصين وهذا يضع الهند في الأولويّة بالنسبة للسياسة الأمريكية بسبب ما ذكرناه وشرحناه قبل قليل على الخارطة التي عرضناها. لكن هل وصل الأمريكيون إلى مرحلةٍ لا يَسْمَح فيها بالمنطقة الرمادية الهندية؟ لأنه في الهند كما تعرف دكتور يحاولون رَسْم سياسة نوعًا ما مُتوازنة: يشترون النفط من روسيا بينما هم جزء من تحالف "كواد" مع الولايات المتحدة في المحيطين الهندي والهادي، شركاء الولايات المتحدة في استراتيجية احتواء الصين والعلاقة مع إسرائيل وغيرها، بينما مثلًا يحاولون أن يكونوا جزءًا فاعلًا في "بريكس" وفي تجمّعات دولية بدأت تبني نفسها لتكون بديلًا عن الأحادية الأمريكية.
يعني هناك نوع من التوازُن، تحاور الصين. هل تفسير ما يجري الآن أن دونالد ترامب يقول لهم: احسموا موقفكم، لم تعد أمريكا تحتمل هذا الحياد إذا جاز التعبير أن نقول حياداً؟
وائل عواد: تمامًا، هذا بالحقيقة السبب الرئيسي للضغوط الأمريكية. أحسنت في طرحك وبجوابك أيضًا لأنك أجبت على السؤال. الولايات المتحدة هي التي أكّدت أكثر من مرة بأن على الهند أن تختار وأن تبتعد عن سياسة التَذَبْذُب أو الموازنة بين القوى المعنية. لكن في حقيقة الأمر الولايات المتحدة تقرأ التاريخ خطأ، كما فعلت في غزوها لأفغانستان عندما قالت: إما أن تكونوا معنا وإما أنتم أعداؤنا. الآن الولايات المتحدة لا تملك الجزرة ولكن تملك العصا. والعصا الأمريكية في عالم متعدّد الأقطاب من المستحيل أن يكون لها دور في الضغط على هذه الدول، خاصة وأن هذه الدول أساسًا تشكّل تكامُلًا اقتصاديًا نهضويًا تفشل فيه الولايات المتحدة والدول الغربية في إسقاطه، خاصة أنها كتلة اقتصادية قد تكون بديلًا لتجمّع الشمال.
لذلك نحن علينا أن نلقي النظر على أكثر من مُحرّك، هناك مُحرّكات ثلاثة في هذه الترويكا، هذه المُحرّكات هي تراجع الهيمنة الأمريكية، التعاون الاقتصادي المُتكامِل: روسيا مصدر للطاقة، الصين مصنع عالمي، الهند بديل للصين. هذا =المُثلّث يشكّل كتلة هائلة اقتصادية. إذاً هناك عقبات، هذه العقبات يمكن لقادة هذه البلاد الثلاثة أن تتجاوزها في حال كانت تريد حلاً أو تريد أن يكون لها دورٌ في المستقبل، خاصة في ما يتعلّق بالخلافات الحدودية بين الهند والصين، في ما يتعلّق بالتيبت وعلاقات بكين مع إسلام أباد. كذلك الأمر الضغوط الغربية التي تُمارَس على الهند هي هائلة جداً وخاصة أنها تريد أن تتّخذ موقفاً لتكون قوّة موازنة للصين من خلال إغراءات الهند بالأسلحة والتكنولوجيا. لكن حتى الآن ما زالت هذه الدول تتعامل مع الهند بسياسة البائع والتاجر، وبالتالي هي تدرك أن علاقاتها الاستراتيجية القوية مع روسيا من الصعب التخلّي عنها مقابل التنازُل للغرب، والهند تدرك أنها مرحلة هي الرئيس الأمريكي وبمرحلة البيت الأبيض. هذه المرحلة وجميع الدول أيضاً، أنت تعلم جيّداً أن الرئيس الأمريكي فرض العقوبات على الأصدقاء وعلى الأعداء، وبالتالي الهند تريد أن تخرج من هذه الفترة في حُقبة ترامب بأقل الخسائر، من دون أن تخسر حليفاً أمريكياً استراتيجياً يحافظ على توازن القوى في العالم وفي المنطقة.
الولايات المتحدة تتراجع لكنها ما زالت قوّة لا يُستهان بها.
كمال خلف: أنا فاتني أن أتحدّث أيضاً عن باكستان. كما قلت بأنه تعامل مع روسيا الرئيس ترامب والإدارة الأمريكية، ومع الصين لم يفرض عقوبات التي فرضها على الهند. أيضاً باكستان، غزل مع باكستان التي في عداء بينها وبين الهند. الباكستانيون شكروا دونالد ترامب لأنه أوقف القتال مع الهند بينما الهند نفت أن تكون هناك وساطة أمريكية أصلاً لوقف القتال.
سوف أحاول أن أطرح هذه النقطة على ضيفنا مشاهدينا في الدائرة الثانية، والدائرة الثانية عنوانها: الابتعاد الهندي عن أمريكا زلزال جيوسياسي في قلب آسيا.
سنبدأ هذه الدائرة بعرض هذا التقرير الذي سوف يخلص العنوان الذي كنا نتحدّث عنه، نتابع.
تقرير:
منذ آلاف السنين وصوت الحكيم الهندي تشانكايا يتردّد في سفره السياسي الأشهر: لا صديق دائم ولا عدو دائم، إنما هي المصالح التي لا تموت.
هذه الحِكمة القديمة تكاد تختصر مسار نيودلهي الراهن وهي تعيد تموضعها بين واشنطن وموسكو وبكين لتصوغ مكانتها في قلب آسيا.
الهند التي عاشت عقود الحرب الباردة مُتّكئة على السلاح السوفياتي، وجدت في موسكو شرياناً للأمن وفي الوقت نفسه وقفت في وجه الصين منذ حرب عام 1962 مع تصادماتها الحدودية المُتكرّرة.
أما مع الولايات المتحدة فقد كان المسار مُتعرّجاً من خصومة سياسية طويلة إلى تقارُب في مطلع الألفية بلغ ذروته مع إدخال نيودلهي في التحالف الرباعي "كواد" لموازنة القوّة الصينية في المحيطين الهندي والهادي.
لكن واشنطن التي راهنت على الهند سُرعان ما أرهقتها برسومٍ جمركيةٍ قاسيةٍ وضغوطٍ مُتصاعدةٍ بسبب استيرادها النفط الروسي.
ونسيَ ترامب أو تجاهل أن الهند تحمل في وجدانها تاريخاً طويلاً من مقاومة الإملاءات منذ الزعيم غاندي الذي قال يوماً: قوّة الهند في قُدرتها على أن تقول لا.
إن ما يجري اليوم ليس مجرّد خلاف تجاري بل زلزال جيوسياسي في قلب آسيا، فالابتعاد الهندي عن أمريكا لا يعني خسارة شريك اقتصادي فقط، بل يعني اهتزاز ركيزة أساسية في استراتيجيات الردع ضد الصين. ومع كل برميل نفط روسي يدخل موانئ نيودلهي، ومع كل لقاء يجمع قادة الهند وبكين تحت مظلّة منظّمة شانغهاي، يزداد اتجاه رياح الموازين في غير صالح واشنطن.
الهند تدرك أن آسيا لم تعد ساحة لتوازُن القوى القديمة، بل مسرحاً لميلاد نظام عالمي جديد تسعى فيه لأن تكون قُطباً مستقلاً لا تابعاً، في مُحاكاة عصريّة للحكاية الشعبية الهندية الشهيرة للبطل أركابا الذي رفض حماية الإمبراطور وآثر خوض الصعوبات في مقابل ألا يكون تابعاً.
وكأن صوت أركابا يتردّد اليوم في أروقة البيت الأبيض حين صرخ في وجه الإمبراطور: لن أكون أداة في يد أحد.
=وبينما تصارِع الولايات المتحدة للحفاظ على نفوذها، تبدو نيودلهي أقرب إلى أن تتحرّك وفق بوصلتها الخاصة، مُستعيدة إرثها، تضع الحاضر في سياق تاريخ طويل من التحدّيات، وتكتب لنفسها فصلاً جديداً في رواية الأقطاب الصاعِدة.
كمال خلف: دكتور، الهند قالت لا، واعتبروا ذلك نوعاً من المسّ بالسيادة واستقلالية السياسات الخارجية للهند. وخرجت =تظاهرات كما تابعنا الأسبوع الماضي أيضاً تُندّد بهذه القرارات الأمريكية. لكن بتقديرك دكتور، وبحسب معرفتك واطّلاعك، الهند ستقول لا حتى النهاية؟ أم كما قال خبير أمريكي كان هنا على شاشتنا عندما فرض ترامب الرسوم، قال هذا الخبير الأمريكي في إحدى المساحات الإخبارية إن الهند لا تستطيع ولا تملك أن تقول لا للولايات المتحدة لفترةٍ طويلةٍ، وإنهم في نهاية المطاف، وهذا ما يعلمه دونالد ترامب، في نهاية المطاف سوف يخضعون لما تقوله أمريكا لهم؟
وائل عواد: أعتقد هناك نوع من التفاؤل الأمريكي أو الثقة الزائِدة في التعامُل مع الهند. الهند تُدرك تماماً أن بعد فرض هذه العقوبات سيتساءل الشارع الهندي هنا: هل الولايات المتحدة فعلاً شريكة استراتيجية للهند وبالتالي يمكن الاعتماد عليها؟ أعتقد أن الجواب قد بدا واضحاً أكثر من خلال هذه التظاهرات أخ كمال، وأيضاً من خلال المواقف داخل أروقة صُنّاع القرار في الحكومة الهندية.
نعم، هناك تقارُب أمريكي هندي وهناك حديث منذ أكثر من ثلاثة عقود، والكثيرون من المُحلّلين ومن المُستشارين السابقين في البيت الأبيض أكّدوا أن ما فعله الرئيس ترامب قضى على 30 عاماً من المحاولات الأمريكية لضمّ الهند إلى المعسكر الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة.
إذاً واشنطن الآن خسرت أو ربما في طريق خسارتها لحليفها الهندي، لأن الهند تبحث عن مصالحها. وأعتقد أن هناك حدوداً للمدى الذي يمكن أن تذهب به الهند للتحالف الأمريكي الهندي.
أولاً: الهند أكبر ديمقراطية في العالم، وهناك أحزاب سياسية داخلية تعارض سياسة الحكومة الهندية بالتوجّه بشكلٍ مباشر إما تجاه الصين، وهذا التوجّه وكانت معارضة هنا لزيارة رئيس الوزراء، وأيضاً للولايات المتحدة. لذلك هم يريدون نوعاً من الاستقلالية. لذلك التعامُل في التوازن الطبيعي الذي تفرضه الهند هو جزء من السياسة: الاعتماد على الذات. ولهذا السبب هي قد لا تكون قادرة على مواجهة الولايات المتحدة، وهي لن تقدر على مواجهة الولايات المتحدة، لأن معظم الشركات الأمريكية الآن هي أيضاً على داو جونز. وبالتالي عندما تقول لروسيا بالتوقّف عن شراء النفط من قِبَل هذه الشركات، هذه الشركات تقول للحكومة: إننا نحن غير قادرين لأن أموالنا داخل الإدارة الأمريكية، وبالتالي قد تُفْرَض عليهم عقوبات وتُجمَّد هذه الأموال.
إذاً الولايات المتحدة تلعب بأوراق الابتزاز الاقتصادي أنت تعلم بسياسة الدبلوماسي الكاوبوي الأمريكي عندما يذهب لسرقة بنك يضع المُسدّس على الطاولة ويطلب من مدير البنك فتح الصندوق وعندما يفتح الصندوق تُطلق رصاصة في رأسه إذاً هذه السياسة الأمريكية الكاوبوي التي اعتدنا عليها في الأفلام الأمريكية هي سياسة لم تعد قابلة للتطبيق مع الحكومة الهندية.
لأن أيضاً السوق عندما تفرض الولايات المتحدة شروطاً بأنها تريد أن تكون الهند مضاهاة في التوازن لصعود الصين في آسيا وفي العالم هي تريد أن تقدّم لها تسهيلات وإغراءات ولكن ليس فقط فرض العقوبات وإشعال الوضع الداخلي.
لذلك أنا أعتقد أن الولايات المتحدة في رئاسة ترامب قد أخطأت في التعامل مع الحكومة الهندية ومع الهند.
كمال خلف: دكتور أنت تعرف كُتِبَ الكثير وحضرتك كتبت خلال هذه الفترة هذا الأسبوع كان في سيل من الآراء حول ما يجري بين الهند والولايات المتحدة الأمريكية نظراً لأهميّته، لكن إحدى وجهات النظر اللافتة فعلاً وأنا سأعرضها عليك كما جاءت بقلم كاتبها.
يقول مع صعود إدارة ترامب إلى البيت الأبيض يبدو أن استراتيجية الولايات المتحدة في التعامُل مع التحدّيات الدولية الماثِلة أمامها تتغيّر جذرياً.
وأنها تفضّل تقاسُم النظام الدولي مع كل من روسيا والصين بطريقتها الخاصة وتعظيم المكاسب الأمريكية ليس على حساب خصومها التقليديين في موسكو وبكين بل على حساب الدول المتوسّطة والصغيرة وهي معركة أسهل من خوض مواجهة مع الروس والصينيين.
هنا يتحدّث الكاتب أو وجهة النظر هذه عن تحوّل هائل هذا ليس بسيطاً أن يكون توجّه الولايات المتحدة ويقول الدليل الهند يقول التخلّي عن جَذْبِ دول آسيا لاحتواء الصين وبدلاً من ذلك احتواء هذه الدول خوض معارك تجارية معها أسهل تعزيز مكاسب الولايات المتحدة تقاسُم النفوذ الدولي مع الصين وليس المواجهة مع الصين.
شيء جديد فعلاً ولافِت فعلاً لكن لا أعرف مدى واقعيّته في ظلّ أن كل الإدارات الأمريكية الماضية ووصولاً لدونالد ترامب الهدف وضعت هدفاً أساسياً أولويّة أساسية هي احتواء الصين؟
وائل عواد: نعم تماماً الهند تدرك تماماً ماذا تريد واشنطن من نيودلهي وبالتالي الهند تراهن على هَنْدَسة نظام عالمي مُتعدّد الأقطاب ما يعني أن التحالف الأمريكي الذي سيبقى مهمّاً ولكن لن يصل إلى مرحلة التكامُل كما هي الحال بين أمريكا واليابان أو أمريكا وأوروبا ولهذا السبب نحن نقول بأن الهند ليست مُجرّد شريك بل هي الركيزة الأساسية لأية سياسة أمريكية لاحتواء الصين، =لكن كما (أثوب) هنا إذا كانت الهند تريد أن تكون طرفاً في نظام مُتعدّد الأقطاب وأنا أعتقد هناك أخطاء لدى القيادة الهندية في التوجّه ورميها في الأحضان الأمريكية لأنه في المستقبل سيكون هناك تقاسُم القوى سيكون بين القوى العظمى والقوى الصاعدة ستدفع الثمن وستجد نفسها مُتقارِبة مع القوى العظمى بما فيها الهند ما يحفظ مصلحة هذه الدول وليس بما يخدم مصلحة هذه القوى الصاعِدة.
لذلك الحكومة الهندية لا تريد أن تكون طرفاً قوياً مع الولايات المتحدة في مواجهة الصين باعتبار أنها تعتبر أنها إحدى الدول القيادية الريادية لقيادة عالم الجنوب وأعتقد أن هذه الهزّة التجارية التي فرضتها الولايات المتحدة على الحكومة الهندية ستُعيد ترتيب أوراقها على المستوى ليس الارتجالي والسياسي ولكن على المستوى العسكري والأمني أيضاً لأن واشنطن قد فقدت وهناك صَدْع في هذه العلاقات وقد تفقد شريكاً استراتيجياً وهي شبه القارّة الهندية.
كمال خلف: دكتور نقطة أخيرة في هذه الدائرة قبل الذهاب إلى فاصل وأنا كنت سأطرحها في الدائرة الأولى إذا كنا نتحدّث عن خلاف تجاري، أو كنا نتحدّث عن رسومٍ جمركيةٍ وفي الفضاء الاقتصادي ماذا عن باكستان نلاحظ أن هناك تقارباً بين إدارة ترامب وبين باكستان على خلفية أيضاً ما جرى في الحرب القصيرة بين الهند وباكستان الأخيرة التي دفعت فيها الصين دعماً عسكرياً مباشراً لباكستان قَلَب موازين المعركة وبعد ذلك وجدنا أن دونالد ترامب يُغازل باكستان وحتى باكستان رشّحوه لجائزة نوبل وأثنى عليهم الباكستانيون وحتى أن الباكستانيين شكروه.
بينما الهند قالت إنه لا هذا الرجل دونالد ترامب ليس له علاقة خرج قال أنا مَن أوقف الحرب وقالت الهند لا هذا ليس صحيحاً =نفت نفياً رسمياً.
بينما باكستان قالت له شكراً وهذا لا علاقة له بالتجارة أصبحنا نتحدّث الآن عن إعادة حسابات جيوسياسية في هذه المنطقة؟
وائل عواد: هي ورقة تلعب بها الولايات المتحدة في الواقع هي ليست فقط باكستان لكن أنت تعلم =جيّداً حساسيّة الموقف بالنسبة للهند في ما يتعلّق بباكستان خاصة وأن هناك عداء تاريخياً لهذه الحكومة وربما لحكومات سابقة ضدّ باكستان باعتبار أن الانتصار في شبه القارّة الهندية جُرح لم يلتئم بعد وبالتالي هذه السياسة واللعب بهذه الورقة أثارت حفيظة الهنود ولكنها أساءت للعلاقات الهندية الأمريكية حقيقة الأمر لكن علينا أن نذكّر بشيء آخر هناك مخاوف تحاول الإدارة الأمريكية وإذا راقبنا المؤشّرات التراند في السياسة الأمريكية تجاه الهند نجد أن هناك محاولات لتخويف الهند حتى من ميانمار تصوّر أن مسؤولاً أمريكياً يقول بأن ميانمار ستتحوّل نووياً وهذا يشكّل خطراً على الهند والسفير الهندي يقول له نحن لم نتحدّث عن أيّ خطر من ميانمار ما الذي يدفعك للقول ذلك خاصة وليان بورن الذي تحدّث في إحدى الجلسات إذاً هناك سياسة أمريكية تخويف الهند أمنياً ماذا فعلته الهند في بنغلادش ضربت الهند في خاصرتها الولايات المتحدة عندما قامت بانقلابٍ زهري بنفسجي في بنغلادش ولم تكن الهند على عِلمٍ على الإطلاق لأنها كانت تربطها علاقات وثيقة مع الشيخ واجد والآن الحكومة البنغالية المؤقّتة كشفت النِقاب عن التعاون الوثيق بين الاستخبارات الأمريكية والمجتمعات المدنية في إسقاط حكومة شيخ حسينة التي كانت تربطها علاقات وثيقة.
إذاً الثقة بالإدارة الأمريكية مُتَذَبْذِبة ومُتقلّبة والهند مُتخوّفة جداً الهند عندما يلتقي الرئيس الهندي مع الرئيس الروسي هو يطرح ملف العلاقات الهندية الأمريكية على طاولة المفاوضات دليل على أن الهند تدرك أن الحليف الاستراتيجي المُخلص الوحيد لها هو روسيا وبالتالي دخول الولايات المتحدة على هذا الخط وخاصة تخويف الهند من الصين ومحاولة الصين التغلغُل في داخلها ما تقوم به الولايات المتحدة هو عكس ما تقوم به الصين، الصين تعزّز علاقاتها التجارية الولايات المتحدة تعزّز علاقاتها الأمنية الهند كما قال وزير الدفاع الباكستاني استأجرت باكستان لثلاثين عاماً لمُحاربتها أفغانستان بثقافة الجهاد الذي افتعلته الولايات المتحدة.
إذاً كيف يمكن لباكستان أن تكون شريكاً في التعاون الجنوب الجنوبي إذا مازالت ورقة تلعب بها الولايات المتحدة إن كان عبر "الكرببتو كرنسي" الذي يحاول الرئيس الأمريكي وصهره أن يستفيد منها وإن كانت أيضاً بعض الشركات الأمريكية التي تحاول أن تستفزّ الهند من خلال تعزيز هذا التعاون.
كمال خلف: دكتور، نتركك ترتاح قليلاً جداً ثم بعد ذلك نعود فاصل، وبعده نعود إلى الدائرة الثالثة والأخيرة في حلقة اليوم.
كمال خلف: أحيّيكم من جديد مشاهدينا في برنامج "دوائر القرار". نتحدّث عن الهند وتقاطُع المصالح مع روسيا والصين مؤخّراً، في ضوء الإجراءات الأمريكية القاسية ضدّ الهند.
وصلنا إلى الدائرة الثالثة، عنوانها: مخاض عالمي نحو =نظام مُتعدّد الأقطاب.
سأبدأ هذه الدائرة، مشاهدينا، بعرض ما قامت به القوى الصاعِدة مثل روسيا والصين وبعض القوى الأخرى، أو ما اصْطُلِح على تسميته في "الجنوب العالمي" أو الدول المتضرّرة من الهيمنة الأمريكية. لم تكتفِ هذه الدول بالتجمّع السياسي أو التجمّع الاقتصادي، إنما قامت ببعض الخطوات التي يمكن أن نقرأها بأنها نوع من بذرة لنظام عالمي موازٍ للنظام العالمي الذي تتمركز فيه الولايات المتحدة الأمريكية بشكل أساسي وتُهيمن عليه.
نتابع هذه الإجراءات ونعود إلى ضيفنا.
تقرير:
=مجموعة البريكس تشمل: البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا، مع توجّه لضمّ أعضاء جدد.
أهدافها: تعزيز التعاون الاقتصادي والمالي بين الدول الصاعِدة، وإنشاء مؤسّسات مالية بديلة عن البنك الدولي وصندوق النقد، وتنسيق السياسات السياسية الدولية.
منظّمة شانغهاي للتعاون تشمل: الصين، روسيا، إيران، الهند، باكستان، ودول آسيا الوسطى.
أهدافها: الأمن الإقليمي، مُكافحة الإرهاب، تعزيز التجارة والاستثمار بين الأعضاء، والتنسيق السياسي.
البنك الجديد للتنمية: أُنشئ بديلاً عن البنك الدولي وصندوق النقد، هدفه تمويل مشاريع البنية التحتية للدول الأعضاء بعيداً عن القيود الغربية.
العملات البديلة وتقليل الاعتماد على الدولار: روسيا والصين وإيران وباكستان والبرازيل والهند ودول أخرى يسعون لاستخدام عملات محلية أو بديل عن الدولار في التجارة البينية.
الهدف: تقليل تأثير العقوبات الأمريكية والهيمنة النقدية للولايات المتحدة.
شبكات النقل والبنية التحتية المُتعدّدة القطب:
الصين: مبادرة الحزام والطريق لربط آسيا وأوروبا وأفريقيا.
روسيا: خطوط سكك الحديد والطاقة مع آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية، بهدف خلق نظام اقتصادي مستقلّ عن شبكات التجارة الغربية التقليدية.
التنسيق العسكري والأمني: تدريبات مشتركة بين روسيا والصين والهند، وجزئياً باكستان. تطوير منظومات دفاعية مُتبادلة وتبادل معلومات استخبارية، بهدف بناء قوّة موازية للقدرات العسكرية الغربية وتقليل التفرّد الأمريكي في الأمن العالمي.
المؤسّسات المالية البديلة: بنك الاستثمار الآسيوي بقيادة الصين، وصندوق الثروة السيادي لدول الخليج وروسيا والصين لتقليل الاعتماد على النظام المالي الأمريكي.
التعاون في الطاقة والموارد: تحالفات بين روسيا والصين والهند لتجارة النفط والغاز بأسعارٍ وشروطٍ مستقلّة عن السوق الغربية.
الاستثمار في الطاقة المُتجدّدة والبنية التحتية بعيداً عن الهيمنة الغربية.
كمال خلف: دكتور وائل، الهند جزء من بعض هذه التجمّعات. إذا تحدّثنا مثلاً عن شانغهاي، لها دور أساسي في هذا التجمّع، أيضاً في بعض الإجراءات والتجمّعات الاقتصادية التي توصَف بأنها تحاول الخروج من الهيمنة الأمريكية والأحادية الأمريكية، خاصة في المجال الاقتصادي.
برأيك، دكتور، هل نحن أمام مرحلة يمكن أن تنحاز فيها الهند من الرُباعية (كواد) نحو تجمّعات دولية ومعسكرات دولية أخرى مثل شانغهاي والبريكس؟
يعني، هل سنرى الهند فاعِلاً في هذه التجمّعات الدولية أكثر من التحالفات التي بنتها الولايات المتحدة، خاصة في منطقة المحيطين؟
وائل عواد: هي فعلاً، هناك أكثر من سبب لإعادة التوازن الدولي. هناك فرض لنظام عالمي جديد، خاصة مع تراجع القُدرات الأمريكية ونفوذها في ما فعلته في أفغانستان، ومن ثم في الحرب في الشرق الأوسط. فقدت الولايات المتحدة مصداقيّتها كدولةٍ قائدةٍ لهذا العالم. وبالتالي، هناك خلفية، أخ كمال، لهذا التقارُب الروسي-الصيني-الهندي، أي بمعنى أن روسيا تبحث عن شركاء كبار للتعاون ما بعد العُزلة الغربية.
الصين تريد كَسْر الهيمنة الأمريكية واستعادة تشكيل نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب.
الهند، رغم التقارُب الذي فرضته الرباعية عليها، لا تزال تحافظ كما قلت على قوى متعدّدة داخل مجموعة البريكس وداخل مجموعة شانغهاي، لأن هذه ملامِح التعاون المُحْتَمَل بين هذه الدول، وهذه هي المنصّات المطروحة الآن لهذا التعاون. وبالتالي، كما قلت، المرحلة تحتاج إلى قادةٍ آسيويين. نحن نعيش القرن الآسيوي إذا كان هؤلاء القادة يدركون مصالحهم، لأن الولايات المتحدة الآن كشفت عن أنيابها وأكّدت بأنها لا تملك الجزرة، وتملك فقط العصا.
لذلك، نلاحظ أن هناك الكثير من التقارُبات بين هذه الدول للتعامل بالعملات المحلية والتخلّي عن هيمنة الدولار، إن كانت الهند والصين، إن كانت الهند وروسيا، والهند وإيران، وروسيا، كل هذه الدول تريد أن توجِد بديلاً لسلّة العملات عوضاً عن الدولار الأمريكي.
لذلك، أعتقد، في مواجهة هذه العقوبات، وخاصة الضغوط الغربية على الهند، تجد الهند نفسها مقموعة داخل هذا التعاون الجنوب-جنوب، لأن من مصلحة هذه التجمّعات، وهي تبحث أيضاً عن أسواقٍ جديدة، لا تبحث عن الطاقة البديلة فقط، فهي تبحث، لكن هناك شروط مفروضة من الدول الغربية مقابل توفير هذه الطاقة البديلة، مثل توفير التكنولوجيا البديلة للهند، وهناك شروط جهنّمية بالنسبة للهند، غير قادرة سياسياً على الموافقة عليها.
إذاً، هذه التغيّرات الجيوسياسية تفرض على هذه الدول مجتمعة أن تُعيد التوازُن الدولي، من كل طرف يرى مصلحته، بتقليل الشروط التي يضعها لخفض الأزمات وإعادة بناء الثقة بين هذه الدول الثلاث مجتمعة، التي تستطيع معاً قيادة عالم الجنوب-الجنوب.
أعتقد أن مؤتمر ميونخ كان أحد الأوراق التي كشفت عن الضعف الغربي في عدم تعامله بشكل مباشر مع الجنوب، لذلك كانت هناك أصوات في الجنوب للمرة الأولى بدأت تُسْمع في الغرب، لكن مع التبعية الغربية الآن للولايات المتحدة والحرب الروسية-الأوكرانية، وفشل الولايات المتحدة في إسقاط روسيا في هذه الحرب اقتصادياً وعسكرياً، يدفعنا للقول إن العالم يتطلّب أصواتاً جديدة لإعادة هَيْكَلته، ليس بعيداً عن الولايات المتحدة، ولكن في ظلّ الضعف الأمريكي والغربي.
كمال خلف: هنا اتفقنا، دكتور وائل، وأنت ذكرت هذه النقطة أن الهند تريد أن تكون جزءاً من النظام العالمي الجديد عبر شانغهاي والبريكس، والتعاون الاقتصادي الناشئ والمؤسّسات التي تنشأ بعيداً، وفي نفس الوقت تريد أن تكون جزءاً من الشراكة مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية ممثّلة بتحالف غواد.
لكن في ضوء ما تقوم به الولايات المتحدة، هناك تصوّرات، لا أعرف مدى واقعيتها، لكن سنناقش ذلك معك.
إن روسيا والصين والهند يمكن أن تشكّل ترويكا آسيوية لصعود قطب آسيا، أو تعبيراً عن آسيا القائدة، بديلاً عن الغرب أو المنظومة الغربية القائدة للعالم.
هل هذا ممكن، دكتور، خاصة أنه لفت نظري وأنا أتحدّث عن الاتفاقات الروسية-الهندية الأخيرة في هذا الشهر؟
إن روسيا فتحت مجالاً للهند للشراكة والمساهمة في القُطب الشمالي. أنت تعرف، هذه منطقة وهذا العالم الجديد، العالم الجديد اقتصادياً وجيوسياسياً بسبب الممرّات المهمّة، وكذلك مكان للتنافُس المستقبلي والمحموم بين روسيا والصين من جهةٍ، وبين الولايات المتحدة الأمريكية من جهةٍ أخرى.
ويُعزى لهذه الجغرافيا القُطب الشمالي رغبة دونالد ترامب في ضمّ غرينلاند وبنما وحتى كندا. وبالتالي، هل تعتقد أن روسيا والصين اندفعتا باتجاه الهند لتحقيق هذا الهدف، وهذا ممكن في ضوء سياسة هندية راسِخة: أن الهند ليست مع الجميع وموجودة في كل التكتّلات في آنٍ واحد؟
وائل عواد: طبعًا سؤالك يحتاج إلى حلقةٍ جديدةٍ، لكن سأختصر بسبب الاتفاق معك على أكثر من نقطة.
أولاً، أنت تتحدّث استراتيجياً، إن هذا التفكير الاستراتيجي الذي يطرحه الكثير من الباحثين والمُراقبين هو أقلّ الاحتمالات في الواقع.
لأن استراتيجياً التحدّث عن إعلان تحالف ثلاثي سيقلب موازين القوى، لكنه يحتاج في الواقع إلى تسويةٍ للخلافات العميقة بين الهند والصين من ناحية، وبين الصين وروسيا من ناحية أخرى. هذه الخلافات، إذا استطاعت هذه الدول إعادة بناء الثقة وحلّ خلافاتها، سيكون إحدى الاحتمالات الرئيسية. لكن هناك احتمالات عملية وهناك احتمالات ظرفيّة. الاحتمالات العملية هي التعاون الوظيفي، أي بمعنى أن الغاية تُبرّر الوسيلة للتعاون في ما بينها في ما يتعلّق بالطاقة والدفاع والاقتصاد وغيرها، من دون إعلان رسمي عن أيّ تحالف، لأن الإعلان عن أيّ تحالف سيدفع بالولايات المتحدة إلى دفع هذه الدول الأخرى للتعاون وتشكيل "ناتو آسيوي" على شاكِلة الناتو الأوروبي لمواجهة الصين ومواجهة كل مَن يقف إلى جانب الصين.
=لكن الترويكا الظرفية، التي يعتبرونها، أعتقد أن هذه الظرفية تعتمد بشكل أساسي على التعاون المفروض على هذه الدول بسبب الضغوط المفروضة من قِبَل الولايات المتحدة والدول الأوروبية. ويمكن القول إنه عملياً يمكن أن يكون هناك تعاون استراتيجي، وأنا من المؤمنين بأن التعاون بين هذه الدول الثلاث هو الورقة الاستراتيجية الرئيسية لمواجهة الهيمنة الغربية، وخاصة في عالم تريد الولايات المتحدة أن تُعيد التوازن للنظام العالمي الجديد ضمن المنظور الأمريكي.
لذلك، غياب الهند عن السياسة الأمريكية، أو عن التقارُب الهندي-الأمريكي، سيُغيّر من وجهة نظر الولايات المتحدة في إعادة تشكيل هذا العالم الجديد، لأن السردية، كما تتذكّر أستاذ كمال، كانت عندما دخلت روسيا في حربها مع أوكرانيا، كانوا يتحدّثون عن الديمقراطيات وعن حكومات الدول الاستبدادية، ولكن هذه الأطروحة أيضاً فشلت الآن، لم تعد مطروحة، باعتبار أن الرئيس ترامب قَلَبَ جميع الأوراق في البيت الأبيض وسبّب زلازلاً اقتصادياً وسياسياً وتقلّبات وقلقاً دولياً كبيراً من كثير من هذه الدول بعد فرض سياسات "أمريكا أولاً".
لذلك، أعتقد أن هذا التحالف ضرورة، والشراكة ممكن أن تحدث استراتيجياً في المستقبل القريب، إن كان هناك تفاهُم، وإن كانت هناك نيّة من قِبَل هؤلاء.
كمال خلف: دكتور، ما عرضناه: بنك دولي أو بنك آسيوي بديل عن البنك الدولي، أيضاً بدأ التعامُل بالعملات. الهند نفسها بدأت تتعامل بالعملات المحلية بعيداً عن إيران. دول كثيرة بدأت تفعل ذلك. التبادُلات التجارية بين الصين وبين بعض الدول، وبين روسيا وبين بعض الدول، تجري أيضاً بعملات خارج هيمنة الدولار.
وأيضاً، تشكيل نوع من التحالفات أو التجمّعات والمؤتمرات الدولية مثل شانغهاي والبريكس وغيرها.
هل نستطيع أن نعتبر أن هذا يشكّل ميلاداً لنظام بديل عن نظام المركزية الأمريكية والمركزية الغربية للنظام الدولي القائم، أم نحن نبالغ؟ لأن البعض، كل ما عرضناه سابقاً، يقول هذا نظام دولي جديد، هذا بناء لنظام دولي جديد خارج الهيمنة الأمريكية.
لكن على أرض الواقع، بعد الحرب الباردة، الولايات المتحدة تمتلك إمكانيات اقتصادية هائلة، وإمكانات عسكرية هائلة، وقُدرة دبلوماسية على الوصول إلى كل مكان.
إلى الآن، هذه التجمّعات قوية اقتصادياً، لكنها تفتقد للبقية، أليس كذلك؟
وائل عواد: بالتأكيد، تفتقد للبقية، وهذه حقيقة. ليست فقط هذه التحالفات تفرض نوعاً جديداً من نظامٍ مُتعدّد الأقطاب، أعتقد أننا دخلنا في مرحلة المخاض لنظام عالمي جديد.
النظام العالمي الجديد، كما تعلم، هو أيضاً إذا تمّ تشكيله بعد الحروب العالمية: الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية. الآن العالم يتحدّث عن نظام عالمي جديد مُتعدّد الأقطاب، بعد فشل المنظّمات الدولية في حلّ هذه الأزمات، وهيمنة أحادية القُطب لم تعد أيضاً واضحة. لكن المشكلة الأساسية: نحن لا نتحدّث عن إعادة توازن في العالم والمجتمع الدولي في عالم مُتقلّب، ومعظم هذه الدول المعنية تملك السلاح النووي. يعني إذا كانت هناك مواجهة عسكرية بين الدول النووية، فهذا يعني دماراً شاملاً للكرة الأرضية ولجميع دول العالم.
لذلك، أعتقد أن هذه الدول العظمى ستجلس على طاولة الشطرنج، وعلى طاولة "الكعكة الكبرى" لتقاسُم المصالح في هذا العالم، مقابل خسارة بعض الأطراف لمصالحها وحتى وجودها على الخرائط العالمية.
ولكن بشكلٍ عام، نحن دخلنا في مرحلة المخاض وقد تستغرق بعض الوقت. هذا كله يعتمد على مستقبل المواجهة مع الولايات المتحدة والصين، في حال وقعت حرب أو أشعلت الولايات المتحدة حرباً في البحر الجنوبي الصيني، أو باتجاه مضيق تايوان، أو إذا وقع خطأ في الحروب قد تكون بين الكوريتين، قد تؤدّي لحرب نووية. لذلك، كل هذه الاحتمالات مطروحة ومازالت قَيْد النقاش بين المفكّرين والسياسيين للتوصّل إلى نوع من الأرضية. أعتقد أننا الآن في البداية لعالم جديد.
كمال خلف: شكراً جزيلاً لك، دكتور وائل عواد، الكاتب والخبير في الشؤون الآسيوية. كنت معنا مباشرة من نيودلهي، وأشكرك على كل هذا الجهد الذي بذلته لإعطائنا إجابات لتوضيح الصورة في ما يتعلّق بما يجري مع الهند في تلك المنطقة الحسّاسة من العالم.