أميركا وفنزويلا.. المصلحة المرّة
عقوبات.. انقلابات.. تهديدات عسكرية! فنزويلا في قلب العاصفة الأميركية، من تشافيز إلى مادورو… ثورةٌ تُحاصر، لكنها تقاوم بذاكرة شعبية وتحالفات دولية. كيف تحوّل النفط إلى ساحة صراع جيوسياسي؟ وكيف تواجه كاراكاس مشروع الهيمنة بسياسة السيادة والوحدة الوطنية؟
نص الحلقة
مايا رزق: إنها حرارة الحب، حب المصلحة بين أمريكا وفنزويلا.
فكيف تحوّلت حرارة الحب إلى حماوة حرب، حرب مصلحةً أيضًا بين أمريكا وفنزويلا. الكلمة المفتاح: النفط.
ورديّة ظلّت العلاقات بين كاراكاس وواشنطن عقودًا طويلةً، كيف لا وفنزويلا صاحبة أكبر احتياطي للنفط في العالم، كانت من أولى الدول المُصدّرة للنفط إلى أمريكا عبر شركة بتروليوس دي فنزويلا. زيارات مُتبادلة على أعلى المستويات، استثمارات، اتفاقيات وصفقات ضخمة بلغت قيمتها أرقامًا خياليةً، ضاعفت ثروات الحُكّام في كاراكاس، بينما تفشّى الفساد وامتدّت رقعة الفقر لدى المواطنين، فكان لا بدّ من التغيير.
الكاراكازو، الانفجار الشعبي عام 89، الفنزويليون نزلوا إلى الشوارع رفضًا لإجراءات رئاسية أدّت إلى رفع الأسعار وخَصْخَصة الشركات العامة وتقليص الدعم الاجتماعي، فعرفت البلاد أشهرًا من المخاض إلى أن انهار نموذج الديمقراطية النفطية.
هوغو تشافيز، ذو المؤسّسة العسكرية الفنزويلية، الذي ترعرع في كَنَف عائلة مُتواضعة، لم يخفِ نيّاته يومًا. الرئيس البوليفاري قالها صراحة: نريد قلب الأمور رأسًا على عَقِب في مجتمعٍ لا بدّ من أن يكون في نظره أكثر عدالة ومساواة ومعرفة.
في عام 2002 عرفت كاراكاس محاولة انقلاب لإسقاط تشافيز، إلا أن الأمر لم يتخطَّ سويعات قليلةً. تشافيز ظلّ ثابتًا ووجَّه أصابع الاتّهام في الانقلاب إلى واشنطن.
العلاقات الثنائية تحوّلت إلى ما يشبه عدالةً أمريكيةً بنكهة العقوبات تجاه كاراكاس، خصوصًا عقب تحالفاتها الأخيرة مع إيران وروسيا والصين وغيرها من البلدان التي لا تدور في الفلك الأمريكي.
توفّى تشافيز عام 2013 ووصل نائبه نيكولاس مادورو إلى بالاسيو ميرافلوريس. بحذرٍ تعاطت واشنطن مع الأحداث في كاراكاس، إلى أن كشف أوباما عن حقيقة الرؤية الأمريكية.
بشكلٍ دراماتيكي تدهورت العلاقات وازدادت حِدّة بعد فوز مادورو بولايةٍ ثانيةٍ عام 2018.
خوان غوايدو أعلن نفسه رئيسًا للبلاد بدعمٍ عالميٍّ من إدارة ترامب، الذي شدّد العقوبات على صادرات النفط الفنزويلية والبنك المركزي وشخصيات بارزة من بينها مادورو نفسه.
كشفت كاراكاس عن أكثر من محاولةٍ أمريكيةٍ لإسقاط النظام قبل أن تشهد العداوة هدنةً خدمةً للمصلحة، عقب الحرب الروسية الأطلسية وبحث واشنطن عن مصادر للنفط في عالم الجنوب وأبرزها فنزويلا.
الهدنة لم تطل كثيرًا، والانفتاح البراغماتي سُرعان ما تحوَّل إلى صراعٍ على الشاكلة الترامبية.
ثلاث سفن حربية أرسلتها واشنطن إلى قُبالة السواحل الفنزويلية، فيما انضمّ آلاف الفنزويليين إلى الميليشيا البوليفارية لمواجهة أيّ تهديدٍ أمريكيٍّ، ما نقل الخصومة إلى مراتب مُتقدّمةٍ ومُنفتحةٍ على احتمالات قد لا تخلو من التهوّر الترامبي. فهل تكون الغَلَبة للمصلحة المُرّة؟
اذهب أعمق، تفهم أكثر.
يسرّني أن نذهب أعمق اليوم مع ضيفنا هنا في الاستوديو السفير الفنزويلي في لبنان السيّد هوسيه بيومورجي. أهلًا ومرحبًا بك في "اذهب أعمق". كما لاحظنا، في العقود الماضية انقلبت العلاقات بين واشنطن وكاراكاس رأسًا =على عَقِب. كيف وصلت الأمور إلى هنا، إلى درجة أن تُرسل واشنطن بقيادة ترامب سفنًا حربيةً في الكاريبي؟
هوسيه بيومورجي: بادئ ذي بدء، أتوجّه بالشكر إلى قناة الميادين التي تُتيح لنا الفرصة حتى نشرح لكم السياق العام الذي تندرج فيه الأحداث الأخيرة في منطقة أمريكا اللاتينية، لاسيما في أمريكا الجنوبية. إن العلاقات القائمة بين الولايات المتحدة وفنزويلا تعود إلى تاريخٍ بعيدٍ. ونلاحظ الفرق بين العلاقات القائمة بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث حقّقت الولايات المتحدة استقلالها، وبعدها حقّقت فنزويلا استقلالها. والوضع الراهن وقتذاك حاولت الولايات المتحدة، من خلال المبعوث الخاص بالولايات المتحدة، فرض إرادة الولايات المتحدة على مُحرّر فنزويلا سيمون بوليفار. وقد وجِّه إلى بوليفار كتابٌ حيث ورد أنه حتى تحقّق فنزويلا استقلالها فقد فقدت عددًا كثيرًا من سكانها، وإنهم كذلك كانوا يسعون إلى الدفاع عن حرية البلاد. ويتمّ التذكير أيضًا بهذه الجُملة التاريخية لسيمون بوليفار في كتابٍ له وجّهه إلى أحد العسكريين البريطانيين، العقيد كامبل، حيث ذكر أن الولايات المتحدة تبدو وكأن مصيرها هو باسم الحرية سوف تطرد المأساة. وإنها إذ أحداث تعود إلى أكثر من قرنين.
ونحن ندرك تمامًا أن عقيدة مونرو "أمريكا للأمريكيين"، وإن فنزويلا، وكما ذكرت آنفًا، هي البلد الذي يتميّز بأكبر احتياطي نفطي في العالم، فإنه منارة للحرية وللكرامة. إن فنزويلا هي الدولة التي أطلقت الحركة التحريرية في أمريكا اللاتينية، وإن فنزويليًّا واحدًا هو الذي قد قاد حركة التحرير في أمريكا اللاتينية، ونتحدّث عن ست دول: كولومبيا، البيرو، بوليفيا، فنزويلا، الإكوادور، وباناما.
وقبل ذلك فإن باناما كانت جزءًا من كولومبيا وجزءًا من غرناطة الجديدة. وبالتالي الأمر ليس بالجديد اليوم. إنما، وإذا ما ركّزنا جهودنا واهتمامنا على تاريخ فنزويلا على مدى قرنٍ وثلاثة عقودٍ، حيث تمّ اكتشاف النفط في فنزويلا وبدأ إنتاج النفط فيها، فكلّما جاء رئيسٌ قد ادّعى بأنه يضع الثروات النفطية وثروات فنزويلا خدمةً لهذا الشعب، فإن هذا الرئيس كان محطّ اعتداءاتٍ وانقلاباتٍ وعملياتٍ عدائيةٍ وتهديداتٍ. والأمثلة كثيرة: سيبريانو كاسترو في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، رومولو غاليغوس في مُنتصف القرن العشرين، والرئيس شافيز بحدّ ذاته، والذي وقع ضحية محاولة انقلاب في العام 2002.
وكل ذلك قد بدأ عندما حاول الرئيس شافيز تغيير القانون وأراد أن يُعدّل مستوى العلاوات التي تدفعها هذه الشركات الأجنبية للدولة. فقد حاول أن يُعدّل القانون بأن يرفع هذه النسبة من 0.5 في المئة إلى مُعدّلات أكثر ارتفاعًا، إلى 16 في المئة و33 في المئة، وهو أمر تمّ وضعه في دستورنا. حيث إن أية شركة نفطية تتعاون مع فنزويلا لا يمكنها أن تحظى بأكثر من 49 في المئة من الحِصص في أية شركة نفطية، فالأغلبيّة تعود إلى فنزويلا. ومنذ ذلك الحين بدأت الضغوطات على فنزويلا. ونحن ندرك تمامًا أن أية محاولة تقوم بها الولايات المتحدة يكون سياقها سياقًا اقتصاديًّا، ويلجأون إلى ذرائع: الإرهاب، المُخدّرات، الشيوعية... إذ الذرائع كثيرة، وذلك لوضع يدهم على موارد البلاد.
مايا رزق: بالحديث عن الذرائع =سعادة السفير نحن نتحدّث الآن عن أكبر انتشارٍ عسكريٍّ أمريكيٍّ في المياه اللاتينية منذ أزمة الصواريخ الكوبية، هل كل هذا من أجل مُكافحة الإرهاب؟ حبّذا لو تخبرنا أصلًا أين تنتشر هذه السفن الحربية الأمريكية الآن وكيف ستُكافِح الإرهاب أو المُخدّرات تحديدًا؟
هوسيه بيومورجي: إن فنزويلا في الوقت الراهن تقع ضحية تهديدات من سرديّة عدائيّة غير مُتّسقة، كاذِبة، خاطِئة، مُنافِقة، والغرض منها نفي السلام والاستقرار في فنزويلا. إن الدبلوماسية الفنزويلية هي دبلوماسية بوليفارية للسلام، هذا الإسم الذي نطلقه عليها. نحن لا نمثّل خطرًا على أحد، إلا أن الولايات المتحدة، والتي تسعى إلى الاعتداء علينا والاعتداء على زعيمنا الرئيس مادورو، قد اختلقت سرديّات خاطئة تحدّثت عن مجموعاتٍ إرهابية، باراغواي الغائبة عن الوجود اليوم، وقد بدأت بالاعتداء على فنزويلا أكثر من مرة.
ومؤخّرًا، قد خرج من وزارة الخارجية ووزارة العدل في الولايات المتحدة أشخاص قد يُقدّمون مكافأة لمَن يعطي معلومات لإلقاء القبض على الرئيس مادورو، إن ذلك يمثل تحفيزًا على قتل الرئيس. ومؤخّرًا، قد أرسلت الولايات المتحدة أسطولًا إلى البحر الكاريبي، مُعتبرة أن الأمر يتعلّق بمبادرة وبخطّة لمُكافحة المُخدّرات.
أودّ، إذا سمحت، أن أشرح لكم الوضع. فقد وردت تقارير في الأمم المتحدة، فضلًا عن مقالٍ ممتازٍ لا بدّ من أن أخصّه بالذِكر تاليًا، إن المُنتجين الرئيسيين للكوكايين، وحسب تقرير الأمم المتحدة، هم في كولومبيا والإكوادور والبيرو، إنها دول ثلاث لديها واجهة على المحيط الهادئ، أما فنزويلا فواجهتها على المحيط الأطلسي وعلى بحر الكاريبي.
بالتالي، فإن 85 في المئة من المُخدّرات، على حدّ قول المنظّمات الدولية، لا سيما منظّمة مراقبة المُخدّرات في الولايات المتحدة، تُنْقَل من خلال المحيط الهادئ.
ليس من الصدفة أنه قد حصل انقلاب في البيرو، وإن الرئيسة قد طُرِدَت ولم تفز في الانتخابات، وفي الوقت نفسه، في إكوادور كانت هناك انتخابات فاسِدة، وتمّ الحفاظ على الرئيس التالي.
أما في كولومبيا، فهناك كمية كبيرة من القواعد العسكرية، ومن هنا التدفّق للمُخدّرات عن طريق المحيط الهادئ.
لماذا للولايات المتحدة أن ترسل أسطولًا لمُكافحة المُخدّرات في البحر الكاريبي، في مواجهة سواحل فنزويلا وفي المحيط الأطلسي؟ ولماذا تمّت زيادة المكافأة للقبض على الرئيس مادورو لمستوى 50 مليون دولار؟
إذًا، ما هو الغرض من كل ذلك؟ إن إدارة مُكافحة المُخدّرات في الولايات المتحدة هي أكبر مجموعة مُخدّرات في العالم، إنها تعنى بالرقابة، ولكن في واقع الأمر هي توزّع المُخدّرات، ولن أذكر الدول لأنني دبلوماسي.
ثمة بلد في أمريكا اللاتينية تكثر فيه القواعد الأمريكية وتتفشّى فيه زراعة الكوكايين، وهناك دول في آسيا والشرق الأوسط فيها وجود كبير للولايات المتحدة، حيث كثرت زراعة الأفيون فيها. إنها صدف. في واقع الأمر، لدى الولايات المتحدة مشاكل داخلية عديدة، وتودّ أن تتغافل عنها، وإنها تستعين بفنزويلا لكي تخفي هذه المشاكل الداخلية، كحال أو قضية أبستن، وهي قضية تحاول إدارة ترامب...
مايا رزق: إذًا، إن كل ما يتمّ البَوْح به الآن في الإعلام الأمريكي، نقلًا عن الرئاسة الأمريكية وأيضًا عن وزارة الدفاع الأمريكية، هو مجرّد حِجَج، ربما لخلق واقع جديد يلائم أمريكا أكثر في فنزويلا.
سأتحدّث عن هذا الموضوع بالتفصيل، ولكن إسمح لي الآن بالحديث عن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في الداخل الفنزويلي، حيث دعمت - مشاهدينا الكرام - واشنطن، ومعها عدد من الدول الغربية، دعمت بشكلٍ مُعْلَن شخصيات في الداخل الفنزويلي قدَّمت نفسها كقياداتٍ في المعارضة.
فمَن هي وأين هي هذه الشخصيات؟
البداية ستكون مع بيدرو كارمونا، رئيس اتحاد الصناعيين في عهد تشافيز، نصَّب نفسه رئيسًا مؤقّتًا خلال محاولة الانقلاب عام 2002 بترحيبٍ أمريكي، ولكن تظاهرات شعبية دعمًا لتشافيز، توازت مع إعلان قطاعات واسعة من الجيش رفضها للانقلاب، أجبرته على الفرار بعد أقلّ من 48 ساعة.
يقيم اليوم في كولومبيا حيث حصل على اللجوء، وهو خارج المشهد السياسي.
إنريكه كابرليس، زعيم حزب العدالة أولًا، وُصِف بالمعارض المُعتدل المُفضّل لدى واشنطن، نافس تشافيز عام 2012 ومادورو عام 2013 وخسر في المرّتين، قبل أن يتراجع موقعه السياسي أمام شخصيات مُعارِضة أخرى، على رأسها الشهير جدًا خوان غوايدو.
ليوبولدو لوبيز، مؤسّس حزب "فولونتاد بوبولار" أي الإرادة الشعبية، قاد احتجاجات عنيفة ضدّ مادورو عام 2014، اعتُقِل ووُضِع في الإقامة الجبرية، واشنطن حاولت استخدام القضية ورقة تفاوض مع كاراكاس، وربطت العقوبات الاقتصادية جزئيًا بملفّه، وكان الإفراج عنه شرطًا ضمنيًا لتخفيف الضغط.
مؤسسّات أمريكية مثل "NED" و"USAID" موّلت منظمات المجتمع المدني وأحزابًا معارضة بينها حزبه، وهو مُقيم اليوم في إسبانيا.
=أما الآن، فنأتي على ذِكر خوان غوايدو، نائب من حزب لوبيز، أعلن نفسه في كانون الثاني/يناير من عام 2019 رئيسًا مؤقّتًا، بدعمٍ فوري من الولايات المتحدة وأكثر من 50 دولة.
فشل في إسقاط مادورو لعدم كَسْب دعم الجيش، وبحلول عام 2023 سحبت الدول بمعظمها اعترافها به، ويعيش اليوم في الولايات المتحدة منذ عام 2023 بعد فُقدان ما كان يعتبره شرعية دولية.
وأخيرًا، مع ماريا كورينا ماتشادو، نائبة سابقة قادت تيّارًا مُتشدّدًا ضدّ تشافيز ومادورو، حظيت بدعمٍ سياسي وإعلامي واسع في واشنطن، فازت في الانتخابات التمهيدية للمعارضة كمُرشّحة رئاسية، لكنها غير قادرة على الترشّح للانتخابات الرئاسية، على خلفيّة عدّة قضايا، من بينها عدم التصريح الكامل عن أصولها المالية أثناء شغلها منصب نائبة في البرلمان، ودعمها العقوبات الأمريكية على فنزويلا، ما يُعدّ خيانة للوطن.
أذهب بكل هذه الأسماء إليك ضيفنا أستاذ خالد الترعاني، الأكاديمي والخبير بالشؤون الأمريكية، تنضمّ إلينا من أوهايو، أهلًا ومرحبًا بك.
دكتور خالد، هذه الأسماء، إلى أيّ مدى يمكن أن نقول اليوم بأنها عناوين لرِهان فاشل ربما؟ وأين مَكْمَن الخَلَل إذا كان الأمر كذلك؟
خالد الترعاني: نعم، تحيّة لكِ أختي الكريمة، ولضيفك الكريم سعادة السفير الفنزويلي في لبنان، وللمشاهدين الكرام.
إذا نظرنا إلى هذه الشخصية لا بدّ لنا من أن نضعها بسياقها التاريخي، وهو السياق التاريخي للتدخّل الأمريكي بالدول، دول أمريكا اللاتينية وأمريكا الوسطى، وتدخّلها في دول أخرى أيضًا، من إفريقيا إلى الشرق الأوسط إلى آسيا، في كل العالم.
في الحقيقة، نحن نجد أن الديمقراطية دائمًا هي عائق أمام الولايات المتحدة ومصالحها. الانقلابات المُتعدّدة، إن كان في تشيلي عام 1973، وإن كان في غواتيمالا عام 1954، ضدّ باتريس لومومبا، واغتيال الرؤساء المُنتخبين ديمقراطيًا، فهذا ليس غريبًا على الولايات المتحدة الأمريكية بكل أسف.
ولكن، هذه الأسماء تدعو إلى الشفقة على هذه الإدارات الأمريكية المُتعاقبة التي تحاول أن تجعل أيّ إنسان يتنفّس ويستطيع أن يقول إنه مناوئ للحكومة الفنزويلية، تعتبره الولايات المتحدة صالحًا لأن يكون رئيسًا أو لأن يكون قائدًا لهذه الدولة، هذه الدولة العريقة في الحقيقة، والغنية بالثروات.
كانت استضافة غايدو خلال خطاب الرئيس، ما يُسمّى بحال الاتحاد، وهو أهم خطاب للرئيس الأمريكي، الذي عادةً ما يُنعقد لمجلسي النواب والشيوخ، ويلقي فيه الرئيس الأمريكي خطابه، استضافة غايدو خلال هذا الخطاب للرئيس كانت - برأيي - محاولة لتلميع صورة غايدو، ومحاولة الحديث عن أن هناك تحوّلًا ديمقراطيًا. الديمقراطية التي لم تعجب الولايات المتحدة عندما انتُخِب مَن لا تحبّه الولايات المتحدة، الآن تريد أن تأتي بغايدو. ولكن من الواضح أن الشعب في فنزويلا، والشعب يلتفّ حول حكومته، ويرفض مثل هذه.
مايا رزق: دكتور خالد، صحيفة غارديان البريطانية عنوَنت في التاسع عشر من أيار/مايو من العام 2022 قالت "واشنطن لا تزال عاجزة عن كَسْر مادورو"، هل ستنجح اليوم برأيك في الوصول إلى هذا الهدف بالبوارج الحربية؟
خالد الترعاني: أنا أعتقد أن الولايات المتحدة ليست بصَدَد غزو فنزويلا، غير قادرة على ذلك على عددٍ من المستويات. عسكريًا، سوف تكون مُكْلِفة جدًا إن تجرّأت الولايات المتحدة وغزت فنزويلا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، أنا لا أعتقد أن القاعدة الشعبية المؤيّدة للرئيس دونالد ترامب حاليًا، "الميغابيس"، مُستعدّة ولها نَفَس لأن تخوض مثل هذه الحرب.
مايا رزق: إذًا، لماذا إرسال كل هذه السفن الحربية؟
خالد الترعاني: أنا أعتقد أن هذه السفن الحربية هي استعراضية أكثر من أيّ شيء آخر. كما تفضّل سعادة السفير، إن أكثر من ثلثيّ كوكايين العالم، 70 في المئة تقريبًا حسب تقارير الأمم المتحدة، من الكوكايين يخرج من كولومبيا وليس من فنزويلا. هناك حديث عن أن فنزويلا لا تُنْتِج الكوكايين، ولكنها هي نقطة العبور. ولكن، أيضًا تقارير الأمم المتحدة تقول إنه فقط 5 في المئة من الكوكايين الكولومبي يمرّ عبر فنزويلا.
إذًا، المنطق يقول إنه إذا سيكون هناك أيّ عمل عسكري، فسوف يكون ضدّ كولومبيا وليس ضدّ فنزويلا. الحديث عن أن هذا من أجل الحرب على المُخدّرات وما إلى ذلك، هو حديث واهٍ، ولا أحد يشتري هذه البضاعة الفاسِدة. ولكن، هل الشعب الأمريكي، وخصوصًا القاعدة المؤيّدة للرئيس دونالد ترامب من الحزب الجمهوري، هل هي مُستعدّة لأن تخوض الولايات المتحدة حربًا ضدّ فنزويلا؟ أنا لا أعتقد ذلك.
لذلك، هذا الانتشار - برأيي - هو قضية استعراضية أكثر من أيّ شيء آخر، خصوصًا مع اقتراب الانتخابات النصفيّة، والأزمات المُتتالية التي يُمنى بها الرئيس دونالد ترامب، أهمّها فضيحة جفري أبستين التي لوّثت الجو وبشكلٍ كبيرٍ جدًا بالنسبة لدونالد ترامب.
أكثر المُطالبين بالإفراج عن ملفّات جفري أبستين، الذي اشتهر بالاعتداء على القاصرات وتوريط رؤساء وشخصيات هامة وعامة في هذه القضايا، أحد هذه الشخصيات كان دونالد ترامب. أنا باعتقادي أن دونالد ترامب الآن يسعى جاهِدًا لأن يفعل كل ما يستطيع كي لا يكون هناك اهتمام بهذا الموضوع.
وهناك عدد من الأمثلة: أولًا، قام بعَسْكَرة واشنطن دي سي من خلال فَدْرَلة الحرس الوطني من أجل الذهاب إلى واشنطن، والآن يتحدّث عن الذهاب إلى شيكاغو. يريد أن يخلق حالاً من اللغط داخل الولايات المتحدة كي لا يكون هناك حديث عن جفري أبستين، لأن هذه في الحقيقة واحدة من أكبر الفضائح التي تهزّ الولايات المتحدة - أعتقد - في العصر الحديث، وإذا تمّ الإفراج عن هذه الملفّات، فسوف تكون فضيحة كبرى، ليس فقط لدونالد ترامب، ولكن للحكومة الأمريكية.
مايا رزق: ولكن تابعنا خلال السنوات كيف ينجح دونالد ترامب عادةً في ترقيع أية فضيحة قد تمسّ به. أعود إليك سعادة السفير، قبل قليل تحدّثت عن موضوع الجوائز المالية التي وضعتها الولايات المتحدة الأمريكية الرسمية لمَن يمكن أن يعطي أية معلومة عن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو.
اللافت، سيادة السفير، بأن غير مبلغ الـ50 مليون دولار، أيضًا أن هناك مبالغ أخرى وضعتها الولايات المتحدة الأمريكية على رأسيّ كل من ديوسدادو كابيلو وفلاديمير بادرينو لوبيز، وزير الدفاع الفنزويلي. على ما أعتقد، هي خطة للإطاحة بمادورو، أم لا؟ نحن نتحدّث ربما عن خطة لتغيير النظام مع تسعيرة مُحدّدة: 50 مليون و25 مليون و15 مليون. هذا المبلغ كله من أجل قَلْب النظام في فنزويلا؟
هوسيه بيومورجي: قبل أن أجيب عن سؤالك، أودّ أن أعود إلى ما ذكره الضيف الكريم. في العام الماضي، حصلت انتخابات نصفية، ومؤخّرًا قد عُقِد اتفاق بين الرئيس ترامب والرئيس مادورو، حيث تمّ هناك تبادُل. كان لدينا 250 من الشباب المُعتقلين في السلفادور بشكلٍ ظالم، لم يقترفوا أية جريمة، وتمّ اعتقالهم بشكل غير قانوني وغير أخلاقي.
=وقد دارت مفاوضات، حيث إنه أُرسل هؤلاء الـ250 إلى فنزويلا، في المقابل نحن قد أطلقنا سراح 12 من المجرمين الحاملين للجنسية الأمريكية. وإن ذلك قد أثار امتعاض اللوبي في فلوريدا، الذي يكره فنزويلا، وكان بحاجةٍ إلى عملٍ لإخفاء هذا العمل.
وحصل الاجتماع مع الرئيس بوتين، وبعد ذلك هذا العمل ضدّ فنزويلا.
=وردًا على السؤال المُتعلّق بالجوائز المالية بحقّ الرئيس مادورو، ووزير الخارجية كابيلو، ووزير الدفاع فلاديمير بادرينو لوبيز، إذًا، وهي الشخصيات الأهمّ في فنزويلا، ما هو وراء هذه الجوائز هو فعل لنسف الاستقرار، هو السعي لكي يحاول أحدهم اغتيال أحد هؤلاء الثلاثة للمطالبة بهذه المُكافأة.
وإنه أسلوب أيضًا لزَرْع الفتنة الداخلية. إن الرئيس ترامب قد اقترح خلال حملته بأنه لن يقوم بأيّة حرب، وأنا أتّفق مع الضيف بأن الولايات المتحدة لن تخوض حربًا ضدّ فنزويلا، إلا أننا نحن في الحركة المؤيّدة لتشافيز تعلّمنا بأنه ينبغي أن نتجهّز لأسوأ التطوّرات.
ومن هنا، نداء الرئيس مادورو لـ4.5 مليون من أعضاء الميليشيات، وهناك تعبئة وطنية، وبعض العمليات والتمارين للدفاع عن الوطن. وما تسعى إليه الولايات المتحدة هو أن تُتيح مُتنفّسًا لهذه المعارضة المُتطرّفة.
مايا رزق: أنتم في فنزويلا جاهزون لأيّ تصعيد عسكري قد تقوم به واشنطن اليوم؟
هوسيه بيومورجي: تاريخيًا، فنزويلا بلد مُتمسّك بالكرامة. نحن لا نركع، لا نرضخ لتهديدات، وإننا نصرّ على أن وراء هذه الأفعال نيّة لإتاحة مُتنفّس للمعارضة المُتطرّفة التي ذكرت، وآخرها السيّدة ماريا كورينا ماتشادو، المرتبطة بجماعات إجرامية وجماعات المُخدّرات، وأنها مرتبطة بالرئيس السابق لكولومبيا، السيّد أوريبي، والذي كان أحد الزعماء الرئيسيين لمجموعات المُخدّرات في كولومبيا، وإنها مرتبطة بهذه الجماعات الإجرامية من مُتاجرين بالمُخدّرات في كولومبيا وفي المنطقة، كذلك مع الرئيس نوبوا في الإكوادور.
مايا رزق: هذه اتّهامات خطيرة، أريد أن أتحدّث عنها ولكن بعد هذا الفاصل القصير. تفضّل بالبقاء معنا سعادة السفير، وأيضًا الدعوة موجّهة لكم أستاذ خالد الترعاني، فاصل قصير ونتابع حلقة اليوم من اذهب أعمق.
مايا رزق: من جديد، أهلاً ومرحبًا بكم في اذهب أعمق. "عندما غادرت، كانت فنزويلا على وشك أن تنهار، لو أننا استولينا عليها لكان لدينا كل ذلك النفط، لكننا الآن نشتريه علنًا"، قالها دونالد ترامب في حملته الانتخابية. فماذا يمثّل النفط الفنزويلي بالنسبة إلى أمريكا؟ أحد أكبر الاحتياطات المؤكّدة في العالم تملكها فنزويلا. هذا تقرير لـ Statistical Review of World Energy= يتحدّث عن 303 مليارات برميل، أي هو الاحتياطي الأكبر على مستوى العالم. هو يمثّل نحو 95 في المئة من إيرادات التصدير في البلاد، ويشكّل ما بين 20 و25 من الناتج المحلي الإجمالي. من هنا، جعلت الولايات المتحدة النفط أهم أدواتها في حملة العقوبات.
منذ عام 2017 بالتحديد وحتى اليوم، حُظِر شراء النفط الفنزويلي الخام، وجُمّدت أصول شركة PDVSA في الخارج في محاولةٍ لخنق حكومة كاراكاس بحِرمانها العملة الصعبة.
ذلك دفع فنزويلا إلى البحث عن أسواقٍ بديلةٍ وتعزيز التعاون، وإقامة شراكات مع دول تواجه هي الأخرى حصارًا أمريكيًا أو ضغوطًا سياسية واقتصادية، على رأسها إيران والصين وروسيا، فيما اضطرّت واشنطن بعد حرب أوكرانيا إلى التخفيف جزئيًا من العقوبات، وسمحت لشيفرون بالعودة للتنقيب والإنتاج في فنزويلا، لأن الغرب كان بحاجةٍ إلى مصادر نفط.
إذًا، الحاجة إلى النفط الفنزويلي كانت أقوى من سلاح العقوبات، ووفق الأرقام، في شباط/فبراير من عام 2024 جرى تصدير النفط إلى 113 مُشتريًا مختلفًا، بزيادة 26 في المئة عن العام السابق. من المُشترين الكبار الصين طبعًا، ففي أيار/مايو الماضي مثلًا استوردت الصين نحو 584,000 برميل يوميًا من النفط الفنزويلي.
أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فبلغ حجم الصادرات في الشهر الأول من هذا العام 250,000 برميل يوميًا، وهي أعلى قيمة منذ فرض العقوبات عام 2019.
أذهب إليك ضيفنا من أوهايو، أستاذ خالد ترعاني، لأسألك: ترامب نفسه قال كما ذكرنا قبل قليل في حملته الانتخابية في كارولاينا الشمالية عام 2023: "لو استولينا على فنزويلا لكان لدينا كل ذلك النفط". إلى أيّ مدى ما يقوله ترامب صراحة =يعبّر فعلًا عن رغبة أمريكية عميقة بصرف النظر عمّن يسكن في المكتب البيضاوي؟
خالد الترعاني: أنا أعتقد أن الأمر المُضْحِك المُبْكي بالنسبة لدونالد ترامب هو أنه يعبّر وبشكل واضح، من دون أية مواربة، عن السياسات الأمريكية، ولا يختبئ وراء الخطاب الدبلوماسي الذي تعوّدنا عليه من الرؤساء الأمريكيين السابقين. هو يتحدّث عن أنه يريد أن يقلب غزّة إلى مُنتجع على البحر المتوسّط، يريد أن يستولي على النفط الفنزويلي. أليس هناك بشر في فنزويلا؟ أليس هناك شعب؟ أليس هناك حضارة في فنزويلا؟ يريد أن يستولي عليها. ولكن هذه، في الحقيقة، هي السياسات الأمريكية.
الآن يتحدّثون على سبيل المثال عن قضية المُخدّرات، ومن الواضح أن المُخدّرات في كولومبيا، وليست في فنزويلا. يتحدّثون عن قضية الديمقراطية، ولكن الولايات المتحدة هي أكبر داعم للديكتاتوريات في العالم، ونستطيع أن ننظر إلى الشرق الأوسط كي نرى هذه المظاهر.
إذًا، هذه الحِجَج كلها واهية. في الحقيقة، هي متعلّقة بالنفط. عندما كانوا يتحدّثون عن أن هوغو تشافيز شيوعي في بدايات القرن العشرين، عندما كانت الولايات المتحدة تغزو الدول المختلفة، من جمهورية الدومينيكان إلى باناما وغيرها، لم تكن هناك شيوعية في العالم.
إذًا، هي متعلّقة بالاقتصاد، "حروب الموز" كما تسمّى ضدّ الدول اللاتينية المختلفة، الغزو لباناما، غزو غرينادا، كل هذه التعبيرات، في الحقيقة، تنمّ عن إمبريالية أمريكية مُتغوّلة في أمريكا الوسطى واللاتينية. وهذا ليس بالحديث بالطبع. تحدّث سعادة السفير في بداية الحلقة عن مبدأ مونرو، وهو مبدأ بدأ سنة 1823، قبل أكثر من مئتي عام، تحدّث عن أنه لا بدّ من أن تكون هناك هيمنة أمريكية في أمريكا اللاتينية. هذا عابر، في الحقيقة، للإدارات الأمريكية من الحزب الديمقراطي ومن الحزب الجمهوري.
على سبيل المثال، رجل مثل أوباما، هو أستاذ في القانون الدستوري، خريّج أشهر الجامعات القانونية في الولايات المتحدة، يتحدّث عن فنزويلا بأنها خطر قومي على الولايات المتحدة. هذا ليس متعلّقًا لا بدكتاتورية ولا بالمُخدّرات، هو مُتعلّق بالنفط. عندما نرى أن رئيسًا كـ رونالد ريغان، الذي هو معشوق المحافظين في الولايات المتحدة، هو الذي غزا غرينادا وأيّد الحرب البريطانية على جزر الفوكلاند في الأرجنتين.
الهيمنة الغربية على هذه الدول التي تعتبرها "جنوب العالم" دولًا، إن كان في أمريكا اللاتينية، وإن كان في آسيا، وفي كل المناطق في إفريقيا، هي سِمة واضحة ومستمرة لا تحيد عنها الولايات المتحدة. هذه هي القضية.
القضية الأخرى، وأعتقد أنها مهمّة، أن هناك تاريخًا للرؤساء الأمريكيين: عندما تكون هناك أزمة داخلية في الولايات المتحدة، يتمّ تصدير هذه الأزمة إلى دول العالم الثالث. إن كان غزو الصومال الذي قام به الرئيس جورج بوش الأب، أو غزو غرينادا بعد أن تمّ تفجير المارينز بأيام في بيروت، كان هناك غزو لغرينادا ليتمّ حَرْف الأبصار عن هذه الأزمة الأمريكية.
عندما كانت هناك فضيحة مونيكا لوينسكي مثلًا أيام الرئيس بيل كلينتون، بعد شهادته أمام هيئة المحلّفين بأيام، قام بقصف مصنع الدواء في السودان وقصف أفغانستان، واضطرّت الولايات المتحدة أن تدفع تعويضات لمالك مصنع الدواء في السودان.
بمعنى، تقوم الولايات المتحدة دائمًا بتصدير أزماتها الداخلية، إن كانت اقتصادية، وإن كانت حتى جنسية كما هي الحال في إبستين أو مونيكا لوينسكي في عهد بيل كلينتون. وأنا أذكر بيل كلينتون ودونالد ترامب لأنهما مفروض أنهما على نقيضين تمامًا سياسيًا: واحد ليبرالي، وواحد محافظ، واحد ديمقراطي، وواحد جمهوري. بمعنى أن هذه السياسات عابرة للأحزاب في الولايات المتحدة.
مايا رزق: سعادة السفير، بعد أن =أرحّب بك من جديد، إذًا واشنطن تريد تصدير أزماتها الداخلية، ولكن هذا لا يعني بأنها قد لا تؤلِم الداخل الفنزويلي. سأسألك عن مناعة فنزويلا اليوم، ولكن قبل ذلك، يقول الرئيس ترامب صراحة بأنه يريد وسيسحق النظام في فنزويلا، سيسحق مادورو تحديدًا.
صحيفة هيلبر البريطانية عنوَنت مؤخّرًا أيضًا على الولايات المتحدة الإطاحة بالرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، بينما تقول لوموند الفرنسية: مادورو صمد حيث سقط آخرون. ما السرّ؟ كيف يفعلها مادورو؟ وهل ربما صمّام الأمان بالنسبة له هو وحدة الجيش إلى جانبه؟
هوسيه بيومورجي: إن ذلك يتّصل بأكثر من عامل واحد. حاولت الولايات المتحدة أولًا أن تنسف اقتصادنا حتى تقلب الشعب على الحكومة الثورية =البوليفارية. نحن اتّخذنا عددًا من القرارات التي أفشلت هذا المسعى، وذلك منذ عام 2021، الأمر الذي أدّى إلى تحريك الاقتصاد وإلى تنويعه، ذلك أننا لا نعتمد على النفط فحسب، وهو الأمر الذي سمح لنا أن نشهد نموّاً اقتصاديًا على مدى 3 أو أربعة أعوام. ونحن في عالم رأسمالي نيوليبرالي، وذلك فضلًا عن المعايير التي نستخدمها محليًا.
فضلًا عن كل ذلك، هناك التحام مدني عسكري، لدينا وحدة مدنية عسكرية مع الشرطة، حيث إن الشعب موحّد ومُتكامِل مع القوى المُسلّحة، القوى المُسلّحة جزء من الشعب، والشرطة جزء من الشعب.
وفضلًا عن كل ذلك، فإن الحزب السياسي والحزب الاشتراكي الموحّد الذي أسّسه الرئيس تشافيز، الذي يدمج هذه السياسة التوحيدية والتي تسمح لنا أن ندافع سويًا عن الأمّة، ولدينا إذًا وحدة صارِمة لمؤسّساتنا: المؤسّسات المدنية، القوى المُسلّحة، والشعب.
مايا رزق: الرئيس مادورو يتّخذ كل هذه التهديدات الأمريكية وهذه الخطوات العسكرية على محمل الجد. هو تحدّث عمّن يسمّيه التحوّل الثالث في المجتمع الفنزويلي، أي إعادة هَيْكَلة كاملة لهذا المجتمع ليكون مُهيّأ للحرب.
هل هذا يعني بأن الأمر لم يعد يتعلّق لا بالسياسة ولا بالنفط بل بالوجود بحد ذاته؟
هوسيه بيومورجي: صحيح، كما أكّدت. نحن لطالما نتجهّز لمواجهة أسوأ التصوّرات. وفي فنزويلا، كما توضح، أكبر احتياطيات للنفط في العالم، ولدينا أكبر احتياطي غاز كذلك في العالم، ومن المعادن: الذهب، الحديد، الألومنيوم، الكولتان، مجموعة من الموارد والثروات التي تسعى الولايات المتحدة وتتعطّش لها.
الولايات المتحدة التي تتخبّط في أزمات اقتصادية واجتماعية ووجودية كإمبراطورية، الأمر الذي يجعل من الولايات المتحدة دولة خطيرة، لأنها كالأسد المجروح. فإن الرئيس ترامب قد أرسل مبعوثًا خاصًا أدار حوارًا متواصِلًا معنا، ودخلنا في اتفاقات لا تحترمها أبدًا الولايات المتحدة، وإن احترمتها فهي لأنها وراءها فخّ. ونحن نفهم تمامًا تصرّف الولايات المتحدة، ذلك أننا نواجهها منذ سنوات طويلة، وكما أسلفت، نحن نستعدّ لأسوأ التصوّرات.
إن السيادة ليست محطّ مفاوضات، ولا نضع استقلالنا محطّ مفاوضات، ونحن نستعدّ للدفاع عن أرضنا، وعن ترابنا، وعن أمّتنا من كل خطر خارجي. ولكن كما قلت في البداية، نحن لا نعادي أحدًا، نحن منفتحون للحوار، ولكننا لا نقبل أن يفرض أحد أيّ شيء علينا.
مايا رزق: دكتور خالد، أكثر من دولة في أمريكا اللاتينية وقفت إلى جانب فنزويلا، دول الألبا وغيرها، عِلمًا بأن مادورو ربما وصف ما يحصل وأوضح أنه جزء من النضال ضدّ الهيمنة الأمريكية. أي أن فنزويلا ليست فقط هي الآن عُرضة لهذا العدوان الأمريكي أو التصعيد الأمريكي، بل كل دولة تواجه الهيمنة الأمريكية.
أمام هذا الواقع، ما هي خيارات واشنطن؟ هل ما نراه كما ذكرت قبل قليل هو مجرّد تصعيد ومن ثم تأتي ربما حلقات من الحوار أو التفاوض أو الرضوخ مجدّدًا للمصلحة المُرّة كما تابعنا في ما يخصّ النفط؟
خالد الترعاني: أنا أعتقد أن الولايات المتحدة، في الحقيقة، تبالغ بتقييم قوّتها. على سبيل المثال، عندما تفرض حصارًا على فنزويلا، كما فرضت مثلًا حصارًا على إيران أو حصارًا حتى على روسيا، ما الذي حصل؟ هو أن الدولار، الذي هو في الحقيقة قوّة الولايات المتحدة تتمثّل بالدولار، أن الدولار أصبحت له بدائل من خلال تبادُل النفط باليوان الصيني.
بمعنى، هذه الهيمنة الأمريكية التي تستخدم الدولار وتستخدم =التعامُل بالدولار، هي السلاح الأقوى للولايات المتحدة.
والحقيقة، نحن لا ننكر أن الاقتصاد الفنزويلي، وأن الشعب في فنزويلا، قد عانى بسبب هذا الحصار، الذي بدأ بدونالد ترامب بالمناسبة، وكان أقوى ما يكون سنة 2017، عندما كان دونالد ترامب في فترته الرئاسية الأولى.
أنا أعتقد أن مثل هذه التحدّيات تخلق الحاجة إلى البحث عن بدائل للدولار الأمريكي، وأنا أعتقد أن هذا، عندما يتكرّر مع دولة وراء دولة وراء دولة، يخلق عدم ثقة، بأننا إذا خالفنا الولايات المتحدة، سوف ندفع ثمنًا باهظًا بسبب اعتمادنا على الدولار.
إذًا، إما أن نخضع لإملاءات الولايات المتحدة، أو نخفّف من اعتمادنا على الدولار.
وأنا أعتقد أن هذا هو التوجّه العالمي: الابتعاد عن "السويفت"، نظام الحوالات، الذي لا بدّ من أن يمرّ من خلال الشركات الأمريكية، ولا بدّ من أن يمرّ من خلال نيويورك.
بالإضافة إلى تعامل دول مثل الصين وروسيا وإيران، بتعامُلات نفطية تبتعد عن الدولار.
وجدنا أن هذا الحصار على النفط الروسي، على سبيل المثال، أدّى إلى أن الهند كانت تستورد 1 في المئة من حاجتها النفطية من روسيا، الآن تستورد 40 في المئة من حاجاتها من روسيا.
بمعنى، أيّ حصار تفرضه الولايات المتحدة، كي تسيطر، كي تفرض هذه الهيمنة الأمريكية أو الغربية، يؤدّي في النهاية إلى خلق بدائل، وهذه البدائل لا تصبّ بالضرورة في =مصلحة الولايات المتحدة.
لذلك، أنا أعتقد أن هذه السياسة سياسة خرقاء إلى حدّ كبير من دونالد ترامب. هذا الانتفاخ، الذي هو سِمة لدونالد ترامب وسِمة للسياسات الأمريكية، أصبح مُبالغًا به بسبب انتفاخ الولايات المتحدة وانتفاخ دونالد ترامب.
بمعنى، هو أصبح قوّة أُسيّة وليس خطية، إذا استخدمنا لغة الرياضيات.
لذلك، أنا أعتقد أنه في النهاية، فنزويلا سوف تتجاوز هذه الأزمة، بالطبع إذا لم يحصل انقلاب.
وأنا أتمنّى ألا يحصل انقلاب في فنزويلا، لأن الانقلابات التي تمارسها الولايات المتحدة كما ذكرنا، على سبيل المثال في غواتيمالا، الانقلاب في غواتيمالا أدّى إلى مقتل أكثر من 200,000 مواطن من غواتيمالا بسبب هذه السياسات الأمريكية، ورأينا في بلاد أخرى كثيرة.
لذلك، أعتقد أن الولايات المتحدة ليست بصَدَد إنجاز هذه المهمّة إذا لم يُنْجَز الانقلاب، وإنما سوف تخلق بدائل، وسوف تخلق عداوات أو حذرًا شديدًا لدول.
الأمر الأخير الذي أريد أن أنبّه له هو أننا نتحدّث عن المنظومة الغربية مقابل جنوب الأرض. وجدنا أن فرنسا الآن تؤيّد الولايات المتحدة بنشر القوات في البحار حول فنزويلا وأمريكا الوسطى، بمعنى أن هذه المنظومة دائمًا مُتناغِمة مع بعضها، كما رأينا عندما كان هناك الغزو البريطاني لجزر فوكلاند بالأرجنتين، الولايات المتحدة كانت هي الدولة التي تقف إلى جانب بريطانيا في هذا.
مايا رزق: إذا نحن أمام تكتّلات، سعادة السفير، قبل قليل كنتَ حدّثتنا عن كيف فعلتها فنزويلا وتمكّنت من النهوض عقب هذه العقوبات الخانقة التي فرضتها الولايات المتحدة على فنزويلا، كيف ربما بدأت بالاعتماد على موارد أخرى غير النفط وإلى ما هنالك.
هل فعلتها وحيدة أم كان هناك حلفاء وأصدقاء؟ وإلى أيّ مدى اليوم فنزويلا تعوّل في هذه المرحلة من التصعيد على حلفائها من الصين وروسيا وغيرها من الدول؟
هوسيه بيومورجي: بطبيعة الحال، لدينا حلفاء أقوياء، دول البريكس على سبيل المِثال، ولدينا حلفاء في منطقة آسيا الغربية على سبيل المِثال، إلا أننا نعتمد على أنفسنا في المقام الأول.
وسوف أضرب لكِ مثالًا: إن الدول المُنتجة للنفط هي دول تقوم على اقتصاد ريعي، وتعتمد على دخل النفط لاستيراد احتياجاتها، وإن ذلك يتمّ على حساب القُدرات الإنتاجية في هذه الدول.
ونحن في الماضي، وقبل أن تُفْرَض العقوبات علينا، كنا نستورد زهاء 85 في المئة من المواد الغذائية التي كنا نستهلكها.
وبالتالي، في العقد الأخير، واجهنا أزمة كبيرة مع تراجع العملة، والأزمة الاقتصادية التي واجهناها بالفعل، إلا أننا قد تصدّينا لهذا الوضع.
واليوم تقوم فنزويلا بإنتاج 97 في المئة مما تستهلكه، ونقوم اليوم بتصدير المواد الغذائية. =ونحن صدّرنا اللحوم، وإن ذلك يتوقّف على المواد، نحن نصدّر البن، الفاكهة الاستوائية، الكاكاو، فنحن قمنا بزيادة تصدير المُنتجات التي لم نكن نوليها انتباهًا في الماضي.
وقمنا بتنويع اقتصادنا، المياه المعدنية مثلًا، وقمنا بتطوير وتنمية واستصلاح الأراضي، وقمنا بتنويع الاقتصاد، حيث إن نسبة الاعتماد على النفط، التي كانت تمثل 95 في المئة...
مايا رزق: ختامًا وباختصار، سعادة السفير، هل هذا كله يؤمّن جهاز مناعة بالنسبة لفنزويلا في هذه المرحلة تحديدًا؟ وما تتوقّعون؟ نهاية أو أية نهاية تتوقّعونها لهذا التصعيد بينكم وبين واشنطن؟ عِلمًا بأن ضيفنا من أوهايو تخوّف من انقلاب في داخل فنزويلا؟
هوسيه بيومورجي: مما لا شكّ فيه هو أن العالم يتغيّر، وأن عالمًا جديدًا ينشأ، وإن حكّام الولايات المتحدة جُهلاء، وإن هذه التغييرات الجيوسياسية التي نشهدها تمثل خطرًا على دول كثيرة، لا سيما الدول المستقلّة مثل فنزويلا.
لا أعتقد أنه سوف يحصل انقلاب في فنزويلا، وفي الوقت الراهن أعتقد أن وضعنا السياسي أفضل مما كان عليه منذ وقت طويل.
إن الحكومة الثورية موجودة، قوّاتنا المُسلّحة متينة، الشعب يؤيّدنا، القيادة واضحة، مُتجسّدة في الرئيس مادورو، يعترف الجميع بقيادته، ونحن نتوجّه في الاتجاه نفسه، وهو استقلالنا.
فلا تقلقوا، فإن فنزويلا سوف تواصل المسيرة على درب الازدهار.
مايا رزق: شكرًا جزيلًا لك، سعادة السفير الفنزويلي في لبنان، الأستاذ هوسيه بيومورجي، أشكرك جزيل الشكر.
الشكر موصول أيضًا لكم، دكتور خالد الترعاني، الأكاديمي والخبير في الشؤون الأمريكية، كنت معنا من أوهايو.
إلى هنا، مشاهدينا الكرام، قد نكون وصلنا إلى ختام هذه الحلقة من اذهب أعمق.