جورج عبدالله... ذاكرة المستقبل

جورج عبد الله ليس مجرد رمز أو بطل أو أسطورة، بل هو ذاكرة المستقبل. المناضل اللبناني العائد إلى بلاده بعد اعتقال جائرٍ دام أربعة عقود، يُجسّد تاريخًا طويلًا من الكفاح، ويختصر معنى المقاومة. في غيابه تغيّر العالم: سقطت قوى وصعدت أخرى، وفرضت الأحادية القطبية هيمنتها، لكن الصراع مع التوحّش الغربي والاحتلال لم يتغير. اليوم، يعود إلينا هذا المناضل الأممي، محمّلًا بالأمل والعِبَر والأسئلة: ما الرابط الخفي بين اللحظة الراهنة وثمانينيات القرن الماضي التي شهدت انطلاق نضاله؟ ما العلاقة بين حركات المقاومة اليوم، وتلك التي خرج منها جورج ورفاقه ورفيقاته؟ هل ما زالت المقاومة ضرورة؟ وهل لا يزال الكفاح المسلّح أسلوب حياة؟ لماذا اختطفته الدولة الفرنسية وعدالتها كل هذه السنوات، رغم انتهاء محكوميته عام 1999؟ لماذا غاب لبنان الرسمي عن استقباله؟ وهل لا يزال جورج عبد الله يُزعج قوى الهيمنة، بل يُخيفها، من واشنطن إلى باريس، وصولًا إلى بيروت؟

نص الحلقة

 

بيار أبي صعب: مساء الخير. جورج عبد الله أكثر من رمز وبطلٍ وأسطورة، إنه ذاكِرة المستقبل، المناضل اللبناني العائد إلى بلاده بعد اعتقالٍ جائر طال أربعة عقود يختصر تاريخاً من الكفاح، ويجسّد معنى المقاومة. خلال غيابه تغيّر العالم وهيمنت الأحادية القُطبية، أفَلَت قوًى وصعدت أخرى، لكن الصراع مع التوحّش الغربي والاحتلال لم يتبدّل. اليوم يأتينا هذا المناضل الأممي مُحمّلاً بالأمل والعِبَر والأسئلة. ما الرابط الخفيّ بين اللحظة الراهنة وثمانينيات القرن الماضي التي احتضنت نضاله؟ أيُّة علاقةٍ بين حركات المقاومة الحالية وتلك التي ينحدر منها جورج ورفاقه ورفيقاته؟ أما زالت المقاومة ضرورة والكفاح المُسلّح أسلوب حياة؟ لماذا اختطفته الدولة الفرنسية وعدالتها كل هذه السنوات وقد أنهى محكوميّته في العام 1999؟ لماذا غاب لبنان الرسمي عن استقباله في بيروت؟ أما زال جورج يُزعِج قوى الهيمنة بل يُخيفها من واشنطن إلى باريس مروراً ببيروت؟

لمناقشة هذا الموضوع معنا في الاستوديو الأستاذ نبيه عواضه وهو أسير محرّر وخبير في الشؤون الإسرائيلية، ومعنا من القاهرة الدكتورة مريم أبو دقّة المناضلة والكاتبة والقيادية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومن تونس الدكتور صلاح الداودي وهو أكاديمي وباحث في الشؤون الجيوسياسية، أهلاً بكم جميعاً. أستاذ نبيه فرحتنا لم تكتمل بسبب غياب زياد الرحباني الذي كان يُفْتَرض أن يكون في طليعة المُحتفلين والمُرحّبين بجورج عبد الله، أنت كأسيرٍ مُحرّر وكمواطن كيف عشتَ لحظة وصول جورج عبد الله إلى مطار بيروت؟

 

نبيه عواضه: بعد التحية لكم وللمشاهدين الكرام وللضيوف الأعزّاء، بالتأكيد كانت لحظة الفرح مُجسّدة من خلال رؤية هذا الإصرار الذي خرج منه وخرج به جورج عبد الله كمقاومٍ من الزمن الجميل، هذا الزمن الذي افتقدناه ومرّ عليه الكثير من الأحداث لدرجة أنه كان هناك سعي مقصود من أجل طَمْس هذا الزمن وتغيير ملامحه، وحتى في جوانب مُعيّنة سرقته بشكلٍ كامل، بالتالي كان حضور جورج بهذه الاندفاعة من خلال تجسيد ثلاثيّته "لن أساوم، لن أندم وسأبقى أقاوِم"، جسّدها منذ اللحظة الأولى لخروجه من المطار ولقائه هذا الجَمْع الكبير من المواطنين الذين على الرغم من قلّتهم إلا أنهم يختصرون أيضاً هذا الإمساك والإصرار على أن تبقى الذاكِرة.

 

بيار أبي صعب: جمهور لا بأس به.

 

نبيه عواضه: قياساً بما كنا نتوقّعه خاصةً =وأنه جاء في لحظةٍ مصيرية يمرّ بها لبنان على صعيد المقاومة وعلى صعيد الموضوع الفلسطيني وغزّة وعملية الإبادة المستمرة على قطاع غزّة. كل هذه المشاهد الدموية والشعور العام في لبنان بأن هناك حالاً من الفَقْد الكبير تمثّلت باستشهاد سماحة السيّد والعديد من القيادات، كان هناك شعور بأننا بحاجةٍ إلى هذه الإطلالة، إلى هذا الضوء الذي مثّله جورج عبد الله.

 

بيار أبي صعب: هل يمكنه أن يملأ بعض الفراغ؟ هل يمكنه أن يُعيد الاعتبار للزمن الذي أسميته الزمن الجميل؟

 

نبيه عواضه: يستطيع بشكلٍ كبير أن يُعيد تصويب الأمور باتجاه البوصلة الأساس التي هي فلسطين، حتى في الأسئلة التي وُجّهت إلى جورج عبد الله كان تركيزه على أطفال غزّة وكأنه يريد أن يقول إن الحرية هناك، كشخصٍ يدرك تماماً حجم الحُلم الذي يُراوِد الأسير طوال فترة اعتقاله ونتحدّث هنا عن 41 عاماً من الحُلم وليس فقط من الأمل، الحُلم بأن يرى نتيجة صموده داخل المُعتقل تتحقّق من خلال رمزيّة القضية، بمعنى آخر أن كل عمليات الطَمْس التي أُجريت من أجل كيّ الوعي على مستوى الذاكِرة بشكلٍ عام وعلى مستوى التاريخ جاء جورج عبد الله ليشير إلى أن غزّة لا تزال.

 

بيار أبي صعب: دكتورة مريم أبو دقّة أنت أيضاً ذُقْتِ منذ سنٍّ مُبكّرة مرارة معتقلات الاحتلال، أريد أن أعرف نظرتكِ إلى تجربة جورج عبد الله التي تجسّد أخوّة النضال اللبناني الفلسطيني، فقط كانت مجموعته مرتبطة بالجبهة الشعبية ضمن العمليات الخارجية كما كانت تسمّى في ذلك الوقت في ثمانينيات القرن الماضي.  

مريم أبو دقّة: بدايةً إسمح لي بأن أحيّي أرواح شهدائنا الأبرار، الحرية لكل أسرانا والشفاء العاجل لجرحانا، لقد جرّبتُ السجون الفرنسية.

 

بيار أبي صعب: سنتحدّث عن تجربة فرنسا بعد قليل.  

 

مريم أبو دقّة: لقد شاركتُ في الحملة الدولية لإطلاق سراح جورج عبد الله. صحيح، اتّصلتُ به وهذه كانت إحدى التّهم التي وُجّهت إليّ ولكنني فخورة. لديّ تفاؤل دائم بالثوّار، ليس صدفةً أن يكون إسمه جورج عبد الله، جورج عبد الله، جورج بطل، جورج حبش، لقد منحنا الأمل في وقتٍ نحتاج فيه إلى الأمل كثوريين، وأنا أحسدكم أنكم استطعتم استقباله في لبنان لكنه في قلوب كل الأحرار الذين كانوا ينتظرون حريّته، وهذا تجسيد للإصرار على أنه لن يضيع =حقّ وراءه مقاوِم حرّ، حين تحدّثتُ إلى جورج عبد الله في سجنه بفرنسا  شعرت بقوّة رهيبة، لقد أعطاني الزُخم وذكَّرني بكل العمالقة من الزمن الجميل الذي يذكّرنا بأن الثوريين لا يتراجعون، أنا حزينة لفقدان، نعزّي أنفنسا لأن زياد ملك لكل الأحرار، لقد عايشتُ فترة إبداعات زياد الرحباني في لبنان، أنا أتحدّث بصفةٍ عروبية.

 

بيار أبي صعب: أستاذ صلاح الداودي هل هناك برأيك رمزيّة لعودة هذا المُجاهد إلى لبنان في أوج الحملات لمُحاصرة المقاومة والتشكيك المتواصِل في الإعلام التطبيعي المُهَيْمِن بدورها وإنجازاتها وجدواها وحتى مستقبلها؟

 

صلاح الداودي: تحياتي لكم ولضيفيك الكريمين وإلى كل مَن يستمع الينا. بطبيعة الحال الرمزية الكبرى هي ألا فناء لثائر والعودة هي المصباح إبداعاً ومقاومة وفي ما يتعلق بالتحرّر من السجون ومن التحرّر والتحرير بوجهٍ عام. نعم. باختصار الرفيق العزيز جورج عبد الله هو إسم مشترك للمقاومة والإبداع والتحرير، قوّة الأمل وقوّة تنظيم الأمل من جديد، الأمل المُبدع والخلّاق. يذكّرني بالشاعر الإيطالي جاكومو ليوباردي ويذكّرني بالمناضل الفيلسوف الإيطالي إبن جيله توني نيجري الذي كتب عن قوّة أيوب وترجمتها في ذلك الوقت إلى "قوّة أيوب" أو قوّة عبد الله، هذا الكلام يحيلنا إلى أننا بصحبة القادح للأمل وللعودة والتحرير. الرفيق جورج عبد الله لم يكن في حال حصار على سرير غُربة كما يقول الشاعر، ولم يكن محكوماً ببروتوكولات الاعتذار بل كان محكوماً بشرارة الروح، أن تتّقد شرارة الروح والمقاومة والتحرير في كل وقت وفي كل مرة من جديد. وبالطبع أيضاً يذكّرنا بتمهيد سارتر لكتاب "المعذّبون في الأرض" لفرانس فانون "إذا كانت الحقيقة عارية في =المُغتصبات فإن السجن لا يمكن أن يكون مجرّد صرخة يتمّ التحكّم بها وإنما هي صرخة اخترقت جدران السجّان المؤرْهِب والمحتلّ والمُغتصب، كل هذه المعاني هي في رمزيةٍ واحدة جامعة وفارِقة. أريد أن أضيف بكلمتين، كنا جزءاً من اللجنة التونسية لمساندة جورج عبد الله وكانت صلة الرابط هي محامية تونسية بارك الله بها موجودة الآن في تونس تصل بيننا وبينه وأحياناً نتبادل الرسائل، وكنتُ قد أصدرتُ هذا الكتاب في العام 2014 وجّهتُ فيه التحية إلى جورج عبد الله بعُجالة أوجزها، تقول "للحرية أسرار، للحرّ أسماء الأمل الكريمة وأحلام الشموس، تحيّتي الحارّة وباقة أزهار من جزر المرارة، الحرّ حرٌّ بلا هوادة ولا استسلام، الحر حرٌّ ثلاثي الجدارة، جورج إبراهيم عبد الله". لذلك قلتُ في البداية إنه إسم مشترك لكل هذا، إسمٌ للسياسة، للمقاومة، للعودة، للتحرير، للإبداع، للنضال، لبناء وتنظيم أمل جماهيري جديد عابر للجغرافيا والإثنيات والعِرقيات.

 

بيار أبي صعب: أستاذ صلاح لقد ذكرتَ توني نيجري من الألوية الحمراء بإيطاليا، الفصائل المسلّحة الثورية اللبنانية تندرج ضمن مجموعاتٍ ثورية برزت خلال السبعينيات في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا واليابان وغيرها، وقد اختارت العنف الثوري نهجاً وحرب عصابات المدن أسلوباً، واعتنقت نضالات شعوب الجنوب =ضدّ الاستعمار وفي طليعتها القضية الفلسطينية. الفصائل اللبنانية تبنّت في فرنسا اغتيال الدبلوماسيْين الأميركي تشارلز راي والإسرائيلي ياكوف بارسيمانتوف، ورغم عدم ثبوت أية مسؤولية مباشرة لجورج عبد الله في العمليتين فإنه بقي في السجون الفرنسية 41 عاماً، هذه لمحة سريعة عن مساره الفريد.   

 

أستاذ نبيه عواضة من خلال خطاب جورج عبد الله الأول في باحة مطار بيروت الخارجية يبدو حاضِر الذهن، مُتوقّد الوعي، مُتابع لكل المُتغيّرات وقد تغيّر العالم كثيراً في غيابه إلا الصراع الأساسي هذا لم يتغيّر. سؤالي لك هل تتمنّى أن يلعب جورج دوراً سياسياً أساسياً في المرحلة المقبلة؟

 

نبيه عواضة: بالتأكيد هناك الكثير من المُراهنات يجب أن تبقى قائمة في الاعتماد على تجربة جورج وعلى خطابه، أولاً كتجربةٍ لأنه خاضها بشكلٍ مُزدوج أولاً كلبناني وهو استمرار لدور اللبنانيين في إسناد ودعم القضية الفلسطينية على اعتبار أنها القضية الجوهرية والقضية المركزية والبوصلة، وهي القضية الإنسانية الأولى اليوم على مستوى العالم. وبالتالي حضوره بهذا الشكل ومن خلال هذه التجربة معطوفاٍ على طبيعة الشعار السياسي والخطاب السياسي المستمدّ من هذه التجربة كأنه يقول في مكانٍ ما بأن كل التغيّرات التي حصلت العميقة وغير العميقة على مستوى العالم طوال أربعة عقود لن تؤثّر شيئاً طالما هناك قضية مركزية إسمها فلسطين، وبالتالي هو يلعب دوراً أساسياً في هذا الإطار كشخصيةٍ رمزيةٍ وكتجربةٍ أيضاً  بفعل الدور بأن ليس فقط الجغرافيا تتحدّث هنا، ليست الجغرافيا الجنوبية تتحدّث هنا إذا كنا نتحدّث في لغة التاريخ والسياسة، لكن مجرّد أن يكون إبن الشمال، إبن بلدة القبيات في أقصى شمال لبنان حتى من خلفيةٍ دينية أو طائفية مختلفة، يريد أن يقول بأن هذه القضية يجب أن تنخرط في دعمها وإسنادها لكل ما هو إنساني.

 

بيار أبي صعب: سأعود إليك مع إشكالية تعدّدية المقاومة، دكتورة مريم أبو دقّة كل الذين زاروا الأسير المحرّر في بلدته الشمالية القبيات خلال الأيام الماضية =سمعوا منه حديثاً مُسهباً عن ضرورة التركيز على إخوته وأخواته الذين يعيشون ظروفاً قاسية بل وحشية في سجون الاحتلال، أكثر من عشرة آلاف وثمانمئة أسير، حدّثينا لو سمحتِ عن الحركة الأسيرة ومُعاناتها ونضالاتها في فلسطين المحتلّة، وقد كتبتِ أكثر من بحث ودراسة في هذا المجال. 

 

مريم أبو دقّة: أولاً لا يشعر بالظلم إلا مَن ظُلِم، جورج عبد الله لم يكن جثّة في السجن بل كان ثورة في السجن وأسّس لها، وبالتالي خلق واقعاً وذكّرني بكلماته عندما وصل إلى مطار بيروت حين قال "لستُ نادماً، لن أساوم"، ذكّرني بشهيدنا أبو علي مصطفى حينما قال "عدنا للوطن نقاوم، لن نساوم"، هذا أيضاً له معنى ومضمون. بالنسبة للمُعتقلين للأسف الشديد نحن في عصرٍ وفي لحظةٍ سياسية ظالمة مَقيتة، عشرة آلاف وثمانمئة أسير وأسيرة من مختلف الفئات العُمرية في سجون أقرب إلى مقابر حقيقية وعذابات. الآن العالم كله يتحدّث عن أربعين مخطوفاً مسخوطاً مقاتلاً. جاء ليقاتل شعباً في أرضه، محتلّ، مجرم، فاشي، العالم كله يقف على قدمٍ من أجل هؤلاء، نتذكّر أيام شاليط الذي وقف العالم لأجله بينما 10800 أسير بينهم قضى 40 سنة أو أكثر أو أقل ومن بينهم مرضى ومشلولون، هناك حوالى 70 شهيداً في سجون الاحتلال من الأسرى لم يُذكروا، هذا العالم يزن بعشرين ميزان، هل الإنسان الفلسطيني أو أيّ إنسان آخر يقاوم، العالم أجمع يعترف بمقاومة الشعب الفلسطيني، هو حقّ، ويُقال الأرض المحتلّة والشعب الفلسطيني والاحتلال الصهيوني، المجرمون والأنظمة الإمبريالية والفاشية تؤيّد هذا النظام وتدعمه بكل وسائل القوّة للاستمرار في حرب الإبادة. 

بيار أبي صعب: لأنها شريكة في الإبادة، لأن الغرب الأبيض شريك في الإبادة. 

 

مريم أبو دقّة: هم صانعو الإبادة، هم =الذين صنعوا دولة الاحتلال لتكون الحارس الأمين على مُقدّرات الأمّة العربية لصالح الكيان الصهيوني والإمبريالية العالمية.

 

بيار أبي صعب:  إسمحي لي دكتورة أن أتوجّه إلى الأستاذ صلاح الداودي، جورج عبد الله ينتمي إلى الفكر اليساري ووعيه السياسي هو الذي دفعه إلى الانخراط في المعركة، هل ترى أن اليسار العربي ما زال اليوم يلعب دوره بشكلٍ أو بآخر في مواجهة الاستعمار وفي المعركة المصيرية ضدّ إسرائيل؟

 

صلاح الداودي: طبعاً سيّدي، اليسار الأصيل غير المُنبثّ، غير المُتفسّخ، غير المُلوّث بلوثات الليبرالية والتبعية والكولونيالية بكل أشكالها والمتصالح مع تنوّع المقاومات في بيئتها على أنها وحدة حال ووحدة مصير ووحدة سلاح ووحدة كفاح وكل هذا. الرفيقان العزيزان ضيفاك الكريميان أعلم مني بالأدب الشخصي للسجون والتجربة الشخصية ولكن من عقولهم ومن بنادقهم ومن عقل وسيرة الرفيق جورج وغيره في الحقيقة نعرف أن هذا ممكن وضروري ومتواصل، وأظنّ أن ثمّة موجة جديدة من هذا الفكر المُتأصّل الديكولونيالي المُحرّر من كل تبعية مهما كانت ومهما كانت تسمياتها الأيديولوجية. بطبيعة الحال نحن هنا حيال نوع من دَفْقٍ جديد ومن "أيوبية جديدة"، روح حيّة أيوبية جديدة بجانبها العاطفي، عاطفة تضامنية وبجانبها العقلاني، عقلية جماهير جماعية، هذا كله ممكن وهذا كله أمام أعيننا. الآن التيّار الوطني المقاوِم الجامِع بكل مستوياته اليسارية والقومية والإسلامية كلها تشارك في نفس الإطار وكلها في مستقبلٍ واحد ومصيرٍ واحد، وما هذه إلا علامة جديدة ومُميّزة على تدفّق الروح في هذا التيّار.

 

بيار أبي صعب: أعزّائي المشاهدين فاصل قصير ثم نعود مباشرةً مع شهادة لمحامية جورج عبد الله الأستاذة فداء عبد الفتاح عن دور الحملة الوطنية لتحرير المناضل جورج عبد الله ونواصل النقاش. 

 

فداء عبد الفتاح: تحويل كل قضية إلى قضية رأي عام هو أمر مهمّ ولا يستطيع أيّ أحد فعله، لننطلق من لبنان لأنني كنتُ على تماس مع انطلاق الحملة، حين =تعرّفتُ إلى قضية جورج عبد الله بالمعنى العميق كنتُ لا أزال طالبة في الجامعة اللبنانية بكلية الحقوق في طرابلس الفرع الثالث السنة الأولى، تعرّفتُ إلى القضية من خلال الدكتور جوزيف عبد الله في كلية العلوم الاجتماعية آنذاك، وكانت التحرّكات في البداية مرتبطة بالعائلة بشكلٍ مباشر، عائلة جورج التي كانت تتحرّك ضمن هذا الإطار. بعد العام 1999 ومع انتهاء محكوميّة جورج ورفض الإفراج عنه دخلنا في مرحلة الإفراج المشروط، تقدّمنا بثلاث عشرة طلب إفراج، منذ العام 2000 وصعوداً كان لا بدّ من تشكلُّ ضغط من خلال الأحزاب التي تحمل قضية ورؤية وفكر جورج عبد الله، وبدأ يتبلور شكل الحملة الوطنية بشكل مستقلّ عن العيلة، وأريد أن أنوّه إلى أن المستقلّين الذين كانوا ضمن الحملة وهم ليسوا بقلّة كانوا دائماً ضمن التركيبة الأساسية للحملة، كان لهم دور أساسي وفعلي، بصرف النظر عن العدد كنا مصرّين على متابعة نشاطنا لترسيخ قضية جورج عبد الله في أذهان الناس، حتى الآن لا تزال هناك شريحة من المجتمع اللبناني لا تعرف مَن هو جورج عبد الله، فمن هذا المنطلق كان دور الحملة مهمّاً على الصعيد الشعبي =والسياسي والرسمي لأن الحملة الوطنية حملت ملف جورج عبد الله ونقلته إلى كل مؤسّسات الدولة من رأس الهرم، من رئيس الجمهورية إلى الحكومة ومجلس النواب، إلى كل الوزراء والنواب خلال كل الفترات السابقة وخلال كل المراحل التي مررنا بها، خلال 41 عاماً كانت الحكومات والسلطة السياسية الموجودة في البلد مُطلّعة على ملف جورج عبد الله بكل تفاصيله، وكنا نقوم بتحديثٍ دائم لهذا الملف ونضيف إليه المُستجدّات، وفي العام 2019  تمّ توزيع 128 ملفاً على 128 نائباً في مجلس النواب، ملف مُتكامِل يتناول قضية جورج عبد الله من لحظة الاعتقال، فلم يكن أحد في الدولة اللبنانية لا يعرف هذا الملف أو للأسف هناك مَن لا يعنيه هذا الملف، فكان للحملة دورٌ كبير جداً وتحيّة جورج إلى هؤلاء الشبّان والشابّات وتقدير جهودهم لم يكن مُستغرباً، عافاهم الله لأن المؤمن بالقضايا إما أن يكون إيمانه حقيقياً ويُترْجَم إلى أفعال وإلا فإننا نرى النضال من خلال الشعارات.

بيار أبي صعب: أهلاً بكم مجدّداً أعزائي المشاهدين في برنامج "على محمل الجد"، أعيد الترحيب بضيوفي الأستاذ نبيه عواضة في بيروت، الدكتورة مريم أبو دقّة في القاهرة، والدكتور صلاح الداودي في تونس. نصل الآن إلى القسم الثاني من الحلقة وهو بعنوان "على محمل النقد"، مَن هي الفصائل المسلّحة الثورية اللبنانية؟ كيف تشكّلت وما خلفياتها السياسية والفكرية؟ أمين سرّ لقاء "مستقلّون من أجل لبنان" الدكتور رافي مادايان يسلّط الضوء على جوانب غير معروفة لدى الجمهور الواسع، نشاهد معاً. 

 

رافي مادايان: لا شكّ أن مجموعة الفصائل الثورية المسلّحة اللبنانية التي كان ينتمي إليها المناضل جورج إبراهيم عبد الله، هذه المجموعة هي جزء من مناخٍ عالمي وحركة عالمية مُعادية للإمبريالية الأميركية وطبعاً للصهيونية على مستوى الشرق الأوسط التي كانت تُعتبر امتداداً وقلعةً أميركية استعمارية في منطقتنا، قلعة للهيمنة الأميركية وللإمبريالية الأميركية في الشرق الأوسط، لذلك فإن نضال المجموعة اللبنانية التي انتمى إليها جورج إبراهيم عبد الله في 1976-1977 انتمت إلى التنظيم الخارجي للعمليات الخارجية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة الدكتور وديع حداد، في العام 1972 نظّم في البداوي مؤتمراً لتنظيم العمليات الخارجية شارك فيها لبنانيون وفلسطينيون وجزائريون مثل محمد بوديّة القيادي في جبهة التحرير الوطني الجزائرية، شارك فيها من لاتين أميركا، السندينيون. التوباماروس، من الأورغواي، شارك فيها الجيش الأحمر الياباني الذين نفّذوا عملية اللدّ في العام 1972، وشارك فيها أيضاً مناضلون من مختلف أنحاء العالم، وكارلوس الفنزويلي إلييتش راميريز سانشيز الذي كان والده في الستينيات أحد كوادر الحزب الشيوعي الفنزويلي. هذا المناخ الثوري من مختلف دول العالم وخاصةً العالم الثالث ساهم بتشكيل تنظيم العمليات الخارجية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والتي لاحقاً جورج إبراهيم عبد الله وبعض اللبنانيين واللبنانيات من منطقة عكار، عندقت، القبيات، جبرايل، هذه البلدات المسيحية للمُفارقة العكارية انتموا إلى النضال الفلسطيني المسلّح ضدّ إسرائيل ومن ثم انتقلوا للنضال ضدّ الإمبريالية الأميركية. في تلك الفترة كان في أوروبا مناخ الحركات الشبابية، ثورة الشباب في 1968 و1969 وكذلك كان هناك احتدام =لحرب فيتنام، للتدخّل العسكري الأميركي في فيتنام بسايغون ضد الشعب الفيتنامي، وكان هناك بروز وصعود لحركة التحرّر الوطني الفيتنامية. معركة فيتنام أثّرت كثيراً على الشباب الثوري والتنظيمات الشبابية الثورية والخلايا الثورية في أوروبا الغربية، في إيطاليا، في ألمانيا، في بلجيكا وفرنسا تأثّرت أيضاً بكتابات غيفارا حول حرب الغِوار وكارلوس ماريجيلا البرازيلي رفيق لولا دا سيلفا الذي خاض في العام 1968 تجربة من خلال تنظيم التحرّر الوطني تجربة العمل المُسلّح ضدّ الحُكم العسكري في البرازيل. حتى أندرياس بادر وأولريكي ماينهوف اللذين هما القادة المؤسّسين في منتصف السبعينيات لجماعة الجيش الأحمر الألماني التي تعتبر أن العُنف له بُعد اقتصادي اجتماعي. المفارقة في ظاهرة جورج إبراهيم عبد الله وهذه المجموعة والجبهة الشعبية ووديع حداد وتوباماروس وكاروس ماريجيلا وحرب الغِوار ونظرية حرب العصابات لماو تسي تونغ في 1937، استراتيجية حرب العصابات، حرب الشعب، كل هذا التداخُل خلق هذا المناخ العالمي الذي جعل حركات التحرّر الوطني مع منظّمات العمل الثوري المسلّح، العنف الثوري المُنظّم والمُسلّح في أوروبا الغربية تتشابك ضدّ الهيمنة وتتعاون في ما بينها ضدّ الهيمنة الأميركية في العالم، ضدّ الشمال العالمي والغرب الجماعي بقيادة الولايات المتحدة، وأعتقد أننا لا زلنا نعيش نفس المعركة بين الجنوب الجماعي والغرب الجماعي.

بيار أبي صعب: دكتورة أبو دقّة بعد عقودٍ من الصراع ما زلنا كما يقول رافي مادايان نعيش المعركة نفسها بين الغرب الجماعي والجنوب الشامل، كيف تكون المواجهة في هذه المرحلة من الصراع وقد رأينا بأمّ العين أن الديمقراطيات الغربية داعمة للإبادة بالمال والصناعات الحربية والتكنولوجيا والدبلوماسية وحتى الإعلام.

 

مريم أبو دقّة: تجربة جورج عبد الله وتجربتي وتجربة الكثير من المُعتقلين ولكن بشكلٍ خاص فرنسا والديموقراطية الأوروبية الكذّابة فضحت وعرّت هذه الادّعاءات، الديمقراطية التي يتحدّثون عنها يصدّروها لنا وهم ليس لديهم ديمقراطية، بقي جورج في السجن 41 عاماً  بتوصيةٍ من أميركا أو الاحتلال الصهيوني، أيُّ ديمقراطيةٍ هذه؟ رغم أنه كانت لديّ تأشيرة دخول قانونية كمنوا لي وحاكموني وقاموا بترحيلي كوني فلسطينية، أنا أطالب الجميع بالتفكير ملّياً أن هذه الدول كأنظمةٍ لا أتحدّث عن الشعوب لأن الشعب الفرنسي والحملة الوطنية الداعمة لجورج عبد الله  كانت في الشارع طيلة الوقت، نحن نرى ما يجري في فلسطين وفي لبنان وفي سوريا وفي كل المنطقة من عَرْبدة.

 

بيار أبي صعب: دكتورة مريم عملياً =الديمقراطية الاستعمارية تنتهي قِيَمها حيث تبدأ مصالحها الاستعمارية. دكتور صلاح يقول الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا الذي أمضى سبعة وعشرين عاماً في مُعتقلات الأبارتايد "تعلّمتُ أن الشجاعة ليست غياب الخوف بل هي هزيمته". جورج هزم الخوف وانتصر على سجّانه لكنه اليوم ربّما معركة أكثر صعوبة وتعقيداً نقلها العدو إلى داخل مجتمعاتنا، ما رأيك؟

 

صلاح الداودي: هذا أيضاً يذكّرنا برسالة الأخ العزيز الأسير مروان البرغوثي عندما توفّى نيلسون مانديلا، وبالطبع هنا أيضاً يمكننا أن نقول إنه يمكن مواجهة هذا التسلّط وهذا الاحتلال وهذا الطغيان بقوّة الاستهزاء به من جهةٍ وقوّة مقاومته من جهةٍ أخرى، أتحدّث سياسياً وفكرياً، ويمكننا أن نستفيد أيضاً اليوم على المستوى الفكري من الحركة التي تمتدّ من فرانز فانون إلى أنيبال كويخانو ومنيولو وإنريكي دوسيل لأن العزيزة الرفيقة الأخت كانت تتحدّث عن أميركا البوليفارية وراوول بريبيش والمدرسة التي تفكّ الارتباط مع التبعية إلى آخره لكن قبل كل شيء نستفيد من أنفسنا ومن حركات المقاومة في منطقتنا إن في الوطن العربي امتداداً إلى غرب آسيا كلها ثم ننفتح على هذه التجارب وطبعاً هذا ممكن جداً لأن إضافة الخوف إلى الضمير أو إلى المقاتل وإلى المبدع هو أمر ليس بائساً فقط إنما هو أمر عدواني، توني نيجري تحدّثنا عنه قبل قليل عندما تحدّث في رسائل حول الفن والجماهير عن هوبز حيث وصفه بالخائن، وقال إنه يضيف وعي الهزيمة ووعي الخوف على مآسي المحرومين والمحتلّين. أما على المستوى السياسي فعلينا أن نفكّك هذه الماكينة المعرفية الكولونيالية وأخاديعها وألاعيبها، مثلاً لا تحتاج إلى اعتراف بل تفرض نفسها، مَن يريد أن يسلّم كخطوة فليسلّم ولكن في الحقيقة الحلّ هو حلّ التحريرين وقد ألّفتُ شيئاً عن هذا الأمر، الحل هو حل التحريرين، هم يقترحون الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة سنة 48 و67 وما بعد، يقترحون علينا مخرجاً للاحتلال ويقترحون احتلالين بالمعنى القديم وبالمعنى المستقبلي، يقترحون أمرين واقعيين أو وضعين مفروضين، هذا مخرج للاحتلال. وإذا كنا أن نردّ فكرياً ولغوياً على هؤلاء علينا ألا نستخدم مُصطلحاتهم وأن نفكّك هذه الكولونيالية المعرفية واللغوية .

 

بيار أبي صعب أستاذ نبيه حين نتحدّث عن جورج عبد الله، سمير القنطار، أنيس النقاش وأنت الذي أمضيتَ عشر سنوات في سجون العدو، هذا الزمن الجميل، زمن التنوّع الطائفي البعيد تماماً عن كل ما له علاقة بالطائفية والمذهبية هل تعتبر أن هناك حاجة اليوم وإمكانية وضرورة  لقيام تحالف بين مختلف القوى التقدّمية والمقاومة الإسلامية؟

 

نبيه عواضة: دائماً كان هناك شعار =مُرادِف لكل نشاطات المقاومة بأن سياسة العدو واعتداءات العدو توحّدنا فلماذا نتفرّق، كان هذا الموقف تقريباً مُلازماً لكل الشعارات السياسية التي كانت تنادي بها قيادة المقاومة على اختلاف تلاوينها وخلفيّتها الأيديولوجية والتي تعكس بشكلٍ كامل طبيعة المجتمع وحقيقة المجتمع أيضاً بأن المواجهة الأساسية هي مع هذا التهديد الذي يمثّله العدو الإسرائيلي وحلفائه بشكلٍ مباشر الولايات المتحدة ومجموعة ارتباطات المصالح التي نشاهد نموذجها الأكبر اليوم في قطاع غزّة وفي الهجوم على قطاع غزّة. لذلك 

هذا التنوّع الذي كان موجوداً في داخل المقاومة، في داخل عناصر المقاومة بطبيعة شهدائها، بطبيعة رموزها تعطي المشروعية الكاملة بأن هذه المواجهة هي مواجهة شاملة، مواجهة بين هذا المحور الذي له امتدادات، هو بدرجةٍ أساسيةٍ مُترابط بشكلٍ كبير، إذا أردنا أن نستحضر زياد الرحباني، مارسيل خليفة، مجموعة الفنانين على المستوى العربي أيضاً والفلسطيني بشكلٍ خاص نشاهد هذا =الربط ما بين الساحات قبل نشوء وحدة الساحات، وحدة الساحات كانت قائمة من خلال هذا التنوّع الموجود بين اليمن وبين لبنان والجزائر.

 

بيار أبي صعب: التحالف بين القوى التقدّمية والقوى الإسلامية، جورج هو رمز لهذا العناق والتواشُج، هل يمكننا الذهاب أبعد بمشروعٍ سياسي من هذا النوع في هذه اللحظة؟

 

نبيه عواضة: هذا النموذج شاهدناه في الجزائر عندما كانت الثورة الجزائرية ضدّ الاستعمار الفرنسي، وأيضاً شاهدناه في حركات التحرّر التي نشأت وأيضاً في نموذجها اللبناني من خلال هذه الكوكبة المُتنوّعة من الشهداء التي قدّمتها جبهة المقاومة الوطنية إضافةً إلى المقاومة الإسلامية، بالتالي شخصية جورج وحضوره اليوم يعطي هذه المشروعية لكل هذا السجّل القديم وبالتالي يجب أن يدفع هذا باتجاه القول بأن الساحة اللبنانية قابلة لأن تكون نموذجاً في المقاومة كما كانت نموذجاً في الحرية والكتابة والتعبير وفي النشر وفي إبداء الرأي.

 

بيار أبي صعب: دكتورة مريم أبو دقّة تجربة جورج عبد الله الطويلة مع دولة القانون بين مزدوجين في فرنسا إنْ دلّت على شيء فعلى اعتباطية العدالة الغربية الخاضعة للمصالح الاستعمارية، لماذا احتجزته فرنسا بتقديرك كل هذا الوقت =ضدّ منطق القانون؟ أطرح السؤال وفي ذهني التجربة المريرة التي عشتِها قبل عامين في فرنسا، وصلتِ بتأشيرة شرعية لتقديم مجموعة من الندوات فاعتقلتِ وفُرِضتْ عليك إقامة جبرية وأُبعدتِ وتمّ ترحيلك، ما هو السرّ في هذه الديمقراطية الفرنسية؟

 

مريم أبو دقّة: ما حدث معي جيّد لأنني كنتُ البداية والشرارة لفضحهم وكان قبلي جورج عبد الله، بكل إمكانياته كان واثقاً وعاش تجربةً عميقة وكنتُ شاهدةً على ذلك، كل صوت حرّ يعتبرونه قنبلةً نووية، هم يغذّون الرأي العام الغربي بفكرٍ صهيوني.

 

بيار أبي صعب: إذاً مصلحة إسرائيل هي جزء من هذا.

 

مريم أبو دقّة: لقد تأكّدتُ أن الكيان الصهيوني يقود كل دول الغرب بالمناسبة لأنه بتوصياتٍ منه يتمّ اعتقال فلان فكان جورج عبد الله بطلب من الأميركيين والإسرائيليين لأنهم يعتبرون أن كل مناضل يشكّل خطراً عليهم ولكن في الحقيقة أنهم هم الخطر على العالم كله، نحن الآن بصدد حربٍ عالمية بالمناسبة، =هي كانت لكنها الآن تغوّلت واستفحلت وأصبح هدفها تحت شعاراتٍ كذابة، سنّي، شيعي، مسيحي، مسلم لكنهم ضدّ كل صوتٍ حرّ وتتمّ ملاحقته. ليس هناك فرق بين مسلم او مسيحي، كل بندقية وكل صوت ضدّ الاحتلال نحن معه أياً تكن أيديولوجيّته وفكره. هناك قادة مُتميّزون ومناضلون من أمثال جورج حبش ووديع حداد ومسلمون أيضاً، هؤلاء مواطنون فلسطينيون أو لبنانيون أو عرب، أنا أعتبر أن الشهادة النضالية هي شهادة للكل، أنا لا أنظر إلى جورج عبد الله كمسيحي بل كصوتٍ حر، هو أيقونة كفاحية. 

 

بيار أبي صعب: ولا هو ينظر إلى نفسه كمسيحي دكتورة. 

 

مريم أبو دقّة: أعلم ولكنني أقول ذلك للرأي العام، هو ينظر إلى نفسه كإنسان، ما من ثائر يتجرّد من إنسانيّته، بالتالي كل مَن لا يتعاطف فعلياً الآن مع ما يجري في قطاع غزّة وفي الضفة الغربية ومع القضية الفلسطينية ومع لبنان ومع كل الدول المظلومة هذا لا يمكن أن يكون إنساناً حرّاً، وبالتالي كل أوروبا الغربية التي تساند بالدعم المادي والسياسي والأسلحة وعلى رأسها أميركا التي هي رأس الحيّة، وكما تعلّمنا في مدرستنا الثورية فإن الأفعى لا تموت إلا بقطع رأسها. أحيّي جورج عبد الله وأقول له إنه بما يمثّله من إرادة ثورية صابرة، مُتّقدة أعطت لهيباً لكل الشباب، هناك انتماء كبير في غزّة لهذه الشخصية وفي فلسطين وفي العالم.

 

بيار أبي صعب: وصلت التحيّة دكتورة مريم، أشكرك. دكتور صلاح الداودي لماذا من وجهة نظرك ما زال جورج عبد الله يُزعج القوى المُهيمنة بعد كل هذه السنوات؟

 

صلاح الداودي: لأنه يجسّد فكرة العدالة الجامِعة لقوى الحقّ والمقاومة ولا يجسّد أيّ شيء على أساسٍ تفريقي أو تقسيمي =أو تفريطي أو استسلامي، ولأنه يجسّد الديمقراطية الثورية الذاتية للشعوب والأمم التي تبتغي التحرير، ولا يجّسد ما نسمّيه ديمقراطية إبراهيمية غربية صهيو أنكلو- أميركية، ولأنه يمثّل في نفس الوقت خط الفكر الثوري التحريري وخطّ المقاومة المسلّحة بقطع النظر عن التجربة. لم يلمس هؤلاء في الرفيق جورج ولو للحظةٍ واحدة أنه ابتعد عن الكَدْح المعرفي أو بالزناد، وبالتالي طبعاً يزعجهم، وعليه يمكن للرفيق جورج وقبله العزيز النقّاش رحمة الله عليه، أنا دائماً أذكره عندما أحدّثك أستاذ بيار. بالإمكان أن نتحدّث عن حركةٍ استقداسية تحريرية لا هي استسرالاً ولا هي استشراقاً ولا هي تغريباً بل هي حركة بوصلتها القدس ومنظورها ومفهومها التحرير ورمزيّتها التحرير، أنا أسمّيها استقداسية تحريرية، منظورها ومفهومها وأدوات تحليلها وقواها المقاومة المجتمعة مصيرياً مع بعضها، يمكن أن تكون حركة مقدسية عالمية. سماحة السيّد بايجاز رحمه الله عليه قال إن الله لا يعطي النصر لخليط وكان يقصد التمايز ليس على موضوع الحركة الجامعة وإنما يقول سماحة السيّد يثبت مَن يثبت وينسحب مَن ينسحب ويخون مَن يخون ويُكمل مَن يُكمل والله يعطي النصر لأهل الحق.

 

بيار أبي صعب: لا فضّ فوك. أستاذ نبيه عواضة محامية جورج عبد الله فداء عبد الفتاح قالت ليس هناك أحد في الدولة اللبنانية لا يعرف بالتفصيل ملف جورج عبد الله، الدولة اللبنانية قصّرت في المطالبة بجورج عبد الله كل هذه السنوات وغابت عن احتفال استقباله من دون أي تمثيل رسمي، ما هي الدروس؟ ما هي الإشارات التي التي يمكن أن نستخلصها من هذه الغيبوبة ومن هذا التقصير؟

 

نبيه عواضة: أولاً هذه الدولة لم تكن يوماً من الأيام بنت خيار المقاومة، هي بشكلٍ أو بآخر نتيجة ظروفٍ سياسية معيّنة كانت إلى حدٍّ ما متحالفة مع المقاومة، متحالفة مع رغبة الناس لكنها لم تكن جزءاً من هذه الحال باستثناء بعض الأداء الجميل للجيش اللبناني خاصةً وأنه قدّم العديد من الشهداء عندما قام العدو الإسرائيلي باستهداف، لكن على المستوى السلطة الرسمية في لبنان فهي أتت نتيجة اتفاقٍ سياسي وليست لها علاقة بطموحات وأحلام هذه الجماهير التي شاهدناها تحتفل بجورج عبد الله على طريق المطار وشاهدناها أيضاً في شارع الحمرا عندما قامت بتشييع البطل المناضل والشهيد زياد الرحباني الذي قتله الواقع خاصةً برمزيّة أنه لم يكن في هذا الموكب الكبير في شارع الحمرا تحديداً لرمزيّته الثقافية والنضالية والإنسانية سوى علم فلسطين، وبالتالي اختصر هذا المشهد بأن خيار الناس هو في مكان لكن الدولة اللبنانية، الطبقة السياسية، السلطة السياسية في لبنان في مكانٍ آخر وليست لها علاقة لا على المستوى الاجتماعي ولا على المستوى الوطني بهموم الناس. 

 

بيار أبي صعب: نترك كلمة الختام لنيلسون مانديلا "المقاتل في سبيل الحرية =يتعلّم بالطريقة الصعبة أن الظالم هو الذي يحدّد طبيعة الصراع، وغالباً لا يمتلك المُستضعف سوى أن يلجأ إلى أساليب الظالم نفسها". شكراً لضيوفي مع حفظ الألقاب: نبيه عواضة، مريم أبو دقّة، صلاح الداودي، شكراً على المتابعة وإلى الأسبوع المقبل.