إبادة العصر... صُنِع في "إسرائيل"
نص الحلقة
مايا رزق: قل لي ماذا تصنع، أقول لك مَن أنت؟
كيف لا، والصناعة تعدّ العمود الفقري لأية دولة؟ مثلاً، جزء من عَظَمَة التنّين الصيني مرتبط بحقيقة أن بكين تعدّ أكبر قوّة صناعية في العالم، خصوصاً في مجال الإلكترونيات، السيارات، الحديد وغيرها.
الأمر سيّان بالنسبة لأمريكا التي تعدّ رائدة في أكثر من صناعة، بينها التكنولوجيا، الطيران، الإلكترونيات المُتقدّمة، الصناعات العسكرية.
أما في القارّة الأوروبية، فتعدّ ألمانيا القوّة الصناعية الأبرز، وتحديداً في مجال السيارات.
أما في إسرائيل، فصناعةٌ من نوعٍ آخر.
إنها إبادة العصر، وصانِعتها إسرائيل. وكما كل صناعة للإبادة، عناصر أساسية. وهنا لا نقصد تعريفات القوانين الدولية، فمَن يُبالي بها أصلاً اليوم؟ نتحدّث عن عناصر تجعل هذه الجريمة مُكْتَمِلة والأكثر دموية.
أولاً: قيادة متوحّشة.
في هذا غالانت ليس وحيداً، ففي إسرائيل وزراء وقادة عسكريون آخرون تمنّوا ضرب القطاع المُحاصَر بقنابل نووية. العنصر الثاني في صناعة الإبادة: استخدام الأسلحة الفتّاكة.
ولعلّ الأخطر من هذه الأسلحة وسواها هو ديمومة تدفّقها.
هذا النقاش ونفسه أثاره بيرني ساندرز وغيره في الولايات المتحدة، أكبر مورِّدة أسلحة لإسرائيل، ولكن من دون جدوى.
نأتي إلى العنصر الثالث: جيش غير أخلاقي.
الإجرام ليس حُكْراً على الجيش في إسرائيل، المستوطنون يتّسمون بنزعةٍ إجرامية أيضاً. وهنا عنصر صناعة الإبادة الرابع: مجتمع إسرائيلي مجرم.
أما الآن، فإلى العنصر الذي لا غِنى عنه: دعم من الدول العُظمى.
وهذا ليس إلا شكلاً من أشكال الدعم الغربي، وتحديداً الأمريكي، لإسرائيل. فكم من مرة استخدمت واشنطن حقّ الفيتو لمنع العالم من حتى إدانة ما يحصل في غزّة.
وصلنا أخيراً إلى العنصر السادس: الصمت. عندما تقرأ الأجيال المقبلة عن غزّة برَهْبةٍ وتتساءل: "كيف سمحنا بحدوث إبادة جماعية يتمّ بثّها مباشرة على الهواء؟"، ماذا ستقول؟ لا شيء. إنه الصمت المُتواطئ. إنه صمت بطَعْم الخطيئة. إنه الصمت الذي قد يتحوّل إلى لعنة، فيما تستمرّ إسرائيل بصناعة الإبادة المُتنقّلة. وكي لا يجرفك تيّار العجز والصمت، اذهب أعمق، تفهم أكثر.
يسرّني أن يكون معنا في هذه الحلقة من "اذهب أعمق" المحامية المُختصّة بحقوق الإنسان، الأستاذة المشارِكة في جامعة روتجرز، نورا عريقات. أهلاً ومرحباً بك دكتورة. في "اذهب أعمق"، على أن ينضمّ إلينا بعد قليل المُتعاقِد الأمني السابق مع مؤسّسة غزّة الإنسانية، أنتوني أغيلار.
أبدأ معك دكتورة نورا، كيف يمكن أن نعرف ما يحصل اليوم في غزّة بعد تقريباً عامين من الإبادة؟
نورا عريقات: شكراً مايا على العرض والتأكيد على الأعمدة المختلفة التي تجعل الإبادة الجماعية ممكنة. وبالنسبة للتعريف القانوني، أعتقد أن =التعريف القانوني واضح جدّاً في القانون الدولي: ليس فقط من الواجب مُعاقبة الإبادة الجماعية، ولكن الواجب منع حصول الإبادة الجماعية. وجرى إظهار كل هذه العناصر ليس فقط من قِبَل محكمة العدل الدولية في عام 2024، وجرت إعادة التأكيد على ذلك من قِبَل المُقرّرين، وأيضاً الباحثون أكّدوا على ذلك والخبراء القانونيون. ولكن نحن بشكلٍ مستمر نرى الردّ: "إن ما يحصل ليس إبادة جماعية إلى أن تقول ذلك المحكمة الجنائية الدولية". ولكن هذا كذب. إذا ما نظرنا إلى إدارة بايدن، ما فعلته هذه الإدارة على الرغم من أنها كانت تقوم باستدامة هذه الحملة، حملة الإبادة الجماعية، ما حصل في نهاية أو أوائل عام 2025، قبل نقل السلطة إلى دونالد ترامب، أعلنت إدارة بايدن أن ما كان يحصل في السودان كان إبادة جماعية، أولاً ارتكب من قِبَل قوات الدعم السريع ضدّ الأطراف الأخرى في دارفور. وعندما جرى التحدّي، عندما سألوا: "كيف تعرفون أن هذه إبادة جماعية، نظراً إلى أنه لم يصدر أيّ حُكم قضائي؟"، قالوا: "لدينا ما يكفي من العدالة والنيّة =والنشاطات التي تفيد بأن كل هذا يصل إلى مستوى تدمير شعب بناءً على توصيف مثل الانتماء الديني والعرقي". وعندما سُئِل هذا المسؤول في الإدارة: "هل تطبّقون نفس المعايير على ما تمارسه إسرائيل بحقّ الفلسطينيين؟"، حاولوا الخروج من الموضوع وقالوا: "نحن ننتظر محكمة العدل الدولية". ومرة أخرى تحدّوه وقالوا: "نفس المعايير التي استخدمتموها من أجل الإعلان عن الإبادة الجماعية في السودان، وتطبيق ذلك على فلسطين؟"، قالوا مرة أخرى: "نحن نؤمِن بحلّ الدولتين، ونحن ننتظر الحُكم في المحكمة".
وأريد أن أتشارك معكم هذه الحكاية للتأكيد على أن القانون يُسْتَخْدم هنا كسبيلٍ من أجل إبعاد المسؤولية. أنتِ بدأتِ البرنامج حيث قلتِ إنه في هذه المرحلة القانون لا يحدّد ما نراه. ما نراه يتحدّث عن نفسه. هذا من أسوأ حالات الإبادة الجماعية الإسرائيلية، من أسوأ الذي شاهدناه، حيث يقول الإسرائيليون باستمرار: إنهم يريدون التجويع، يريدون الحصار، يريدون مُعاناة الفلسطينيين. يقولون إنهم يصطادون الأطفال. يقولون إنهم يقومون بتفجير المنازل من دون الردّ عسكرياً. يقولون إنه لا وجود لأسلحة تحت المستشفيات أو البنية التحتية التي يقومون بقصفها. يتحدّثون بوضوح. في ديسمبر تشرين الثاني عام 2023 قال: "إن ما يحدث نكبة في عام 2023"، ولكن تمّ إبعاد ذلك من الصحافة ووسائل الإعلام العبرية. وشركاء إسرائيل هم الذين يحاولون أن يبعدوا عن هذه التّهم وقالوا: "إنهم ينتظرون الحُكم من المحكمة. هذا لم يكن مَقْصَد إسرائيل، والمسؤولية تقع على عاتق حماس". وبالتالي، يريد أن نعود إلى النقطة. نعم، أنا باحثة قانونية، يمكنني أن أتحدّث قانونياً لماذا ما يحصل هو إبادة جماعية، وأيضاً أستعرض الأحداث المستمرّة التي تعود حتى قبل اتفاقية الإبادة الجماعية في عام 48، قبل المحرقة اليهودية، ولكي تشمل أيضاً الإبادة بحقّ الأرمن، وإبادة ناميبيا، وإبادة السكان الأصليين، وأيضاً تجارة العبيد. الإبادة الجماعية كانت الأولى في أوروبا، وكانوا قلقين لأن المسألة كانت تتعلّق بأوروبا. ولكن كباحثين فلسطينيين، يمكن أن نقول لكم ما الذي تعنيه النكبة. وما يحصل في غزّة استمرار للنكبة. ولهذا السبب استطعنا في الأسبوع الأول أن نقول إن النيّة: إخراج الفلسطيني من أجل أخذ مكانهم. والبرنامج هو برنامج تدمير. والآن المسألة أصبحت واضحة أكثر فأكثر بعد 22 شهراً، وبدأنا نرى انحرافاً دولياً والابتعاد عن إسرائيل.
مايا رزق: سنتحدّث عن هذا الحراك الدولي بعد قليل. ولكن دكتورة، عندما تقوم اليوم أكبر جمعية دولية معنية بأبحاث الإبادة تحديداً وتقول بأن إسرائيل ما تقوم به من أعمالٍ إجراميةٍ في غزّة تنطبق عليه معايير الإبادة، ما قيمة هذا الأمر الآن؟
نورا عريقات: القيمة تكمُن في الجهود التي نبذلها للتخلّص من العنصرية الهائلة ضدّ الفلسطينيين. الفلسطينيون حالياً لا يعتبرون أنهم يستحقّون توصيف الإبادة الجماعية، لأنه جرى تجريدهم من الإنسانية على أساس حقّهم بعيش حياة طبيعية. وهل من الممكن، وهل من المنطقي، أن تُجرى التضحية بشعب بأكمله من أجل المشروع الصهيوني، بأن يحتلّ شعب آخر مكانهم؟ هذا ما نعمل =ضدّه. وبالتالي، الزُخم الذي يُبنى عندما تكون لدينا منظّمات معروفة وقديمة والتي قامت وتوصّلت أخيراً إلى الاستنتاج بأننا نتخطّى هذه العنصرية التي تقول: "نقطة الانتقاء: أن حياة الفلسطينيين، الفلسطينيون لا يستحقّون الحياة". نحن لا نزال حتى نحاول أن نتخطّى هذا الموضوع. حتى عندما نستمع، اعتبري مثلاً أنا في الولايات المتحدة واستمعنا إلى الكثير من وسائل الإعلام الغربية، وكان هناك برنامج على فوكس نيوز، حتى في هذا البرنامج حيث إن المُقدّمة ميغين كيلي أرادت أن تنتقد إسرائيل، حتى في هذا البرنامج قالت: "إن الذنب يقع على عاتق الفلسطيني بحسب ما يحصل لهم". قالت: "للأسف، حماس تريد أن يحصل كل ذلك، وحماس تستفيد من السمعة عندما يتعاطف الناس مع الفلسطينيين. للأسف، الأمّهات لا يحببن أطفالهن وهنّ يلدنهم لأنهم يريدون وفاة الأولاد". ولكن بغضّ النظر، هذا سيّئ بالنسبة لإسرائيل. مثل هذه العنصرية ليست بالأمر الجديد، ونفس اللغة التي استخدمتها غولدا مائير عندما قالت: "أسوأ شيء قام به العرب هو أن نجبرهم على قتل أطفالهم".
إذاً مايا، المسألة تتعلّق بهذه العنصرية التي لا يمكن أن نتخطّاها، هذه العنصرية التي تقول إن الحضارة الأوروبية تتفوّق على كل الحضارات الأخرى، ويمكنها أن تقوم بالنَهْب والاستعمار وإخراج الناس من أجل مجتمعاتهم فقط لأن بقيّة الحضارات وبقيّة المجتمعات هي غير جديرة بالحياة. كأن الحضارة الأوروبية بأن الأمور أو جاءت متأخّرة. ومن الضروري أن نتخطّى هذا الموضوع، وأن نتخلّص من موضوع تجريد الفلسطيني من الإنسانية. ولم أتحدّث حتى عن موضوع تجريد الفلسطيني من الإنسانية على صعيد قوانين الحرب، وهذا لديه فريق خاص به.
مايا رزق: دكتورة نورا، أتيتِ على ذِكر الإعلام التقليدي في أمريكا. أنتِ على اللائحة السوداء على معظم - إن لم أكن مُخطئة - هذه القنوات. لماذا؟ هل لأنك فلسطينية؟
نورا عريقات: تعرفي، هذا مسار لافِت. أعرف الآن أنني على اللائحة السوداء، وأعرف أنه جرى حتى الكثير من العمل الذي قمت به للعديد من البرامج حيث شاركت أهمّ المُنتجين الشباب في البرنامج الذين يقفون مع الفلسطينيين. ونتحدّث هنا عن الفجوة بين الأجيال، بين الأكبر سنّاً والأصغر سنّاً. ولكن جيل الشباب في تحالف مع تحرير فلسطين، وهم قالوا لي وبعثوا لي الرسائل والرسائل عبر البريد الإلكتروني: "قاتلوا من أجل عودة البرنامج وتوجيه الدعوة إليّ". وهكذا عرفت بأنه جرّاء إقصائي، أنا أشارك في الإعلام أقلّه منذ عام 2012 في وسائل الإعلام التقليدية. وفي عام 2021، في قمّة انتفاضة الوحدة، في هذه المرحلة، وجّهت إليّ دعوات كأستاذة ليس للنقاش، ليس للتعرّض لهجوم، ليس لتحدّي إنسانيّتي، وليس لطلب مني أن أدين حماس أو أيّ طرف آخر. على سبيل المثال، كريستيان آمانبور من CNN وجّهت إليّ دعوة للمشاركة في البرنامج لكي أشرح لماذا المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل ليسوا بنفس القَدْر، ليسوا متساوين مع الإسرائيليين. نحن تخطّينا أكثر بكثير النقاش السطحي. كل هذا تغيّر في عام 2023 بعدما شنّت حماس هذا الهجوم المُتعدّد الاتجاهات في السابع من أكتوبر. وهنا لم يُنظر إلى الفلسطينيين على أنهم ضحايا، بل نظروا إليهم على أنهم وكلاء يشاركون بأنشطةٍ مسلّحة، وجرى قلب الطاولة. استمرّوا بتوجيه الدعوات الذين تحدّثوا عن الفلسطينيين كضحايا، والفلسطينون الذين يريدون التحدّث عن المُعاناة. ولكن لاحظي، لا يريدون أن يشير أيّ أحد إلى أصابع الاتّهام: على مَن الطرف البادئ؟ مَن الذي يزوّد السلاح؟ وما الذي تفعله إسرائيل؟ ومَن هم حلفاء إسرائيل؟ وبالنسبة لي، أنا ذهبت خطوة أبعد. حتى خلال الأسابيع الأولى، بدأت بالحديث عن حركة حماس، طبيعة حماس. ولم أكن أريد - لم أدافع بالضرورة عن حماس - ولكن في ظلّ أجواء حيث يُجرى استغلال حماس على أساس أن حماس تقصد كل شيء سيّئ وشرّير، للمُستمعين كان من المهم أن أذكّر المشاهدين بأنه لم يُجرَ تأسيس حماس قبل عام 88، أي بعد أكثر من 20 عاماً من احتلال غزّة والضفة الغربية. أن حماس لاعب عقلاني، وحماس غادرت سوريا وتوجّهت إلى قطر في قمّة الانتفاضة، وشاركت حماس في الانتخابات عندما شاهدت صعود الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر، وحماس غيّرت من ميثاقها عام 2017 حتى للاعتراف بإمكانية حلّ الدولتين. لم يكن من الممكن مُقارنة حماس بداعش أو القاعدة. حماس عبارة عن حركة تحرّر وطنية.
مايا رزق: وهذا ما أزعج الإعلام الغربي وتحديداً الأمريكي، ولهذا أنتِ على اللائحة السوداء. دكتورة نورة، تفضّلي بالبقاء معنا.
مشاهدينا، أمام التُخْمة الدولية في الاتفاقيات والقوانين والمنظمات والمؤتمرات، مليونان و400 ألف غزّي يواجهون الموت جوعاً. إنه القرن الحادي والعشرون. 361 شهيداً حتى سبتمبر (أيلول) استشهدوا جوعاً. 130 طفلاً. رُبع مليون طفل دون الخمس سنوات يعانون نقص غذاء يهدّد حياتهم مباشرة. مليون و200 ألف دون الـ18 يعيشون حال انعدام غذائي حاد. ليس هذا فحسب، فقد تعمّد الاحتلال قصف 44 تكيّة طعام و57 مركزاً لتوزيع الغذاء، وأطلق النار على مُنتظري المساعدات، فيما بات يعرف بمصائد الموت - أي مراكز التوزيع -وفق الآلية الإسرائيلية والأمريكية.
يحظّر استخدام تجويع المدنيين سلاح حرب. هذا ما يرد في البروتوكول الإضافي الأول من اتفاقية جنيف. فيما البروتوكول الإضافي الثاني ينصّ على حَظْر تجميع السكان المدنيين أسلوباً من أساليب القتال، ويشمل ذلك تدمير أو نقل أو تعطيل المواد التي لا غنى عنها لبقائهم.
أما نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فيصنّف تجويع المدنيين عَمْداً ضمن جرائم الحرب. إسرائيل لم تصدّق البروتوكولات الإضافية لاتفاقيات جنيف، ولم تنضمّ إلى نظام روما الأساسي. ولا عَجَب في ذلك.
لكن ماذا عن الدول الداعمة لها؟ وفق المادة الأولى من اتفاقيات جنيف، لا يسمح للدول بالوقوف مُتفرّجة أمام انتهاكات جسيمة كالتجويع، ويتوقّع منها الضغط أو الامتناع عن أيّ دعم أو تواطؤ مع الطرف المُنْتَهِك.
196 دولة وقّعت على هذه الاتفاقيات. كذلك، وفق القانون العُرفي الدولي ومذكّرة تفويض النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، لا يجوز لأية دولة تقديم دعم مادي عسكري لوجستي أو سياسي لطرف يستخدم التجويع أو يُعيق إيصال المساعدات. وهناك ضوء أخضر لمع في أذهاننا.
أما الواقع، فمُخالف وفادِح. أكثر من 17 مليار و900 مليون دولار من المساعدات الأمنية قدّمتها الولايات المتحدة لإسرائيل منذ بداية العدوان على غزّة، وهي مستمرة. وفي فبراير (شباط) الماضي، أقرّت إدارة ترامب بيع أسلحة إضافية لإسرائيل بقيمة 7 مليارات و400 مليون دولار، تشمل ذخائر وتوجيهات مُتقدّمة. هذا ينسحب أيضاً على العديد من الدول الغربية، وبينها ألمانيا وبريطانيا، اللتان قدّمتا مئات ملايين الدولارات في المَعدّات العسكرية.
ينضمّ إلينا الآن المُتعاقِد الأمني السابق مع مؤسّسة غزّة الإنسانية، أنتوني أغيلار. أهلاً ومرحباً بك في "اذهب أعمق" عبر شاشة الميادين.
بداية، أسألك: هل الأرقام التي ذكرناها في ما يخصّ عدد الوفيات من جرّاء التجويع في غزّة، وفي ما يخصّ عدد المُجوّعين في غزّة من أطفال تحديداً، هل فاجأتك هذه الأرقام؟
أنتوني أغيلار: أنا تفاجأت لأن الأرقام وفق رأيي هي أرقام منخفضة جداً. أعتقد أن الأرقام هي أعلى بكثير. أعتقد أنه في مُجْمل المجموع، عدد الوفيات في غزّة بين الفلسطينيين، مجموع العدد، يقترب من 500000. إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مستوى الدمار، المباني، وهدم الأحياء، وهدم مناطق بأكملها. كل رفح اختفت الآن، وجنوب خان يونس أيضاً دُمّرت، ومدينة غزّة وجباليا يتمّ تدمير هذه المناطق. أعتقد أنه في المستقبل القريب، العالم سيُدرك أن عدد الوفيات على الأرجح هو أكبر بكثير.
مايا رزق: أنتوني، أنت معنا اليوم لأنك كنت في غزّة بين 15 مايو (أيار) والسادس والعشرين من يونيو (حزيران). كيف وصلت إلى هناك؟
أنتوني أغيلار: وصلت إلى غزّة كمقاولٍ أمني مستقلّ لـ"جوجي سوليوشن"، وهي شركة فرعية تعمل تحت مظلّة المؤسّسة الإنسانية في غزّة. وعندما جرى تجنيدي أو توظيفي، استدعوني بسبب خلفيّتي العسكرية، وأوضحوا لي بأننا سندخل إلى غزّة كي نحلّ مكان آلية الأمم المتحدة، وأننا سنقوم بذلك بتأمين المواقع - 400 موقع - وسنقدّم المساعدات، ولكن فقط بدلاً من الأمم المتحدة. ولم أوافق بأيّ شكل من الأشكال على استبدال الأمم المتحدة. أنا أعتقد أنه على الأمم المتحدة أن تقوم بهذا العمل. ولكن أعتقد بأن السياسات والأهداف والأبعاد السياسية أكبر من مستوى أو قُدرتي على التأثير بكثير. وشعرت بأنني أريد أن أكون جزءاً من إعطاء المساعدات وتوفير الطعام للذين هم بأمسّ الحاجة. ما من شكّ بالنسبة لي أنه في البداية كان هناك مستوى من الجوع يقترب من المجاعة. الآن في غزّة، الفلسطينيون يعانون من مجاعة. التجويع في مستوى لم يره العالم في الوقت المعاصر. ونرى كل ذلك بالبثّ الحيّ المباشر. وإسرائيل تريد أن تقوم بقطع كل ذلك من خلال قتل الصحافيين وإبعاد أعين العالم كي لا يرى العالم الذي يحدث. وهذا يجب أن يُقْلِق المجتمع العالمي، الدول الغربية، الدول الآسيوية، دول القمّة الثمانية، الأمم المتحدة، الناتو. يجب أن يقلق كل الأطراف المعنية. في حال استمر العالم بإبعاد أنظاره عن الإبادة الجماعية التي نراها بوضوح أمامنا، نحن نكون بالتالي على مسار خطير كمجتمع دولي. وعلينا أن نقف في وجه الإبادة الجماعية والتجويع.
مايا رزق: لفتني، سيّد أنتوني، تمّ استدعاؤكم إلى هذه المهمّة. أنت مُتقاعِد، ولكن ليس منذ فترة طويلة - على ما أعتقد، منذ أشهر فقط - وأنت خدمت في الجيش الأمريكي لمدة 25 عاماً، وكنت على جبهات القتال في سوريا، في أفغانستان، في العراق، في الفلبين، وغيرها من الدول. أي نحن نتحدّث عن مُقاتل صفّ أول.
لماذا الاستعانة بهكذا شخصية لتوزيع معونات إنسانية على أطفالٍ ونساء في غزّة؟
أنتوني أغيلار: أنا جندي منذ عدّة أعوام. أنا خدمت بلدي لربع قرن. وبالقيام بذلك، دائماً ما كان هدفي - الهدف وراء الخدمة - كان بالفعل من أجل الخدمة. وعندما تقاعدت، اعتبرت أن هذا استمرار لواجبي الأخلاقي. الولايات المتحدة لا يمكن أن تقف وتشاهد التجويع والإبادة الجماعية والمُعاناة المتعمّدة، ومعاملة الشعب الفلسطيني بهذا الشكل العنصري والوَثَني والعنصرية الدينية. هذا ما يحدث، ما من شكّ. وأعتقد أنه عندما دخلت إلى غزّة من أجل توفير المساعدات، اعتقدت أننا بالفعل سنقدّم مساعدة. ولكن كنت مُخطئاً.
مايا رزق: سنعرف لماذا كنت مُخطئاً وما الذي حصل معك في غزّة، ولكن بعد هذا الفاصل. مشاهدينا، ابقوا معنا.
مايا رزق: من جديد، أهلاً =ومرحباً بكم، مشاهدينا الكرام. أجدّد الترحيب بضيفيّ: المحامية المختصّة بحقوق الإنسان، الأستاذة المشارِكة في جامعة روتجرز، نورا عريقات. أهلاً ومرحباً بك دكتورة. وأيضاً معنا المُتعاقِد الأمني السابق مع مؤسّسة غزّة الإنسانية، أنتوني أغيلار. سأذهب إليك دكتورة نورا، ولكن قبل ذلك، كان يحدّثنا قبل الفاصل أنتوني عن أنه ذهب إلى غزّة من أجل مساعدة الفلسطينيين وتقديم المعونات الإنسانية، ولكنه كان مُخطئاً. لماذا؟ ماذا رأيت في غزّة، وما الذي بدّل لك كل هذه الصورة؟
أنتوني أغيلار: بعد فترة وجيزة، وتحديداً بعد يوم واحد من دخول غزّة عبر معبر كيرم شالوم في 24 مايو (أيار)، مستوى الدمار وعدم التكافؤ أكثر مما هو مطلوب عسكرياً على صعيد العمليات العسكرية. اتّضح لي أن ما يحدث ليس حرباً، وإنما إبادة. هذه ليست حرباً. ولكن ما شاهدته أيضاً في مواقع التوزيع، مواقع التوزيع بُنِيَت، جرى اختيار الأماكن وجرى بناؤها من قِبَل قوات إسرائيلية عبر الحكومة الإسرائيلية فقط، وهم قاموا بشكلٍ مُتعمّد باختيار الأماكن التي ستضع السكان في خطر كبير من خلال العبور عبر المناطق التي تشهد العمليات.
مايا رزق: لماذا؟ ما القصد؟
أنتوني أغيلار: خلال هذه الفترة، الانتقال عبر هذه المواقع يضع السكان في خطرٍ كبيرٍ. في المواقع بحدّ ذاتها، في كل المواقع - 400 موقع سابقاً، الآن فقط 4 مواقع مُتبقّية - والآن جرى إغلاق موقع في نتساريم، ويُجرى استخدام هذا المكان من أجل العمليات التي ستقوم بها القوات الإسرائيلية. ولكن عندما نظرت إلى الأماكن، اتّضح لي أن ما يحصل عبارة عن انتهاك لاتفاقيات جنيف، وأيضاً انتهاكات للقوانين، للقانون الدولي.
مايا رزق: كيف ذلك؟ ما الذي رأيته؟
أنتوني أغيلار: بالنسبة لمواقع التوزيع، مثلاً، الأماكن الثلاثة في الجنوب، كلها المناطق الثلاث كانت على مقربة من معبر مراغ. إذاً، مراكز التوزيع لم تكن متواجدة من أجل إعطاء أو توفير المساعدات للمُحتاجين. كانت موجودة في مناطق من أجل جرّ وتشريد وإخراج الناس من وسط غزّة. هذه كانت الخطّة. اتّضح لي في 24 مايو (أيار)، عندما شاهدت هذه الأماكن وكيف وُصِفَت: "قالوا إن هذه المرحلة الأولى من ثلاث مراحل". بالفعل، هذا لفت انتباهي: "ما الذي تقصدونه بالمرحلة الأولى؟ اختيار المواقع والبدء في اختبار هذه المواقع على صعيد جرّ الناس". والمرحلة الثانية: بينما يخرج الناس من المناطق الوسطى، في حال استمرّت العمليات من الجنوب إلى الشمال، إلى معبر نتساريم، تشريد الناس إلى الجنوب. أيّ شخص يسكن في خان يونس والمواصي، في حال وصلوا إلى المواقع، لم يكن بإمكانهم العودة إلى المنزل، أُرسلوا إلى المخيّمات. الآن، في المرحلة الثالثة، ترتبط بالعملية التالية في الشمال، حيث إنْ بقي المجتمع ينتقل إلى الجنوب، وأنا أتحدّث الآن هذه ليست خطّة مستقبلية، وإنما الآن. مؤسّسة غزّة الإنسانية قامت ببناء منطقة مساحتها 2.7 كيلومتر في ما يُعرف رفح سابقاً. رفح لم تعد موجودة الآن، هناك فقط معسكر، وكل الفلسطينيين من الشمال والذين هم في الوسط سيكونون كلهم في هذا المعسكر. الآن هم في طريق، ليس لدينا وقت كافٍ كي نوجّه رسائل قوية أو نلقي بخطابات. الأمم المتحدة لن يكون لدينا دولة فلسطينية ندافع عنها. لن يكون هناك خيار حلّ الدولتين في حال عدم التحرّك الآن ووضع حدّ للإبادة الجماعية.
مايا رزق: ما تقوله أكثر من جرس إنذار، صراحة، وهو بالغ الخطورة. تهمّنا التفاصيل كثيراً منكم تحديداً لأنك كنت في هذه النقاط الحسّاسة، وكنت على مَقْربة من القوات الإسرائيلية، وشاهدت بعينك ما قامت به هذه القوات بحقّ الأطفال والنساء في غزّة المجوّعين.
أذهب إليك دكتورة نورة، تعليقاً على هذه الشهادة للسيّد أنتوني، وأيضاً أسألك: إلى أيّ مدى يمكن ما يقوله السيّد أنتوني اليوم أن يعزّز ملف الاتّهام ضدّ إسرائيل أمام المحاكم الدولية؟ نحن أمام شاهِد عَيان، رجل أمريكي، لا يُخبرنا فقط ما حصل، بل لديه بالوثائق والصوَر والفيديوهات ما يحصل في غزّة في "مصائد الموت"، هكذا يسمّيها هو؟
نورا عريقات: نعم، ليس فقط توصيفه أماكن الموت أو أفخاخ الموت، وإنما المنظّمات الإنسانية أيضاً تتحدّث بنفس الطريقة. عدد الشهادات التي =تلقّيناها من الأطباء على الخطوط الأمامية - الأطباء الذين عادوا وبحوزتهم مشاهد لأطفال تعرّضوا للقنص في رؤوسهم وفي أماكن أخرى - لدينا أيضاً صوَر أشعّة تظهر هذه الإصابات جرّاء القنص، مثلاً في مناطق في مُنتصف الجسد. وعدد الشهادات التي تلقّيناها عدد هائل جدّاً.
ولكن هذا ما حدث: بدلاً من أن نستطيع تقييم هذه الجرائم استناداً إلى أدلّة نتلقاها، بدلاً من ذلك يتمّ وضع الأمور ضمن إطار عُنصري، حيث يُراد إلقاء اللّوم على الضحايا بسبب المُعاناة. كما ذكرت سابقاً، العديد من المُستمعين لن يختلفوا معك على صعيد عدد الوفيات ومستوى الدمار، وعلى صعيد دمار أماكن المياه والأراضي، وعدم استخدام البحر من أجل الصيد والطعام، وأكثر من 90 بالمئة من المنازل. ولكن يعودون ويلقون باللّوم على الفلسطينيين: يلومون الفلسطينيين على المُعاناة، إما لأنهم اليوم ينتفضون ضدّ حماس، أو لأنهم يعتقدون أن حماس تقوم بكل ذلك بشكلّ مُتعمّد. وكلما يقومون به، يحاولون إبعاد المسؤولية عن الطرف الحقيقي المسؤول، وفي هذه الحال إسرائيل والحليف الأساسي: الولايات المتحدة.
كيف نتخلّص من ذلك؟ هذه مسألة مهمّة. أعتقد أن الشهادة تتحدّث عن ذاتها. ولكن كيف نتخلّص من هذا الموضوع حيث تركّز إسرائيل ودائماً تستفيد من تاريخ العنصرية ضدّ اليهود في أوروبا تاريخياً، القمع الحقيقي والعنف، وتقتصر أو تطبّق هذا الموضوع على ما يحصل فعلياً، وكأن أيّ شيء لم يتغيّر؟ إسرائيل اليوم التي تختلف عن الشعب اليهودي في أوروبا، إسرائيل هي الدولة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط. العام الماضي كانت المصدّر التاسع الأكبر في العالم للتكنولوجيا العسكرية، والقوّة العسكرية الحادية عشرة في العالم. والفلسطينيون يفتقرون إلى الدولة، ناهيك عن مسار وما يسمّى بالرئيس الفلسطيني، لا يستطيع أن يسافر من دون موافقة إسرائيلية.
نحن علينا أن نتخطّى كل هذا الذي حمى إسرائيل على أساس أنها بريئة بشكلٍ من الأشكال، بما في ذلك عدم ذِكر النكبة في عام 48. ما تقوم به إسرائيل في غزّة عبارة عن استمرار لما تفعله منذ عام 48. ولكن هذه فقط هي المرحلة الأكثر وحشيّة. ولذلك صار من الضروري أن نفكّر إلى ما هو أبعد من مجرّد دولة فلسطينية، وأن نفكّر أيضاً بالأيديولوجيا الصهيونية التي هي مصمّمة على التوسّع من خلال الإبادة الجماعية والاستيلاء على المزيد من الأراضي. ولهذا السبب، عندما يريد سموتريتش اليوم ضمّ بيت لحم وبيت جالا وأماكن أخرى في الضفة الغربية، هذا عبارة عن استمرار ليس فقط للمشروع في غزّة، ولكن أيضاً المشروع الذي تمارسه في يافا وفي اللدّ وفي النقب.
ولهذا، كيف نتخطّى هذا الإطار الذي يريد أن يصوّر نتنياهو وهذه الحكومة اليمينية على أنها حال استثنائية، بدلاً من استمرار لما جرى بحقّ الفلسطينيين على مدار عقود؟ هذا ما يجب أن نقوم به. الحشد العالمي، حتى بينما تزداد الأوضاع على الأرض سوءاً، وهو أسوأ، هي أسوأ أكثر مما يمكن أن نتخيّل. ولكن المسألة تتعلّق بالشجاعة وقوّة الناس كي يكافحوا ويواجهوا هذه الحقائق.
مايا رزق: بالحديث عن الشجاعة ومواجهة هذه الحقائق، دكتورة نورا، هناك قرارات وأحكام مصدرها محاكم دولية. أي نحن نتحدّث عن أعلى المرجعيات القانونية في العالم التي صدرت بحقّ إسرائيل.
سنتعرّف قليلاً على هذه الأحكام، وسنقول ما هي هذه الأحكام بحقّ مُرتَكِب الإبادة الجماعية، وكيف يلتفّ عليها؟
البداية سنعود فيها إلى ديسمبر (كانون الأول) من عام 2023: شكوى من جنوب إفريقيا ضدّ إسرائيل في محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب إبادة جماعية في غزّة. المحكمة أصدرت قراراً مؤقّتاً يطلب من إسرائيل التوقّف فوراً عن ارتكاب أية أعمال قد تندرج تحت التعريف القانوني للإبادة. سقف المواقف الدولية.
تعليق بعض صادرات الأسلحة لإسرائيل. ونحن نعلم بأن كل هذا لم يكن نافعاً، إذ إن الإبادة مستمرّة حتى يومنا هذا.
في الواقع، أصدرت محكمة العدل الدولية أيضاً أحكاماً مُلْزمة قانونياً لدول الأطراف، لكن ليس لديها آلية تنفيذية مباشرة. فهي تعتمد على حُسن نيّة الدول أو على مجلس الأمن. هنا يأتي الفيتو الأمريكي الحاضر دائماً لعرقلة أيّ إجراء لا يناسب الحليف الأكبر.
الأمين العام للأمم المتحدة أبلغ مجلس الأمن أوامر المحكمة وفقاً للميثاق الدولي، لكن لم يصدر أيّ قرار رسمي بشأن التنفيذ أو حتى فرض آلية للضغط على إسرائيل. وكل هذا ربما كان مُتوقّعاً.
مذكّرات توقيف بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن السابق يوآف غالانت أصدرتها محكمة الجنايات الدولية في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي.
التّهم: ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية في غزّة. قرار لم ترفضه الولايات المتحدة وحسب، بل أيضاً وصفته بالمؤامرة، وبأنه يقوّض ما تسمّيه "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". وحدها مالطا، هولندا، سويسرا، ونيوزيلندا أعلنت التزامها بتنفيذ المذكّرة إذا دخل نتنياهو أراضيها.
أساليب عديدة، مشاهدينا الكرام، يعتمدها نتنياهو للالتفاف على القرارات الدولية. أوّلها عبر تعويم مصطلح "مُعاداة السامية" في محاولةٍ منه لنزع الشرعية عنها.
كذلك يتبنّى خطاباً يرى أن المحكمة الجنائية الدولية لا تملك ولاية قضائية على إسرائيل لأنها ليست عضواً فيها، وتحت ذريعة أن فلسطين ليست دولة كاملة السيادة، وبالتالي لا يمكنها أن تمنح المحكمة اختصاصاً.
وإلى الغطاء الأمريكي: هي استراتيجية دائمة لدى إسرائيل بفرض سياسة الأمر الواقع، ما يجعل أيِّ قرار لاحِق غير قابل للتطبيق. وهو ما يفعله نتنياهو في موضوع التوسّع الاستيطاني والاجتياحات، فضلاً عن استراتيجية المُماطلة القانونية عبر طلب توضيحات مُتكرّرة، والاعتراض على الاختصاصات، وفتح حوارات فنية مع مؤسّسات دولية لشراء الوقت، بانتظار تراجع الضغط أو تغيّر الظروف السياسية والدولية.
حتى متى، دكتورة نورا، أسألك، تستطيع إسرائيل أن تراوغ، أن تشتري الوقت، وأن تتهرّب من العدالة؟ تقول مثلاً فرانشيسكا ألبينيزي المحقّقة الدولية، وهي بالمناسبة الآن رشّحتها رئيسة سلوفينيا لجائزة نوبل للسلام، تقول: "إن ما يحصل في غزّة إبادة مُتَلْفَزة". إذا كانت الأمور بهذا الوضوح - بالمناسبة يمكن لطفلٍ أن يقول ما الذي يحصل في غزّة - ما الذي يمنع حتى الآن تفعيل قوانين ضدّ إسرائيل، مثل اتفاقيات جنيف على سبيل المثال؟
نورا عريقات: تعرفي، هذه مُعضلة كبيرة في القانون الدولي. دائماً ما يفكّرون من مِنظار القانون المحلّي. ولكن الفارق بين الإطار الدولي والمحلّي أنه ما من آلية تنفيذية. لو كانت هناك محكمة عليا، على سبيل المثال في لبنان، تتوصّل إلى قرار، سيكون هناك جناح تنفيذي يمكن أن يقوم بتخصيص قوات الشرطة من أجل استخدام القوّة لتنفيذ القرار. هذا ليس موجوداً في المسرح الدولي. لا توجد قوّة شرطة. هناك ائتلاف من الدول، هناك مجموعة من الدول، والقانون حقّ فقط هو بمستوى قوّة الإرادة السياسية.
وبالتالي، ما نراه أولاً: نرى الطبيعة القمعية للقانون الدولي في إطار أوروبي أُنشئ من أجل توسيع الأنظمة الإمبراطورية منذ القرن الخامس عشر. هذا أولاً.
ولكن بالنسبة للمشاهدين، المسألة مهمّة أن نفهم: أحياناً تنجح المحاولات. كيف في هذه الحال لن تنجح؟ لأن إسرائيل، والأهمّ من ذلك الولايات المتحدة، هي مُستعدّة لتدمير النظام الموجود بدلاً من أن يعمل هذا النظام بأيّ شكل طبيعي من أجل الحقوق الفلسطينية. هذا واضح جداً مع المحكمة، المحكمة الجنائية الدولية. الولايات المتحدة ليست عضواً في اتفاقية روما، وبالتالي ليست دولة عضواً في المحكمة الجنائية الدولية. ولكن على الرغم من أنها دولة في مجلس الأمن يمكن أن تُحيل الملفات، وهي تعارض هذه المحكمة منذ أن أُسِّست، لأن الولايات المتحدة تخشى من محاكمة القوات العسكرية الأمريكية.
مايا رزق: أفهم منك: طالما أن هناك غطاءً أمريكياً لما تقوم به إسرائيل، لن تكون هناك محاسبة لإسرائيل مهما اقترفت من جرائم في غزّة.
بالعودة إلى هذا الموضوع بالتحديد وإلى ما يجري في غزّة - عُذراً على المقاطعة، دكتورة نورا - أعود إليك سيّد أنتوني. وأنت كنت كما ذكرنا قبل قليل في أفغانستان، وفي العراق، وحتى في سوريا. لا شكّ في أنك رأيت الكثير من المشاهِد المؤلمة، الدموية، الفظيعة، ربما جثث مُقطّعة أو إلى ما هنالك.
إذا ما أردنا أن نقدّم مُقارنة في ما يخصّ ما رأيته في هذه الدول وكنت أنت في الصفوف الأمامية في القتال وما رأيته في غزّة، الناس تحبّ المُقارنات لأنها تفهم أكثر ما الذي يحصل على الأرض؟
أنتوني أغيلار: أولاً، أريد أن أقول إن كل ما قالته الدكتورة نورا، ولكل المشاهدين، ما قالته بالفعل عبارة عما يجري، عبارة عما يجري حقيقة، كل ما وصفته، لا يمكن أن أتحدّث بشكل أفضل أو أعبّر بشكلٍ أفضل. بالنسبة لما شاهدته في غزّة على الأرض، وأنا أعمل في فلسطين، أنا شاهدت الدمار والحرب في سوريا وأفغانستان والعراق. وما شاهدته وما رأيته وما شعرت به وما لمسته في غزّة هو لا يمكن أن يُقارن بأيّ مستوى من دمار سبق وأن رأيته في حياتي. وأنا أمضيت أعواماً عدّة في الحروب، في بعض الأماكن الأكثر عداوة.
وسأشارك مسألة واحدة: في 23 مارس (آذار) 2019، عندما خرجت بقايا داعش واستسلموا في الباغوز، نحن وفّرنا لهم الطعام والمياه والاحتياجات الطبية، وأمّنا لهم المسارات الآمنة. نحن بشكلٍ جماعي، الولايات المتحدة، الحكومة الأمريكية، متواطئون بشكل كامل، يداً بيد، بما يجري. نحن قدّمنا العلاج لمُقاتلي داعش الذين استسلموا بإنسانية أكثر من الفلسطينيين. الفلسطيني الذي هو ليس مقاتلاً، بل فقط يعيش نساء، أطفال.
حان وقت العمل. لا أعرف ما هي كل الخطوات التي يجب أن تُتّخذ، ولكن أعرف أن الولايات المتحدة معنية، وعليها أن تتحرّك اليوم. هنا في العاصمة الأمريكية واشنطن، أنا شاركت في الجلسات الافتتاحية للجلسة 119 في لجنة الشؤون الخارجية، وأنا قمت بالاحتجاج في هذه اللجنة، وجرى اعتقالي، وقاموا بزَجّي بالسجن، ووقفت احتجاجاً على ما تشارك به الولايات المتحدة، وعلى ما تسمح حكومتها بحصوله.
مايا رزق: بأية تهمة تمّ اعتقالك؟
أنتوني أغيلار: جرى اعتقالي من قِبَل الشرطة في العاصمة الأمريكية لأنني قمت بتعطيل الجلسة. ولكن في نفس الوقت، يحقّ للناس الاحتجاج، ويحقّ للناس أن يطرحوا الأسئلة حول أفعال الحكومة. العاصمة الأمريكية، مبنى الكابيتول، هو لجميع الأمريكيين. كنت أقوم باحتجاج على ما توافق عليه الحكومة الأمريكية وتستمر بالسماح بحصوله. إسرائيل، في بعض التعليقات الأخيرة، قالت: "نحن لا نُبالي بما تقوله بقية العالم، طالما أن أمريكا تساندنا. نحن سنستمر". نحن متواطئون، أيدينا ملطّخة بالدماء. هدفي كان أن أتأكّد من أن يعرف ذلك أعضاء الكونغرس. لا يمكن إخفاء الحقيقة. وبالتالي، جرى اعتقالي.
مايا رزق: هل هذا نابع مما رأيته في غزّة خلال الشهر ونيّف الذي أمضيته هناك؟ عندما تقول بأن أيدي الأمريكيين ملطّخة بالدماء، وهنا أريد أن أسألك أيضاً: عندما كنت في نقاط توزيع المساعدات، وأنت كنت في أكثر من نقطة بالمناسبة، وتنقّلت في غزّة، لا شكّ في أنك عملت على مقربة، وربما كنت مُلتصقاً بالقوات الإسرائيلية، أتحدّث عن الجيش الإسرائيلي المتواجد على الأراضي في غزّة كمُحتل.
كيف يمكن أن توصِف طريقة تعاطي هؤلاء مع المدنيين في غزّة الذين كانوا يصلون إلى هذه النقاط للحصول على القليل، القليل مما توفّر من المساعدات؟ أرجو الإجابة باختصار.
أنتوني أغيلار: أنا عملت مع القوات الإسرائيلية في غزّة كل يوم، في كل موقع. القوات الإسرائيلية في غزّة، والقوات الإسرائيلية عموماً، يشيرون إلى الفلسطينيين على أنهم حيوانات. تعاملوا معهم وكأنهم ليسوا من البشر. كل جزء من نفس العملية: التجريد من الإنسانية. وبالتالي، يبعد العالم أنظاره. وهذا وقته. القوات الإسرائيلية ليسوا عبارة عن القوات الأكثر أخلاقية في العالم.
مايا رزق: هذه الجزئية أريد أن =أختم بها معك دكتورة. لأسألك: لماذا يتمّ النظر، وهذا ليس حِكْراً على الجيش الإسرائيلي، على ما أعتقد، بأن يدرك جيّداً ما تحدّث عنه أنتوني، عندما تحدّث بأن الجيش الأمريكي أصلاً كان ينظر إلى العراقيين مثلاً على أنهم دون الإنسانية، مجرّدين من الإنسانية، أو حتى أعتذر على العبارة مجدّداً: "حيوانات". وهذا سمعته في أكثر من اعتراف من قبل جنود في الجيش الأمريكي الذين كانوا في العراق.
لماذا هذه النظرة ليس فقط للفلسطينيين بل للعرب؟ أين الخلل؟ هل هو في التربية؟ وإلى أي مدى أصلاً كل ما يحصل هو ناجم عن هذه النظرة بالتحديد؟
نورا عريقات: هنا سأستفيد من إدوارد سعيد، الذي قال إن الهدف الأساسي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط هناك هدفان: استخراج النفط، بالإضافة إلى حماية إسرائيل. وبالتالي، كل الأطراف الأخرى خارج الهدفين. كل الأطراف الأخرى ليسوا من البشر، ولا يستحقّون الأهمية. للأسف، الأمم المتحدة تقوم بذلك أيضاً. في التعليم، يقومون بمُعاقبة الناس بسبب التعليم.
ولكن أريد أيضاً أن ألقي ببعض اللّوم على القادة العرب والأنظمة العربية التي لم تلعب الدور المطلوب لحماية أنفسهم وللدفاع بوجه التدخّلات الأمريكية والأعمال العدائية الأمريكية، ومن أجل إعطاء القِيم لحياة العرب عبر إنشاء تحالف يمكن التوحّد بالدفاع عن النفس، الجميع لحماية الفصيلة. ولكن بدلاً من ذلك، من خلال السماح بحصول ذلك، الفلسطيني أصبحت حياة العرب رخيصة ويمكن الاستغناء عنها. وللأسف، الحكّام العرب يقومون بتعزيز هذا الوضع من خلال الرضوخ أمام الإملاءات الأمريكية من أجل المكاسب القصيرة الأمد، وللحماية العسكرية والأمنية، بدلاً من أن يضعونا على مسار نحو الأمم حيث يمكن أن نعيش بكرامة، مع مساواة والتمثيل الديمقراطي لأنفسنا، وبمُساهمات سليمة، بحيث نستطيع أن ننتج الأدب والموسيقى والثقافات. وبدلاً من ذلك، أصبحنا ندين للتدخّلات الأمريكية المستمرة، أقلّه منذ 4 عقود.
مايا رزق: المؤسِف بأن الشعب العربي، وربما معظم الشعب العربي - إذا أردنا أن نكون دقيقين - يمضي كل حياته فقط في إثبات أنه إنسان يستحقّ أية حياة طبيعية.
أستاذ أنتوني، قبل أن أشكرك، أريد أن تصف لي غزّة بكلمة اليوم؟
أنتوني أغيلار: غزّة التي أعرفها مليئة بناس رائعين، وهم بشر. غزّة التي أوجدتها إسرائيل عبارة عن مكان منكوب.
مايا رزق: شكراً جزيلاً لك، سيّد أنتوني أغيلار، متعاقد أمني سابق مع مؤسّسة غزّة الإنسانية، التي وبحسب ما قاله سيّد أنتوني لا تمّت للإنسانية بأية صلة.
أشكرك أيضاً، دكتورة نورا عريقات، محامية مختصّة بحقوق الإنسان وأستاذة مشاركة في جامعة روتجرز.