الإقليم أمام الاختبار… بين زعامة إسرائيلية قسرية ومظلة إقليمية مفقودة
في الإقليم تتغيّر البيئة السياسية والأمنية بشكل متسارع… ومنذ الـ 7 من أكتوبر عام 2023، تسارعت الأحداث على نحو غير مسبوق، لتفتح الباب أمام مرحلة جديدة، عنوانها العريض: "إسرائيل" تحاول فرض زعامة قسرية على الإقليم.
نص الحلقة
كمال خلف: سلام الله عليكم مشاهدينا في دوائر القرار. في الإقليم تتغيّر البيئة السياسية والأمنية بشكلٍ مُتسارع، ومنذ السابع من أكتوبر عام 2023 تسارعت الأحداث على نحوٍ غير مسبوق لتفتح الباب أمام مرحلة جديدة عنوانها العريض: إسرائيل تحاول فرض زعامة قَسْرية على الإقليم.
غزّة أُبِيْدَت ودُمّرت، الضفة أعلن ضمّها، مع نهاية مسار قيام الدولة الفلسطينية. الاغتيالات صارت عقيدة استراتيجية، والضربات امتدّت من دمشق إلى بيروت، ومن طهران إلى الدوحة، ومن البحر الأحمر إلى سواحل المتوسّط.
يد نتنياهو صارت مُطلقة، لكن السؤال: إلى أين؟ وإلى متى؟
في المقابل، تبدو المنطقة أمام اختبار مصيري: هل يستمرّ الاستفراد الإسرائيلي تحت المظلّة الأمريكية، أم نحن على عتبة صحوة إقليمية تُعيد تعريف الأمن الجماعي بعيدًا عن الوصاية الخارجية؟
تركيا، إيران، ومصر في قلب المعادلة. الخليج لاعب لا يمكن تجاهله، امتدادًا نحو آسيا، في ظلّ تشكّل تجمّعات دولية تسعى لإحداث تغيير جذري في بنية النظام الدولي.
في هذه الحلقة، مشاهدينا، نعرض الوقائع ونطرح التساؤلات، ليس على ضيفنا فحسب، بل أيضًا تساؤلات على النُخَب السياسية وقادة المنطقة وشعوبها.
أهلاً بكم.
كمال خلف: أرحّب بضيف حلقة دوائر القرار لهذا الأسبوع، الدكتور بلال الشوبكي، رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة الخليل، يطلّ معنا مباشرة من الخليل. دكتور، حيّاك الله. دكتور، أرحّب بك في دوائر القرار، سعيدون جدًّا أنك معنا اليوم، وسنكون معك عبر ثلاثة عناوين. كل دائرة سنفتح فيها عنوانًا. حيّاك الله. في بداية الحلقة، واسمح لي دكتور أن أبدأ بالدائرة الأولى:
إسرائيل من الردع إلى العقيدة الهجومية المفتوحة.
كمال خلف: بداية هذه الدائرة، مشاهدينا، وقبل أن نبدأ حوارنا مع الدكتور بلال، سنستعرض خط العدوان الإسرائيلي على المنطقة منذ السابع من أكتوبر من عام 2023.
منذ أكتوبر عام 2023، بدء الإبادة الجماعية في غزّة: تدمير شامل للبنى التحتية، آلاف الشهداء، إعلان مخطّط لتهجير سكان القطاع، والقتل بالتجويع.
منذ أواخر 2023، ارتفع مستوى التصعيد في الضفة الغربية، وصولًا إلى قرار الضمّ، وإنهاء أية إمكانية لقيام دولة فلسطينية.
في أواخر سبتمبر/أيلول 2024، شنّت إسرائيل حربًا على لبنان: عملية "سهام الشمال"، قصف واسع، اغتيال القيادات، تدمير بنى تحتية مدنية، واحتلال أجزاء من الجنوب اللبناني.
أواخر عام 2024 إلى مطلع عام 2025، بعد سقوط النظام، توسّعت إسرائيل في الجغرافيا السورية، ودمّرت كل مقدّرات الجيش السوري، وصولًا إلى قصف القصر الجمهوري ومبنى الأركان، مع محاولة فرض التقسيم وإنشاء كيانات منفصلة.
في يونيو 2025، شنّت إسرائيل الحرب على إيران بهدف إسقاط النظام والسيطرة الكاملة على الجو. دامت الحرب 12 يومًا من الغارات والصواريخ، تصعيد غير مسبوق بين الدولتين، انتهى بفشل العدوان.
في عام 2025، عدوان مُتكرّر على اليمن، واغتيال وزراء في الحكومة اليمنية بضربة جوية. أغسطس 2025، تهديدات مباشرة لمصر لرفضها تهجير الفلسطينيين من غزّة، ورسائل نارية باتجاه سيناء.
سبتمبر 2025، توتّر مع تركيا، تلويح بعمليات استهداف، واتهامات لأنقرة بدعم الفصائل الفلسطينية. وفي الثامن من هذا الشهر، شنّت إسرائيل سلسلة هجمات بطائرات مسيّرة استهدفت سفن ناشطين لكسر الحِصار عن غزّة في ميناء سيدي بوسعيد في تونس.
سبتمبر 2025 أيضًا، قصف الدوحة: استهداف غير مسبوق للعاصمة القطرية، فتح جبهة جديدة ضدّ دولة خليجية.
هكذا نختصر، دكتور بلال الشوبكي، لكن هذه عناوين، تفاصيلها كثيرة عبر عامين.
إسمح لي دكتور بلال أن نأصل أولًا لما يجري في منطقتنا، ونبحث في الأسباب والجذور. لأن البعض، دكتور، كما تعرف، يضع كل ما يجري خلال العامين بالسابع من أكتوبر.
هل ما قامت به إسرائيل يرتبط بالسابع من أكتوبر كنقطة انطلاق، وكما يُسمّيها البعض "ردّة فعل" على طوفان الأقصى وعلى السابع من أكتوبر؟ أم أن المسألة وما يجري أبعد من التاريخ، وإن كان التاريخ يمثل انطلاقة أو شرارة؟
بلال الشوبكي: مساء الخير لك وللسادة المشاهدين.
كمال خلف: حيّاك الله.
بلال الشوبكي: ببساطة، لا. الأمر يحتاج فقط إلى استدعاء مجموعة من المؤشّرات التي تقول إن هذه السياسات التي تنتهجها حكومة إسرائيل في المنطقة ليست مرتبطة حقيقةً بالسابع من أكتوبر، بقدر ما هي مبنية ومُصاغة بطريقة قد تشير إلى أنها مرتبطة بالسابع من أكتوبر. بمعنى: عملية التسويغ والتبرير الإسرائيلية عملية متوقّعة وقائمة وموجودة، لكن ما يجري حقيقةً أن كل خطوة قامت بها إسرائيل في المنطقة هي خطوة لديها أساس في الأدبيات الإسرائيلية، ولديها أساس في الخطاب الإسرائيلي ما قبل السابع من أكتوبر بسنواتٍ عدّة. لو أخذنا مثالًا على ذلك من جملة ما تفضّلت بالإشارة إليه في التقديم لهذا البرنامج، مواضيع مرتبطة بعمليات الضمّ مثلاً والتوسّع في الضفة الغربية بما فيها القدس، هذه أمور منذ نشأة إسرائيل وحتى هذه اللحظة هناك إشارات إلى عملية ضمّ الضفة الغربية. وإذا أردنا ألا نذهب بعيدًا في الأدبيات الإسرائيلية، في الانتقال مباشرة إلى البرامج السياسية: برنامج الحكومة الحالية قام على أساس ائتلافي. هذا البرنامج الائتلافي جزء منه التوقيع على تعهّد بقضايا مرتبطة بضمّ الضفة الغربية وفقًا لبرنامج سموتريتش الذي نُشِرَ عام 2017، ما قبل السابع من أكتوبر بست سنوات. كان هذا برنامجًا سياسيًّا تتبنّاه الحكومة الإسرائيلية في ما يتعلّق بالضفة الغربية.
وفي ما يتعلّق بدوائر أوسع، وأقصد بذلك في سياقات إقليمية، سواء في ما يتعلق بلبنان، أو في ما يتعلق باليمن، أو في ما يتعلق بسوريا، أو في ما يتعلق أيضًا بطهران، هذه ملفات مطروحة بالنسبة للحكومة الإسرائيلية منذ سنوات عديدة. لا يوجد رئيس وزراء إسرائيلي، تحديدًا نتنياهو، منذ أن وصل إلى الحكم في سنة 1996، ومن ثم تجدد ذلك في مرحلة ما بعد العام 2006، نحن نتحدّث عن استدعاء للخطاب الذي يقول: لا بدّ في لحظة ما من استهداف إيران. وهم يعتبرون أن كل هذا جزء من سياسة إسرائيلية لشعور إسرائيل بمجموعة من التهديدات.
ما أريد الوصول إليه: إننا لسنا بحاجةٍ لكثير من التحليل والنقاش في ما يتعلق بالتدليل على أن ما يجري حاليًّا غير مرتبط بالسابع من أكتوبر، وإنما مرتبط أولًا برؤى توسّعية في الضفة الغربية، برؤى توسّعية في المحيط العربي في ما يُعرف بدول الطوق، وبرؤى هيمنة في ما يتعلق بالمنطقة برمّتها. وهنا ربما الأمر الجديد: انتقال إسرائيل من سعيها على مسار عقود منصرمة للانخراط في هذا المحيط العربي بشكلٍ طبيعي - بمعنى استدعاء فكرة التطبيع التقليدية - الانتقال الآن إلى مفهوم آخر. لم تعد إسرائيل تسعى إلى التطبيع بالمعنى التقليدي الكلاسيكي (عملية سلام وأن تجد نفسها كيانًا طبيعيًّا في المنطقة)، وإنما تريد أن تجد نفسها كيانًا في هذه المنطقة مُهيمنًا وليس مُتجانسًا. وهناك فرق كبير ما بين التجانُس في سياق عملية سلام وعملية تطبيع، وما بين الهيمنة وإن سمّتها عملية تطبيع. ما تريده الآن هو عملية هيمنة لا تفرّق حقيقة بين الدول العربية مهما كانت توجّهاتها السياسية، وإنما تريد أن تخلق واقعًا جديدًا في هذه المنطقة.
كمال خلف: دكتور، كل سؤال وكل ما تتحدّث فيه يحتاج إلى حلقات، لكن حقيقةً في هذه الحلقة نحاول الفَهْم: فَهْم ما يجري في هذه المنطقة بمفهومه الواسع أو المكثّف. بالتالي، دكتور، اليد المُطلقة الآن واضح أن نتنياهو يده مُطلقة في المنطقة بشكل غير مسبوق في التاريخ. وبالتالي أيضًا، اليد المُطلقة: كيف نفسّرها؟ هل هي مشروع ما يقوم به نتنياهو ومشروع أمريكي في إطار صراع دولي على مناطق في العالم؟ الشرق الأوسط، أو غرب آسيا، إحدى هذه المناطق. وبالتالي نحن نتحدّث عن تغيرات دولية تنعكس في منطقتنا، أم لها علاقة بظروف وبيئة هذه المنطقة - البيئة السياسية والأمنية والاقتصادية الهشّة والمُنهارة، إذا جاز التعبير - التي وجد فيها اليمين الإسرائيلي فرصة لفعل ما يريدون؟
أم هناك أسباب أخرى؟ ما هي الظروف التي جعلتنا في المنطقة بهذا الوضع؟ إسرائيل تغتال أينما تريد ومَن تريد، بغضّ النظر عن قانون دولي، سيادة دول، الخ؟ ما الظروف والأسباب والعوامل التي جعلتنا في هذا الموقع اليوم؟
بلال الشوبكي: أنت أشرت إلى عاملين: العامل المُتمثّل في الإسناد والظهير الأمريكي، وعامل آخر مُتمثّل في حال الضعف على المستوى الإقليمي. وأنا أرى أن هذه وتلك - نحن لا نتحدّث عن مسلكين ربما يكونان مُتناقضين - نحن نتحدّث عن إسناد أمريكي لا مُتناهٍ لإسرائيل، ونتحدّث أيضًا عن حال ضعف على المستوى الإقليمي. ويُضاف إليها عامل ثالث آخر: أن إسرائيل جرت فيها تحوّلات. بمعنى أنه حتى لو كان هناك الكثير من أبناء المجتمع العربي والإسلامي يؤمنون أن إسرائيل هي إسرائيل، بغضّ النظر عمّن يحكمها، وبغضّ النظر عن النُخبة السياسية التي تشكّلت فيها، وبغضّ النظر عن نتائج الانتخابات فيها - بالرغم من وجاهة هذا الطرح - إلا أنه يحتاج أيضًا إلى إعادة نظر. بمعنى أن إسرائيل فعلاً تختلف الآن. إسرائيل اليوم ليست إسرائيل قبل عشرين عامًا. بمعنى أن الخطاب اليميني في إسرائيل لم يعد خطاب يمين، أصبح الخطاب اليميني هو الخطاب الوطني. بمعنى أن مَن يتبنى مقولات غير يمينية في إسرائيل يشعر بالحَرَج، يشعر أنه مُتّهم في وطنيّته. وهذا نجاح لليمين الإسرائيلي ولنتنياهو بتحويل الخطاب اليميني والمقولات اليمينية إلى خطابات وطنية.
لذلك، لو تتبّعنا مثلاً وبشكل مشترك الخطابات الإسرائيلية ==تجاه أية عملية تقوم بها إسرائيل ضدّ أهداف عربية أو إسلامية، لن تجد فروقات بين يمين ويسار. الجميع يبارك. إذاً ما الفروقات؟ حقيقةً، الفروقات في التقدير حول مآلات هذه العملية ومخاطر هذه العملية، لكن من حيث المبدأ الجميع يتّفق.
الجميع في إسرائيل أو المعظم في إسرائيل مُتّفق على فكرة إعدام الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران. المُعظم متّفق على ضرورة الهيمنة على المنطقة برمّتها.
إذًا، العامل الأساسي - وهنا أعود إلى جوهر سؤالك - ما الذي دفع إسرائيل إلى أن تُقْدِم على ما أقدمت عليه في هذه اليد المُطلقة؟
أولًا: الإحساس بالقوّة، الإحساس بهذا التفوّق، وهو قوّة غير مبنية على مُقدّرات إسرائيلية خالصة، وإنما مبنية على دعم لا مُتناهٍ، غالبيّته تحديدًا من الولايات المتحدة الأمريكية ومن بعض الدول الأوروبية.
المسألة الثانية: وهي الانزياح نحو اليمين وتبنّي مقولات يمينية بشكل كامل من قِبَل قوى عدّة على المستوى الإسرائيلي.
العامل الثالث: مرتبط بالضغط، الموقف الغربي، وأقصد بذلك الأوروبي تحديدًا. بالرغم من التحوّلات المهمّة، وبالرغم من الإشارة إلى ضرورة أن تكون هناك دولة فلسطينية، وبالرغم من التلويح بدولةٍ على حدود الرابع من حزيران والاعتراف =بها، هذا أمر ندركه، لكن لا يُقلق إسرائيل في نهاية المطاف هو السياسات على أرض الواقع. السياسات على أرض الواقع ما زالت من بعض الدول الغربية الوازنة هي سياسة دعم، سواء كنا نتحدّث عن بريطانيا أو عن فرنسا أو عن ألمانيا، حتى وإن بدا الخطاب ناقِدًا بشكلٍ لاذعٍ جدًّا.
لأن هناك أحد الكُتّاب الإسرائيليين اليساريين، جدعون ليفي، يشير إلى أنه - بما معناه، ولم يقل ذلك حرفيًّا - "هنيئًا لإسرائيل، إن كان بعد كل ما ارتكبته في المنطقة وفي فلسطين أن سقف الخطاب الغربي هو التلويح بالاعتراف بدولة فلسطينية". يُفترض أن تكون هناك عقوبات، أن تكون هناك سياسات رادعة لإسرائيل، لكن هذا لم يحصل إلا من دولٍ قلّة في أوروبا، من بينها إسبانيا التي اتّخذت مسارًا واضحًا ومُغايرًا للمسار الأمريكي في التعامل مع إسرائيل.
إذًا، عنوان ثالث يتمثّل في تواضع الإجراءات الأوروبية ضدّ إسرائيل.
العامل الرابع: المُتمثّل أيضًا باختبار المنظومة القضائية الدولية. ربما تذكر قبل عدّة أشهر حين كنا نناقش بشكلٍ مُكثّف حول دور الجنائية الدولية والعدل الدولي وما إلى ذلك.
إذًا، تمّ استباق ذلك حقيقةً، وإسرائيل اتُّهمت وقيادتها أُدينت بالجنائية الدولية، وطُلِب منها إجراءات من قِبَل العدل الدولية في لاهاي، ولم يحصل شيء على أرض الواقع. إذًا، إسرائيل اعتبرت الموقف الأوروبي اختبر المنظومة القضائية الدولية، وما زالت أمريكا داعمة لها كقوّة.
كمال خلف: دكتور، كان هناك اختبار مُبَكّر عندما كان دونالد ترامب في العهدة الأولى ونقل السفارة إلى القدس وطرح "صفقة القرن"، وهو قال بلسانه: "إننا سنسمع بعض الضوضاء في العالم العربي، ولن يحدث لاحقًا أيّ شيء". وبالفعل هذا ما جرى. وبالتالي، هذا ربما كان اختبارًا أيضًا مُبَكِّرًا لردّات الفعل في المنطقة العربية.
دكتور أيضًا، قبل أن تنتقل إسرائيل من الردع - أو ما تسمّيه الردع - إلى العقيدة الهجومية المفتوحة التي نراها الآن، كان في نقاش في إسرائيل يجري قبل السابع من أكتوبر، وهو نقاش حول بقاء إسرائيل نفسها.
عندما كنا نستمع إلى هرتسوغ يتحدث، وأيضًا مسؤولين إسرائيليين سابقين يحذّرون من أن إسرائيل قد لا تُكْمِل العقد الثامن، وأيضًا الحديث عن الحرب الأهلية التي حذّر منها الرئيس الإسرائيلي، والقوانين في إسرائيل، وتغيّرات الهوية في إسرائيل، هذا كان قد سبق التحوّل الذي رأيناه بعد السابع من أكتوبر.
هنا، دكتور، أريد أن أسأل: هل إسرائيل الآن بموقع الدفاع - إذا جاز التعبير - أو في موقع البقاء؟ الدفاع عن الوجود؟ ما تتصرّف به الآن ينبع من شعورٍ عام في إسرائيل أن هناك خطراً وجودياً، وبالتالي يجب أن نتحرّك بهذا العُنف المُفْرِط؟ أم لا؟
ما يتمّ هو استراتيجية أوسع، إسرائيل هي جزء منها باعتبارها الذراع الشرقية للولايات المتحدة في هذه المنطقة؟
بلال الشوبكي: على مستوى المُعلن، إسرائيل لا تخفي أنها حرب وجودية. على المستوى المعلن، هم يقولون إنها حرب وجودية. هذا منذ اللحظات الأولى لإعلان هذه الحرب، كان هناك مجلس للحرب في إسرائيل قال: "إنها حرب وجودية"، وحتى هذه اللحظة يتابعون ذات المقولات.
هل إسرائيل الآن تعاني من تهديدٍ وجودي؟ لا. إسرائيل لا يمكن أن نكون مُتناقضين مع أنفسنا ونقول: إن الغرب يدعم، وأمريكا تدعم، وهناك ضعف على المستوى الدولي، ويدُها مطلقة، ونقول إنها تعاني من تهديدٍ وجودي.
لكن هل هناك محاولة دائمة في التفكير الإسرائيلي بأن هناك تهديداً وجودياً من قِبَل إسرائيل؟ نعم. جزء من الخطابات الإسرائيلية التي تقول للإسرائيلي العادي إن هناك تهديداً وجودياً، ليس المقصود منها حقيقةً أن التقييم الإسرائيلي الآن لوضع إسرائيل أنها تعيش تهديداً وجودياً، وإنما محاولة دائمًا للإبقاء على هذا العامل قائمًا، لأن هذا أحد عوامل توحيد الشارع الإسرائيلي. لأنه عندما يُقال إن هناك تهديداً وجودياً، تتلاشى التبايُنات الإسرائيلية. حين تقول إن هناك خطرًا موحّدًا، ليصبح الجميع يتحدّث بلسانٍ واحد.
هذا الأمر يمكن التدليل عليه من خلال العديد من الأمثلة في إسرائيل خلال العامين المُنصرمين.
=شدّة الخلافات كانت قائمة. بالمناسبة ما قبل السابع من أكتوبر حين كنا نناقش حينها مسألة الانقلاب القضائي، كانت إسرائيل فيها تظاهرات وفيها مسيرات وحال من الخلاف ما بين المعارضة والحكومة الإسرائيلية. حين أصبح هناك تهديد عُرِف على أنه تهديد وجودي، ذابت كل هذه الخلافات، تلاشت، وأصبح بني غانتس وإيزنكوت ونتنياهو كلهم في مركب واحد. حتى أولئك الذين لم يدخلوا إلى الحكومة الإسرائيلية لم يتبنّوا مقولاتهم للحكومة الإسرائيلية إلا بعد مُضيّ أشهر طويلة من هذه الحرب.
كمال خلف: صحيح، دكتور. سأنتقل إلى الدائرة الثانية التي سوف نتحدّث فيها عن الموقف الدولي، ونطرح سؤالاً: الموقف الدولي هو شراكة أم تواطؤ؟
كمال خلف: حول هذا العنوان، مشاهدينا، سنعرض تقريرًا نلقي فيه الضوء على التعاون والشراكة والدعم الذي يجري بين الولايات المتحدة بشكلٍ خاص وبين إسرائيل في كل ما تفعله. نتابع.
تقرير:
منذ نشأة إسرائيل عام 1948 ارتبط وجودها عضويًّا بالمظلّة الأمريكية ليس كحليفٍ فحسب بل كأداةٍ مُتقدّمة في مشروع الهيمنة الغربية على المشرق.
وفي الأدبيات الواقعية للعلاقات الدولية كثيرون يعتبرونها حاملة طائرات أمريكية على اليابسة تتكفّل بفرض توازن ردع يخدم واشنطن قبل أن يخدمها.
اليوم يتجدّد المشهد بصورةٍ أكثر فجاعة: الأمريكية لا تكتفي بالدعم العسكري والغطاء الدبلوماسي، بل تتبنى عمليًّا عقيدة نتنياهو في الاغتيالات والتوسّع وتعيد صياغة مفهوم الأمن الإقليمي على أساس ركيزة إسرائيلية. إنها إعادة إنتاج لنظرية الشرق الأوسط الجديد، لكن بأدواتٍ أكثر عُنفًا وبلا أقنعة.
في المقابل، تتحرّك القوى الدولية الأخرى ببراغماتية صارِخة: روسيا المشغولة بجبهتها الأوكرانية ترى في الصراع مدخلًا لتثبيت حضورها في المتوسّط، والصين تنظر إليه عبر عدسة ممرّات الطاقة ومبادرة الحزام والطريق، فيما أوروبا ممزّقة بين إرثها الاستعماري وضغوطها الاقتصادية.
المُفارقة أن القضية الفلسطينية التي جرى تهميشها لعقودٍ عادت لتصبح معيارًا كاشفًا: مَن يقف مع حقّ الشعوب، ومَن ينحاز لشرعية القوّة.
وهنا يظهر التحوّل في الرأي العام العالمي، حيث الجامعات والنقابات ومنظّمات المجتمع المدني باتت تضع إسرائيل في خانة نظام أبرتهايد لا يختلف عن جنوب إفريقيا قبل عقود.
إنها لحظة توازُنات كبرى بين استراتيجية أمريكية تعتبر إسرائيل ذراعها الشرقية، وبين أصوات صاعدة تدعو إلى تعدّدية قُطبية تعيد الاعتبار للقانون الدولي وحقّ تقرير المصير.
والسؤال الجوهري: هل يستطيع الإقليم أن يلتقط هذه اللحظة ليبني مظلّته الأمنية الذاتية، أم سيبقى مجرّد هامش في لعبة الأمم؟
كمال خلف: دكتور بلال، الدعم الأمريكي المُطلق لإسرائيل لا يُخفى على أحد، لكن هل هو دعم في منطقتنا هنا في المنطقة العربية أو في الإقليم بلا أثمان؟ سواء كانت هذه الأثمان على المصالح الأمريكية، على صورة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم، على مركزية الولايات المتحدة في نظام دولي يتمّ احتقاره وتجاوزه، على موقع الولايات المتحدة في نظام يسعى لأن تكون هناك أقطاب أخرى في هذا العالم.
هل ما تقوم به أمريكا الآن يمرّ من دون أية أثمان، لأن العدوان إسرائيلي، إسرائيل الطفل المُدلّل، ولأن المنطقة التي تُستباح هي المنطقة العربية؟
بلال الشوبكي: لا، هناك أثمان، لكن هذه أثمان - إذا كان يمكن تسميتها - هي أثمان بطيئة الظهور. نحن لا نتحدّث عن دولةٍ عادية، نحن نتحدّث عن دولة هيمنت على النظام الدولي على مدار سنوات طويلة، وبالتالي لا يتوقّع أن تشهد انتكاسة آنيّة مباشرة نراها بأمّ العين بين طَرْفة عين وانتباهتها.
نحن نتحدّث عن دولةٍ بدأت تتأثّر داخليًّا بنشوء وعي جديد لدى شريحة من المجتمع الأمريكي، وأقصد بذلك شريحة الشباب في الولايات المتحدة الأمريكية. هناك انكسار لكثير من المُقدّسات كانت في أمريكا، لأنه لم يكن متاحًا أن يُشار إلى إسرائيل لا هَمْزًا ولا لَمْزًا، والنقد لإسرائيل كان مُحرّمًا في كثير من الأوساط. ولغاية اللحظة تحاول الإدارة الأمريكية أن تمنع ذلك في الجامعات، وربما لا توافق على التحوّلات في الجامعات الأمريكية.
إذًا، على المستوى الداخلي هناك تحوّلات، وهذه خسارة بالنسبة لإسرائيل، وخسارة لقوى اليمين في الولايات المتحدة الأمريكية. لكن هل هي خسارة حقيقية لأمريكا كأمريكا؟ أظنّ أن هذا جزء من التحوّل الذي سيُعيد بناء أمريكا بطريقةٍ مختلفةٍ، يحتاج إلى بناء على هذا التغيير وسنوات من العمل من أجل أن يصبح هذا التغيير نراه منظورًا.
الأمر الآخر على المستوى الدولي: إذا سمحت لي، جو بايدن قال جملة شهيرة قبل أن يغادر منصبه: "نحن نخشى على الولايات المتحدة الأمريكية أن تفقد مركزها الأخلاقي في العالم نتاجًا لدعم إسرائيل في هذه الحرب". جو بايدن لم يكن يتحدّث من فراغٍ، كان يرى التحوّلات التي تحصل على مستوى العالم. كُرْه أمريكا في المنطقة العربية كره قائم منذ سنوات، لكن أن تصبح أمريكا منبوذة أيضًا على المستوى الدولي، على مستوى شعوب الغرب هذه مسألة مستجدّة. وبالتالي، هناك تحوّلات وهناك خسائر. وبرأيي، أن مجرّد البحث الآن لدى بعض الدول في إمكانية بناء شبكة علاقات دولية خارج الشبكة الأمريكية، هذا جزء من الخسارة الأمريكية.
كمال خلف: دكتور، رغم الخسائر، قد تعتبرها الولايات المتحدة أو نتنياهو أضرارًا جانبية لهدف أكبر أو هدف أهم. أن تصل إسرائيل هذا المسار الذي نحن نعيشه منذ سنتين =سيوصِل في النهاية إلى إسرائيل زعيمة الإقليم وليس زعيمة الإقليم، وبالتالي وهي حليفة للولايات المتحدة، وبالتالي الولايات المتحدة تستطيع من خلال إسرائيل أن تنفّذ ما تريد، ولم تعد هناك توازنات: مصالحها بين العرب، ومصالحها بين إسرائيل، كانت قائمة في العقود الماضية، والتي كانت أمريكا تحلّها عبر أنها تلعب دور الوسيط، كما جرى بعد مدريد 90.
لكن الآن، إذا وصلت إسرائيل إلى الزعامة المُطلقة، لم تعد الولايات المتحدة بحاجةٍ إلى رعاية مصالحها أو توازنات في الإقليم. وبالتالي، كل ما نتحدّث عنه عن التآكُل الأخلاقي والأضرار التي نتحدّث عنها نتيجة السياسة الأمريكية يصبح هامشيًّا أمام الوصول للهدف الأساسي؟
بلال الشوبكي: هذا ما تفكّر به أمريكا. من المنطقي ألا تُقْدِم أمريكا على ما أقدمت عليه إلا وهي على دراية بأن هذه الأضرار هي أضرار قابلة للترميم، وأن هناك مصالح أهمّ من أية خسائر الآن تحدث في الطريق.
لكن هل تقدير الولايات المتحدة الأمريكية دقيق؟ هناك مَن يفكّر سواء في أمريكا أو في إسرائيل بأن هذه التقديرات تقديرات غير دقيقة. بمعنى أن فكرة تزعّم المنطقة ليست مرتبطة فقط بمُقدّرات عسكرية أو اقتصادية، وضعف الدول الأخرى من الناحية المؤسّساتية والرسمية. أن تتزعّم منطقة يعني أن تتزعّم من الناحية الأخلاقية، ومن الناحية الاقتصادية، ومن الناحية الاجتماعية والثقافية والدينية. بمعنى أن عوامل قوّة الدولة في إقليمٍ ما ليست مُرتبطة فقط بالعسكر، وهي مرتبطة بالديمغرافيا، بالتاريخ، بالثقافة، بالمصير المشترك، بالتاريخ المشترك.
لذلك، حتى وإن شعرت إسرائيل بفارق الهوّة في هذه المرحلة، إلا أنها تدرك برأيي، ليس إسرائيل الرسمية، لكن على الأقل إسرائيل النخبوية على مستوى مراكز الأبحاث، وأولئك الذين يفكّرون بطريقةٍ استراتيجية =يعلمون أن المسألة مُتعثّرة، وأن فكرة الهيمنة على المنطقة قد تكون آنيّة، لكن الذهاب إلى توتير المنطقة بشكلٍ لا مُتناهٍ قد يجرّ على إسرائيل أخطارًا أكبر بكثير من الأخطار الحالية.
ولذلك، هناك في إسرائيل مَن حذّر من أن سياسات الحكومة اليمينية قد تجلب التهديدات لإسرائيل أكثر مما تجلب الأمن.
وهناك بحسب تقدير المؤسّسات الأمنية في إسرائيل مثلاً، حين نقول إن الموساد الإسرائيلي لم يكن راضيًا عن القيام بعمليات خارج حدود فلسطين أو العملية الأخيرة في الدوحة، هذا ليس مجرّد خلاف داخلي ما بين المؤسّسة العسكرية والسياسية، هذا عبارة عن محاولة الآن من قِبَل الموساد الإسرائيلي للقول: إن سياسات الحكومة اليمينية في المنطقة لن تؤدّي بالضرورة إلى أمن إسرائيل.
بذلك المنوال، الشاباك الإسرائيلي كان حَذِرًا أكثر من مرة في تقارير رسمية، ليست عبارة عن استنتاجات، هي في تقارير رسمية وقُدِّمت للحكومة الإسرائيلية، بأن سياسات الحكومة الإسرائيلية الحالية في الضفة الغربية قد تؤدّي لمزيدٍ من التهديدات.
لذلك، التقديرات التي تُقدَّم من قِبَل الإدارة الأمريكية ومن قِبَل الحكومة الإسرائيلية ليست بالضرورة تقديرات متّفق عليها في البلدين من قِبَل مستويات أخرى.
كمال خلف: دكتور، لنلقي نظرة على المواقف الأمريكية والإسرائيلية من ساحات نفّذت فيها إسرائيل عدوانًا.
مثلاً، لدينا الاعتداء على الدوحة، على قطر. ظهر نوع من التبايُن: الأمريكان قالوا إننا لا نعلم، وعلِمنا متأخّرين، وحصل هذا الجدل، ولن تعيد إسرائيل مرة أخرى، ظهر وكأن نتنياهو تصرّف بمفرده.
اتفاق منفرد مع اليمن، وقعت الإدارة الأمريكية رغم أن المواجهة بين اليمن وإسرائيل مستمرة، طبعًا تغطية كاملة للإبادة في غزّة، وبنفس الوقت لعب دور الوسيط.
في إيران أيضًا، كان في مشاركة وتواطؤ من البداية، وتواطؤ وخِداع، لأنه كانت هناك جولة مفاوضات سوف تجرى بعد ذلك. تحوّل ترامب إلى وسيط قبل يومين من العدوان على إيران.
هنا نطرح سؤالًا، دكتور: هل الولايات المتحدة شريكًا عضويًّا لنتنياهو في ما يفعل، والمشروع واحد؟ أم هناك نوع من العجز الأمريكي عن اللحاق بنتنياهو؟ سمعت أنا من يومين يقولون: عندما ينجح نتنياهو، ترامب ينسب النجاح له، وعندما يفشل، يتحوّل ترامب إلى وسيط.
هل نعتبر هذه استراتيجية، دكتور، في شيء مُحيّر في ما يجري؟ هل لديك تفسير؟
بلال الشوبكي: هم شركاء من دون أدنى شك، والمشروع هو مشروع واحد. حين نقول شركاء، لا يعني أن هناك عملية إسناد فقط، وإنما عملية توزيع للأدوار. وأنا لا أتّفق مع الفكرة القائلة إنه حين تفشل إسرائيل يتحرّر دونالد ترامب من هذا العبء ويقول: "لست أدري". لا، المسألة بطبيعتها: كل عملية تقوم بها إسرائيل توجِب على الإدارة الأمريكية أن يكون موقفها مختلفًا.
حين كانت إسرائيل قريبة من الإخفاق في موضوع طهران، مَن ذا الذي تدخّل وألقى القنابل في اللحظة الأخيرة؟ الولايات المتحدة الأمريكية. بمعنى أنه حين تجد الولايات المتحدة الأمريكية أن إسرائيل قد استعصى عليها التعامل مع ملف ما، تتدخّل. حين تحرّكت القطع البحرية في بداية الأمر، القطع البحرية الأمريكية إلى منطقة شرق المتوسّط والبحر الأحمر، تحرّكت لحماية إسرائيل، لأنه كانت هناك تخوّفات من أن هناك جهات أخرى على مستوى الإقليم قد تتدخّل.
لكن حين يُقْدم دونالد ترامب في بعض الأحيان على إنكار عِلمه بمسألة ما، لأنه هناك قضايا دبلوماسية لا يمكن للإدارة الأمريكية أن تتبنّى كل شيء وتتحمّل كل شيء على المستوى الدبلوماسي. لكن على المستوى =العمليّاتي، على مستوى الدعم، هو موجود وقائم. لكن دبلوماسيًّا، من المفهوم أن الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكن لها أن تتبنّى عملية استهدفت الدوحة، ولا يمكن لها أن تتبنّى عمليات حتى تستهدف جهات أخرى — ليس بالضرورة خليجية. بمعنى أن هناك وِزْرًا دبلوماسيًّا لا تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية تحمّله، لذلك تنكر عِلمها.
كمال خلف: دكتور، ماذا عن القوى الدولية الأخرى؟ وكأن العالم أو منطقتنا مُلزّمة للأمريكيين والإسرائيليين. لديك قوى دولية لها مصالح هنا: الصين لديها مصالح اقتصادية كبيرة، روسيا، الأوروبيون أيضًا لديهم مصالح.
يتفرّجون هنا أيضًا. هذا يطرح سؤالًا: عندما يُنْتَهك القانون الدولي، تهدّد الجنائية الدولية، تُهمّش محكمة العدل الدولية، =مؤسّسات الأمم المتحدة تُقْصَف في غزّة، موظّفو الأمم المتحدة يستشهدون، ويتمّ انتهاك سيادة الدول بهذا الشكل في دول أخرى في هذا العالم، وتحاول هذه الدول أن يكون لها موقع في النظام الدولي، وكَسْر الأحادية الأمريكية بشكلٍ جدّي، نلاحظ ما جرى في بكين، العرض العسكري، تجمّعات مثل شنغهاي، تجمّعات مثل البريكس وغيرها.
ما الذي يجعل هذه القوى تقف عاجزة أو مراقبة؟ هل هذا عجز أم نوع من تصيّد الأخطاء؟ يريدون أن تنخرط أمريكا أكثر في وَحْل المنطقة العربية أو الإقليم للاستفادة من أخطائها، كما استفادوا منها في العراق وأفغانستان؟
بلال الشوبكي: أعتقد أن جزءاً منه يحمل مؤشّرات عجز، وجزءًا منه يحمل مؤشّرات خوف من فتح ملفات أخرى. أنت أشرت إلى نقطةٍ مهمّةٍ جدًّا: إنه ارتكبوا ما ارتكبوا هنا من انتهاكات لحقوق الإنسان، لكن لا يمكن لدولةٍ مثل الصين ولا روسيا أن تخرج وتتبنّى خطابًا حقوقيًّا، تتبنّى خطابًا ينتقد الولايات المتحدة الأمريكية على أساس حقوقي، لأن الولايات المتحدة الأمريكية لن تعجز عن فتح ملفات الصين مثلاً في منطقة جنوب شرق آسيا، ولن تعجز عن فتح ملفات انتهاكات الصين أو الحكومة الصينية لحقوق الإنسان ببعض الأقلّيات في نطاق تركستان الشرقية أو المقاطعة الجديدة كما يسمّونها في الصين. بالإضافة إلى ذلك، روسيا لن تستطيع الانطلاق من خطابٍ حقوقي.
إذًا، ما الخطاب الذي يمكن الانطلاق منه؟ هو خطاب القوّة. وخطاب القوّة بالنسبة لروسيا: روسيا الآن لم تحسم الملف في أوكرانيا، فلن تفتح ملفات على مستوى إقليمي أيضًا. اختبر الموقف الروسي: إنْ كان هناك تصعيد للمواجهة ما بين إيران وإسرائيل، وكان الموقف الروسي موقفًا سلبيًّا جدًّا في هذا الملف، إلى درجة أنهم قالوا فيها مثلاً: "إن الاتفاقية الدفاعية لا تشمل الانخراط في المواجهة". الإيرانيون لم يطلبوا منا شيء، لكن هذه كلها مقولات تبريريّة تسويقية.
وإن كانت روسيا لها وزنها وثقلها حقيقي على المستوى الدولي، لكن في منطقة الشرق الأوسط تبيّن أن هذا الموقف محدود جدًّا، وأن الولايات المتحدة الأمريكية ما زالت مُهيمنة على المستوى العسكري.
من الناحية الصينية: الصين لديها قوّة عسكرية، لكن كما رأيت فيها استعراضات بمعنى إيصال الرسائل من خلال عمليات الاستعراض، كما حصل في آخر مرة. روسيا والصين وغيرها مهمّ، لكن المهمّ الآن في السياسة الآنيّة: هل لوّحت الصين أو روسيا بأيّ شيء يمسّ المصالح الأمريكية في المنطقة حتى تتراجع خطوة إلى الخلف؟
كمال خلف: لم يحصل هذا؟
بلال الشوبكي: الاستثمارات الصينية مع إسرائيل ضخمة جدًّا بالمناسبة.
كمال خلف: دكتور، سأقف مع فاصل، بعده نفتح الدائرة الثالثة والأخيرة في حلقتنا لهذا الأسبوع. فاصل ونعود.
كمال خلف: تحيّة من جديد، مشاهدينا، في دوائر القرار. نتحدّث عن الاختبار الذي يمرّ به الإقليم بين زعامة إسرائيلية قَسْرية ومظلّة إقليمية مفقودة.
أعود وأرحّب بضيفي الدكتور بلال الشوبكي، رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة الخليل، يطلّ معنا مباشرة من مدينة الخليل.
وإلى الدائرة الثالثة، عنوانها: نحو أمن إقليمي مستقلّ؟
نتابع هذا التقرير، مشاهدينا، من واقع هذا العنوان.
تقرير:
غياب ردع إقليمي حقيقي. لكن اليوم، ومع تمدّدها من غزّة إلى جنوب لبنان، إلى سوريا، وإطلاق يدها للعدوان على طهران واليمن وتونس، وحتى إلى قلب العواصم الخليجية، يبرز سؤال جوهري: كيف ستواجه دول المنطقة عَرْبدة إسرائيلية تكاد تتحوّل إلى مشروع زعامة قَسْرية للإقليم؟
وقد أصبح لِزامًا علينا في هذا الظرف التاريخي الدقيق إنشاء هيئة عربية إسلامية للتنسيق والتعاون. هل يمكن أن ترى المنطقة ثقة ولادة مظلّة أمنية مستقلّة بعيدة من إملاءات واشنطن، تستند إلى توافقات جديدة بين قوى مركزية كتركيا وإيران ومصر؟ أم ستظلّ التناقضات التاريخية تمنع تشكّل إرادة مشتركة تكبح نتنياهو؟
تَدَّعي إسرائيل أنها ديمقراطية مُحاطة بالأعداء، وهي في الحقيقة تبني نظام احتلال وفصل عنصري معادٍ لمحيطه.
إلى جانب المعادلة العسكرية، هناك أبعاد أخرى لا تقل خطرًا: الغاز والطاقة تحوّلت إلى ورقة ضغط في خرائط الأمن، والفضاء السيبراني صار جبهة حرب موازية تشلّ البنى التحتية بلَمْسةٍ إلكترونية.
ثمة أيضًا سؤال الهوية والسيادة: هل تُعيد القضية الفلسطينية تعريف مفهوم الأمن العربي بعدما كادت تُدْفَن تحت رُكام التطبيع؟
وأيّ توازن سيتشكّل بين المقاومات المسلّحة التي راكمت رصيد الردع، وبين الدول الرسمية التي تبحث عن معادلات استقرار هشّة؟
وأمام كل ذلك، يطفو سؤال أخير: هل نحن على أبواب تحالفات جديدة، عسكرية أو سياسية أو اقتصادية، تنسجها المنطقة قُبَلَ قوى خليجية وآسيوية؟ أم ستبقى إسرائيل اللاعب الوحيدة الذي يفرض قواعد اللعبة؟
كمال خلف: أستاذ بلال، سنطرح عليك الأسئلة التي طرحت في التقرير، وسأبدأ من إمكانية صوغ مظلّة أمنية إقليمية بعيدة عن الهيمنة الأمريكية. كان في نوع من الأمل أو التمنّي أن يحصل ذلك في القمّة الإسلامية التي جرت قبل أيام في الدوحة، أن يكون هناك توجّه نحو هذا المسار. لكن هل تعتقد أن هناك إمكانية لفعل ذلك؟
بلال الشوبكي: لا يوجد شيء مستحيل، لكن الفكرة ليست في قرار فقط. لو كانت المسألة قرارًا أن تكون هناك شبكة أمان أو مظلّة أو نظام أمني إقليمي خاص بعيدًا عن الولايات المتحدة الأمريكية، هذا الأمر يسير. لكن المُعضلة الحقيقية أن مَن يريد أن يتّخذ هذا القرار سيعلم أنه سيدخل في مواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية. بمعنى أنه لا يمكن القول فقط: نطالب بمنظومةٍ أمنيةٍ دفاعيةٍ في المنطقة، وإنما نطالب بمنظومةٍ أمنيةٍ دفاعيةٍ في المنطقة مع مجموعة من البدائل لكيفية التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد اتخاذ مثل هذا القرار.
هل الآن لدينا بيئة سياسية ناضِجة لاتّخاذ هذا القرار المُتحدّي للولايات المتحدة الأمريكية؟ برأيي، لا. بمعنى أن الأمر ليس مستحيلًا، لكن يحتاج إلى تحوّلاتٍ مهمّةٍ جدًّا في بعض البلدان. بعض البلدان أشارت إلى ذلك، وأشارت إلى تخوّفاتها، وبعض التصريحات جاءت على لسان مسؤولين سابقين. وكما تعلم، في بعض البلدان حين يُدْفَع ببعض المسؤولين السابقين للتصريح، لا يعني أنهم يتحدّثون بصفتهم الشخصية، لكن لأنهم لا يريدون تحميل المؤسّسة الرسمية مسؤولية مثل هذه التصريحات. وهذا أمر معمول به حتى في أكثر من دولةٍ من دولٍ تقيم علاقات مع الولايات المتحدة.
كمال خلف: هل لديك أمثلة، دكتور؟
بلال الشوبكي: هناك تصريحات مثلاً لوزير داخلية أردني سابق. هناك تصريحات، حتى الخطاب الأردني هو خطاب يشير بشكلٍ واضح إلى التهديدات الإسرائيلية التوسّعية في المنطقة. الخطاب الأردني يطالب بأن يكون هناك على الأقل تحرّك على المستوى العربي، ولا أن تُلقى دولة.
لأن قضية السياسة الأمريكية في المنطقة منذ عامين هي التي أجبرت إسرائيل على ألا تفتح كل الجبهات دفعة واحدة. السياسة الأمريكية في المنطقة قائمة على التفرّغ من دولةٍ إلى دولة، والانتقال من مكانٍ إلى آخر. كانت هذه نصيحة إدارة بايدن، والتي أكملتها الإدارة الأمريكية الحالية.
كمال خلف: دكتور، لدينا دول إقليمية مركزية وازِنة، بعضها لديه مصالح مع الولايات المتحدة، وأيضًا قوّة عسكرية لا يُستهان بها: تركيا، إيران، ومصر. ما الذي يمنع هذه الدول وثلاث دول مُتضرّرة من إسرائيل بشكلٍ كبير، أنا أذكر عندما كنا في حرب لبنان هنا العام الماضي، كان في تصريح لدولت بهجلي مهم جدًّا قال فيه، وعندما حاول الإسرائيليون التقدّم في الجنوب: "بأننا إن لم نوقِف إسرائيل في جنوب لبنان، فإنهم سيصلون إلى الأناضول". وهذا دليل على أن الدولة العميقة، النُخَب في تركيا، تدرك ما يقوم به الإسرائيليون في هذه اللحظة في المنطقة.
إذًا، ما الموانع، دكتور بلال؟ نحن لا نتحدّث عن دولٍ إقليميةٍ تشنّ حربًا أو تواجه أمريكا، نحن نتحدّث عن دولٍ إقليميةٍ تُفَرْمِل ما تقوم به إسرائيل أو تردعها على أقلّ تقدير؟
بلال الشوبكي: لأن انتشرت خلال العقود الماضية فكرة مفادها أن هذه القوى الثلاث التي أشرت إليها لديها مشاريع مُتباينة، إن لم تكن مُتناقضة في المنطقة. بمعنى - حتى نكون موضوعيين - نحن لا نتحدّث عن قوى بينها تجانُس بشكلٍ كامل، وإن كانت هناك علاقات جيّدة وعلاقات تتفاوت ما بين عام وآخر. لكن في نهاية المطاف، نحن نتحدّث عن قوى نُظِرَ إليها في أكثر من مرة على أنها كل قوّة منها لديها مشروعها الخاص، باستثناء جمهورية مصر في عهد السيسي، لكن في عهودٍ سابقةٍ مصر أيضًا لديها مشروعها. المملكة العربية السعودية أيضًا قوّة لا يُستهان بها، ويُنْظر لها على أنها صاحبة مشروع.
بمعنى أننا لا نتحدّث عن جهاتٍ يمكن أن نجمعها مباشرة لأن =تؤدّي دورًا مشتركًا. يجب أن يكون هناك أولًا كَسْر للحواجز.
كمال خلف: لكن هناك مصلحة مشتركة، قبل أن تكون هناك مشاريع مشتركة. لا توجد مشاريع مشتركة، هناك مصلحة فورية، مصلحة مُلحّة، إذا جاز التعبير؟
بلال الشوبكي: هذه نقطة مهمّة جدًّا، لكن لا تُبنى علاقات استراتيجية فقط على خطاب المصلحة. إذا كان هناك توجّس في العلاقة، لا بدّ من أن يكون هناك أولًا كَسْر لهذه الحواجز التي صُنِعت، وبالمناسبة الولايات المتحدة الأمريكية ساهمت في صنع حواجز ما بين قوى عدّة على مستوى إقليمي.
لذلك، الخطوات الأولى في خطاب ليس فقط النفعي، وإنما في خطاب أنه لا توجد مصالح مُتناقضة حقيقةً، لا توجد مشاريع مُتناقضة، وإنما توجد لكل دولة مصالحها التي يمكن أن تُبنى مع مصالح الآخرين، ويمكن أن تكون العلاقة علاقة تعاونية أو تكاملية أو أين كان ذلك.
لذلك، هي بحاجةٍ إلى إعادة رَسْم الصورة، إعادة طرح الرؤى لهذه المنطقة من قِبَل هذه الدول بما يحقّق نوعًا من الاستقرار. طبعًا، حتى أكون دقيقًا، أن جزءًا من الأنظمة لا يمكن أن نتوقّع منه ذلك.
كمال خلف: صحيح.
بلال الشوبكي: مثلاً، حين نتحدّث مثلاً عن النظام المصري الحالي، المسألة أكثر تعقيدًا من مجرّد أن تكون هناك مصالح مشتركة. هناك حسابات داخلية مرتبطة بكيفيّة وصول النظام الحالي إلى الحُكم، هناك مسائل مُرتبطة بالعلاقة مع قوى خارجية. بمعنى أنه هذا ليس مسار تحليل الوضع الداخلي في بعض البلدان، لكن المسألة أكثر تعقيدًا من مجرّد الإحساس بالتهديد، لأن هناك أنظمة تشعر بالتهديد ربما من قضايا أخرى، ربما أكثر إلحاحًا بالنسبة لها.
كمال خلف: لكل دولة ظروفها. موضوع المقاومات، دكتور: المقاومات المسلّحة التي هي امتداد للمقاومات منذ الاستعمار القديم على منطقتنا، والتي كانت تُعْتَبر القوّة من غير الأنظمة الرسمية التي استطاعت أن تحقّق شيئًا من الاستقلال لبعض الدول رغم الأثمان التي دفعت.
الآن، المقاومات المسلّحة، دكتور: هل تعتقد أنه سيُعاد الاعتبار لها بعد مرحلة جرى فيها تشويهها، شَيْطنتها، إدانتها، تحميلها كل ما تقوم به إسرائيل بدل إدانة إسرائيل؟
هذه المقاومات ومستقبلها، دكتور، في مرحلتين أو أكثر من مرحلة: مرحلة تطوير القُدرات والبناء والدرع مع إسرائيل، مرحلة الشَيْطنة والبطش بإسرائيل، والنقاش حول جدواها وعدم جدواها. الآن، هل نحن أمام مرحلة جديدة؟ طالما الأنظمة الرسمية العربية غير قادرة، كيف سيكون دور هذه المقاومات التي نعرفها اليوم أو ما سينشأ ربما لاحقًا؟
بلال الشوبكي: الآن تتأثّر صورة هذه الأنواع من المقاومة في معركة لاحقة، ويصبح هناك إيمان بها أكثر؟ أنا أشكّ بذلك لعدّة اعتبارات. لأن العلاقة مع المقاومة العسكرية ليست علاقة مبنية على تقييمٍ آنيّ مرتبط بالتطوّرات السياسية، هي أقرب للعلاقة الأيديولوجية. بمعنى أنه مَن لديه تبنٍ من الناحية الأيديولوجية العقائدية لإمكانية اللجوء إلى مثل هذا الخيار، هو مع هذا الخيار بغضّ النظر عن الثمن الذي يدفعه. ومَن ليس لديه هذا التبنّي من الناحية العقائدية والأيديولوجية، هو يقيم بناءً على مسألة نفعية: مسألة ربح وخسارة. فحين تكون الخسائر كبيرة، ينفّض الناس من حول هذا الخيار، يصبح التقييم تقييمًا نفعيًّا: "ما الذي حلّ بنا؟" وهذا خطاب موجود الآن في هذه المرحلة.
لذلك، يجب ألا نندفع كثيرًا في القول: "أنه والله، فتور الدور الرسمي قد يؤدّي إلى تبنّي مثل هذا الخيار على مستويات أوسع". لا، المسألة - كما أشرت - هي متعلّقة بالعلاقة ما بين العقيدة والأيديولوجية التي يتبنّاها الفرد أو الجماعة حول مثل هذا الخيار.
وإن كانت هناك جماعات أخرى برامجية - كما نسمّيها في عِلم السياسة - وليست أيديولوجية أو عقائدية، هذه تقيم بناءً على الأمر الواقع. والأمر الواقع حقيقةً أن الأثمان كبيرة التي دُفِعت، وتحديدًا في فلسطين، بالإضافة إلى أثمانٍ أخرى على المستوى الدولي.
لذلك، يُفترض أن البحث في إمكانية مقاومة الأمر الواقع يجب ألا يُخْتَزل بشكلٍ معيّن، يجب أن تكون واسعة لتشمل نطاقات أخرى، توسّع من دائرة المشاركة فيها، بما فيها أمور تجارية وأمور اقتصادية وثقافية وما إلى ذلك من صوَر يمكن أن يجتمع عليها الناس، تمثل قاسمًا مشتركًا، وليس بالضرورة أن تكون شكلًا معينًا قد تكون أثمانه كبيرة، مرفوضة بالنسبة لشريحةٍ كبيرة منهم.
كمال خلف: دكتور بلال الشوبكي، رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة الخليل، شكرًا جزيلاً لك على هذه المشاركة في دوائر القرار، وأحيّيك، وربما تكون لنا لقاءات أخرى بإذن الله. شكرًا جزيلاً لك.
مشاهدينا، هذه الحلقة من دوائر القرار انتهت.