مع جورج مالبرونو.. فرنسا بين إرث الجمهورية الخامسة والماكرونية السياسية

من أسس الجمهورية الخامسة، إلى الماكرونية السياسية، فرنسا، مأزق مؤسسي، تشرذم حزبي، وسخط اجتماعي، في الداخل، أزمة متصاعدة، أين تعثّر النظام شبه الرئاسي؟ وفي الخارج، موازنة معقدة، بين حماية الحليف التقليدي، ورفع راية القانون الدولي، بين الشراكات الاستراتيجية، والمسؤوليات التاريخية،فرنسا، وسيط وسطي، أم لاعب ثانوي؟ من أسرار حرب النفوذ الاستراتيجية، إلى الأمراء الأصدقاء، فدروب دمشق، المشهد من منظار صحافي استقصائي.

نص الحلقة

 

مايا رزق: فرنسا صناعة التاريخ على امتداد 11 مليون كيلومتر مربع وأكثر.

العملاق الذي سيطر على أكثر من 50 دولة منذ عقود فقط ثاني أكبر إمبراطورية في العالم، اليوم مأزومة في الداخل.

على عتبة حكومة جديدة برئاسة أحد الناجين القلائل من ترنّح وسقوط عدد غير مسبوق من الحكومات في عهد ماكرون الثاني، سيباستيان لوكورنو، الحليف الوفيّ للرئيس الفرنسي، يوصَف اليوم بالضعيف والعاجز عن حلّ أزمة سياسية ومالية غير مسبوقة، قد تدفع البلاد باتجاه الشَلَل التام. لعلّه حِصاد الانحدار الفرنسي وانعكاس تَقَهْقُر فرنسا في مناطق كانت =يوماً ساحتها الطبيعية.

من الأمريكيتين إلى إفريقيا وأوروبا وآسيا وتحديداً غرب آسيا حيث تجهد فرنسا للبحث عن دور، لكن الشرق الأوسط لا ينتظر.

ففي غزّة حرب إبادة لا تحتمل تردّد باريس التي تقول شيئاً وتفعل نقيضه.

وفي سوريا مسرحاً لتغيّرات مُتسارِعة وأحداث دموية وصفقات قَذْرة وخرائط مُمزّقة، وكأن دروب دمشق مُقدّر لها أن تكون مُفخّخة بالاتفاقات السرّية والأحلام المكسورة.

أما في لبنان فأزمة لا تشبه كل ما سبق، من عُقَد لا تزال مُستعصية على الحل.

في الشكل فرنسا تَعرُض المساعدة، وفي الفعل تقف عاجزة حتى عن حَصْد الثقة. وفي الخليج المال يتدفّق، ولكنه لا يوقِف الإبادة في غزّة، ولا يمنع الصواريخ الإسرائيلية من ضرب قلب الدوحة في محاولة لاغتيال ثلّة من قادة حركة حماس وقتل ما تبقّى من سيادة لدى دول المنطقة.

فعلى أيّ أساس يبني أمراؤنا الأعزّاء جدّاً صداقاتهم؟ ولمَن يفتحون خزائنهم؟ ومقابل ماذا؟

أيُّ مصير للعالم العربي الذي يغلي على درجة تتحكّم فيها تل أبيب؟ ومَن بإمكانه وقف شلال الدماء الذي تصطبغ بلونه الخارطة العربية؟ وكيف؟

هل يكون محمد بن سلمان مثلاً الذي يَعِد بأن أوروبا الجديدة هي الشرق الأوسط وتحديداً الدول العربية، وفي مقدّمها المملكة العربية السعودية؟

أم أن الطموح أكبر من واقع ليس صنيعة الصُدف، بل هو نتيجة تراكُمات وأحداث استشعرتها وربما ساهمت بصناعتها أهمّ أجهزة استخبارات العالم.

وكي تعرف أكثر، اذهب أعمق مع جورج مالبرونو.

 

مايا رزق: يسرّني أن ينضمّ إلينا من باريس الكاتب والصحافي الفرنسي جورج مالبرونو. أهلاً ومرحباً بكم عبر شاشة الميادين. البداية ستكون حول فرنسا وما يجري من هناك. هل ترى بأن الجمهورية الخامسة هي أمام أزمة ربما تكون أسوأ على الإطلاق؟ وهل السبب هو الماكرونية السياسية كما يقول جان لوك ميلنشون؟

 

جورج مالبرونو: كما تحدّثتم في مقدّمتكم، تعاني فرنسا اليوم من أزمةٍ عميقةٍ جداً ومُتجذّرة، وهي أيضاً تمتلك أوجه مُتعدّدة. هذه أزمة سياسية لأنه للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة، أي منذ 60 عاماً تقريباً، أصبحت فرنسا غير قابلة للحُكم، لا تمتلك حكومة متماسكة. وفي خمسينيات القرن الماضي واجهت فرنسا أزمة مُماثلة عندما كان الوضع السياسي غير مُستقرّ وكانت الحكومات غير مُستقرّة، وباتت فرنسا غير قابلة للحُكم. اليوم، وبعد ما قام به إيمانويل ماكرون منذ عام ونصف العام من حلّ البرلمان وما إلى هنالك، واجهنا ثلاث حكومات مُتتالية، أزمات مُتفاقِمة، وأيضاً رؤساء حكومات غير قادرين على السيطرة على الأمور. وفي الأفق السياسي نرى أن هذا الأمر بات محتوماً لأنه ما من أغلبيّة في البرلمان الفرنسي. ما من أغلبيّة ما بين اليسار واليمين. كما تعلمون، الوضع في فرنسا معقّد حتى اللحظة، وما من استقرارٍ واضحٍ يلوح في الأفق يسمح للنظام الفرنسي أن يُشكّل حكومة. ربما تتأثّر بأغلبيّة وأقلّية. كما تعلمون، الأغلبيّة كانت في يد اليمين لفترةٍ معيّنة، ومن ثم في يد اليسار. ولكن في هذه اللحظة، الأزمة السياسية هي كالتالي: إن الأحزاب التقليدية والأحزاب اليمينية وأيضاً الأحزاب اليسارية حتى اللحظة خسرت مقاعد كبيرة أمام اليمين المُتطرّف. وأنتم تُحدّثون عن مارين لوبان في مقدّمتكم، وأيضاً اليسار المُتطرّف تقدَّم بشكلٍ كبيرٍ. وبالتالي تقدُّم هذين الجناحين المُتطرّفين قد أدّى إلى تغيّر في الساحة السياسية الفرنسية.

أضف إلى ذلك، لكي نتمكّن من فَهْم طبيعة الأزمة التي تعاني منها فرنسا، يجب علينا أن ننظر إلى المشاكل الاجتماعية والاقتصادية: ننظر إلى الأسعار، إلى القُدرة الشرائية، إلى ما تواجهه الأُسَر، إلى ما تواجهه النقابات من أزمات. وبالتالي هنالك أزمة أخرى مُتفاقِمة اليوم. أعتقد أننا سوف =نتحدّث عنها، ولكنها أزمة مُرتبطة بالإعلام. لأن الفرنسيين اليوم لا يثقون بالنُخَب الاجتماعية ولا السياسية أيضاً، ولا حتى بالنقابات، ولكن أيضاً النُخَب الإعلامية اليوم باتت تشكّل مصدر ثقة أو محلّ ثقة للشعب الفرنسي. وسائل الإعلام التقليدية لم تعد مثيرة للاهتمام بالنسبة للشعب الفرنسي. وبالتالي هذه الوسائل، هذه المحطّات، وهذه الشركات الإعلامية باتت تسيطر عليها نُخَب اقتصادية ومالية كبيرة. وبالتالي يشعر الشعب الفرنسي وكأنه ضائع اليوم وغير قادر على فَهْم مآل الأمور ومسار الأمور، وهو أيضاً غير قادر على التأثّر، أو ربما هو يتأثّر بالخطاب الشعبوي أكثر وأكثر، وهو يحاول البحث عن (.....) ميول الشعب الفرنسي ربما إلى أقصى اليمين عندما نتحدّث عن الشعبوية وإلى ما هنالك. ولكن قبل ذلك، عندما نتحدّث عن غياب الثقة في رأس الهرم السياسي، أي بإيمانويل ماكرون، عندما نتحدّث عن غياب الثقة في مَن يُدير الاقتصاد في البلاد، نحن نعلم بأن هناك أزمة خانِقة، خصوصاً بعد موضوع التقشّف، وتابعنا هذه التظاهرات التي عرفتها باريس. وعندما تحدّث عن غياب الثقة بالإعلام، هذا ربما ينذر بما هو أسوأ ويدفعنا إلى التساؤل: هل الجمهورية الخامسة لم تعد نافعة اليوم؟ عِلماً بأن هناك مَن يشدّد بأن ما يحدث اليوم في فرنسا يشبه كثيراً ما حصل عند أفول الجمهورية الرابعة، ونذكر وقتها بأن النظام كان برلمانياً؟

 

جورج مالبرونو: بكل تأكيد، كنت سأصل إلى هذه النقطة في ختام حديثي خلال الإجابة على السؤال الماضي. ما سوف نواجهه قريباً هو أزمة دستورية. وبالتالي إن الجمهورية الخامسة قد وصلت إلى نهاية عَقْدها، إذا ما صحّ القول. في ما سبق، قد ذكرتم الجمهورية الرابعة وما واجهته من أزماتٍ سابقة. بالتالي، هل سوف تنتهي السياسة الماكرونية أو ما يُعرَف بالماكرونيزم؟ ماكرون سوف يخرج من السلطة في نهاية ولايته الحالية. بالتالي سياسته ومنهجيّته سوف تخرجان أيضاً معه من السلطة. بالتالي، إيمانويل ماكرون كان بالنسبة لفرنسا خطوة ناقِصة، إذا ما صحّ القول، لاسيما في ما يتعلّق بالشرق الأوسط. إذا ما تمكّنا من الحديث عن الناس، سوف نتحدّث عن ذلك. لماذا؟ لأنه أتى إلى السلطة في عُمرٍ شاب جداً، لا يمتلك خبرة سياسية، يمتلك خبرة اقتصادية وتقنية، ولكنه ليس برجل السياسة الذي يمتلك تاريخاً كبيراً وطويلاً في هذا المجال.

إذا واجه أزمات متعدّدة مع الشعب الفرنسي، ظنّ أنه قادر على تخطّي هذا الشعب وتخطّي مُمثّلي الشعب الفرنسي المُنْتَخَبين، لاسيما النواب منهم وما إلى هنالك. وبالتالي هو لا يمتلك الحِنكة السياسية الكافية للقيام بهذه المهام، وهو غير قادر على التعامُل مع الجمهور ومع الفلول، كما تتذكّرون عندما أتى إلى لبنان في العام 2020، واجه أزمات مُتتالية، تراجعات مُتتالية. وبالتالي بالنسبة لفرنسا، إيمانويل ماكرون يعدّ خطوة ناقصة. وبالرغم من الجهود التي يحاول بذلها، لاسيما على المستوى الدبلوماسي، إنْ كان في الشرق الأوسط، ونحن كما قلتم سوف نتحدّث عن الشرق الأوسط وعن الاعتراف بحقّ الفلسطينيين بإنشاء دولة، ولكن على المستوى الإقليمي، في ما يتعلّق بأوكرانيا، وفي ما يتعلّق بالحفاظ على السيادة الأوكرانية، إيمانويل ماكرون يحاول أن يعمل بهذا الاتجاه. يحاول أيضاً العمل على تحقيق نوع من أنواع الاستقلالية الدفاعية والابتعاد عن الولايات المتحدة الأمريكية، لاسيما بُعيد قدوم الرئيس ترامب إلى السلطة، لأن الرئيس ترامب كان يتحدّث عن ضرورة بناء القُدرات الدفاعية في فرنسا والابتعاد عن الاتّكال على الولايات المتحدة الأمريكية. وبالتالي، إيمانويل ماكرون أتى إلى السلطة مع الكثير من الآمال، ولكن مع القليل جدّاً من النتائج الملموسة والأهداف المُحقّقة. بالتالي، إن نهاية هذه الماكرونية السياسية ربما سوف تُنذرنا بمستقبلٍ سياسي، لأن حزب إيمانويل ماكرون لن يختفي من الساحة السياسية.

 

مايا رزق: وكأنك تلقي باللائِمة دائماً على شخص إيمانويل ماكرون وعلى هذه السياسة التي اتّبعها، عِلماً وبأن هذه السياسة هي التي ربما دفعت بالفرنسيين إلى انتخابه مرة أخرى. نذكر جيّداً قبل جائحة كورونا، كانت الأرقام بالنسبة للاقتصاد جيّدة جداً بالنسبة لفرنسا، وهذا ما أتى به رئيساً لفرنسا، إذ إنه اعتبر وقتها بأنه سيكون المُخلّص الاقتصادي للبلاد.

=إضافة إلى الماكرونية السياسية، نحن نعلم بأن ليست هي فقط ربما أساس الأزمة اليوم في فرنسا، وربما هي ليست المسؤولة عن عُمق هذه الأزمة.

أستاذ جورج، كيف تفسّر - وأنت الذي شخّصت المسار الفرنسي بالمسار الانحداري - كيف تُشخّص أن فرنسا التي صنعت التاريخ في أكثر من بُقعةٍ جغرافية في هذا العالم الآن هي عاجزة عن ترتيب بيتها الداخلي؟ هل لأنها ضمن قارّة عجوز مُترهّلة بدأت تشبهها أكثر؟

 

جورج مالبرونو: نعم، هذا بشكلٍ ما صحيح. ولكن هنالك أزمة مُتجذّرة في فرنسا. نحن غير قادرين اليوم على الإصلاح، على إعادة الإصلاح، وعلى إعادة تشكيل صفوفنا. على عكس ما حصل في إسبانيا وفي إيطاليا مثلاً، نحن غير قادرين على التوصُل إلى إجماع وطني. وبالتالي هذه هي الأزمة الأولى في فرنسا، لأنه ما من تعريفٍ واحدٍ للمصلحة الوطنية الموحّدة، كما نرى في ألمانيا مثلاً، حيث تتمكّن الجهات المُتعدّدة مثل اليمين واليسار وأحزاب الوسط من التقارُب على أهدافٍ موحّدة ومصالح موحّدة. نحن نشبه لبنان بشكلٍ كبيرٍ اليوم. فرنسا مُشَرْذَمة، إذا ما صحّ القول.

هنالك مسألة أخرى تُبرّر هذا التراجع الذي واجهته فرنسا، ثم في ما يتعلّق بعدم قُدرتها على القيام بهذه الإصلاحات: فرنسا ترتكز اليوم على مبادئ لا تلائمها، ولم تعد تلائمها منذ 40 عاماً. وفي العام 1980، فرنسا كانت قد قامت بالإصلاحات المالية الأخيرة. وبالتالي نحن نتحدّث عن أزماتٍ ماليةٍ مُتفاقِمة، أزمة ديون أيضاً مُتفاقِمة. نحن نعدّ دولة على شفا الانهيار، قريبة جداً من الانهيار. وبالتالي نحن لاحظنا ذلك خلال حكومة بايرو، وكانت هنالك شكوك في ما يتعلّق بإمكانية تدخّل صندوق النقد الدولي في الساحة الفرنسية. بالتالي فرنسا اليوم غير قادرة على مواجهة هذا التحدّي، وغير قادرة على إعادة تشكيل أولويّاتها بما يتلاءم مع السياق الحالي، وبما يتلاءم مع الأهداف الموحّدة للبلاد.

=وبالتالي أيضاً هنالك تعدّد للأقطاب بشكلٍ كبير. هنالك أقطاب مُتعدّدة باتت اليوم تمتلك قاعدة شعبية، وهذه القواعد الشعبية تؤثّر على الساحة المالية والسياسية وأيضاً الدبلوماسية. وأعتقد أننا سوف نتحدّث أيضاً عن تفاصيل تأثير حرب غزّة منذ السابع من أكتوبر وحتى اللحظة.

وبالتالي، كما تعلمون، هذا ما يُثير القلق حتى اللحظة. وعلى الساحة الدولية، نحن نواجه ربما تأثيراً يمينياً في الساحة الفرنسية. وبالتالي هذا ما يجعل مارين لوبان أكثر قُرباً من السلطة يوماً بعد يوم. وإذا ما تمكّنت مارين لوبان من الترشّح للانتخابات الرئاسية في عام 2027، أعتقد أنها ستفوز في هذه الانتخابات.

 

مايا رزق: سأتحدّث عن هذا الموضوع بالتفصيل وسنذهب أعمق في الشأن الداخلي الفرنسي.

إذاً، نحن نتحدّث عن أزمة علاقة مُتضرّرة بين الشعب والسلطة تحدّث عنها ضيفنا في مطلع هذه الحلقة، هكذا توصف، وتداعياتها قد تبقى حاضرة إلى ما بعد انتخابات عام 2027. فما الذي حصل إذاً؟ نتعرّف أكثر في هذا العرض سوياً.

 

مايا رزق: حين صُمّمت الجمهورية الفرنسية الخامسة التي أسّسها شارل ديغول، كان الهدف إنهاء حال عدم الاستقرار المُزْمِنة التي سادت على مدى الجمهوريّتين الثالثة والرابعة. الدستور منح السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة، وأنشأ نظام أغلبيّة لتجنّب الحكومات قصيرة الأجل. ونتيجة لذلك، تناوب حزبان سياسيان رئيسيان من اليسار واليمين على السلطة لعقود.

إلى أن انتخب ماكرون عام 2017 من دون أيّ من الحزبين، ثم أُعيد انتخابه عام 2022 ليفقد أغلبيّته البرلمانية.

هكذا باتت الأزمة إذاً مزيجاً من التوتّر المؤسّسي والتشرذُم الحزبي والسَخْط الاجتماعي العميق. ففرنسا دولة ذات نظام شبه رئاسي، كما تحدّثنا، حيث يتقاسم الرئيس والبرلمان السلطة. ومع خسارة تحالف ماكرون أغلبيّته المُطلقة في الانتخابات المُبَكّرة التي دعا إليها بنفسه، أصبحت فرنسا بجمعيةٍ وطنيةٍ مُنْقَسِمة، غير قابلة للحُكم فعلياً في ظلّ صعوبة تمرير القوانين.

الشلل البرلماني دفع الحكومة إلى استخدام المادة 49 فقرة 3 لتمرير القوانين من دون تصويت، ما أثار استياءً مُتزايداً من نواب المعارضة وجزء كبير أيضاً من الشعب.

حزبياً، ينقسم المشهد في فرنسا إلى ثلاث كتل رئيسية: تحالف ماكرون الوسطي، وهو يُسمّى الآن بتحالف الجمهورية، وهو أقصى اليمين بزعامة مارين لوبان، وتحالف اليسار الذي يعاني أساساً من انقسامات داخلية. فيما الأحزاب التقليدية الأخرى شهدت تراجعاً هائلاً إلى حدّ الانهيار، ما زاد من هشاشة النظام.

وإلى الانقسامات السياسية - وما أكثرها في فرنسا - يُضاف خط اجتماعي واقتصادي. ابتداءً مما =سُمّي بإصلاح نظام التقاعد الذي أثار قبل عامين احتجاجات وإضرابات واسعة. يأتي ذلك وسط أزمة غلاء المعيشة. فرغم أن معدّل التضخّم مُنخفض نسبياً حيث يُقارِب 1%، فإن تكاليف الطاقة والإيجارات والسكن والخدمات الأساسية تشكّل ضغطاً كبيراً، ولاسيما للأُسَر ذات الدخل المُنخفض والمُتوسّط.

فيما عدم استقرار الحكومة والتناقضات السياسية في البرلمان والصعوبات بتمرير الميزانية كلها تزيد من عدم اليقين الاقتصادي.

أذهب إليك مجدّداً، أستاذ مالبرونو. وبينما نذهب أعمق على الساحة السياسية الداخلية في فرنسا، سيباستيان ليكورنو، توأم الرئيس ربما والناجي الوحيد من الانهيارات الحكومية. هل يكون مُنْقِذ ماكرون أم ربما المسمار الأخير في نعش هذا العهد؟

 

جورج مالبرونو: لم نتمكّن من القيام بكلا الاحتمالين. أعتقد أن سيباستيان ليكورنو، الذي يُعدّ قريباً جداً من إيمانويل ماكرون والذي خيّب آمال الكثيرين، أعتقد أنه سوف يكون له أثر مختلف تماماً مثل أسلافه. لن يتمكّن سيباستيان ليكورنو من الحصول على أغلبيّة. وبالتالي الموازنة التي سوف يتمّ التصويت عليها قريباً سوف تكون إحدى التحدّيات الأساسية بالنسبة ليكورنو. وبالتالي سوف يصعب على ليكورنو أن يتمكّن من إنشاء تحالفات. وحزب مارين لوبان في البرلمان سوف يتمكّن من إنشاء تحالفات مع أحزابٍ أخرى وأطرافٍ أخرى في سبيل إسقاط حكومة إيمانويل ماكرون. أعتقد أنه سوف يستمر في الحُكم لمدة ثلاثة أو أربعة أشهر، خمسة أشهر بشكل أقصى، وسوف يواجه في العام المقبل أزمة مُتجدّدة. وسوف نواجه في العام المقبل أزمة متجدّدة، وسوف نعود مرة أخرى لحلّ البرلمان. وبطبيعة الحال، سوف نشهد فوزاً ساحقاً لحزب مارين لوبان، وربما تقدّماً كبيراً لجوردان بارديلا، الذي يُعدّ رقم إثنين في هذا الحزب بعد مارين لوبان.

وفي مواجهة كل هذه الفوضى القادمة، يعتقد البعض أيضاً أنه من المهمّ جدّاً أو من الضروري جدّاً على إيمانويل ماكرون أن يستقيل لكي نتمكّن من الخروج من هذه الأزمة الدستورية، أن نعود إلى قاعدة أكثر استقراراً. إيمانويل ماكرون كان قد اعتبر أنه يستبعد الاستقالة. لست أعلم إذا ما كان سوف يتمكّن من الصمود أمام تغيير حكومي بعد أشهر قليلة، لأن الوضع سوف يكون كارثياً بالنسبة له وللكثيرين.

 

مايا رزق: الكلمة المُفتاح هي الصمود، كما ذكرت. وهذا هو خيار ماكرون الوحيد، إذ أنه ربما عاجز عن فعل أيّ تغيير، عِلماً وبأنه ذهب باتجاه ليكورنو، بدل ربما الذهاب باتجاه اليسار كما فعل أسلافه من رؤساء في فرنسا.

أتيت على ذِكر مارين لوبان، ومن هنا أريد أن أسألك: كيف يمكن أن نفسّر هذا الميل اليوم داخل المجتمع الفرنسي نحو أقصى اليمين؟

مارين لوبان عادت نجمة ساطِعة في السياسة الفرنسية، وكذلك الأمر بالنسبة للشاب الآن الذي يصعد نجمه في اليمين؟

 

جورج مالبرونو: كما كنت أتحدّث عنه منذ دقائق قليلة، فرنسا منذ سنوات، ومنذ عشر سنوات، تتّجه نحو اليمين المُتطرّف. ونتحدّث عن اتجاه مُتطرّف أيضاً. مارين لوبان باتت تمتلك شعبية كبيرة في الساحة الفرنسية. هنالك أسباب =مُتعدّدة: جرّب الشعب الفرنسي الأحزاب اليسارية ولم يكن ذلك ناجحاً، جلبوا أيضاً الأحزاب اليمينية ولم يكن ذلك ناجحاً أيضاً. فالآن يتّجه الشعب الفرنسي نحو الشعبويّة، نحو اليمين المُتطرّف، نحو ما يحصل في إيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية، وأيضاً في الولايات المتحدة الأمريكية والأرجنتين وغيرها أيضاً من الدول حول العالم.

إذاً، هذا هو السبب الأول. هنالك أيضاً مشكلة بالغة الأهمية في فرنسا في ما يتعلّق بالهجرة. ومارين لوبان وحزبها اليوم يركّزان على هذا الموضوع أيضاً. مارين لوبان تمتلك قُدرة على جَذْب الجمهور. لم تعد اليوم =تشكّل حالة مخيفة ربما أو حالة مُنَفّرة كما كان والدها في السابق، الذي كان قد اعتمد انتقادات لاذِعة في ما يتعلق بالعديد من الأمور المُثيرة للشُبهات والمُثيرة للقلق في أوروبا. بالتالي، مارين لوبان اعتمدت سرديّة مختلفة. بقيت على موقفها كيمينية، ولكنها اعتمدت سرديّة ولهجة جاذِبة، إذا ما صحّ القول. وخلال السنوات العشر الماضية، تمكّنت من التقرّب من إسرائيل، لتتمكّن من جَذْب الجمهور اليهودي في فرنسا. وبالتالي هي على دراية بأهمية أو ربما بتأثير هذه المجتمعات اليهودية.

وأعتقد أيضاً أن هنالك أزمة أخلاقية، أزمة قِيَم، أزمة اجتماعية، أزمة أمنية. هنالك ضربات إرهابية حصلت مراراً وتكراراً، وهنالك أيضاً صوَر نمطية في ما يتعلق بالإرهاب والإسلام.

إذاً، مارين لوبان تستغلّ كل هذه الأسباب في سبيل تحويلها إلى عوامل جَذْب، في سبيل تعزيز صورتها وسرديّتها في المجتمع، وذلك يُغري العديد من المواطنين الفرنسيين. أضف إلى ذلك أن وسائل الإعلام الفرنسية اليوم تؤثّر على هذه الساحة، ونجاح المحطّات الإعلامية التابعة لليمين المُتطرّف في فرنسا. كل ذلك يقوم بجَذْب الفرنسيين، لأن الفرنسيين اليوم يخافون من نتائج تداعيات الأمور، لأنهم يعلمون أن ما حصل منذ خمسين عاماً لا يمكن أن يحصل مجدّداً. كل ذلك أدّى إلى نجاح مارين لوبان واليمين المُتطرّف.

 

مايا رزق: ولا شكّ بأنها أيضاً اعتمدت على جوردان بارديلا، وكأنه ربما كان المُنعش لهذا الحزب في أقصى اليمين.

تفضّل بالبقاء معنا، أستاذ جورج مالبرونو. اذهب أعمق باقي، ولكن بعد الفاصل.

 

مايا رزق: من جديد، أهلاً ومرحباً بكم إلى هذه الحلقة من "اذهب أعمق" مع جورج مالبرونو. نعود إلى ما يحصل في فرنسا، ولكن الآن النظرة الخارجية.

=موازنة معقّدة تحاول أن تؤدّيها فرنسا في سياستها الخارجية، ولاسيما في اتجاه الدول العربية ومنطقة غرب آسيا. فكيف تتكشّف؟

شروط السلام الدائم: ضمانات لا غنى عنها لأمن إسرائيل ودولة للفلسطينيين. هكذا يُحدّد الرئيس إيمانويل ماكرون الخط الذي تتبنّاه فرنسا. وهي تعترف بإسرائيل، فيما تدفع بمبادرات لإحياء حلّ الدولتين، وسط نقاش مُتزايد بشأن الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين. تحاول تأدية مهام الوسيط، فيما يرى مراقبون محدوديّة دورها أمام القوى الإقليمية الأخرى.

وليس في السياسة وحدها ما يحكم العلاقة.

فرنسا هي مَن وضع حجر الأساس لبرنامج إسرائيل النووي، وهي بعد ألمانيا ثاني أكبر شريك اقتصادي لإسرائيل داخل الاتحاد الأوروبي، ناهيك بالتعاون العلمي والأمني والتكنولوجي.

سوريا ولبنان، والحنين إلى الانتداب. في دمشق التي عرفها جيّداً جنرالات الأزرق والأحمر والأبيض، تعدّ باريس اليوم لاعباً طامحاً أكثر منه مُقرّراً رئيسياً.

في عام 2011، كانت من أوائل الدول الأوروبية في قَطْع علاقاتها مع نظام الأسد، دعمت المعارضة، ركّزت سياستها على عنوان مُحاربة داعش، وخصوصاً بعد هجمات باريس. شاركت في التحالف بقيادة واشنطن، وكانت العاصمة الأوروبية الأولى التي استقبلت أحمد الشرع، وأعلنت العمل على رَفْع العقوبات عن سوريا تدريجياً.

إلى جانب لبنان دائماً، هذا ما يقوله المسؤولون الفرنسيون. فباريس تعتبر نفسها الراعي التاريخي للبلاد. كيف لا وقد حكمت بلاد الأرز أكثر من عقدين ونصف العقد؟ بالتالي فإنها تتعامل معه ليس كملفٍ خارجي فحسب، بل كمسؤوليةٍ تاريخيةٍ، كما توصف.

تتبنّى خطاباً داعياً إلى الحوار بين الأطراف، وتنسّق لتأمين مساعدات مشروطة بالإصلاحات. هي لاعب رئيسي في اليونيفيل. حتى في خطابها مع حزب الله، تعدّ الأكثر مرونة غربياً.

السلاح، الطاقة، والاستثمارات: ثلاثة أعمدة تقوم عليها العلاقات بين فرنسا ودول الخليج. صفقات سلاح تشمل مقاتلات رافال وأنظمة دفاعية وسفن حربية. استثمارات لشركات فرنسية كبرى مثل توتال إنرجيز، واستثمارات لصناديق سيادية خليجية في فرنسا.

هكذا تسعى باريس لتقديم نفسها شريكاً مستقلاً عن الولايات =المتحدة.

دائماً ما أرحّب بضيفنا من باريس، الكاتب والصحافي الفرنسي جورج مالبرونو.

بالحديث عن موضوع نظرة فرنسا إلى غرب آسيا، وقبل أن أسألك عن مُستجدّات المنطقة العربية تحديداً،

أسألك: لماذا هذا الميل إلى الاستعراب؟ ما الذي أتى بك إلى العالم العربي؟

 

جورج مالبرونو: لأنني أعتقد أنني، ربما عندما تعرّفت على العالم العربي، ربما أصبت بهذا المرض. عندما تعرّفت على القدس في شبابي، شعرت أن ما يحصل في المنطقة بالغ الأهمية، هو أمر تاريخي، لاسيما في الثمانينيات. وفي عام 88، زرت لبنان. وبالتالي كانت الحرب مستمرّة في لبنان. وبالتالي، مع تقدّم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، أردت أن أفهم أكثر ما يحصل في لبنان، ومن ثم في العراق، ومن ثم في إيران. ويمكنني القول إنني أصبت بمرض هذه المنطقة، وربما شعرت بالتعلّق بهذه المنطقة التي تمتلك مزايا جميلة جداً، ولكنها أيضاً ربما تخيّب الآمال في مرات متعدّدة. هذه منطقة، لفَهْمِها، نحن بحاجة لوقت طويل، لكي لا نقع في أخطاء الماضي أو في أخطاء الحلول الجزئية ونصف الحلول التي وقعت فيها فرنسا خلال السنوات الماضية.

 

مايا رزق: إذا ما أردت أن نبدأ بالحديث عما يحدث في غزّة تحديداً، وفي فلسطين بالجملة.

في مقال لكم في "لوفيغارو" تحت عنوان "رئيس الجمهورية يُهيّئ أسس دولة فلسطين"، تقول في هذا المقال: "يبقى لهذا العمل الدؤوب في وضع أسس دولة فلسطينية ثغرة، وهي الولايات المتحدة وإسرائيل التي لا تريد هذا الأمر".

هل هذا سيجعل هذه الديناميكية الفرنسية ربما بلا جدوى، رمزياً فقط؟

 

جورج مالبرونو: بكل تأكيد. لقد استمعتم إلى خطاب الولايات المتحدة الأمريكية، إنهم يعارضون إنشاء دولة فلسطينية. بالتالي، هذه المعارضة التي واجهها إيمانويل ماكرون، وأيضاً تداعيات ربما هذه السياسة على تراجع تأثير فرنسا في الشرق الأوسط، يمكننا أن نفهمها إذا عدنا إلى الأشهر الخمس الماضية، حيث حاولت الدبلوماسية الفرنسية العودة إلى الساحة، وحيث حقّقت الدبلوماسية الفرنسية بعض النجاحات. إيمانويل ماكرون وفرنسا تمكّن من جمع عدد من الدول مثل بريطانيا وأستراليا وغيرها من الدول في سبيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وبالتالي يمكن لهذه الجهود أن تكون رمزية، ولكن هذا هو الحلّ الوحيد الذي يمتلكه إيمانويل ماكرون على طاولته.

لأنه في الجانب الموازي، هنالك جهود مبذولة في ما يتعلّق بالأسس التي يجب على الدولة الفلسطينية أن تنشأ عليها: النظام الدراسي، القوانين، مَن سوف يتبّوأ السلطة، ما هي الخطوط الحمر بالنسبة لإسرائيل؟

إذاً هنا يمكنني أن أقول الحق: لأن السياسة التقليدية الفرنسية التي كانت في ما سبق متوازنة جداً، لم نعد نراها بعد السابع من أكتوبر، ولم نعد نشهدها بعد السابع من أكتوبر. بعد السابع من أكتوبر، في الحقيقة، واجهنا سياسة فرنسية غير متوازنة. لم تكن بطبيعة الحال ذات ثقل سياسي، لاسيما ولأنها كانت قريبة جدّاً من إسرائيل بسبب تداعيات الهجمة الإرهابية التي قامت بها حماس في السابع من أكتوبر. ولكنها أيضاً لم تكن متوازنة.

14 سفيراً فرنسياً في المغرب وفي الشرق الأوسط أرسلوا رسائل واضحة لإيمانويل ماكرون، قائلين بأن سياستكم الحالية في التعامل مع المنطقة - من بيروت إلى الرباط، ومن الرياض إلى دمشق - تؤدّي إلى نتائج كارثية على أرض الواقع. إيمانويل ماكرون لم يقم ببذل جهود حثيثة على هذا المستوى. لم يتحدّث عن ضرورة ربما حلّ الأزمة الإنسانية في قطاع غزّة، ولم يبذل جهوداً فعّالة على هذا المستوى. منذ أشهر قليلة، يحاول ماكرون إعادة الأمل إلى الدبلوماسية الفرنسية، لأننا نستمر بمشاهدة هذه المأساة الفلسطينية في غزّة يوماً بعد يوم من دون أية جهود مبذولة من قِبَل فرنسا.

ولكن بالرغم من ذلك، استمعتم إلى ماكرون بالأمس، تحدّث بسرديّة قاسية جداً. وبالتالي، كما تعلمون، إن السياسة الإسرائيلية اليوم توجّه إسرائيل إلى حائط مُغْلَق وإلى أزمات متعدّدة. وبالتالي، هنالك جهود تحاول فرنسا القيام بها مؤخّراً. هنالك نشاط أيضاً خلال الأشهر القليلة الماضية، وهنالك نشاط إقليمي ودولي. التعاون مع المملكة السعودية. ويجب على ماكرون أن يستمر. نعلم أن الضغط الإسرائيلي والأمريكي كبير جداً، لكن يجب عليه أن يغيّر من سياسته. تتحدّث إسرائيل اليوم عن الردّ على باريس، وأيضاً الردّ على ما تقوم به الدبلوماسية الفرنسية. وبالتالي، ما يقوم به ماكرون له وزن ما، لأنه يرى أنه من الضروري جدّاً أن تنتهي الحرب اليوم في غزّة.

 

مايا رزق: إضافة لما يقوم به ماكرون، ما يحصل في الشارع الفرنسي لافت فعلاً. مثلاً، دعوة، وأتحدّث بطبيعة الحال عن دعوة زعيم الحزب الاشتراكي أوليفييه فور الذي دعا إلى رفع الأعلام الفلسطينية في الثاني والعشرين من أيلول (سبتمبر)، وهو التاريخ الذي من المقرّر أن يتمّ فيه الاعتراف بدولة فلسطين.

الداخل الفرنسي: كيف يتعاطى مع هذا الموضوع؟ وماذا بالنسبة للوبي الإسرائيلي في فرنسا، عِلماً أنه لا يمكن الاستهانة به، كذلك الأمر بالنسبة للوبي اليهودي؟

 

جورج مالبرونو: الرأي العام الفرنسي اليوم، كما الآراء العامة في مختلف أنحاء العالم، يتعاطف مع ما يحصل في غزّة. هنالك أرقام واضحة، هنالك إحصاءات واضحة. ولكن الجميع اليوم يطالب بحرية الشعب الفلسطيني، ويطالب بحرية المُحتجزين الإسرائيليين أيضاً، ولكن يتحدّثون عن ضرورة إحقاق الحقّ وإنصاف الشعب الفلسطيني المظلوم.

كما قلت، ما حصل في السابع من أكتوبر أدّى إلى قلب الطاولة في فرنسا. وكما تعلمون، أحزاب اليمين منذ الجنرال ديغول كانت تمتلك وجهة نظر معيّنة في ما يتعلّق بهذه الأزمة. بعد ذلك، مع جاك شيراك، كانت السياسة الفرنسية تركّز على أمن إسرائيل، ولكن أيضاً على ضرورة إنشاء دولة فلسطينية، وضرورة الاعتراف بأحقيّة إنشاء هذه الدولة.

وبالتالي، كما قلت لكم، مع تراجع هذه الأحزاب وتراجع تأثيرها من اليسار إلى اليمين، ومع صعود نجم اليمين =المُتطرّف، باتت الرؤية الفرنسية تجاه ما يحصل في إسرائيل وفي فلسطين أمراً مُعقّداً جداً.

اليوم، هناك هوّة تواجهها فرنسا، لاسيما في ما يتعلّق بالمؤسّسات السياسية والإعلامية. اليسار المُتطرّف يمتلك وجهة نظر أيضاً مُتشدّدة في ما يتعلّق بهذا الموضوع. كما قلت، هذه المؤسّسات، هذه المنظومة السياسية والإعلامية اليوم مُخيّبة للآمال. الرأي العام قريب من فلسطين، في حين أن هذه المؤسّسات السياسية والإعلامية قريبة من إسرائيل. وهذا الأمر أدّى إلى تأثيرٍ كبيرٍ على الساحة السياسية الفرنسية.

كما تعلمون، فرنسا تمتلك المجتمع اليهودي الأكبر في أوروبا، وأيضاً المجتمع المسلم الأكبر في أوروبا. وبالتالي، تعدّدية الأقطاب هذه التي تحدّثت عنها، وأيضاً هذه السرديّات المُتطرّفة التي باتت تنتشر، باتت تشعرنا بأن حرباً ما سوف تندلع في فرنسا. هذه هي ربما طبيعة التوتّرات التي تشهدها فرنسا. وإيمانويل ماكرون واجه هذه التوتّرات منذ بداية ولايته، وهو لم يتمكّن من التعامُل معها، وحاول دعم إسرائيل بشكل كبير. ولكنه اليوم بات يحاول تحسين صورته، لاسيما بعد أن زار مصر وزار العريش، وتعرّف على بعض الفلسطينيين الذين كانوا قد جُرحوا في قطاع غزّة وخرجوا منه.

وبالتالي، إيمانويل ماكرون اليوم يحاول منع تحوّل الشرق الأوسط إلى هذا الشرق الأوسط الجديد الذي تحدّث عنه إيمانويل ماكرون. إذاً، هذا ما قصدته عندما قلت إن السياسة الفرنسية تحاول العودة إلى سابق عهدها.

 

مايا رزق: بما أننا نتحدّث عن موضوع الشرق الأوسط والشرق الأوسط الجديد، لا بدّ من أن نتوقّف عند محطّة مهمّة جداً عن سوريا. أنت تعرف هذه البلاد عن كَثَب. اتّهمت بأنك من أحد مؤيّدي النظام السابق برئاسة بشّار الأسد. كيف تفسّر ما حصل في سوريا من تبدّل دراماتيكي، وأنت صحافي استقصائي؟

هل لديكم تصوّر لما حصل ليلة خروج النظام، ليلة خروج بشّار الأسد من سوريا وتسلّم أحمد الشرع السلطة؟

 

جورج مالبرونو: لم أكن أبداً داعماً لبشّار الأسد. كنت فقط ألعب دوري كصحافي شفّاف منذ العام 2006 وإلى العام 2011. ولم أكن أعتقد أن بشّار الأسد سقط في تلك الفترة. ومنذ العام 2011 وحتى عام 2015، هذا كان تحليلي في ما سبق. لم أطّور أيّ سيناريو، ولم أتحدّث عن أيّ سيناريو في ما حصل في تلك الليلة.

ولكن كما تعلمون، نظام بشّار الأسد تحوّل إلى نظام مافياوي. ومنذ العام 2020، بات سقوط هذا النظام واضحاً. وبالتالي تحوّل إلى هيكلٍ عظمي غير قادر على المقاومة. ولقد شهدنا كيف تمكّن أحمد الشرع من إسقاط هذا النظام. واليوم، في الأسبوع الماضي أيضاً، شاهدنا تقارُباً ما بين الشرع والروس.

وبالتالي، ما حصل في سوريا يشبه ما حصل في العام 2003. هذا السقوط المُهيب، هذا السقوط التاريخي الذي حصل في تلك الفترة، حصل بسبب اجتياح أمريكي أدّى إلى مآسٍ كبيرة في العراق. وبالتالي، بعد هذه الأزمة، تمكّن العراقيون من النهوض. في العام 2003، كان العراقيون قد شهدوا بارقة أمل، وتمكّنوا من البدء بالحوار، ولو طال أمد هذا الحوار. أما في سوريا، فالحياة كانت معدومة. نحن نتحدّث عن ربما عقود من الزمن حيث كان السوريون غير قادرين على التعبير عن أنفسهم.

وبالتالي، اليوم، سوريا تواجه وضعاً هشاًّ جداً، لأن أحمد الشرع لا يسيطر على البلاد بشكلٍ شامل، ولا على الفصائل المتعدّدة. هو يواجه أيضاً شَرْذَمة وتشتّتاً وانقسامات كبيرة. ولكن أعتقد أنه في سوريا نحن نواجه شخصية مُثيرة للاهتمام. هو يقول إنه لم يعد جهادياً.

 

مايا رزق: لأن الوقت بدأ يداهمنا، أريد أن نتحدّث أيضاً عن سوريا في كتابكم، أستاذ جورج: "دروب دمشق: الملف الأسود للعلاقة السورية الفرنسية". تحمّلون فرنسا جزءاً كبيراً من المسؤولية في أَسْلَمة الثورة السورية منذ بداية ربيع 2011 وصولاً إلى سيطرة الإرهابيين.

أيّ دور اليوم لفرنسا التي فتحت أبوابها لرئيس السلطة الانتقالية أحمد الشرع؟ وهل تقبل فرنسا أن تكون في موقع المُتفرّج فقط؟

 

جورج مالبرونو: لم أقل إن فرنسا كانت مسؤولة عن أَسْلَمة الثورة السورية منذ عام 2011 و2012. إنما قلت إن فرنسا لم تواجه هذه الأَسْلَمة، لم تقم ربما بعكسها أو محاولة القيام بأيّ جهد قد يؤدّي إلى عكس هذا التيّار الإسلامي المُتطرّف. لأنهم =في ما سبق كانوا يعتقدون أن بشّار الأسد، وإن كان خطر بشّار الأسد، موازٍ لخطر داعش.

وبالتالي، بعد سقوط النظام، كانت فرنسا قد اعتمدت موقفاً جيّداً، إذا ما صحّ القول، موقفاً حَذِراً. كانت الحكومة الفرنسية تنتظر، أو كانت السلطة الفرنسية تنتظر تطوّر الأمور لكي تتمكّن من الحُكم على أحمد الشرع. اليوم، بعد أن اتّخذ أحمد الشرع بعض التدابير التي منعت انتشار حمّام الدم كما حصل في بغداد في العام 2023، تمّ استقباله في فرنسا. والبعض اعتبر أن هذا الاستقبال كان سريعاً وغير مدروس.

فرنسا اليوم أكثر حذراً من أحمد الشرع، لأن هنالك بعض الاتّهامات في ما يتعلّق بالتطوّرات التي حصلت بحقّ الأقلّيات.

 

مايا رزق: أريد أن أسألك بعُجالة عن لبنان. أحاول الاستفادة من الوقت قَدْر الإمكان.

في لبنان، عادة الخطاب الرسمي تجاه لبنان دائماً ما يكون في نبرته الكثير من التعاطُف والمودّة وإلى ما هنالك. هذا الكمّ من المودّة، هل يعكس ربما حجم النفوذ الفرنسي في لبنان، أم أن الساحة باتت خالية إلا بالنسبة للأمريكي، أي أنه الأقوى على الساحة اللبنانية؟

 

جورج مالبرونو: نعم، بطبيعة الحال، الولايات المتحدة الأمريكية هي الأكثر قُدرة والأكثر تأثيراً في لبنان اليوم. مع وصول هذا الرئيس الأمريكي القريب جداً من بنيامين نتنياهو، والذي يحاول إعادة تشكيل لبنان، بعد أن وجّهت ضربة قاضية لحزب الله، يُعدّ الأكثر تأثيراً. الولايات المتحدة الأمريكية تُعدّ الأكثر تأثيراً على الساحة اللبنانية.

فرنسا تحاول حثّ لبنان أو ربما مساعدة لبنان على تعزيز سيادته، لاسيما في ما يتعلّق بتسليم حزب الله لسلاحه إلى الجيش اللبناني. ولكن لا تريد فرنسا أن يحصل ذلك في لحظةٍ خاطئة، لأن ذلك سوف يؤدّي إلى العودة إلى التصادُم الطائفي والمجتمعي، والعودة إلى حرب أهلية مجدّداً.

وبالتالي، فرنسا تحاول إعادة التوازُن، تحاول أيضاً التخفيف من حدّة التوتّرات مع الأمريكيين والإسرائيليين. ولكن أنتم شهدتم على ما حصل مؤخّراً، لاسيما بعد تشكيل هذا duo ما بين ترامب ونتنياهو، وبعد إطلاق عَنان نتنياهو في لبنان والتصعيد الحاصل هناك أيضاً.

 

مايا رزق: أستاذ جورج، في ختام هذه الحلقة، نحن نعلم بأن كل صحافي عادة يسعى إلى مقابلة مع شخصية لها وزنها على الساحة أو تُعدّ ربما صانعة قرار. وأنا أعلم بأن عينك ربما تشخص إلى أكثر من شخصية في هذه الآونة. لو كان عليك أن تُجري مقابلة مع شخصيات بارزة، مَن كنت ستقابل؟

سألت أنا ChatGPT بأنه لو كان هو شخصيّتك، أي شخصية كنت ستختار لمقابلتها؟ فكانت الإجابة: بالنسبة لأول خمس شخصيات ترغب بمقابلتها، الشخصية الخامسة - أي الأخيرة - بالنسبة لاهتماماتك ستكون الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

وبالتالي، أريد أن أسألك: في حال تجري الآن مقابلة مع إيمانويل ماكرون، ما هو أول سؤال تطرحه على الرئيس الفرنسي؟

 

جورج مالبرونو: كنت طرحت عليه السؤال الذي يطرحه الكثير من الفرنسيين: هل سوف يخرج من الإليزيه قبل العام 2027؟

 

مايا رزق: الآن إلى الشخصية الثانية: الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. ماذا يمكن أن تطرح عليه في أول سؤال؟ هل ترغب في مقابلته بداية؟

 

جورج مالبرونو: كنت سألته: هل سوف يثني ذراع بنيامين نتنياهو لكي ينهي هذه الحرب، وليتوصّل إلى حلّ سلمي لهذه الحرب اللامُنتهية؟ أم كنت سأسأله: متى سوف يقوم بذلك؟ يجب عليه أن يحوّل كلماته إلى أفعال. هو ينتقد بنيامين نتنياهو، ولكنه لا يحوّل هذه الانتقادات إلى أفعال. لا يتحدّث عن إنهاء هذه الحرب وعن كفّ السلاح. وبالتالي، كنت سأسأله: متى سوف تلوي ذراع نتنياهو؟

 

مايا رزق: الشخصية الثالثة، بحسب الذكاء الاصطناعي وتحديداً ChatGPT، قد يرغب أستاذ جورج مالبرونو بلقائها أو بمقابلتها، هي بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية. ماذا يمكن أن تسأله؟

 

جورج مالبرونو: كنت سأسأله عن تواصله غير المباشر مع يحيى السنوار قبل السابع من أكتوبر 2023. لأنكم، كما تعلمون، وكما أخرجت التقارير، كان هناك تواصُل غير مباشر مع يحيى السنوار. كنت سأسأله عن هذا التواصُل، وسوف أسأله عن تأثيره على حماس.

وأيضاً عن موقفه تجاه إنشاء الدولة الفلسطينية، وعن تداعيات سياسته التي أدّت إلى السابع من أكتوبر.

 

مايا رزق: أما الشخصية الرابعة، فهي الرئيس الانتقالي في سوريا أحمد الشرع. ماذا يمكن أن تطرح عليه من سؤال؟

 

جورج مالبرونو: أعتقد أن هذه هي الشخصية الأكثر إثارة للاهتمام في الشرق الأوسط. لأنه، كما تعلمون، لقد كتبت تقارير عن بن لادن في السنوات الماضية. هو كان يُعدّ الرجل الأكثر إثارة للجَدَل في الشرق الأوسط. ولكن أحمد الشرع اليوم، نجمه يسطع، إذا ما صحّ القول. كنت سأسأله، إذا ما قابلته طبعاً: هل سوف يقوم بما يلزم للسيطرة على الفصائل المُتشدّدة والراديكالية لكي يتمكّن من توحيد صفوف السوريين، وإعادة بناء منظّمات ومؤسّسات أمنية وعسكرية؟ هل هو جاهز للقيام بذلك؟ وإذا ما كان جاهزاً، لماذا لا يقوم بهذه الخطوة؟ لماذا لا يقوم بليّ ذراع هذه الفصائل =المتشددة؟ وأعتقد أنه سوف يتمكّن من الإجابة على هذا السؤال لأنه ذكيّ جدّاً.

 

مايا رزق: ماذا لو التقيت بشّار الأسد؟

 

جورج مالبرونو: هو ليس سؤالاً، ولكن لو كنت طلبت منه أن يشرح لي كيف تمكّن منذ العام 2016 وحتى لحظة سقوط نظامه كيف وثِق بأنه سوف يتمكّن من إحلال السلام باعتماد سياسات التي اعتمدها عبر تدمير مؤسّسات السلطة وعبر اعتماد سياسات كارثية بالنسبة لسوريا، كنت سأسأله: هل كان يستشرف هذه الأزمة التي حلّت على بلاده؟

 

مايا رزق: الشخصية الأبرز التي، وبحسب الذكاء الاصطناعي، التي ترغب بمقابلتها هي وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان. هل هذا صحيح؟ وماذا يمكن أن تطرح عليه من سؤال؟ وأرجو أن تكون الإجابة بثوانٍ؟

 

جورج مالبرونو: كنت سألت محمد بن سلمان إذا ما كان اليوم يعتقد أنه بحاجةٍ لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، تطبيع علاقات المملكة العربية السعودية مع إسرائيل. لأنه، كما تعلمون، عاد لسابق عهده مع إيران، أو حسّن من علاقاته مع إيران. وهو يمتلك أيضاً شراكة وطيدة جداً مع الولايات المتحدة الأمريكية، مع الصين، ومع غيرها من الدول.

سؤالي هو: هل يعتقد أن تطبيع العلاقات مع إسرائيل مهمّ بالنسبة له؟

 

مايا رزق: أشكرك جزيل الشكر، الصحافي الفرنسي جورج مالبرونو، على هذه الحلقة وكل هذه المعلومات.

إلى هنا، مشاهدينا الكرام، نكون قد وصلنا إلى ختام هذه الحلقة من "اذهب أعمق" مع جورج مالبرونو.