من ناصر إلى نصر الله: المسيرة مستمرة

نص الحلقة

 

حمدين صباحي: تحيّة طيّبة. 

الزعيم جمال عبد الناصر والسيّد حسن نصر الله في يومٍ واحد، 28 سبتمبر، عَلِمَت الأمّة برحيلهما. وضع الفَقْد لم يمنع هذه الأمّة من أن تدرك القيمة العظمى لنضالهما في سيرتهما، لاختيارهما لنهجهما، لطريقهما. وهي الآن في مواجهة مؤامرة إسرائيل الكبرى والعدوان الصهيوني الأمريكي. تعلم أن سلاحاً ماضياً في يد الأمّة: أبطالها، شهداؤها، رموزها الذين خاضوا معاركها بإخلاصٍ وحبِ، وقدّموا لها نهجاً يستحقّ أن نسير عليه.

من عبد الناصر إلى نصر الله، تاريخ عظيم لنضالٍ وطني قومي إنساني من أجل التحرّر الوطني، قومي، إنساني، من أجل التحرّر الوطني وتحرير فلسطين والعدل الاجتماعي. لم يبدأه عبد الناصر، ولم ينتهِ مع نصر الله.

فالأمّة التي أنجبتهما قادرة على أن تستمر، وهي تتّخذهما نبراساً وهَدْياً ودليلًا على الطريق. سنواصل هذا الطريق لأن جمال عبد الناصر باقٍ معنا، والسيّد حسن نصر الله باقٍ معنا، وسيظلان عَلَمين على سعي هذه الأمّة الشريف نحو مستقبل تستحقّه.

 

تقرير:

السيّد حسن نصر الله: «جميعنا نتذكّر في الستينات عشرات الملايين تملأ شوارع المدن العربية عندما كان يظهر رجل واحد إسمه جمال عبد الناصر يخطب».

 

رغم اختلاف الأزمنة والسياقات والتفاوت في أدوات الصراع والمقاومة والظروف، مثّل الزعيمان الراحلان جمال عبد الناصر والسيّد حسن نصر الله رمزًا للمقاومة والتحرّر في بُعديهما الوطني والقومي، كما في وجه الهيمنة والتبعية والاحتلال.

 

جمال عبد الناصر: «الحمد لله الذي حقّق آمال شعب سوريا وشعب مصر ووحّد بين قلوبهم».

 

خطاب المقاومة واعتمادها سبيلاً وحيداً لاسترجاع الحقوق وحفظ الكرامة والأوطان كان في جوهر الرؤية الاستراتيجية لناصر ونصر الله: «ما أُخذ بالقوّة لا يُستردّ بغير القوّة»، عنوان مشروع عبد الناصر، بينما ثبّت نصر الله معادلة الإعداد والتمكين بالمقاومة المسلّحة في وجه القوّة الطاغية وأدواتها.

 

السيّد حسن نصر الله: «واللهِ إن إسرائيل هذه أوَهْن من بيت العنكبوت».

 

فلسطين هي البوصلة في فكر وضمير عبد الناصر ونصر الله. تحرير فلسطين في أولويّة النضال الوطني والقومي والعالمي. ولتحقيق هذا الهدف، لم يتوانَ الرجلان عن بذل المُستحيل من دعمٍ وتدريب وتمويل وإعداد لرفع المقاومة الفلسطينية من مرحلة المُناوشة إلى مستوى استراتيجي من الاشتباك الفاعل والقادر، ووضوح الأهداف التي لا تحتمل التأويل أو المناورة. تحرير فلسطين من البحر إلى النهر.

 

السيَد حسن نصر الله: «هذه الأرض ليست لإسرائيل. أنتم تعرفون أن هذا الكيان ليس له مستقبل، وأنه في معرض الزوال، وأن عُمره المُتبقّي هو عُمر قصير».

 

=مع الاختلافات بين المجتمعين المصري واللبناني، واختلاف موازين القوى، والتنوّع بين المُكوّنات، تمسّك الزعيمان بمشروع العدالة الاجتماعية والدفاع عن الفقراء والمُستضعفين كمُقدّمة لنزع الأغلال عن الفئات الأوسع في المجتمع، وتغيير التوازُنات من سيطرة الأقلّية الثريّة على الأغلبيّة الفقيرة أو متوسّطة الحال.

 

جمال عبد الناصر: «هؤلاء الفقراء ليس لهم نصيب في الدنيا، نصيبهم فقط في الآخرة. هم يريدون أيضاً نصيباً صغيراً في الدنيا، ويؤتوك مقابله نصيباً في الجنّة».

 

السيد حسن نصر الله: «كل شيء إسمه ضريبة رَسْم على الفئات الفقيرة مرفوض. لا نقبله، لا نقبل به، نعارضه».

 

مشروع واجه صعوبات وتحدّيات هائلة، ونجح في هّز المُعادلات، وإن لم يكن قد تمكّن من التغيير العميق في بُنية المجتمع.

في المُشتركات بين القائدين الخالدين، امتلك عبد الناصر ونصر الله حضوراً قوياً وقُدرة خطابية عالية تَجْذُب الجماهير. خطابهما يتّسم بالبساطة واللغة القريبة من الناس، مع مَزْجِ العاطفة بالمنطق السياسي. مثّل كليهما رمزاً تتجاوز جاذبيّته القاعدة الشعبية الضيّقة لتصل إلى الأمّة العربية والإسلامية وشعوب العالم الطامِعة إلى التحرّر من الهيمنة والاستعمار.

 

حمدين صباحي: أمّتنا العربية، ككل الأمم الحيّة، لا تنسى تاريخها، ولا تستميل لأعدائها، ولا تفرّط في أهدافها، ولا تتخلّى عن مقوّمات شخصيّتها القومية. الأمّة العربية مرّ عليها كثير من المِحَن، لكنها باقية صامِدة مُتبلورة، وأمامها مستقبل ثمنه غالٍ، لكنه قريب بقَدْر ما هي مُستعدّة أن تدفع الثمن، وعلى قَدْر ما تستطيع أن تتسلّح حتى تحقّق أحلامها في الكرامة والحرية والاستقلال الوطني والعدل الاجتماعي والوحدة. ومن أعظم أسلحة أية أمّة في الدنيا أن تحتفظ بقيمة رموزها وأبطالها حيّة، حتى لو غابوا عن الدنيا. اليوم، في شهر سبتمبر (أيلول)، نستذكر الرحيل المُحزِن المُوجِع المؤلِم، وما تركه من فراغ لبطل هذه الأمّة وزعيمها العظيم جمال عبد الناصر، رحل في 28 سبتمبر، وليس من قبيل المُصادفات - أو هي مُصادفة دالّة - أنه في نفس التاريخ، 28 سبتمبر، عَلِمَت هذه الأمّة برحيل قائد ورمز عظيم للمقاومة، سيّد شهداء الأمّة السيّد حسن نصر الله.

التقاء تاريخ الرحيل بين الزعيم والسيّد هو واحد من أوجُه تشابُه عديدة بين الرجلين. تمكّنا من تجسيد إرادة أمّتهما، استطاعا الوصول لقلوب الناس، استطاعا التعبير بتواضع وبلاغة وبساطة عن قلب كل عربي وعن هدفه. وكان عبد الناصر هو الذي رفع راية تحرير فلسطين هدفاً لهذه الأمّة، وكان السيّد حسن نصر الله هو مَن رفع بيده الشريفة نفس الراية بعد مرور كل هذه السنوات بين الرجلين، في تأكيد بأن الأمم لا تنسى ولا تتراخى، وأن الأمم حلقات متّصلة. وإن صراعها وحريّتها ضدّ أعدائها قد يسقط فيه رجل، لكن ينهض رجال، والراية مرفوعة بأيدي أجيالٍ مُتعاقِبة. ما بين جمال عبد الناصر وحسن نصر الله أوجه عديدة للتشابُه، رغم أنهما أبناء أمّة واحدة، لكنها أتيا في ظرفين تاريخيين فيهما قَدْر من الاختلاف وقَدْر من الاستمرار. اختلفت الدنيا ما بين مصر التي شهدت صعود نجم جمال عبد الناصر عام 52 بقيادته ثورة 23 يوليو، وما بين 1952 - ثورة جمال عبد الناصر - لـ1982، بداية تشكّل قيادة حسن نصر الله في قلب المقاومة في لبنان. تغيّرت أوضاع كثيرة، واستمرّت تحدّيات رئيسية. =استمرّ تحدّي وجود الكيان الصهيوني: خنجر مزروع في قلب الأمّة العربية يمزّقها ويمنع تقدّمها ويحارب كل رأس رُفِع على أرض العرب.

استمرّت هيمنة الاستعمار، انتقل من استعمار قديم مباشر لهيمنة وسطوة وتحريك لعرائس الماريونت التابعة له حتى تحقّق أغراضه، وإن بأيدٍ عربية. استمر قَهْر الفقراء، وافتقار العدالة الاجتماعية، وغياب إمكانيات توفّر مقوّمات حياة كريمة للناس. واستمرّت الأمّة العربية موزعة بين حُكّام مُتعدّدين، رغم أنها وطن واحد وأمّة واحدة. في ظلّ استمرار هذه التحدّيات الكبرى، في ظلّ أيضاً سيرة زعماء آمنوا بهذه الأمّة وبأهدافها الكبرى وبمقاصدها العُظمى وسعوا إليها ببسالة وعَزْم وجَدَارة، انتصروا وانكسروا، أصابوا وأخطأوا، لكن آمنوا دائماً بأن هذه الأمّة لها حقّ، وأنها قادرة على أن تحصل على حقّها. من بين أكثر المؤمنين بهذه الأمّة، وما أكثر المؤمنين بها، من بين أبطال هذه الأمّة، وما أكثر أبطالها، نحتفي اليوم بالعظيمين الراحلين في نفس اليوم: بجمال عبد الناصر وبحسن نصر الله، بالزعيم وبالسيّد، ونستذكر ما بينهما من تشابُهٍ رغم اختلاف الظروف ومرور الأيام.

 

إبراهيم الموسوي - نائب في البرلمان اللبناني: عندما نتحدّث عن القائد جمال عبد الناصر أو عن سيّد شهداء الأمّة السيّد حسن، نتحدّث عن شخصيّتين استثنائيّتين فريدتين مرتا في هذا العالم العربي. وأنا أودّ أن أذكر هنا أمرًا شديد الأهمية، أريد أن أستعيد المرحوم جوزيف سماحة، الصحافي الكبير مؤسّس جريدة «الأخبار»، هو وأخونا - الله يطيل بعُمره ويبقيه - صديقنا العزيز إبراهيم الأمين. أودّ القول: هما ويؤسّسان «الأخبار»، هو يضع صورة جمال عبد الناصر ويضع صورة السيّد حسن نصر الله، فيقول جوزيف سماحة أنه يوم النصر الإلهي سنة 2006 قال السيّد حسن: أنظروا إليها تحترق، المشاعِر، هذه المشاعِر التي ضجّت بها نفس جوزيف شبيهة تمامًا بما جرى عندما أعلن جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس. نتحدّث عن لحظات تاريخية بعُمر الأمّة. بالتالي، أتحدّث هنا عن إعلان النصر، عن الجُرأة. شخصيتان كاريزماتيتان إلى أبعد الحدود. هناك تعلّق من قِبَل قلوب الجماهير بهما إلى أقصى حدّ، تهفو إليهما النفوس، تحبّهما كثيراً. تتحدّث أنت عن شخصٍ استطاع أن يخترق كل مشاعر المجتمع وطبقاته، واستطاع أن =يدخل إلى كثير من الطوائف والمناطق التي كانت محظورة لأسبابٍ وأسباب، وتتحدّث أيضًا عن نفس الأعداء الذين كانوا مُتكالبين عليهما.

بالشخصية الاجتماعية، تتحدّث عن شخصيات مُتواضِعة جدّاً، شخصيات تعاطيها الإنساني. أنا من الناس الذين قرأوا كثيراً عبد الناصر على المستوى الإنساني: كم كان مُتعاطفًا مع شعبه، وعاش كل حياته بهذه البساطة وبهذا الزُهْد وبهذا الترفُّع. لم يكنز ذهباً، ولم يبنِ قصراً، كل شيء كان للناس معروفاً.

السيّد حسن هو من نفس هذه القماشة. هؤلاء على مستوى حياتهم الشخصية كانوا هكذا. هذه الفرادة الاستثنائية جعلتهم أن يُعبّدوا القلوب وتهفو إليهم الأنفس حيثما كانوا.

إذا حُكِيَ بالعالم العربي عن أعظم شخصية جاذِبة كاريزماتية إنسانية، أخلاقية، متواضعة، قائدة، فذّة، مُتزاهِدة، عابِدة، أوحدية، فردانية، لا يطلع معي سوى هاتين الشخصيّتين، طبعاً مع فروقات. عبد الناصر شخصية قومية استثنائية فريدة عروبية عندك، وهذا لا يتعارض أبداً مع إسلامه، مع دينه. والسيّد حسن هو عالِم دين، هو بالزُهْد والعبادة، في هذا المعين موجود.

 

حمدين صباحي: الأمم تحتفظ بذاكِرتها، بسيرة أبطالها ورموزها، وهذا جزء من عَتَادِها النفسي والمعنوي وسلاح من أسلحة المواجهة. أمّة بلا =أبطال، بلا شهداء، بلا قادة التفت الجماهير حولها أضعف. لذلك، مَن يحاول أن يُقلّل من شأن زعيم عبر عن أمّته، والشهيد ضحّى من أجلها، هذا ليس انتقاصاً من حقّ الرجل الفرد الشهيد أو القائد، هذا نَزْع لسلاحٍ من يدِ الأمّة. ونَزْع السلاح بالمناسبة ليس فقط الأسلحة بمعناها الحربي. رموزنا أسلحة، أفكارنا أسلحة، وَعْينا أسلحة، ووجداننا أسلحة، روحنا المعنوية، كل هذا من أسلحة كل الأمّة. والأمّة المُدجّجة بأسلحتها، بدءاً من الوعي والفكرة، انتهاءً بالرشاش والبندقية والصاروخ، هي القادرة على أن تُجابه أعداءها، والقادرة على أن تتعالى على =محاولات إخضاعها، كما يجري الآن في الوطن العربي، ونرى كل يوم مشاريع إسرائيل الكبرى.

 

السيّد حسن نصر الله، الذي بدأ قيادته لحزب الله عام 92 وهو المولود عام 59، كان عُمره 33 سنة، شابّاً قوياً واعِداً. هذا نفس العُمر الذي الزعيم جمال عبد الناصر فيه تولّى قيادة مصر بعد ثورة 52، وهو المولود عام 1918. شابّان: واحد في أمّ الدنيا، أكبر بلاد هذا الوطن العربي الواحد والقاعدة الرئيسية فيه مصر، وواحد في لبنان الصغير حجماً وعدداً، لكن الكبير قيمة. لكن نصر الله الذي نشأ في لبنان نشأ وهو يرى احتلال الجنوب عام 78 احتلالاً صهيونياً. عبد الناصر نشأ وهو يرى احتلالاً إنكليزياً بدأ سنة 1882 في مصر. وكانت الحركة الوطنية المصرية كلها تهتف للجلاء التام أو الموت الزؤام، هدف مُجْمَع عليه وطنيًا في مصر. وكان لبنان كله مع تحرير أرضه في الجنوب.

هذا ظرف موضوعي فرض على البلدين، ورغم ما بينهما من فاصل زمني، لكن كانا يمثلان نفس المعنى. عبد الناصر في أول تجربة كبرى له كضابطٍ في الجيش المصري حوصِر في الفلّوجة في حرب 48، عندما وقعت النكبة، وتعلّم الدرس. دَرْس فلسطين افتتح به عبد الناصر تكوينه الحياتي والعقلي والنفسي والسياسي، وعاد بكلمته التي لا تزال حِكمة ينبغي استعادتها، تحرير فلسطين يبدأ من تحرير عواصم العرب، من تحرير مصر، لن تتحرّر فلسطين ومصر محتلّة، لذلك قام بثورته.

السيّد حسن كان مُدْرِكاً معنى وجود مُسْتَعْمِر في الجنوب من 78، ثم نفس العدو احتلّ بيروت العاصمة العظيمة عام 82. سطوة حضور الاستعمار في أقدامه وأحذيته الثقيلة على أرض الوطن واجهت الرجلين، كما كانت تواجه شعبهما العربي في مصر وفي لبنان.

=وأودّ أن أقول أمراً من أوجُه التشابُه: ليس فقط في الظرف والسياق الاجتماعي والتاريخي، في التكوين الخاص للرجلين، للبطلين، البطل يولَد من أمرين: ظرفه التاريخي وسِماته الشخصية.

جمال عبد الناصر، إبن رجل بسيط، الحاج حسين سلطان، عامل في البريد، لذلك يُقال على عبد الناصر «إبن البُسطجي». وحسن نصر الله، إبن رجل بسيط لديه مكان يبيع بقالة وخردوات، يُقال «إبن البقّال». إبن البُسطجي، إبن البقّال، يعني أولاد الشعب، الناس الحقيقيين المعجونين بتراب الوطن وحُزنه وهمّه، وكيف يؤكِلوا أولادهم ويربّوهم ويحفظوا لهم كرامة. هم أبناء البُسطاء المُنتمين لطبقة اجتماعية تمثل الغالبيّة على امتداد أمّتنا من المحيط للخليج.

ولِدَ عبد الناصر في الإسكندرية في حيٍّ شعبي بسيط، وهو أصوله من بني مر في الصعيد. وولِدَ السيّد حسن في برج حمود، حيٌّ شعبي في بيروت، وأصوله من الجنوب في صور.

بالانتماء الطبقي وبالموقع الجغرافي، الزعيم والسيّد أولاد خالصين ومخلصين لفقراء هذه الأمّة وبُسطائها، للطبقات الشعبية، للشعور بالرغبة في كرامة وعِيْشة مستورة وبحقّ في ثروة البلد.

اجتمع لدى الرجلين منذ مطلع شبابهما هذا الشعور الوطني بضرورة التحرّر من المُسْتَعْمِر، هذا الارتباط بمفهوم الاستقلال الوطني وتحرير فلسطين كهدف، وهذا الانتماء للفقراء للبُسطاء للمحرومين. وهذا هو الذي أسهم في صنع الوجه العظيم للزعيم وللسيّد.

لأن عبد الناصر اختار اختياراً صائِباً واضحاً أن ينتصر لأن تكون مصر، بعد أن تمكّن من أن يكون على رأسها حاكِماً بجماهيرية ليس لها نظير، اختار لمصر أن تلعب دورها ليس فقط في تحرير نفسها من استعمارٍ إنكليزي - وقد عَقَدَ معاهدة الجلاء وأخرج الإنكليز بالفعل في 54 - لكن أيضاً أن تكون هي جيش فلسطين، إيماناً بأن مواجهة الصهاينة في فلسطين هي دفاع عن مصر وأمن مصر وعن أمن الأمّة العربية كلها.

وهو نفس ما اعتنقه ومارسه واستشهد من أجله السيّد حسن نصر الله، جعل من نفسه ومن حزب الله ومن الذين آمنوا به والتفّوا حوله وأعطوه هذا القَدْر من الثقة والمحبّة والولاء جيشاً بالمقاومة وليس من موقع السلطة لتحرير فلسطين، إيماناً بألا حرية للبنان ما بقيَ العدو الصهيوني على حدوده يتنمَّر عليه ويعتدي ويُدمِّر متى شاء. وهي نفس الفكرة التي بلورها عبد الناصر ومارسها وهو على رأس السلطة في مصر.

وكان عبد الناصر يُدرك أن الانتصار لمصر في تحريرها باستقلالها الوطني لا يتمّ إلا بتحرير فلسطين، لكن أيضاً لا يتمّ إلا بتحرير الفقراء من الهَوان والفقر والحاجة والظلم الاجتماعي والتفرِقة الطبقية. وهذا ما يظهر عند السيّد حسن نصر الله في حديثه الدائم عن المُسْتَضْعَفين والمحرومين، لأن أول الحِرمان الفقر، وأول الاكتفاء نصيب عادل من الثروة الوطنية.

لن يُتاح للسيّد حسن نصر الله لأنه لم يكن حاكِماً ولا رجل على رأس دولة ما أُتيح لجمال عبد الناصر لأنه كان على رأس دولة وأكبر دولة عربية. ومن هنا حوّل أفكاره إلى مشاريع وخطط تنمية حقّقت لمصر في الستينات أعلى معدّلات تنمية في العالم في ذلك الوقت، وصنعت أوسع =طبقة وسطى في تاريخ مصر، وأنقذت أبناء الفقراء من أن يبقى الفقر إرث مصر عُمرها 7000 سنة. من قبل الميلاد، حاولوا عدّ عدد الذين حكموها طوال 7000 سنة. على كِثرة هؤلاء الحُكّام، فإن جمال عبد الناصر وحده - لا أحد قبله ولا أحد بعده - هو الحاكم الوحيد في تاريخ مصر الذي كان من الفقراء ومُنْتِصر للفقراء وقلبه على الفقراء وسياساته من أجل الفقراء. لهذا لم تعرف مصر أيّ مشروع للعدالة الاجتماعية في تاريخها إلا المشروع الناصري، مشروع جمال عبد الناصر.

صحيح السيّد حسن نصر الله لم يكن حاكِماً، لكن سياسته وممارسته وإجراءاته على الأرض كانت تقول أنه يمتلك نفس الحسّ في الانتصار للفقراء في أن يحميهم من غائِلة الفقر.

إذاً، ثلاثة معالم رئيسية أسّسها عبد الناصر ورفع رايتها حسن نصر الله واستمر فيها على خلاف ما بينهما من تاريخ ومن موقع ومن إمكانيات: الاستقلال الوطني، تحرير فلسطين، الانتصار للفقراء والمحرومين.

 

زهير حمدي – الأمين العام للتيّار الشعبي التونسي: بكل ثقة نستطيع أن نقول إن هذه الأمّة لم تُنْجِب في عصرها الحديث - على الأقل في مواجهة الاستعمار الحديث ومواجهة الاستعمار الصهيوني ومواجهة الاحتلال ونُصرة للقضية الفلسطينية - لم تُنْجِب سوى رجلين: جمال عبد الناصر والشهيد حسن نصر الله.

غاب عبد الناصر منذ عقود، وتدهورت القضية الفلسطينية، وفُرِض الاستسلام على مصر، وأُسْقِط خيار المقاومة. ولكن السيّد حسن نصر الله - الشهيد حسن نصر الله - استطاع أن يلتقط تلك الراية التي سقطت لعقودٍ بعد توقيع اتفاق كامب ديفيد من قِبَل النظام المصري والسادات. التقط السيّد حسن نصر الله في بداية الثمانينيات مع مجموعةٍ من الشباب راية المقاومة وانطلق بها. وبالتالي فإن السيّد حسن نصر الله هو جمال عبد الناصر في ثوبٍ جديد، استطاع أن يقود حركة مقاومة مُتخلّصاً من أعباء الدولة الإقليمية التي كانت تفرض عليها خيارات وإكراهات. لكن السيّد حسن نصر الله كان يقود مقاومة. وبالتالي فإن السيّد حسن نصر الله هو جمال عبد الناصر المقاوِم الحقيقي الوفيّ لهذا الخيار والمُتشبّث بالأرض والمُعادي للمشروع الصهيوني الاستعماري الغربي.

 

=مواطن من تونس: وجه المُقارنة بين السيّد حسن والزعيم جمال عبد الناصر: الإثنان لديهما نقطة التقاء هي أنهما أصحاب مشروع. 

 

مواطن من اليمن: كانا جزءاً من شعوب هذه الأمّة ومن طموحاتها ومن تطلّعاتها.

 

مواطن من لبنان: الناس وعت على عبد الناصر أن هذا الزعيم المُلْهِم الذي يمكن أن يجمع العرب.

 

مواطن من الجزائر: رغم ربما اختلاف الفلسفة أو النموذج الذي ينطلق منه كل واحد، إلا أن كليهما يرفضان التبعية بأيّ شكل من أشكال الاستعمار. 

 

مواطن من لبنان: مشروع التحرّر، نحن لدينا إيمان بهذا الهدف وهو أن نصل في يومٍ من الأيام أن نحرّر فيه ليس فقط شعوبنا وأرضنا بل كل هذه الأمّة.

 

مواطن من اليمن: جمعتهما مبادئ: أولاً القِيَم والأخلاق، وأيضاً مبادئ العروبة والاهتمام بالقضية الفلسطينية التي تُعْتَبر قضية الأمّة العربية المركزية. 

 

مواطن من تونس: هذه شخصيات كبيرة، ونحن تربّينا على خطابات عبد الناصر، حتى لو نحن صِغار، نحن نتابعه في خطاباته ومواقفه تجاه القضية الفلسطينية. 

 

مواطن من اليمن: كل واحد منهما كان شخصية قيادية ومحورية في الفكر.

 

مواطن من لبنان: ما يجمع بين شخصيتهما قيادة الشعوب. 

 

مواطن من تونس: اليوم نحن في حاجة لمشروع مثل مشروع جمال عبد الناصر أو المشروع الذي كان يحمله السيّد حسن نصر الله.

 

مواطن من لبنان: نفس الأمر، نفس المؤامرة، ونفس ما عاناه عبد الناصر عاناه السيّد حسن من هذه الأمّة العربية التي لا تجتمع إلا علينا وعلى ذبحنا.

 

مواطن من الجزائر: ما دام رجل واحد في المقاومة فالمقاومة مستمرة، لا لشيء لأن إيمانه بالقضية قبل كل شيء. بالتالي المقاومة ستستمر. 

 

مواطن من تونس: المقاومة مشروعهما العربي التحرّري، والإثنان يحملان مشروع الوحدة العربية ويحملان الحرية والكرامة للشعب العربي.

 

مواطن من الجزائر: المقاومة مستمرة لا محالة.

 

حمدين صباحي: الذي يحمل مشروعاً كبيراً فيه استقلال وطني لتحرير فلسطين وعدل اجتماعي يُعبّر عن قِيَم كبرى، لذلك يجب أن يُخاطب ويُراهن على أمّته كلها. الحقيقة، عبد الناصر لأنه إبن بكوس في الإسكندرية، والإسكندرية هي مدينة عالمية فيها الإيطاليون واليونان بالإضافة طبعاً للمصريين والعرب، بُنيَ على روح الانفتاح، واسع ثقافي وطني، لكنه ذو حسّ إنساني. نعم عروبي قومي، لكنه ذو حس إنساني، ولم يكن يمكنه أن يناضل من أجل أهدافه الكبيرة هذه بتضييق مساحة الذين يدعوهم من أجل تحقيق هذه الأهداف. كذلك كان السيّد حسن، لأن برج حمود كان فيها أرمن، ولبنان الواسع هو موزاييك عظيم التنوّع وبديع في تنوّعه إذا حافظ على تماسُكه ووحدته.

السيّد حسن نصر الله إبن هذا التنوّع من برج حمود ومن الجنوب. وإذا كان الأرمن الذين نشأ وسطهم والشيعة التي هو منهم والسنّة الذين رافقوه وناضلوا معه في بيروت التي سكن فيها طويلاً والمسيحيون الذين أدركوا قيمة التحرّر كما أدركها كل لبناني، لم يكن السيّد حسن ليطرح مشروعاً أقلّ من التعبير عن كل لبنان في التحرير، ولم يكن يطرح مشروعاً أقلّ من أن يُلبّي الحاجة الأولى للأمّة العربية لتحرير فلسطين. هذه مشاريع كبرى بنيتهما ساعدتهما عليها.

=كما شعورهما بالعدل الاجتماعي أيضاً كان بالولادة. جمال عبد الناصر لديه ثمانية إخوة، والسيّد حسن لديه تسعة أخوة، أولاد أسَر كبيرة شعبية طامِحة للكرامة بكل معانيها من أول تحرير لُقمة العيش حتى تحرير الحق بالكلمة وفي حقوق الإنسان. لذلك هذه مشاريع عابِرة للأقطاب وحتى عابرة للأبطال والرموز، هذه مشاريع للمستقبل ستبقى مطروحة على الأمّة العربية وستجد رجالاً أكفّاء لها قادرين عليها يواصلون حمل الراية التي حملها جمال عبد الناصر ورفعها من بعده حسن نصر الله.

هذه راية، راية التحرّر: تحرير فلسطين، العدل الاجتماعي، الوحدة العربية، الكرامة الإنسانية. لم تبدأ مع جمال عبد الناصر ولا انتهت بعد حسن نصر الله. بدأت قبل عبد الناصر وستستمر، وتاريخنا مليء بالأبطال: من عبد الكريم الخطّابي في المغرب، لسيدي عُمر المختار في ليبيا، ليوسف العظمة وسلطان باشا الأطرش في سوريا، وعزّ أبطال هذه الأمة من محيطها إلى خليجها ستستمر. عبد الناصر كان هدفاً للاستعمار، القضاء عليه هدف، كما كان حسن نصر الله هدفاً للاستعمار وللكيان الصهيوني. عندما توفّى جمال عبد الناصر، الحقيقة أمريكا وإسرائيل اعتبرتا أنهم قُدّمت لهما هدية عظيمة، كما قال نتنياهو بعد استشهاد السيّد حسن: «إن هذا أهمّ تحول»، لأن هؤلاء الأشدّاء على الأعداء الرُحماء مع أمّتهم، غيابهم مكسب لعدوّنا، والحفاظ على إرثهم ونهجهم هو المكسب لأمّتنا. قدّموا الكثير من ذاتهم ومن إمكانياتهم ومواردهم، عاشوا شُرفاء ولاقوا وجه الله شُرفاء.

على كِثرة ما كان بِيَد جمال عبد الناصر وتحت إمرته إمكانيات في مصر الكبيرة الناهضة القوية، الرجل عندما توفّى اكتشفنا أنه كان قد استلف حتى يتمكّن من تجهيز ابنته حتى تتزوّج. هذا النموذج في الاستعصاء على الفساد، في الشرف الشخصي، كان مُتجسّداً في الزعيم وفي السيّد.

قدّموا أغلى ما لديهم: السيّد حسن نصر الله قدّم هادي ابنه شهيداً، فَلْذة كَبده، ورأى على عينه وفي حياته استشهاده. جمال عبد الناصر، أكبر أبنائه الدكتور المهندس خالد جمال عبد الناصر، بعد رحيل أبيه واصل الإبن وهو سرّ أبيه طريقه وشكّل منظّمة ثورة مصر الناصرية مع محمود نور الدين، ضابط المخابرات المصري السابق، ولاحقوا عناصر الموساد في قلب القاهرة بعد التطبيع وسجّلوا صفحة مُشْرِقة في المقاومة الشعبية في تاريخ مصر وأمّتهم العربية، وجسّد خالد معنى أن يكون ابناً لعبد الناصر ليس فقط بالدم لكن بالفكرة. والذين رحلوا من هؤلاء، كالشيخ حامد إبراهيم وغيره من أبطال ثورة مصر، أو الذين بقوا كنظمي شاهين وغيره من أبطال ثورة مصر، هم شهود على هذه الصفحة.

لما يرحل زعيم في حجم عبد الناصر أو في حجم السيّد حسن، تُفْتَح الأبواب لمؤامرات الاستعمار لتغيير الخرائط. هذا الذي تمّ في مصر بعد رحيل عبد الناصر، هذا الذي استدرج مصر بعد سقوط سلطة جمال عبد الناصر إلى كامب ديفيد التي أسّست لهذا الهوان والسلام الزائِف مع العدو الصهيوني.

وعندما رحل السيّد حسن نصر الله الآن، أعداؤنا يسنّون أنيابهم حتى يُغيّروا خرائط وطننا العربي، أيضاً يُغيّروها باتفاقيات أمنية مع سوريا في الطريق، يُغيّروها بقَضْم من لبنان، يُغيّروها بأن وَهْم إسرائيل الكبرى يشرع لنتنياهو بتنفيذه، يُغيّروها بأن صُلف المشاركة الأمريكية في العدوان على أمّتنا يكون أوضح ما يكون.

توماس باراك يُصرّح بالأمس بأن إسرائيل لن تنسحب من النقاط الخمس، وبأن لبنان لم يستجب للشروط التي قدّمتها، وأن لبنان يُناور ولم يفعل شيئاً لنزع سلاح حزب الله. بعد رحيل الكبار، يحاول الاستعمار والصهيونية أن يحصدوا آثار =رحيلهم، غيابهم، ظنّاً بأن الأمّة بعد غياب قادتها تتخلّى. لا، الأمم العظيمة الحيّة لا تتخلّى عن هدفها، وأنْ رَحَل زعيم فهي مُرشّحة لأن تواصل نهجه وأن تَلِد مَن يخلفه. وهذه الأمّة قادرة على ذلك، وقُدرتها تظهر في أن اعتزازها بهؤلاء الزعماء ليس مجرّد اعتزاز بشخوصهم - وهم يستحقّون الإجلال والإكبار - لكن بمشروعهم، بمنهجهم، بأهدافهم، بطريقهم.

الإمام أحمد بن حنبل كان يقول: «بيننا وبينكم الجنائز». عندما رحل عبد الناصر وظنّ الاستعمار أنه تخلّص من عامود الخيمة العربية، جاءت جنازته المليونية، أكبر جنازة في تاريخ العرب الحديث، لتردّ: عبد الناصر باقٍ في قلب أمّته وفي ضميرها، وهي ماضية على طريقه.

وعندما استُشْهِد السيّد حسن ورأى أعداؤنا أن عامود خيمة المقاومة ومحور المقاومة قد رحل، ظنّوا أنهم سيستفردون بهذه الأمّة، وخصوصاً في لبنان، وجاءت جنازة السيّد حسن نصر الله شهادة، وهي الأكبر في تاريخ لبنان، على أن هذا الشعب يعرف قَدْر أبطاله ورموزه ويواصل السير على نهجهم.

إذا كان هؤلاء قد قدّموا أرواحهم وواجهوا جَبَروت الاستعمار وحشدوا قوّتهم واستخدموا ظروفهم التاريخية واستنهضوا سِماتهم الشخصية ليُعبّروا عن أجمل وأجل وأشرف ما في هذه الأمّة من أجل تحقيق حريّتها واستقلالها وكرامتهم، فهم في النهاية أبناء الأمّة، نَبْت الأمّة، صناعة الأمّة، والأمّة التي أنجبت جمال عبد الناصر وحسن نصر الله ستُنجب المزيد من الأبطال من دون أن تتخلّى عن أهدافها.

 

إبراهيم الموسوي – نائب في البرلمان اللبناني: كل قائد له نوع من أسلوب، له فَرادة معيّنة يمتاز بها عن الآخرين. الآن السيّد حسن قيادة من نوع خاص جداً جداً جداً. هو يقودك للحب، يقودك بالعاطفة، يقودك بالوجدان، يقودك بالتأثير، لا يقودك بالقيادة بمعنى أنه له آمريّة، آمريّته تأتي من الكاريزما ومن الحب، ليس بحاجةٍ أن يقول لك اعمل حتى تعمل، ليس بحاجة. الموالون نحن نعرف: عندما يعرف إصبعه، قبضته، صارت رَمْشة من عيونه تكون نوعاً من أمر للناس، نظرة أو كيف يكون وجهه وكيف يتحدّث. أنا أقول: السيّد حسن شخصية فريدة، قائد حازِم وموجود، ولكنه بنفس الوقت قائد عاطفي، قائد مُحب، قائد ودود، قائد حنون، إنسان بكل ما للكلمة من معنى. اليوم دعونا نتحدّث بكلمةٍ واحدةٍ لها علاقة بنتنياهو الذي درس شخصية السيّد وقال لهم: «اكتشفت أن هذا الرجل هو محور المحور، وهو الذي يؤثّر على القيادة في إيران». وأنا أقول لك، سماحة سيّد شهداء الأمّة السيّد حسن نصر الله كان يأخذ قرارات هنا. يجب أن تعرف عند كل الناس: قيادات وأجيال وأحزاب وقوى ودول، كان يأخذ قرارات هنا قبل أن يعرف دالّته ويعرف محبّته ويعرف حِكمته، قبل أن يكون مشاوراً أحد فيها، وكان يحصل التزام فيها بالجمهورية الإسلامية في إيران. مُفردات مثل «قائد استثنائي» كلها قلناها باتت تقليدية وعادية وعادية. هو كائن العِشق الإلهي بكل تجلّياته، =بكل نِعَمه، وبكل فيوضاته علينا.

 

حمدين صباحي: حياة حافلة بالعطاء لبطلين عربيّين عظيمين ورمزين لتحرّر وطني وقومي إنساني، والخواتيم دالّة. جمال عبد الناصر اختتم حياته في أيلول، وأيلول أخذ اسم «أيلول الأسود».

طبعاً هناك أحزان كثيرة تجعله أسود بالفعل، لكن أخذ هذا الإسم من الاقتتال بين المقاومة الفلسطينية وقوات الأردن في سبتمبر 70. جمال عبد الناصر الذي بدأ حياته في الفلّوجة مُقاتلاً في عام 48، أنهى حياته يحقن الدم الفلسطيني والأردني، يحقن الدم العربي في سبتمبر 70. كان مريضاً مُنْهَكاً، ومع ذلك دعا لقمّة طارئة لجامعة الدول العربية وحضرها ملوك ورؤساء، وحقن الدم الفلسطيني وتمكّن من إبرام اتفاق بين الملك حسين وياسر عرفات يُنهي به هذا الاقتتال، وعندما ودّع أمير الكويت لفظ آخر أنفاسه.

عبد الناصر في لحظة رحيله كان يعطي رسالة أنه مات وهو يدافع عن فلسطين وعن الدم العربي، مات حتى يقول لنا: إن القتال ضدّ الصهاينة شرف، والاقتتال بيننا كعرب جريمة.

والسيّد حسن نصر الله اختتم حياته الحافلة الباسِلة في حرب الإسناد لغزّة.

لا رَحَل عبد الناصر في لحظة صراع ضيّق من أجل مصر، ولا رَحَل حسن نصر الله في لحظة صراع ضيّق من أجل لبنان. ماتوا من أجل أمّتهم، ماتوا من أجل فلسطين، ماتوا من أجل قيمة الاستقلال والحرية والكرامة التي هي قيمة إنسانية. ورحيلهم كان خِتاماً موحياً دالاً يُعلّم مًن يريد أن يتعلّم أن الأمّة هذه قادرة على أن تناضل من أجل أهدافها، وقادرة أن تتمسّك بها برغم كل المِحَن، وقادرة رغم كل فَقْد أن تعوّضه بأبنائها.

لكن تبقى بوصلتها صحّ. اللحظة التي نحن فيها اليوم هي لحظة نريد لوعينا أن يضبط البوصلة على تحرير فلسطين، على مقاومة الاستعمار، على العدل الاجتماعي، على وحدة هذه الأمّة العربية، على تكامُلها مع جيرانها في الإقليم، على مقاومة محاولات التفتيت، على مقاومة محاولات أن تنقسم الأمّة مذاهب وطوائف وفرق وأيديولوجيات وأقطار وأن تنسى وحدتها الجامِعة التي لا نجاة لها من دونها.

نستعيد عبد الناصر لأنه رمز لهذه المعاني، ونستعيد السيّد حسن نصر الله لأنه جسَّد هذه المعاني ووصلها. ولكل من اسمه نصيب، هذا نختم به أوجه التشابه.

جمال وحسن، والجمال هو الحسن. عبد الناصر، نصر الله، نفس المصدر: النصر من الله. وهذا التشابُه في الأسماء يختم هذا التشابُه العظيم في المقاصِد والأهداف والغايات وقوّة الإرادة وسموّ الروح والقُدرة على الوصول للناس كل الناس والتمتّع بمحبّتهم.

كان النقطة المُضيئة الوحيدة في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين بالنسبة للأمّة العربية في زمن طُبع بمرحلة من الاستسلام والتفريط في حقوق الشعب الفلسطيني.

الشهيد السيّد حسن نصر الله هو مَن أعاد لنا روح المقاومة وبيّن لهذا الجيل أن هزيمة هذا العدو ممكنة. عشنا معه انتصار سنة 2000، وعشنا معه انتصار 2006، وعشنا معه أحسن أيام ومجد المقاومة في طوفان الأقصى، حينما تخلّى الجميع عن القضية الفلسطينية ودخل السيّد حسن نصر الله إسناداً لغزّة، ولم يكن مُلْزَماً في أن يخوض تلك المعركة التي دفع حياته ثمناً لها.

المجد والخلود لهذا البطل العظيم الذي سيظلّ خالداً إسماً ورمزاً وصورة في أذهان الأجيال العربية.

 

حمدين صباحي: السيّد نام، السيّد نام كنوم السيف العائد من إحدى الغزوات. السيّد موجود فينا، موجود في أرغفة الخبز، وفي أزهار أوانيـنا، مرسوماً فوق نجوم الصيف وفوق رمال شواطئنا، موجود في أوراق المصحف، وفي صلوات مُصلّينا، موجود في كلمات الحب، وفي أصوات مُغنّينا، مكتوب فوق بنادقنا، مكتوب فوق تحدّينا. السيّد نام، وإن رجعت أسراب الطير ستأتينا.