حزب الله... المنعطف الكبير

نص الحلقة

 

مايا رزق: يُقال إن العِلم في الصِغَر كالنقش في الحجر.

قد يكون تاريخ نشر هذه القصة ذات الرسوم المُلوّنة حديثاً، إلا أن رسالتها مُتجذّرة في الفكر الصهيوني وتعود إلى ما قبل نشأة إسرائيل، والواقع هنا مرسوم بلون الدم فقط.

أما التعبير عنه فلا يبدأ بتشويه معالِم النصوص التوراتية في المدارس الصهيونية وما يسمّونها استيقاظ رياح الشمال، ولا ينتهي بحديث نتنياهو عن إسرائيل الكبرى.

ديفيد بن غوريون البولندي الذي أعلن قيام الكيان الإسرائيلي من دون حدود جغرافية، عندما سُئِل عن رؤيته لمصير لبنان تحدّث عن إقامة دويلة مسيحية صغيرة موالية لإسرائيل تقف حدودها عند نهر الليطاني، على أن تُضاف المناطق المُتقطّعة من الجنوب اللبناني إلى الحدود المُتمدّدة للدولة الصهيونية.

هو مخطّط حاول أرييل شارون تنفيذه عام 1982 تزامُناً مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وهو نفسه المُخطّط الذي قرّر اللبنانيون مقاومته وإسقاطه، فكانت المقاومة وكان حزب الله.

يصف كتاب حزب الله "فلسفة القوّة" سنوات التأسيس الأولى بالصعبة وبمرحلة العَضّ على الجُرح، وقتها كانت البلاد بين شريّ الاجتياح الإسرائيلي والحرب الأهلية.

صبحي الطفيلي كان أول أمين عام، قبل أن يتسلّم المهمّة أحد مؤسّسي حزب الله إبن الشياح في بيروت السيّد عباس الموسوي.

 

السيّد عباس الموسوي: السلام لا يجوز استجداؤه من أمريكا، وإنما الذي يصنع السلام نحن، وكل ما يُصوَّر من سلامٍ أمريكي هو مجرّد استسلام أمام الإرادة الأمريكية، هذه هي الحقيقة.

 

مايا رزق: اغتالت إسرائيل الأمين العام الثاني لحزب الله في السادس عشر من شباط (فبراير) من عام 1992، ليتولّى شاب ثلاثيني نشأ في حيّ شرشبوك المتواضِع في برج حمود الأمانة العامة.

قيل الكثير في السيّد حسن نصر الله وعنه، الرجل الذي آمن بالقُدرة على تغيير الدنيا بأسرها من خلال روح المقاومة. عرف الحزب في عهده ما سُمّي العصر الذهبي.

بدأ العمل الجدّي على تنظيم الحزب عسكرياً وميدانياً. العمليات ضدّ إسرائيل لم تتوقّف، لعلّ أهمّها قبل التحرير عملية الدبشة، حيث تمّ للمرة الأولى تصوير رَفْع راية المقاومة على موقعٍ إسرائيلي.

عمليات المقاومة توالت، ما دفع إسحاق رابين إلى الاعتراف بأن حزب الله هزم إسرائيل، وما دفع الأخيرة إلى شنّ عدوان تحت مُسمّى "عناقيد الغضب"، عقب مؤتمر شرم الشيخ الذي حضره بيل كلينتون وكل العرب باستثناء لبنان وسوريا. مؤتمر تحوّل إلى نذيرٍ شؤم، حيث ارتكب الاحتلال بعدها أكثر من مجزرة، لعلّ أبرزها في الذاكِرة تلك التي وقعت في قانا. بعد 16 يوماً، توقّف العدوان، والصَّلية الأخيرة كانت لبنانية، لتستعدّ البلاد بعدها للحظة المُنتظرة: التحرير، الذي بدأ بالانسحاب من جزين وانتهى بخروج الاحتلال من دون قَيْد أو شرط.

 

السيّد حسن نصر الله: أؤكّد لكم يا شعبنا في فلسطين إن إسرائيل هذه التي تملك أسلحة نووية وأقوى سلاح جو في المنطقة، واللهِ هي أوْهَن من بيت العنكبوت.

 

مايا رزق: فعلها حزب الله وحرّر الأرض، ليخوض بعد ذلك بست سنوات حرب تموز التي استمرّت 33 يوماً.

 

السيّد حسن نصر الله: أيّها الأحبّة، أيّها الكِرام، يا أشرف الناس وأطهر الناس وأكرم الناس، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

مايا رزق: هكذا انتهت حرب تموز، قبل أن تضرب المنطقة كرة نار مُتنقّلة، لعلّ أكثرها تأثيراً في حزب الله تلك التي أصابت سوريا، فكان قرار القتال ضدّ الإرهاب، وكانت معارك الجرود التي أبعدت الجماعات المسلّحة عن الأراضي اللبنانية.

السابع من أكتوبر التاريخ المفصلي، حزب الله قرّر خوض معركة الإسناد، ما أثار الكثير من الجَدَل في الداخل اللبناني وفي خارجه.

حرب إسرائيل سُرعان ما تحوّلت إلى إبادةٍ بحقّ فلسطين، وإلى عدوانٍ ضخمٍ على لبنان =عُرِفَ بعدوان أيلول، صنعت فيه المقاومة لحظات تاريخية، واستخدمت فيه أسلحة وتكتيكات آلمت العدو.

إلا أن التكلفة كانت باهظة، من عملية "البيجر" إلى المجازر المُتنقّلة، واستشهاد ثلّة من قادة حزب الله على رأسهم الأمين العام السيّد حسن نصر الله وخليفته السيّد هاشم صفي الدين.

 

الشيخ نعيم قاسم: لن نتخلّى عن إيماننا ولا عن قوّتنا، لن نتراجع مهما كانت الصعوبات، وحاضرون للمواجهة على قاعدة إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة. لا يوجد لدينا استسلام، لا يوجد لدينا تسليم لإسرائيل، لن تستلم إسرائيل السلاح منا.

 

مايا رزق: تولّى الشيخ نعيم قاسم الأمانة العامة في الحزب الذي دخل ولبنان حقبة جديدة، وهي حقبة من الضغوطات والخروقات والانتهاكات الإسرائيلية والتجاذُبات الداخلية بنكهةٍ إقليميةٍ دوليةٍ يصعب فَهْمُها.

إنه المنعطف الكبير، اذهب أعمق، تفهم أكثر.

 

مايا رزق: أهلاً ومرحباً بكم، ينضمّ إلينا مباشرة الباحث والأكاديمي المُختصّ في العلاقات الدولية الأستاذ حسام مطر في هذه الحلقة من "اذهب أعمق".

أهلاً ومرحباً بك دكتور حسام، بعد أربعة عقود من التأسيس، كيف يمكن أن نعرّف حزب الله اليوم؟ هل نتحدّث عن مقاومة لبنانية؟ هل نتحدّث عن قوّةٍ إقليمية؟ عن لاعبٍ يجمع بين الإثنين؟

 

حسام مطر: حزب الله في تعريفه الأساسي كان يعتبر وما زال يعتبر نفسه أنه حركة إيمانية جهادية، كحركة مقاومة يتعاطى في الشأن السياسي. هذا هو جوهر حزب الله.

أعتقد لا زال هذا الجوهر قائماً، بمعنى أن البُعد الإيماني الديني بالنسبة لحزب الله، إضافة إلى بُعده المقاوِم، هما فعلياً الجوهر الذي إذا تخلّى حزب الله عن أيّ واحد منهما لا يعود حزب الله. وبالتالي، مهما كانت الظروف، سيبقى هذا الجوهر على حاله. هذه الهوية لحزب الله، بالنهاية، حزب الله ما هو؟ هو عبارة عن جوهر يعكس هوية معيّنة، وهو مصالح وأهداف تعكس المظالم التي نهض حزب الله لمواجهتها، بالتحديد مواجهة العدوان الإسرائيلي على لبنان ودول المنطقة، مواجهة الهيمنة الأمريكية في المنطقة، ومواجهة المظالِم التي كان النظام اللبناني حينها يقوم بممارستها.

حزب الله هو سياسات، سياسات مُرتبطة بتوازُنات القوى. لذلك في بنية الحزب وفي المجتمع، هذه هي عناصره. تتغيّر السياسات وتتغيّر الأهداف، ربما أحياناً الاستراتيجية وأحياناً التكتيكية، لكن المبادئ وجوهر الحزب وهوية الحزب هذه لن تتغيّر. التي تتغيّر هي السياسات. حزب الله لليوم هو هذه المقاومة أو هذه الحركة الإيمانية الجهادية التي تتعاطى السياسة، لكن في ظلّ الوقائع الحالية، هو يقوم بعملية تكيُّف، وهي ليست للمرة الأولى. التكيُّف يعني كل منظّمة، كل فاعل سياسي، حينما يواجه تحوّلات كبرى، يقوم بعمليات تكيُّف. هذا التكيُّف يكون على مستويين: إما تكيُّف يصل إلى العقيدة والجوهر، وإما تكيُّف...

 

مايا رزق: أي يُبدّل فيها؟

 

حسام مطر: يُبدّل فيها ويُغيّر فيها.

 

مايا رزق: هل هذا مطروح اليوم؟

 

حسام مطر: إما يذهب إلى التكيُّف الاستراتيجي. حزب الله وهذا خبره سابقاً، هو في مرحلة من التكيُّف الاستراتيجي وليس في مرحلة تكيُّف وتحوّل في الهوية. التكيُّف الاستراتيجي أي في الدور، في السياسات، في الاستراتيجية، يتكيّف مع الوقائع المُستجدّة ربطاً بتحوّل التحدّيات، موازين القوى وما شاكل.

 

مايا رزق: عندما تقول بأنه ربما قام بالتكيُّف في مراحل سابقة، في تجارب سابقة، هناك مَن يشبّه اليوم ما يمرّ به حزب الله داخلياً وخارجياً أشبه بما حصل في سنوات النشأة بالثمانينات، في الـ85 تحديداً. هل هذا ما تقصده؟ أم لا تتحدّث عن حقبات أخرى ما بعد حرب تموز ربما؟

 

حسام مطر: لا، هناك عدّة =حقبات. على سبيل المثال، لدينا حُقبة ما بعد العام 1990: انهيار الاتحاد السوفياتي، اجتياح العراق للكويت، والقدوم الأمريكي، ولحظة الأحادية الأمريكية. وقيل حينها، بعدما أخذوا العرب على مسار السلام، قيل إن هذا الزمن الأمريكي والإسرائيلي. كانت هناك تحوّلات نشأت في تلك اللحظة، حزب الله استجاب لها، اضطرّ مثلاً للدخول إلى البرلمان اللبناني، وكان خارجه. على سبيل المثال، حزب الله في هذه الفترة تحوّل من مجموعات مقاوِمة إلى حركة مقاومة تمكّنت من فرض مُعادلات في الـ93 والـ96 التي أفضت إلى العام 2000. لدينا تحوّل آخر قام به حزب الله هو ما بعد التحرير. بعد التحرير الجبهة اختلفت، طبيعة جزء من الصراع، اختلف صحبها، خروج السوريين من لبنان، اضطرّ حزب الله أيضاً، طوّر بعقيدة المقاومة وطوّر في مُقاربته السياسية الداخلية، وقام بهذا التكيُّف الاستراتيجي، واضطرّ للدخول إلى الحكومة وليس فقط البرلمان. وحينها بدأ حزب الله يتحوّل من حركة مقاومة إلى قوّةٍ هجينة.

 

مايا رزق: اضطرّ للدخول إلى الحكومة أم كانت حاجة له؟ ما الذي جعله يدخل إلى الحكومة؟ عندما تقول "اضطرّ للدخول إلى الحكومة"، ما هي العوامل التي اضطرّته؟ إذا لم يدخل الحكومة وقتها، كيف كان ذلك سيرتدّ عليه؟

 

حسام مطر: كان يعتبر أن الوجود السوري في لبنان هو الذي يضبط اللعبة الداخلية، ومن خلال هذا الوجود السوري كان يفهم أن النظام السياسي اللبناني لن ينقضّ على المقاومة بفعل الوجود السوري وموازين القوى. مع خروج السوريين، وفي ظلّ حينها هجوم أمريكي شرِس جدّاً على المنطقة ضمن عنوان "الحرب على الإرهاب"، لو لم يدخل، كان سيتمّ إنتاج حكومة عميلة للأمريكيين. وهذا حصل لجزئيّة ما، حينما انسحب وزراء حزب الله وحركة أمل ووزراء رئيس الجمهورية، وبقيت حكومة ما يسمّى حكومة الرئيس السنيورة المبتورة، جاء الأمريكيون وقالوا: "هذه حكومتنا، هذه الحكومة الشرعية، سنوظّفها ضدّ الميليشيا التي إسمها حزب الله". وهذا شبيه بما يحاول الأمريكيون القيام به اليوم.

 

مايا رزق: هناك مَن يستذكر هذه المرحلة الآن؟

 

حسام مطر: صحيح. في هذه اللحظة أيضاً، حزب الله تكيَّف. قلنا: خرج من كونه فقط حركة مقاومة كما كان خلال التسعينات. بعد الـ2000، وتحديداً سنة 2006، تحوّل إلى ما سُمّي منظّمة هجينة تجمع بين أشكال القتال غير النظامي والقتال النظامي، شبه جيش. حينها قالوا: "هذه مدرسة جديدة في القتال"، وكان يتكيَّف معها. التكيُّف الثالث بعد الـ2006 و2007 و2008، اضطرّ للدخول إلى العُمق السياسي أكثر، ليس فقط بالحكومة، بل يدخل في لعبة النظام التي أُطلق على أساسها وثيقة الـ2009. جاء يقول: "أنا مُضطرّ للقيام بمُساكنة مع هذا النظام"، وطوّر في خطابه السياسي. إضافة، عندما اضطرّ للدخول إلى المشهد السوري، هذه القوّة شبه النظامية أو هذه القوّة الهجينة التي كانت فقط دفاعية، بدأ يصبح عندها الدور هجومي. هجومي طوّرت منه جزءاً صاروخياً، خلق معادلة الصواريخ الرادِعة مع إسرائيل، استقرّ فيها الوضع الأمني لمدة حوالى 20 سنة، وقوّة هجومية برّية، بالتحديد قوّة الرضوان. هذه طوال الوقت أشكال التكيُّف الاستراتيجي التي كان يقوم بها حزب الله نتيجة تحوّلات، التي أحياناً تكون ناتجة من أزمة، وطوراً ناتجة من تقدّم وفوز أو عن انتصارٍ ما.

الآن، حزب الله في طور أيضاً تكيُّف استراتيجي، يصل ليصبح تكيُّفاً بالجوهر. هذا يحتاج لتحوّلات كبيرة جدّاً، لا أعتقد أنها ممكنة حالياً. إذا حصل التكيُّف بالجوهر، لا يعود حزب الله حزب الله فعلياً.

 

مايا رزق: سأتحدّث عن هذه السيناريوهات، ولكن قبل ذلك، بما أننا نتحدّث عن النشأة، عن جوهر حزب الله، عن الأسس التي جعلت منه ما هو عليه اليوم وكوَّنت شكله خلال أربعة عقود.

هناك مَن يقول بأن السرّ هو في أن حزب الله هو أشبه بمُثلّث مثالي متساوي الأضلاع. المُثلّث، أعني به ثلاثة أمور: عسكرياً، اجتماعياً، سياسياً. هل هذا واقعي؟ وهل ترى اليوم بأنه ربما قصور في أيّ من هذه الأضلاع سيجعله غير متساوٍ، وبالتالي قابل للسقوط أو الانهيار أو لا أعلم، أفول؟ سمّيها ما شئت.

 

حسام مطر: لدى حزب الله أبعاد =مُتعدّدة. إذا ذهبنا مثلاً للهوية، فهو لديه بُعد شيعي لبناني عربي إسلامي، العالم الثالثي، باعتباره حركة تحرّر وطني في وجه الإمبريالية والهيمنة الأمريكية. لو جئنا إلى بُنيته، أنا لا أستطيع أن أراه بدقّة أنه أضلاع مُتساوية. حزب الله في جوهره، بحسب النشأة وبسبب التحدّيات، لا يمكن فَهْم حزب الله - وهذا كُثُر يخطئون بها - لا يمكن فَهْم حزب الله وجزء كبير من سياساته وتحوّلاته إلا بفَهْم مركزية الصراع مع إسرائيل والحرب مع إسرائيل. هناك مقولة بنشأة الدولة الأوروبية: "الحرب صنعت الدولة" بنشأة الدولة الأوروبية.

 

مايا رزق: صحيح.

 

حسام مطر: حزب الله جزء منه صنعته - الأساسي - الحرب مع إسرائيل. بالتالي، ليست أضلاع مُتوازية أو مُتساوية. حزب الله يقوم على جَذْعٍ قوي جداً، هو جَذْع بُعده الجهادي المقاوِم، بنيته العسكرية. هذا الأساس الذي بالنسبة له، لأنه يعتقد أن هناك مهمّة تاريخية، التي من دونها لا أمل للمنطقة ولا مستقبل للبنان والمنطقة، هي هزيمة الاحتلال الإسرائيلي، باعتباره مشروع استيطان وإبادة واحتلالي وخطر داهِم وخطر وجودي. هذه هي البنية الرئيسية. هذه البنية يتمّ تدعيمها بالمشروعية السياسية، بالمشروعية الاجتماعية، بالمشروعية الثقافية، بالتحالفات، بالأبعاد الوطنية والإقليمية. لكن المُرتكز كان لحزب الله هو هذا الجانب الجهادي العسكري المقاوِم، لأنه كان وما زال في مقدّمة هذا الصراع الكبير الذي يُحدّد شكل المنطقة.

اليوم، كم يوجد من تحوّلات في المنطقة سياسية واستراتيجية؟ على ماذا قائمة؟ على نتائج المعركة العسكرية القائمة منذ السابع من أكتوبر. وهذا كان حصل سابقاً، فهو لم يكن بهذا الشكل. المقاومة لها حزب إسمه حزب الله أتى ليدعمها، ليقوّيها، ليمدّها بأسباب القوّة. لأنه من دون هذا المُرتكز، لا سياسة. السياسة أقيمت حينما أصبح هناك هامش في موازين القوى جعلتني أدخل للانتخابات وأعمل بالسياسة، وتنازُلات هنا وأساوم هنا وأتقدّم هنا. هذا قمت به عندما تحقّق شيء من موازين القوى سمحت للحياة السياسية في لبنان أن تكون سائرة. وإلا، في ظلّ كما نرى الآن، عندما =اختلّت موازين القوى، فقدت السياسة في لبنان.

اليوم، أين توجد سياسة في لبنان؟ اليوم، هناك مبعوث عربي ومبعوث أمريكي يأتون إلى لبنان ويطالبون بـ1، 2، 3. بينما في السنوات الماضية، لا، كنا نرى تنافُسات بين قوى لبنانية وبين أحزاب لبنانية، وانتخابات تروح وتأتي، وكان يُقال إن القوى المحلية اكتسبت وزناً إضافياً. الآن، سحقٌ تام للعبة السياسية اللبنانية، لأن هذا التوازن اختلّ.

 

مايا رزق: هناك مَن يقول إنه لا، هذا ليس سَحْقاً، هذا ربما هامش من حرية التعبير الذي لم يكن موجوداً عندما كان هناك نوع - واقتبس العبارات التي نسمعها في الإعلام اللبناني - نوع من سطوة سلاح حزب الله في الداخل.

سأتحدّث عن هذه الجزئية، ولكن بما أنك أتيت على ذِكر الوثيقة عام 2009، دكتور حسام مطر، فهي وثيقة سياسية وطنية. مشاهدينا، هي الوثيقة الثانية لحزب الله، أعلنها الأمين العام حينها السيّد حسن نصر الله عام 2009، بعد 24 سنة على ما يُعرف بالرسالة المفتوحة الأولى. فما أهميّتها؟ وهل هي فعلاً إعادة صياغة للخطاب السياسي للحزب أمام الداخل والخارج؟

البداية ستكون مع الهوية الوطنية والإسلامية. من أبرز مضامين الوثيقة التالية: 

=إذ تؤكّد أن حزب الله لبناني الهوية والانتماء، وجزء أصيل من النسيج اللبناني المَحْض، بعد التشديد على احترام العَيْش المشترك والتعدّدية الدينية والطائفية، ورفض أيّ شكل من أشكال التقسيم والفَدْرَلة.

الوثيقة أيضاً جدّدت الالتزام بالسلاح والمقاومة ما دام هناك تهديد إسرائيلي، ودعت إلى المُزاوجة بين مقاومة شعبية تساهم في الدفاع عن الوطن في وجه إسرائيل، وجيش وطني يحمي البلاد. وهذه الصيغة توضَع ضمن استراتيجية دفاعية للبنان. ويكثُر الحديث اليوم عن استراتيجية دفاعية ومُناقشة هذا الأمر.

في السياسة الداخلية، أوردت أن حزب الله يعترف بالدولة ويشارك في مؤسّساتها من برلمانٍ وحكومة، ودعت إلى بناءِ دولةٍ عادلةٍ وقادرة، وإلى إصلاح النظام سياسياً واقتصادياً.

أما في الإقليم والخارج، فكرّست فلسطين قضية مركزية للحزب، مع التمسّك بحقّ العودة ورفض التسويات مع إسرائيل، ورحّبت بأية علاقة بدول عربية وإسلامية تدعم المقاومة، كما انتقدت الهيمنة الأمريكية على المنطقة، وأكّدت تحالفها الاستراتيجي مع سوريا وإيران.

 

ينضمّ إلينا في هذه الحلقة من "اذهب أعمق" الكاتب والباحث في الشؤون السياسية، أستاذ عبد الله السناوي. أهلاً ومرحباً بك. انطلاقاً من هذه الوثيقة التي ربما تعدّ ركيزة وتعريفاً واضحاً بحزب الله ونظرته للداخل اللبناني وأيضاً للإقليم، كيف يمكن أن نقرأها في سياقها الإقليمي؟ هل يمكن أن نعتبرها إعلاناً واضحاً لمُعادلة أبعد من لبنان، مُرتبطة حَصْراً بموضوع تحرير فلسطين، ومرتبطة بمقاومة الهيمنة الإسرائيلية والأمريكية على المنطقة؟

 

عبد الله السناوي: إذا كان الهدف هو تعريف حزب الله من ناحيةٍ عربيةٍ ومن ناحية الصراع العربي الإسرائيلي، شرعيّته هنا بالضبط أنه حركة مقاومة. التكتّل الاستراتيجي أو التكتيكي، هذه مسألة تتعلّق بإدارة الحزب لأزماته أو للأزمات اللبنانية. لكن بالنسبة للعالم العربي، وحدة القياس الأساسية هي فكرة المقاومة، مقاومة المشروع الصهيوني. واكتسب شعبيّته في العالم العربي، واكتسب دوره من هذه الزاوية بالتحديد. وبالتالي، هي وحدة القياس ولا شيء آخر. كل ما هو عداه أمور تدخل في حقّه أو في ممارساته السياسية أو كيف يُناور للحفاظ على وجوده أو كيف يتصرّف أمام المآزق الأساسية. يرجع لوثيقته المُشار إليها أو للاعتبارات العملية. هذا أمر طبيعي ومشروع، لكن تظلّ فكرة المقاومة هي كُنه شرعية حزب الله في العالم العربي بأسره وليس في لبنان فقط.

في هذه اللحظة، علينا أن نلاحظ على الجبهتين: الجبهة الفلسطينية مع حماس، والجبهة اللبنانية مع حزب الله، في مطلب واحد: نزع سلاح المقاومة. هذه ليست صدفة. عندما يُنْزَع سلاح المقاومة من حماس، معناه التسليم الكامل لما تريده إسرائيل، والتسليم بمشروع إخلاء غزّة من سكانها نوع من أنواع الاعتراف المُطلق بالتهجير القَسْري من غزّة إلى سيناء، وتالياً طبعاً من الضفة الغربية إلى الأردن. نحن أمام سياسات إقليمية جديدة لبناء شرق أوسط جديد تكون إسرائيل فيه هي القوّة الأولى المُهيمنة. وبالتالي، نزع سلاح المقاومة من حماس أو من حزب الله مسألة واحدة. كما كانت لدينا جبهة إسناد من حزب الله إلى حماس، أنا في هذه اللحظة أمام تصفية مزدوجة لفكرة المقاومة نفسها، بإدانتها واعتبارها عملاً غير مشروع ونزع سلاحها. هذا كلام ليس عشوائياً، هذا يخضع لتخطيطٍ استراتيجي ونتائجه وخيمة وخطيرة. وبالتالي، سلاح حزب الله ليس مسألة لبنانية يقرّرها حزب الله وحده. إذا هو ما سمح - وهو لن يسمح - بنزع سلاحه، هو يفقد في نفس اللحظة شرعيّته، ولا أحد يهتمّ بالطريقة التي سوف تتمّ بها إدارة أزماته الداخلية اللبنانية أو كيف يتكيّف استراتيجياً.

نقطة الشرعية الأساسية هي سلاح المقاومة وقُدرته على الصمود أمام التحدّيات. وهنا أنا لديّ مشكلة كبيرة، لنعترف: في منطق على الورق ونظرياً هو منطق صحيح، أن الدولة لا بدّ من أن تحصر السلاح، ويكون حَصْر السلاح مع الدولة، وأن يكون قرار الحرب والسلم مع الدولة. هذا كلام صحيح تماماً ولا يمكن المُجادلة فيه، لكن بشرط أن تكون هناك دولة قادرة على حماية نفسها. لكن نزع سلاح المقاومة مع عجز الدولة نفسها، مع استباحة لبنان وتقسيم لبنان، وأن تفعل إسرائيل بلبنان ما تشاء، هذه هي القضية الحقيقية. وبالتالي، الضغط على حزب الله لتسليم سلاحه مجاناً هو أنك تمكّن إسرائيل من أن تحقّق بالدبلوماسية أو بالضغوط الاقتصادية ما عجزت عن تحقيقه بالسلاح، رغم الإنجازات التي حقّقتها.

بقاء سلاح المقاومة إشارة رمزية أن هذه المسألة سوف تستمر. بالتعريف، لا توجد مقاومة في العالم سلّمت سلاحها. المقاومة فكرة، وفكرة مشروعة طالما أن هناك احتلالاً. لو تخلّى حزب الله عن هذه المهمّة، غيره سيظهر، لبنان سوف يفرز، فلسطين سوف تُفرز مقاومة أخرى. هذه مسألة أساسية.

ثم أنا لديّ مشكلة أخرى: أنه لا توجد التزامات تجاه إسرائيل. أنا لديّ مبعوث فوق العادة يأتي ويضع الشروط والطلبات، وهناك ورقة قدّمها.

 

مايا رزق: سأتحدّث عن هذا الموضوع بالتفصيل بعد قليل، بما يخصّ الدور الأمريكي الآن، وهو واضح وبشكلٍ مباشر من خلال التصاريح التي يلقيها عدد كبير من المبعوثين إلى المنطقة وتحديداً إلى لبنان. ولكن بما أننا كنا قد تحدّثنا عن هذه الوثيقة، اسمح لي أستاذ عبد الله بأن أتوجّه إليك، دكتور حسام مطر، في ما يخصّ هذه الوثيقة. هناك مَن يرى فيها أنها نجحت في "لبْنَنَة" حزب الله - إذا ما صحّ التوصيف - بلا كلفة على عقيدة المقاومة، إذا ما كان التعبير صحيحاً. هل كانت هذه الوثيقة كافية؟ عِلماً بأنها لم تحمِ الحزب من تِهَم "دولة ضمن الدولة" وإلى ما هنالك؟

 

حسام مطر: هي لم تكن محاولة للردّ على الاتّهامات، هي كانت تعبّر عن ضرورات في تلك اللحظة. في تلك اللحظة، حزب الله قد انتقل إلى الحكومة اللبنانية، أصبح يحضر في الحكومة اللبنانية، أصبح يتدخّل بشكلٍ ما في إدارة لعبة التوازنات داخل النظام السياسي. بنظام سياسي طائفي، حزب الله لديه منذ نشأته توجّس منه، قلق منه، خوف منه، باعتباره منقسماً طائفياً، نظاماً مخترقاً خارجياً، نظاماً هشّاً، نظام نُخَب وقادرة للتلاعُب والبيع والشراء، كما يُقال عندنا باللبناني. فبات هو مضطرّاً أن يكون جزءاً داخل هذه اللعبة بسبب الغياب السوري والفراغ الذي تركه السوري. اليوم أصبح جزءاً، ويريد أن يرعى لعبة التوازُنات ليضمن عدم تفجّر الأوضاع إلى صراعات طائفية ومذهبية، خاصة وأن ذلك تلى أحداث سنة 2008 في لبنان التي شهدت اشتباكاً له بُعد طائفي في جزءٍ منه.

أيضاً، كان حزب الله حينها، وزنه الإقليمي بعد الـ2006 أو تأثيره الإقليمي، كان يتزايد. كانت الوثيقة تحاول أن تقدّم طرحاً لمقاومة هي موجودة داخل الدولة والنظام السياسي، عكس ما كانت عليه الحال عام 85. في العام 85، هذه مقاومة هي خارج الدولة وخارج النظام السياسي، بل مُعادية - بالـ85 - للنظام السياسي باعتباره نظاماً طائفياً. وكانت هي خارج السلطة. من الـ90، حزب الله يدخل إلى السلطة، يدخل إلى الحكومة، ويدخل إلى النظام السياسي. فصار هو عليه - وإن كان أمراً مُرهقاً جداً - وهذا واحد من الأمور التي رتّبت أعباء كبيرة على حزب الله: أنه هو يريد أن يبقى مقاومة لديها هذا الهامش للعمل بما يخدم الدفاع عن لبنان، وفي نفس الوقت أصبح مضطرّاً لأن يكون جزءاً من السلطة والحكومة والنظام.

الوثيقة حاولت أن تقيم هذا التوازُن بين الدولة والمقاومة، وتقدّم هذه الرؤية والمُقاربة. في حينها، كانت هذه المُقاربة كافية. القُدرة على تحويلها إلى مشروع سياسي كان مُرتبطاً - أعيق برأيي - أولاً لأسبابٍ لها علاقة بالحزب، ثانياً لأسبابٍ لها علاقة بطبيعة النظام السياسي اللبناني، والسبب الثالث ورئيسي: حجم الهجوم الأمريكي الذي استمرّ في لبنان وفي المنطقة. 2011 بدأت الأزمة السورية، لكن في لحظتها، بالحدّ الأدنى، عمل حزب الله تطويراً في الرؤية وتطويراً في الخطاب، وحاول =أن يطوّر في استراتيجيته ليتمكّن أن يوائم بين وجوده داخل الدولة والحكومة والنظام، ووجوده في حركة تحتاج لهوامش واسعة سياسية وميدانية للعمل لتتمكّن من ردع إسرائيل من الاعتداء على لبنان.

 

مايا رزق: سأتحدّث عن دور حزب الله في الحكومة في لبنان، وإذا ما كان لصالح المقاومة أم لا، ولكن بعد هذا الفاصل.

فاصل قصير، مشاهدينا الكرام، ونتابع "اذهب أعمق". ابقوا معنا.

 

مايا رزق: من جديد، أهلاً ومرحباً بكم إلى "اذهب أعمق" مع حزب الله: المنعطف الكبير. "دولة داخل الدولة" أو شريك في الحياة السياسية.

تتباين التوصيفات وفق التوجّهات والمصالح. فما الدور الذي أداه حزب الله في الحياة السياسية؟ كتلة من 12 نائباً حصل عليها حزب الله في أول انتخابات يخوضها بعد اتفاق الطائف عام 1992. منذ ذلك الحين حافظ على وجود دائم وتصاعد في البرلمان مع توسّع التحالفات. لاحقاً، في انتخابات عامي 1996 و2000، عزّز وجوده النيابي، وصولاً إلى انتخابات عام 2005 بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق وقتها رفيق الحريري، حيث خاض السباق ضمن تحالف الثامن من آذار وحظيّ بكتلةٍ وازِنة. ثم في انتخابات عام 2009، دخل الانتخابات ضمن تحالف واسع مع التيّار الوطني الحر وحلفائه. ولاحقاً عام 2018، حقّق مع حلفائه أكبر كتلة برلمانية.

أما في عام 2022، ورغم الأزمات الاقتصادية والسياسية في البلاد، فحافظ مع حلفائه على كتلة قوية مع خسارة مقعد في جبيل.

في الانتخابات الأخيرة، حصل رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد على العدد الأكبر من الأصوات التفضيلية في لبنان.

إذاً، يحافظ حزب الله منذ عام 2005 على عددٍ شبه ثابت من المقاعد تراوح حول 13 مقعداً ثابتاً، أضف إليها نواب القوى التي يتحالف معها، وعلى رأسها حركة أمل، وهما يحظيان معاً بما معدّله 27 مقعداً ثابتاً من أصل 128، إضافة إلى تفاهمات مع التيّار الوطني الحر وأحزاب الثامن من آذار.

أما الحكومة، فدخلها للمرة الأولى بعد اغتيال الحريري في عهد فؤاد السنيورة عام 2005. تبعه ذلك في عام 2008 في ظلّ اتفاق الدوحة، حيث حصل الحزب وحلفاؤه على الثُلث الضامِن في الحكومات.

كذلك شارك في الحكومات المُتعاقبة من عام 2011 وحتى اليوم مع نجيب ميقاتي وتمّام سلام وسعد الحريري، ومن ثم حكومة حسان دياب وحكومة نجيب ميقاتي، وصولاً إلى الحكومة الحالية التي أعلن حزب الله مشاركته فيها حفاظاً على وحدة الموقف اللبناني.

أجدّد الترحيب بك الباحث والأكاديمي المختصّ في العلاقات الدولية، دكتور حسام مطر. إذاً، دكتور حسام، دخول المقاومة مُعترك السياسة، هل أزال نوعاً من الهالة التي كانت تحيط بالحزب؟ الحزب الذي كان مُنزّهاً إلى حدّ ما - نحن نتحدّث عن حركة مقاومة للاحتلال - لكن بات جزءاً من منظومة فاسِدة، هكذا توصف.

الموضوع أصلاً كان موضِع جدل في داخل الحزب: هل ندخل الحكومة أم لا ندخلها؟ هل ندخل المُعترك السياسي أم لا ندخل؟ اليوم، كيف يمكن تقييم هذه التجربة؟

 

حسام مطر: باعتبارها، كما ذكرت، هي خيار الضرورة. إن كان يصحّ القول إنها "الشرّ الذي لا بدّ منه"، بالنسبة لحزب الله، هو دخل إلى الحياة السياسية تحت عنوان الاضطرار، بالتحديد حينما تحدّث عن الحكومة في العام 2005، وكان يفرضه غياب الدور السوري والسوريين في لبنان، وكان يحاول القيام بدور له علاقة بضَبْط اللعبة داخل النظام السياسي. وهذا أعتقد، في مكانٍ ما، باعتباره حُكم الضرورة، فرض على الحزب مجموعة من الأعباء التي تحدّثت عنها: دخل إلى نظامٍ سياسي طائفي، نظام سياسي مُخْتَرق من الخارج، ودخل إلى نظامٍ سياسي فاسد أيضاً، الفساد فيه هو أمر بُنيوي وليس مجرّد انحراف.

لكن بالنسبة لحزب الله، كان هذا أمراً تفرضه الضرورة والخيارات القاسية. يعتقد الحزب أنه، رغم الأثمان التي فرضها، لكن كان ضرورياً لتأمين مقدار من الاستقرار الداخلي في بلدٍ لهذه الدرجة مُخْتَرق، وكان هناك عدّة لاعبين خارجيين يطمحون إلى إثارة الفوضى داخله بهدف استهداف المقاومة. وبالتالي، حاول حزب الله أن يستكشف داخل هذا النظام إمكانيات لتطويره، لتحسينه، من دون أن يصطدم معه. وهذه كانت المُعضلة: كان يوازِن بين الحاجة إلى دور فيه مقدار من الإصلاح.

 

مايا رزق: وبالتالي، فشل في إصلاح أيّ شيء؟

 

حسام مطر: فشل طبعاً. فشل في القيام بهذه العملية، لأنه كان يعتقد أنه إذا حاول القيام بعملٍ ثوري إصلاحي -بمعنى ثوري - سيصطدم بالبنية الطائفية، فيذهب إلى اقتتالٍ طائفي، أو سيأتي الخارج الذي له مصالح مع هذه الكتل الطائفية، يستخدمها في الصراع مع حزب الله تحت عنوان أن حزب الله لا يريد الإصلاح بل يريد أن يقوّي حصّته الطائفية. وبالتالي، حاول حزب الله أن يوازن. هو لا يستطيع أن يكون خارج هذه اللعبة، ولا يستطيع أن يندمج فيها بالكامل. حاول أن يقف في مسافة: موجود داخلها، مسافة مُساكّنة، وحاول أن يدفع بالإقناع والحوار والنقاش إلى تحسينات داخل النظام، ليس إصلاحات. لما فشل في الإصلاح، حاول أن يذهب للتحسين، للتطوير، على محاولة خلق مساحات وهوامش لفعلٍ سياسي جديد.

هذا كله كان يصطدم أولاً لأن الحزب حَذِر جداً، وأحياناً يُلام أن حَذَره كان مُبالغاً فيه، وهو مرتبط بقواعد لعبة سياسية لا يريد التصادُم معها، كما قلنا، بما يُغرقه في أزمة سياسية كبيرة تستنزف قوّته وعقله. أين عقله؟ في الصراع مع إسرائيل، تحوّلات موازين القوى مع إسرائيل، تطوّر المشروع الإسرائيلي، أو أن يأتي الخارج يستغلّ هذا الأمر. هذا حمّله أعباء قاسية جداً.

لكن بالنسبة للحزب، في المقابل، أمّن تقريباً ما بعد العام 2005، 20 سنة من الاستقرار الداخلي، رغم الأزمات الاقتصادية، لكن لبنان لم ينزلق بعدها إلى حربٍ أهلية. وهذا يعتبر أنه أمر جيّد للبنانيين، في ظلّ أن سوريا والعراق وكل المنطقة في السنوات الماضية كانت في حال اشتعال واحتراب أهلي كبير جداً.

 

مايا رزق: هذا الأداء السياسي، ألم يؤثّر سلباً على جمهور حزب الله في الداخل اللبناني وعلى البيئة نفسها؟

 

حسام مطر: نعم، أثّر. بالتحديد، كان حزب الله اعتاد أن تكون =مشروعيّته تأتي من مصدر أساسي ورئيسي، هي مشروعية المقاومة. بعد العام 2000، مع الانسحاب الإسرائيلي، بدأت تعلو أصوات في لبنان نتيجة الثقة بحزب الله، نتيجة الإيمان بمشروعه، نتيجة تجربته، أصوات في البيئة اللبنانية تقول لحزب الله أنا أريد منك أكثر من كونك مقاومة دفعت الاحتلال سنة 2000، وتمارس الردع لمنع الاحتلال من العودة، وتحاول أن تحرّر ما تبقّى من أرضٍ لبنانية.

لكن مع تدهور الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في لبنان، ومع اكتساب حزب الله دوراً سياسياً داخلياً، كما قلنا - الحكومة ثم النظام - كان يُقال له: أنت بحاجة إلى مشروعيّة ثانية تدعم مشروعية المقاومة. خاصة وأننا كنا ندخل في كل العالم في هذه اللحظة الليبرالية. هذه لحظة المواطن الذي يحتاج الرفاه والخدمات وما شاكل. كانت هذه لحظة كبيرة جداً، وكان في سياقها يأتي الخارج أيضاً في مشروع تحت عنوان "لبنان أولاً"، والهموم الوطنية هي الأساس: "شو بدكم بالصراع مع إسرائيل؟".

حزب الله في هذا المسار، لمحاولة بناء مشروعية ثانية، حافظ على نظافة كفّه. قال لهم: أنا أقوم بأداء سياسي نظيف ولست فاسِداً.

ثانياً، قال لهم: سأدخل بمشروع لمكافحة الفساد، لكن دخل به بشروط عدم الاصطدام مع الطبقة السياسية. تبيّن أن هذا المشروع سار بطريق ليس سريعاً كما ينبغي، أو لم ينطلق حتى كما ينبغي. فعلق حزب الله، واكتفى بكونه بشكل أساسي أنه حزب نزيه ونظيف ويحاول، لكنه لم يستطع تحقيق إنجازات، فجعل هذه المشروعية التي لها علاقة بفكرة بناء الدولة عند بعض الجمهور تتراجع. فيما جمهور آخر يعذر حزب الله ويقول له: نحن نتفهّم أن هذه الدولة لا يمكن إصلاحها، وفسادها ونظامها والتدخّلات الخارجية فيها أكبر منك. فهناك جمهور تفهّم، وهناك جمهور يعتبر أن حزب الله خسر جزءاً من مشروعيّته.

 

مايا رزق: أذهب إليك مجدّداً، أستاذ السناوي. أجدّد الترحيب بك، أستاذ عبد الله السناوي، كاتب وباحث في الشؤون السياسية، أنت معنا من القاهرة.

برغم كل ما تحدّثنا عنه عن أداء حزب الله في الداخل اللبناني، لا بدّ من أن نذكر أيضاً الأداء الإقليمي، وفي مواجهة المُحتل. أحبّ مَن أحبّ وأبغض من أبغض، حزب الله نجح في تثبيت ردع لأطول مدة في تاريخ مقاومة الاحتلال. نتحدّث عن عقودٍ من الردع. هذا الأمر، كيف كان انعكاسه على الإقليم؟

ومن هنا، أريد أن أسألك: كيف ينظر الإقليم إلى دور حزب الله كعامل استقرار داعم للمقاومة أم لا؟

 

عبد الله السناوي: الحقيقة، ما يجب طرحه الآن في هذه اللحظة مع أهمية المراجعة لتجربة حزب الله، ما فيها من إنجازات وما فيها من أخطاء، في هذه اللحظة نحن أمام تحدّ وجودي لا يتعلّق بحزب الله فقط، لكن يتعلّق بمستقبل المنطقة بأسرها. إذا ما انكسرت المقاومة في لبنان ونُزِع سلاحها، ومضينا طويلاً وكثيراً في التكيّف إلى حدّ خسارة القضية نفسها، نحن سنكون أمام وضع آثاره السلبية سوف تنعكس على الجميع، أولّهم لبنان ومشروعات تقسيم لبنان والمنطقة كلها: "إسرائيل الكبرى" أو الحَقبة الإسرائيلية في المنطقة.

نحن أمام وضع جديد. وبالتالي، النقاش والتحذير في مسألة سلاح حزب الله وسلاح المقاومة في فلسطين كلاهما مطلوب اجتثاث فكرة المقاومة. أنا في وضع سياسي واستراتيجي جديد: النظام السوري الحليف سقط، يوجد نظام آخر خصم في سوريا، هناك تحالفات واتجاه لتفاهمات أمنية واستراتيجية معه. الحصار يحكم على حزب الله. أمام تراجع النظام الإقليمي العربي والتخاذُل المُفرط في قضية غزّة، سوف يمتدّ هذا التخاذُل - أو هو امتد بالفعل - لقضية لبنان. بينما مصير المنطقة ربما يتقرّر هنا في لبنان وفي فلسطين: غزّة والضفة الغربية، والتهجير القَسْري في تهديد لوجود الأردن، وهناك تهديد لمصر واحتمال جرّها للحرب. إذا ما مضى التهجير القَسْري، مصر في هذه الحال سوف تكون مضطرّة لدخول الحرب، هي لا تريد، لكنها قد تضطر. إذا ما مضت إسرائيل، وهناك كلام كثير وتلميحات كثيرة.

نحن أمام لحظة تحوّل خطيرة في المنطقة. وبالتالي، أنا عندما أناقش قضية حزب الله، لا أستطيع مناقشتها في الماضي فقط، هذا ضروري، لكنه ليس كافياً. أنا مُحتاج لمناقشتها في هذه اللحظة.

في هذه اللحظة، دعيني أقول، واليوم الكل تابع اجتماع مجلس الوزراء اللبناني وما توصّل إليه، استبعد فكرة الصِدام أو الحرب الأهلية، لم يمض بعيداً، وتفهّم إلى حدّ ما واضح وصريح تحفظّات حزب الله. لا بد من أن تقابل أية خطوة لبنانية خطوات من الجانب الآخر. نحن نتحدّث عن الانسحاب من النقاط التي تحتلها إسرائيل في لبنان، وهناك الأسرى، وخطوات عملية ليكفّ العدو الإسرائيلي عن الغارات على جنوب لبنان. لا يكون ضغط من الداخل من الحكومة وضغط إسرائيلي موازٍ في نفس اللحظة في ضرب حزب الله، كأن الحكومة في هذه اللحظة - وهي لا تريد ذلك - طرف في العدوان على لبنان وليس طرف في حماية لبنان.

وبالتالي، أمام الحَرَج وأمام السيناريو الخطير لجرّ لبنان مجدّداً إلى حربٍ أهلية مُدمّرة، ونحن في ذاكِرة 1975 وحتى سنة 1990، لدينا ذاكِرة سلبية مُرعبة في الحرب الأهلية: في شارع واحد كان في قتال، وفي المنطقة الواحدة لم يكن أحد آمِناً. ربما كنت صغيرة، أنا دخلت بيروت أثناء الحرب الأهلية في انقسام حقيقي: بيروت الشرقية وبيروت الغربية.

 

مايا رزق: حتى الآن، هناك نوع من إجماع لبناني بأن أحداً لا يريد العودة إلى تلك السنوات، صحيح.

أمام هذا الواقع اليوم - وعذراً على المقاطعة، أستاذ عبد الله السناوي - ما هي خيارات المقاومة في لبنان؟

 

عبد الله السناوي: خيار المقاومة أول وأهمّ أمر، ومن دون أمر إلى تسويغ إننا سنقوم بمناورة استراتيجية. الظروف اختلفت، لم يعد مطلوباً أن حزب الله أن يكون طرفاً فاعلاً ممثلاً للطائفة الشيعية، سيكون موجوداً بشكل آخر. لكن ما هو مطلوب أن فكرة المقاومة نفسها أن تنتهي في لبنان. وبالتالي، إفساح المجال أمام إسرائيل أن ترسم المنطقة كما تشاء، وتقسيم لبنان مسألة وقت.

ربما لهذا السبب، الحكومة أخذت مساحة للخلف: أولاً، خشية من الحرب الأهلية. وأعتقد أن هذا يُعتبر نصراً سياسياً نسبياً لحزب الله، وثباته على موقفه ووضوح أهدافه. أعتبر هذا، لكن من المُبَكّر جداً، والضغوط سوف تتوالى.

لكن هو مُتمركز حول فكرتين:

أولاً، أنه لا توجد استراتيجية أمنية لبنانية تحمي لبنان مقابل تسليم سلاحه للدولة. تسليم سلاحه للدولة وفق استراتيجية أمنية متّفق عليها، وليس إذعاناً لما تريده إسرائيل لاستباحة لبنان وأمنه.

ثانياً، خشية الحرب الأهلية. لأنه من دون مُبالغات، تعبير الشيخ نعيم قاسم أن سَحْب السلاح كأنه سَحْب الروح، أعتقد أن هذا تعبير دقيق. ولا يقول لي أحد سنقوم بمناورة استراتيجية، لا، هو نزعه فعلاً. هذا إنهاء حقيقي واستراتيجي، ونزع أية شرعية ومشروعية عن حزب الله.

هذه القضية التي نريد أن نناقشها، نريد التحدّث بوضوح كامل، أن التحدّي خطير، وحزب الله لا بد من أن تكون له وسائله في طرح قضيته على الرأي العام العربي، ليس مجرّد دفاعاً عن طائفة، لكن دفاعاً عن فكرة أكبر: فكرة المقاومة. لأن نزع سلاح حماس وحزب الله أمر مُرعب.

 

مايا رزق: للأسف، رأينا الرأي العام العربي كيف يتفرّج على حرب الإبادة في غزّة. أذهب =إليك مجدّداً، دكتور مطر. الوقت يداهمنا. كنت أريد أن أسألك عن سوريا. هناك مَن يرى أن تدخّل حزب الله في سوريا أو مُحاربته للإرهاب هناك كانت خطأ، ربما دفع ثمنه في الحرب الأخيرة مع إسرائيل.

هناك مَن يرى، سمعنا كثيراً عقب استشهاد السيّد حسن نصر الله  بأن حزب الله كَبُر زيادة عن اللزوم، وهو يدفع الثمن الآن. وصلنا اليوم إلى هذه الأحوال التي تفضّل وذكرها السيّد السناوي.

نسأل: هل فعلاً يدفع أثمان ما ذكرت أنا قبل قليل؟ وما هي خيارات حزب الله اليوم؟

 

حسام مطر: أكيد، جزء كبير من السياسة الإقليمية الأمريكية وحلفائها في المنطقة بعد سنة 2003 كان المطلوب منها خلق ساحات لاستنزاف وإرهاق قوى المقاومة. الأمريكيون وحلفاؤهم هم في حال هجوم لاستباحة المنطقة. وإلا، كان إسمهم هم المقاومة. وبالتالي، طبيعي هذا الهجوم الذي نجح هذا المحور بكسره لسنواتٍ طويلة. بنفس الوقت، كان المحور يدفع أثماناً كبيرة لأجله.

ثانياً، أعتقد أن السؤال السوري هذا كان مطروحاً قبل أن يجلس النظام الجديد مع إسرائيل. هذا كان مطروحاً سابقاً. بعدما جلس النظام الجديد في سوريا مع إسرائيل وتبنّي سياسات طائفية، كما رأينا في أكثر من منطقة سورية، هو قائم بكل ما قال حزب الله إن هذه الجماعات ستقوم به في سوريا، وأن هذا سيقود الأمن العربي وسيقود نتائج الصراع مع إسرائيل. وهذا هو يتحقّق. أعتقد أن السؤال بات خلفنا.

 

مايا رزق: لكن هناك مَن يقول بأنه منذ سنوات لم تكن هناك هذه النماذج في سوريا، وربما كانت الأمور ستبدو مختلفة في سوريا؟

 

حسام مطر: هذه هي الجماعات التي ظهرت منذ البداية، باعتبار أن لديها الزُخم القتالي. هناك كانت معارضة وطنية في سوريا، ولا زال البعض منها موجوداً، وأغلبه لا زال خارج سوريا. لكن التي لديها الزُخم القتالي وتمّ تمويلها وتدريبها وتأهيلها هي هذه الجماعات التي وصلت إلى الحُكم. هذا سؤال أعتقد بات خلفنا.

ربما المحور في سوريا لم ينجح في أن يحوّل اللحظة العسكرية إلى لحظة سياسية. هو أنهى جزءاً من الجهد العسكري، ولم يتمكّن من تحويله إلى قُدرة على ما يُسمّى أن يوجد سلاماً، لسببين: لسببٍ مُرتبط بالمسلّحين حينها والدول الداعمة لهم التي لا تريد تسوية، ولأسبابٍ أيضاً مرتبطة بالنظام السوري حينها. هذين السببين فبقي في لحظة الحرب.

حزب الله، دوره في الإقليم كان دائماً هو ضمن معيار الحدّ الأدنى. كان هناك قاعدة: يجب أن يبقى حزب الله ذروة =جهوزيّته للصراع مع إسرائيل والمواجهة المباشرة مع إسرائيل. وبالتالي، كل دور إقليمي كان يفترض أن يبقى تحت وعنوان الحد الأدنى.

حزب الله لم يتدخّل بشكل واسع في العراق، وأرسل مجموعة من المُستشارين بناءً على طلب الحكومة العراقية فقط، وليس له دور قتالي واسع.

 

مايا رزق: في اليمن؟

 

حسام مطر: في اليمن أيضاً ليس لحزب الله دور قتالي. حتى مَن يتّهمون حزب الله في اليمن يقولون: أرسل مستشارين، ليس لديه دور حقيقي. المسرح الوحيد الإقليمي حيث حزب الله ظهر: سوريا. سوريا، باعتبار ما يحصل اليوم، الإسرائيليون والأمريكيون يقولون إن الذي غيّر الموازين اليوم في المنطقة ليس فقط الحرب الإسرائيلية بذاتها، بل أهمّ متغيّر يحصل الآن في المنطقة، الذي يقود مشروع التحرّر في المنطقة، هو ما يحصل في سوريا. وبالتالي، حزب الله ذهب إلى هذه الساحة باعتبار أن الأمريكيين وحلفاءهم تمكّنوا من تحويلها إلى ساحة حربٍ أهلية.

أما الأصل عند حزب الله - وهذا مهم أن يسمعه الرأي العام العربي - حزب الله لديه قاعدة من الـ96 وكرّسها في أكثر من محطّة. حينما أتى الأمريكيون إلى العراق وحاولوا أن يسلّموا حينها أن النظام بدل صدّام حسين نأتي بالأكثرية الشيعية، خرج سماحة السيّد حسن نصر الله قدّس الله سرّه وقال للشيعة العرب في العراق: "إيّاكم وهذا الأمر، اذهبوا إلى تسويةٍ مع النظام العراقي. لو هو كان مُعادياً لنا، لكن التسوية معه أولى من السماح للأمريكيين بالاحتلال".

هذا كان مبدأ عند حزب الله: أن القضايا الداخلية في بلداننا نحلّها في ما بيننا، ولا نستقوي بالخارج، ولا نستخدم السلاح في ما بيننا، ولا نستخدم الخطاب الطائفي.

في البحرين، الأكثرية الشيعية في البحرين، كان خطاب السيّد وحزب الله: إيّاكم والصِدام المُسلّح مع الحكومة في البحرين، إيّاكم والخطاب المذهبي مع الحكومة في البحرين. في المكان الذي هم فيه أكثرية، نفس هذا الخطاب كان مُلتصقاً لحزب الله في سوريا، في ليبيا، في تونس، في مصر، في الكل، اذهبوا إلى مصالحات داخلية، لا تستخدموا العنف، عبّروا عن آرائكم وفق المسارات السياسية، لا تستقووا بالخارج.

وكان حزب الله يقول: كل هذه الصراعات المحلية، أنا خارجها. عندما ارتبط الأمر فقط بما يرتبط بالصراع المباشر مع إسرائيل، تدخّل حزب الله بالحدود الدنيا التي كان عليه أن يتدخّل فيها، واحتفظ بقوّته الرئيسية للصراع مع إسرائيل.

 

مايا رزق: اليوم، ما هي خيارات الحزب في الداخل، وفي صراع المقاومة، في هذا الصراع مع إسرائيل، والخروقات "على عينك يا تاجر"؟

 

حسام مطر: خيار حزب الله والمقاومة في المنطقة كلها اليوم: =نحن في أعتى موجة استعمارية منذ نهاية الحرب الباردة. الأمريكيون هذه ليست الموجة الأولى. قلنا: بعد التسعين قاموا بموجة، وبعد الـ2001 قاموا بموجة، وفي ظلّ داعش قاموا بموجة. وربما هذه الموجة الرابعة، الأشدّ قسوة وشراسة للأمريكيين وحلفائهم. وجزء منها مرتبط لأن الأمريكيين مُستعجلون لحَسْم الصراع اليوم في المنطقة، لما له علاقة بالانتقال إلى مواجهة الصين الشاغل الأساسي بالنسبة لهم.

في ذروة هذه الموجة، وفي ظلّ هذا الاختلال الكبير في المُقدّرات، المطلوب من قوى المقاومة ومحور المقاومة الآن: الصمود. الصمود إلى حين أن تبدأ هذه الموجة العالية بأن تفقد زُخمها. وهذا الصمود يستوجب تقنين النَزْف: نقلّل من مستوى النَزْف على المستوى البشري والعتادي والمستوى السياسي والمستوى الاجتماعي.

الصمود إلى أقصى حدّ، الحدّ من النَزْف قَدْر المُستطاع، من خلال التكيّف العملياتي والعسكري والسياسي.

ثالثاً، الحفاظ على هامش من المبادرة. حين تظهر فُرَص في منطقةٍ شديدة الاضطراب، حين أن تظهر أية فرصة أن نقتنص فُرَصاً جديدة ونعوّل على استعادة المبادرة في لحظةٍ ما.

هذه هي الرؤية العامة لما يمكن القيام به. وهذا مسار من الصراع الذي نراه حالياً. هذه اللحظة قد تستمر لأشهر، وقد تستمر لسنوات، لا نعرف لماذا، لأن كل ساحات المنطقة، الساحات الرئيسية في المنطقة اليوم، مفتوحة على المجهول: من سوريا، للواقع في فلسطين، واقع كيان العدو الإسرائيلي، الصراع العالمي.

هذه هي الرؤية لمشروع المقاومة اليوم: أن هذه الفترة قد تطول، ونحافظ على هذه المُقاربة الثلاثية: الصمود قَدْر المُستطاع، تقيّد النزف قَدْر المُستطاع، والحفاظ على هامش مبادرة عند ظهور فُرَص مهمّة.

 

مايا رزق: شكراً جزيلاً لك، دكتور حسام مطر، الباحث والأكاديمي المختصّ في العلاقات الدولية. أشكرك أيضاً، أستاذ عبد الله السناوي، داهمنا الوقت، الكاتب والباحث في الشؤون السياسية، كنت معنا من القاهرة.