لبنان الذي نحبه ونخاف عليه ومنه
لا يمكن لأحد أن يجادل في أحقية الدولة في احتكار حمل السلاح، لكن المنطق يقضي بضرورة بناء القدرات التي تمكن الدولة من الدفاع عن شعبها، قبل التفكير في نزع سلاح الجهة الوحيدة التي لولاها لما تم تحرير الجنوب.
-
تتجمع في سماء لبنان سحب ملبدة بغيوم تنذر بعواصف هوجاء.
للبنان سحر خاص يتسلل إلى القلب بهدوء وثقة عند أول لقاء. ولأن الظروف لم تسمح لي بالتعرف مباشرة على هذا البلد المثير للاهتمام إلا في نهاية حرب أهلية ظلت مشتعلة هناك لما يقرب من خمسة عشر عاماً، فقد ارتبطت انطباعاتي الأولية عنه بما اختزنته ذاكرتي من مشاهد ترسّبت إبان زيارة أولى لبيروت، قمت بها نهاية أيلول/ سبتمر 1990.
كنت قد دُعيت آنذاك إلى ندوة نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، وفي طريقنا إلى الفندق، تبين لنا أن إشارات المرور معطلة، لأن محطات إنتاج الكهرباء كانت قد خرجت من الخدمة منذ سنوات، ما اضطر الجهة المنظمة للندوة إلى تكليف متطوعين من مستخدمي الدراجات البخارية للمساعدة في إفساح الطريق أمام السيارات التي تقل الضيوف القادمين من خارج لبنان. كان المشهد على جانبي الطريق الممتد من المطار إلى الفندق يبعث على الكثير من الأسى والحزن. فجميع المباني التي تتراءى أمام أعيننا كانت إما مدمرة كلياً أو جزئياً، أو ظهرت على بعض من صمد من جدرانها، حالكة السواد، ثقوب متفاوتة الحجم، خلّفتها ذخائر الأعيرة المستخدمة في تلك الحرب اللعينة.
ما إن انتهيت من إفراغ حقائبي عقب الوصول إلى فندق بدا شبه خال من الرواد، حتى دق جرس الهاتف في غرفتي، وإذا بصديق لبناني قديم يوجه لي دعوة على العشاء في منزله، موضحاً أن سيارة ستنتظرني أمام الفندق لتقلني مع ضيوف آخرين إلى منزله. حين انتهت المكالمة، انتابني شعور بالدهشة، فكيف لأناس قضوا خمسة عشر عاماً من عمرهم في حرب طاحنة لم تتوقف إلا منذ أيام معدودة، أن يظل لديهم الاستعداد النفسي والمادي لدعوة زائرين أجانب للعشاء في بيوتهم في ظروف على هذا القدر من الصعوبة.
وما إن دلفت داخل بيت الصديق حتى وجدت مفاجأة أكبر في انتظاري. فالبيت نظيف ومريح إلى درجة لافتة، والأضواء تنبعث من كل ركن فيه، والمائدة زاخرة بألوان شتى من الطعام والشراب. الأغرب أن معنويات الحضور جميعاً، خاصة اللبنانيين، بدت مرتفعة ومصممة على طي صفحة الماضي. ولأنه تصادف وجود مدعوين يجيدون العزف على بعض الآلات الموسيقية وآخرين يجيدون فن الغناء، فقد قضينا ليلة لا تُنسى، امتزج فيها النقاش السياسي والفكري الصاخب بمتعة الاستماع إلى طرب عربي أصيل، ما ولّد لدي انطباعاً لا يُمحى بأن الشعب اللبناني ليس عاشقاً للحياة فحسب، لكنه مستعد في الوقت نفسه للنضال حتى الموت دفاعاً عن هويته.
تلك كانت ليلة فارقة في حياتي، اجتاحتني بعدها رغبة عارمة في التعرف بطريقة أعمق إلى هذا البلد المثير وشعبه الفريد، ما دفعني إلى الحرص على تلبية كل ما كان يصلني من دعوات للمشاركة في ندوات سياسية أو أنشطة فكرية تعقد في لبنان. ولأنها كانت كثيرة جداً ومتنوعة، فقد أُتيحت أمامي فرص لا تعد ولا تحصى للقاء والحوار مع أهم رموز النخب السياسية والفكرية اللبنانية، بدءاً بالسيد حسن نصر الله، الأمين العام الأسبق لحزب الله، والعلامة محمد حسين فضل الله، أحد أبرز علماء الشيعة في العالم، وانتهاء بالرئيس أمين الجميل، رئيس جمهورية لبنان الأسبق، مروراً بالدكتور سليم الحص، أحد أهم الشخصيات اللبنانية التي تولت منصب رئاسة مجلس الوزراء، إضافة إلى عشرات المفكرين والناشطين السياسيين وأساتذة الجامعات الذين جمعتني بهم مناسبات متنوعة على مدى الأعوام الثلاثين المنصرمة.
تكررت لقاءاتي بالسيد حسن نصر الله مرات عدة، وجرت في مراحل زمنية مختلفة. ولأن الحضور اقتصر في بعض هذه اللقاءات على عدد محدود من الأشخاص، من دون سقف زمني يقيدها، فقد أُتيحت أمامي فرص جيدة لحوار حقيقي مع هذه الشخصية الفريدة التي أعتقد أنها الأهم والأكثر تأثيراً في الحياة السياسية اللبنانية في العقود الأخيرة. أما العلامة محمد حسين فضل الله، والذي جمعتني به لقاءات متعددة، غالباً ما كانت تجري في منزله بترتيب مع الجهات المنظمة للندوات التي أُدعى للمشاركة فيها.
فقد أبهرني بسعة اطلاعه وعمق معارفه التي لم تقتصر على الشؤون الدينية، وإنما امتدت لتشمل معظم المعارف الإنسانية، بما فيها العلوم السياسية والعلاقات الدولية. أما الدكتور سليم الحص فكانت معظم لقاءاتي به عابرة في البداية، ثم أسعدني الحظ بلقاء مطول معه إبان زيارة قام بها للعاصمة الأردنية. حين كنت أشغل منصب الأمين العام لمنتدى الفكر العربي.
فقد دعاني أحد الأصدقاء الأردنيين إلى مأدبة غداء أقامها على شرف الدكتور الحص، ما أتاح لي فرصة ثمينة لحوار عميق مع هذه الشخصية النبيلة، التي تمكنت من قيادة الحكومة اللبنانية خلال واحدة من أخطر مراحل الحياة السياسية اللبنانية. لفت نظري في هذا اللقاء قوله، رداً على ملاحظة أبديتها آنذاك: "ربما يكون لبنان من أكثر دول العالم حرية، لكنه أقلها ديمقراطية وشفافية، فالديمقراطية والطائفية لا يجتمعان في نظام سياسي فاعل". أما لقائي الوحيد بالرئيس أمين الجميل فقد أتاحته دعوة تلقيتها للمشاركة في ندوة عن القضية الفلسطينية، نظمها أحد المراكز البحثية التابعة لحزب الكتائب، وحضرها عدد من قيادات منظمة التحرير الفلسطينية. ولأنها عُقدت في أحد الأماكن الملحقة بضيعة الرئيس، واختُتمت بحفل عشاء أُقيم في منزله، أشرفت عليه السيدة حرمه في لفتة بالغة الرقي من جانبها، فقد أُتيحت أمامي فرصة نادرة للتفاعل فكرياً وإنسانياً مع شريحة مهمة من الأرستقراطية اللبنانية.
حبي الشديد للبنان، بكل ما يمثله هذا البلد العربي الفريد من تنوع، ومن تعددية سياسية وفكرية وطائفية ومذهبية، ومن انفتاح على العالم الأوسع، يجعلني شديد الخوف عليه من عواقب التصرفات الطائشة للبعض، في هذا التيار أو ذاك. فتاريخ لبنان السياسي والاجتماعي مليء بكل أنواع التناقضات والمفاجآت، ويوحي بأن شعبه الحي والديناميكي قادر على أن يحيل مجتمعه إلى نموذج يُحتذى للتعايش السلمي، حين تحسن نخبته الحاكمة إدارة التنوع والتعددية فيه، لكنه يعاني في الوقت نفسه من اختلالات بنيوية قد تفتح ثغرات تفضي به إلى التدمير الذاتي بالانتحار الجماعي.
ففي منتصف الخمسينات من القرن الماضي جاءت ردة فعل بعض الشرائح اللبنانية على موجة المد القومي العربي التي اجتاحت المنطقة بقيادة عبد الناصر، خصوصاً عقب إعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، عنيفة وسلبية إلى درجة كادت تتسبب في حرب أهلية كبرى، ما جلب التدخل الخارجي واستدعاء القوات الأميركية.
وفي منتصف السبعينات، اتخذ البعض من نشاط المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان، ومن أخطاء ارتكبها عدد من قياداتها غير الناضجة، ذريعة لتفجير حرب أهلية استمرت لسنوات طويلة، خسر خلالها لبنان ما يقرب من 300000 شخص (ثلاثمئة ألف)، بين قتيل وجريح ومفقود، وأغرت "إسرائيل" باحتلال الجنوب والزحف نحو العاصمة، وارتكبت في ثناياها مجازر صبرا وشاتيلا البشعة (1982).
فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن الساحة اللبنانية شهدت، في كل المراحل التاريخية تقريباً، عمليات اغتيال لم تتوقف لرموز سياسية بارزة من مختلف التيارات والمذاهب، منها: رياض الصلح (1951) وكمال جنبلاط (1977) وبشير الجميل (1982) ورشيد كرامي (1987) وداني شمعون (1989) ورفيق الحريري (2005)، وأيضا للعديد من الكتاب والصحافيين، منهم: سمير قصير وجبران تويني (2005)، لتبين لنا بوضوح أن المجتمع اللبناني ونظامه السياسي يحملان في بنيتهما عوامل تدمير ذاتي كامنة، يتعين الانتباه إليها.
ورغم ذلك كله، يمكن القول إن أخطر أنواع التطرف التي أقدم عليها بعض الشرائح السياسية والاجتماعية اللبنانية، كان قبولها من حيث المبدأ التعاون أو التحالف مع "إسرائيل"، مصدر التهديد الرئيسي للبنان ولكل العالم العربي، وهو ما حدث فعلاً. ففي مراحل معينة قام ضباط منشقون عن الجيش اللبناني، من أمثال: سعد حداد وأنطوان لحد وعقل هاشم، بالتعاون مع الجيش الإسرائيلي والقتال في صفوفه، بل إن بعضهم اضطر للهروب إلى "إسرائيل" والاحتماء بها عقب تحرير الجنوب اللبناني، ولم يقتصر الفعل الآثم على العناصر العسكريين وحدهم، وإنما امتد ليشمل شخصيات سياسية وحزبية من مشارب متنوعة، من أمثال: إيلي حبيقة وبشير الجميل وسمير جعجع وفايز كرم وغيرهم.
واليوم، تتجمع في سماء لبنان سحب ملبدة بغيوم تنذر بعواصف هوجاء قد تكتسح المنطقة بأسرها، خصوصاً بعد قرار الحكومة اللبنانية تكليف الجيش بإعداد خطة لحصر السلاح بيد الدولة قبل نهاية العام، ما فسره البعض بأنه بدء عملية إجرائية لنزع سلاح حزب الله فعلاً، في غياب ضمانات تلزم "إسرائيل" بالانسحاب من كل الأراضي اللبنانية المحتلة، وبعدم تكرار أعمالها العدوانية ضد لبنان. ولأن المجال لا يتسع هنا لمناقشة سياسية وقانونية لهذا القرار، أكتفي هنا بالإشارة إلى أن هذا الموضوع بالذات لا يحتمل أي جدل قانوني أو سياسي. فانسحاب جميع الوزراء الشيعة من جلسة الحكومة اللبنانية التي اتُخذ فيها القرار يعني أن الانعكاسات السلبية على التنفيذ الفعلي له باتت تهدد استقرار المجتمع اللبناني نفسه، بصرف النظر عن مدى الصواب والخطأ في مواقف هذا الطرف أو ذاك، وهو جرس إنذار ينبغي أن يُدق لوقف الاندفاع نحو حافة الهاوية.
لا يمكن لأحد أن يجادل في أحقية الدولة اللبنانية في احتكار حمل السلاح، لكن المنطق السليم يقضي بضرورة بناء القدرات التي تمكن الدولة من الدفاع عن شعبها أولاً، قبل التفكير في نزع سلاح الجهة الوحيدة التي لولاها لما تم تحرير الجنوب.
أما البدء بنزع سلاح المُدافع قبل بناء القدرات الدفاعية للدولة، وترك المهاجم يمارس عدوانه في وقت ما تزال الحرب فيه مستمرة، فليس لذلك سوى معنى واحد، وهو دعوة الوحش الإسرائيلي إلى احتلال الأرض من جديد، والمقامرة في الوقت نفسه بتعريض البلاد لحرب أهلية. الكل يعلم أن هذا هو بالضبط ما تريده "إسرائيل"، لكن هل هو نفسه ما يريده بعض اللبنانيين؟