معهد "الشرق الأوسط": جالوت "إسرائيل" يثير خشية دول الخليج
في عالم متعدد الأقطاب بشكل متزايد، فإنّ منطقة خالية من جالوت ليست حلماً فاضلاً، بل ضرورة استراتيجية.
-
نتنياهو يحمل خريطة للشرق الأوسط من دون فلسطين
معهد "الشرق الأوسط" الأميركي ينشر مقالاً يتناول إعادة تقييم دول الخليج لاتفاقيات التطبيع في ضوء التحولات الإقليمية بعد الحرب الإسرائيلية على غزة وتصاعد الصراع مع إيران.
ويناقش المقال كيف تغيّرت الحسابات الخليجية تجاه التطبيع مع "إسرائيل" نتيجة الحروب الأخيرة، وصعود الخوف من الهيمنة.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
تجهد إدارة ترامب لتوسيع اتفاقيات التطبيع في منطقة الشرق الأوسط وصولاً إلى القوقاز وآسيا الوسطى، بينما تغفل عن حقيقة التحولات الكبيرة في التصورات السائدة في العالم العربي والإسلامي عن "إسرائيل"، التي كان من الممكن أن يُنظر إليها في السابق على أنّها داود الذي يقاتل عالماً عربياً شبيهاً بجالوت.
أمّا الآن، فقد تبدل هذا، حيث باتت الدولة اليهودية المدعومة بقوة عسكرية أميركية غير محدودة لا تتزعزع، يُنظر إليها بشكل متزايد لا فقط كقوة إقليمية، بل كقوة مهيمنة مدعومة من الولايات المتحدة، حيث يمثل هذا التحول معضلة لدول الخليج عن إمكانية أن يكون جالوت شريكاً في السلام.
ولقد أدّت الحملات العسكرية الإسرائيلية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، والتي امتدّت إلى غزّة ولبنان وسوريا واليمن، وبلغت ذروتها في الهجوم المباشر على إيران، إلى استنتاج العديد من المسؤولين الخليجيين أنّ "إسرائيل" لا تسعى إلى الردع فقط، بل إلى الهيمنة عبر استخدام قوتها العسكرية لقلب النظام الإقليمي. وإذا كانت "اتفاقيات أبراهام" تتعلق جزئياً بإنشاء جبهة موحدة بين قوى الوضع الراهن ضدّ تهديد إيران و"محور المقاومة"، فقد بدّلت الأحداث الأخيرة هذه المعادلة، وأثارت تساؤلات أساسية حول "اتفاقيات أبراهام".
إنّ تصرفات الحكومة الإسرائيلية من ضمنها قرار الكنيست الصادر في تموز/يوليو العام الماضي، برفض أيّ دولة فلسطينية مستقبلية، ورفضه مؤخّراً لمقترح سعودي فرنسي لحل الدولتين، والذي انبثق عن مؤتمر للأمم المتحدة، مع بعضها تُرسّخ الانطباع الخليجي عن الأهداف الإسرائيلية.
ومع مقتل أكثر من 60 ألف فلسطيني منذ بدء الحرب على غزّة، ونفاد مدن الخليج بالكاد من تداعيات الحرب الإسرائيلية الإيرانية التي استمرت 12 يوماً، يتزايد الاعتقاد بأنّ "إسرائيل" مستعدة لاستخدام القوة لا فقط للدفاع عن نفسها، بل أيضاً لمواصلة التحول الاستراتيجي في المنطقة، بينما تتكشف قدرة "إسرائيل" على تحدّي الضغوط الدولية من واشنطن إلى الأمم المتحدة من دون عواقب تُذكر تشير إلى تحول سياسي أعمق.
ويشير مراقبون خليجيون إلى أنّه حتّى الولايات المتحدة لم تستطع إجبار الدولة اليهودية على إنهاء الأعمال العدائية، أو تأمين إطلاق سراح الرهائن، أو تجنب التصعيد مع إيران. في حزيران/يونيو الماضي، شنت "إسرائيل هجومها على الأراضي الإيرانية قبل أيام قليلة من بدء جولة جديدة من المحادثات النووية الأميركية الإيرانية، على الرغم من اعتراض واشنطن. ثمّ قامت الولايات المتحدة بضرب المواقع النووية الإيرانية بنفسها لمنع المزيد من التصعيد. وبجمع هذه الأحداث يتكشف تحطّم الافتراضات عن نظرية الردع الأميركي أو ضبط النفس الإسرائيلي.
استبدال العدوان بالوفاق
على هذه الخلفية يعيد المسؤولون في الخليج تقييم "اتفاقيات أبراهام" التي تقدّمت في الأصل كإطار لتعزيز السلام والاستقرار، إلّا أَنّها حالياً تواجه خطر إضفاء الشرعية على الهيمنة الإسرائيلية الإقليمية. ويعد ذلك مصدر قلق خاص للسعودية، التي دعمت الاتفاقيات رمزياً في البداية من خلال فتح مجالها الجوي أمام الرحلات الإسرائيلية. أَمّا اليوم، تصرّ الرياض على أنّ حل الدولتين هو المسار الوحيد للتطبيع، وهو ما ترفضه تلّ أبيب.
وفي الوقت نفسه، فإنّ الجهود الرامية إلى ضم دول ذات أغلبية مسلمة مثل أذربيجان وكازاخستان إلى الاتفاقيات المذكورة ليست في جوهرها سعياً لعقد اتفاقيات سلام جديدة بقدر ما تهدف إلى إبراز القيادة الأميركية، وتعزيز الاصطفاف الإقليمي ضدّ إيران وروسيا.
وعلى الرغم من أنّ هذين البلدين يحتفظان بعلاقات دبلوماسية مع "إسرائيل" منذ عقود، إلّا أنّ ذلك لم يجنبهما ردود الفعل الشعبية. ففي أذربيجان، أظهرت الاحتجاجات خلال الحرب على غزّة حدود عملية التطبيع في ظل غياب العدالة للفلسطينيين. ولم يعد الأمر كما كان في عام 2020، فاليوم، أصبح التعاطف مع القضية الفلسطينية أعمق وأكثر انتشاراً في المجتمعات العربية والإسلامية.
إنّ مصدر القلق الرئيسي لدول الخليج هو أنّ "مبدأ الذراع الطويلة" الإسرائيلية، وتوجيه ضربات استباقية للخصوم في عدة أماكن، لم يعد ينظر إليه على أنّه دفاعي بحت، بل إستراتيجية تهدف إلى تفتيت المنطقة.
وفي الهجمات على إيران لم يقتصر الاعتداء على البنية التحتية العسكرية فحسب، بل طال السجون والقواعد شبه العسكرية، إضافة إلى جهود لإثارة الاضطرابات العرقية والطائفية في المناطق والأقاليم. وقد ظهر نمط مماثل بالفعل في سوريا، حيث برّرت "إسرائيل" عملياتها في المناطق ذات الأغلبية الدرزية بحجّة حماية الأقليات. ويخشى قادة الخليج من أنّه إذا أصبحت هذه العقيدة أمراً طبيعياًً، فقد تُطبّق على دول أخرى، حتى على العراق أو السعودية نفسها.
هذا الخوف المتزايد من جالوت إسرائيلي إقليمي يثير تساؤلات صعبة. هل ينبغي للدول العربية الاستمرار في دعم إطار عمل يقوّي السلوك الإسرائيلي، أم ينبغي عليها إعادة صياغته ليعكس الأولويات الإقليمية الدبلوماسية، وتهدئة التصعيد؟
بعض دول الخليج، مثل قطر وعُمان، أعادت بالفعل تموضعها كوسيط بين إيران والغرب. بينما تنتهج دول أخرى، مثل السعودية، نهجاً وسطياً حذراً في إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع "إسرائيل"، مع إحياء العلاقات مع إيران، والتركيز على بناء الدولة داخلياً. ويشمل ذلك جهوداً لتحقيق الاستقرار في العراق، ومنع انهيار سوريا، وإعادة التعامل مع الحوثيين في اليمن، بهدف هو تحقيق التوازن الإقليمي، لا الهيمنة.
لقد عززت الحرب بين "إسرائيل" وإيران من هذا التوجه، كما هزت الهجمات المتبادلة بين الطرفين ثقة دول الخليج في الحماية الأميركية. وإلى جانب فشل الرئيس دونالد ترامب السابق في الرد على هجمات عام 2019 على منشآت نفطية سعودية رئيسية، باتت تلك الدول تدرك الآن أنّ الضمانات الأميركية مشروطة، وأنّ العسكرة الإسرائيلية غير المنضبطة قد تجلب كارثة على أبوابها.
ومنذ الحرب الأخيرة تعيد إيران هيكلة جهاز أمنها القومي، وشكّلت مجلس دفاع جديداً بقيادة رئيس البلاد مسعود بزشكيان، وشخصيات وسطية مثل علي لاريجاني. وقد ركّزَت رسائل إيران بعد الحرب على الدبلوماسية، بما في ذلك مبادراتها تجاه باكستان ودول البريكس. وينظر المسؤولون الخليجيون بشكل متزايد إلى إيران على أنّها أقرب إلى داود منها إلى جالوت.
في عالم متعدد الأقطاب بشكل متزايد، فإنّ منطقة خالية من جالوت ليست حلماً فاضلاً، بل ضرورة استراتيجية. لكنّ الاستقرار الحقيقي لن ينبع من مجرّد غياب القوى المهيمنة، فمن دون توازن قوى إقليمي سيشجع الفراغ أيّ جالوت خارجي كي ينافس على الهيمنة.
نقله إلى العربية: حسين قطايا.