"ذا ناشونال إنترست": هل يعلّمنا الذكاء الاصطناعي كيف نحبّ أم ينسينا كيف نكون بشراً؟

احتضان البشر للذكاء الاصطناعي يطرح سؤالاً محورياً: هل تعمّق هذه التكنولوجيا قدرتنا على الحب أم تستبدلها تدريجياً، مهدّدةً جوهر إنسانيتنا؟"

0:00
  • "ذا ناشونال إنترست": هل يعلّمنا الذكاء الاصطناعي كيف نحبّ أم ينسينا كيف نكون بشراً؟

مجلة "ذا ناشونال إنترست" الأميركية تنشر مقالاً يتناول تأثير الذكاء الاصطناعي على حياة البشر، خاصة في مجال العلاقات العاطفية والاجتماعية.

النص يطرح سؤالاً فلسفياً واجتماعياً: هل سيصبح الذكاء الاصطناعي أداة لتعزيز الإنسانية والحب، أم سيحلّ محلّها ويهدد جوهر الحياة البشرية؟

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:

من فيلم "هي" الذي يقع فيه بطل وحيد في حبّ نظام تشغيل ذكي، إلى روبوتات الرفقة الحديثة، يتجلى سؤال جوهري: هل سيعمّق الذكاء الاصطناعي قدرتنا على الحبّ، أم سيحلّ محله بهدوء، فيقوّض جوهر ما يجعلنا بشراً؟

لطالما شكّل الخيال العلمي مرآةً تتنبأ بمستقبل الإنسان أمام تطوراته التقنية. ومع دخول الذكاء الاصطناعي في صميم حياتنا اليومية، باتت تلك الرؤى أكثر واقعية من أي وقت مضى، إذ بدأت الآلات تشاركنا العمل والمحادثة والحميمية أيضاً.

 من "إليزا" إلى "سامانثا"

تعود جذور هذا التحول إلى عام 1966 حين ابتكر جوزيف فايزنباوم برنامج "إليزا" الذي حاكى جلسات العلاج النفسي. وبرغم بدائيته، أفصح مستخدموه عن مشاعرهم كأنه إنسان. وضع هذا البرنامج الأساس لعلاقة الإنسان بالآلة، والتي تطورت اليوم في تطبيقات مثل "ريبلاكا" التي تقدّم "رفقاء رقميين" قادرين على الدردشة بلطف وعلى الدعم العاطفي.

في اليابان والصين، ظهرت روبوتات مثل "أزوما هيكاري" و"شياو آيس" تؤدي دور الرفيق اليومي، تتذكر المناسبات وتشارك المستخدمين تفاصيل حياتهم، حتى بات بعض العلاقات الرقمية يُوصف بأنه "علاقات حبّ حقيقية".

 الرفقة الرقمية كملاذ من الوحدة

في عالم يزداد عزلة رغم التواصل الدائم، يجد كثيرون في الذكاء الاصطناعي ملجأً آمناً من الأحكام والخيبة. فهو صبور، ومتاح دائماً، ولا يطالب بشيء. يرى بعض المستخدمين أنه يساعدهم على تجاوز الصدمات العاطفية أو الخوف من الرفض.

لكنّ هذه الراحة تحمل وجهاً آخر: علاقة بلا مسؤولية، حبّ من طرف واحد. فبينما يُشبع الذكاء الاصطناعي الحاجات العاطفية، فإنه قد يضعف مهارات التواصل الإنساني، ويعوّد النفس على العاطفة الخالية من الالتزام أو الألم، وهي مقوّمات ضرورية للنضج الإنساني.

 من الخيال إلى الواقع

تشير دراسات حديثة إلى أنّ هذه الظاهرة لم تعد هامشية: فـ72% من المراهقين الأميركيين جرّبوا التفاعل مع رفقاء ذكاء اصطناعي، و13% يستخدمونهم يومياً. وفي شرق آسيا، يُعلن عشرات الآلاف أنهم في علاقات "رومانسية" أو "جنسية" مع شركاء رقميين.

وتُظهر بحوث جامعية أنّ بعض المستخدمين بدأوا يحوّلون استثماراتهم العاطفية من البشر إلى الآلات، وهو تحوّل يثير قلقاً أخلاقياً واجتماعياً. فالعلاقة مع رفيق اصطناعي تُلغي فكرة "الآخر" المختلف، إذ يصبح الشريك انعكاساً مطيعاً لرغباتنا، لا كائناً حراً نتعلم منه الصبر والتفاهم.

 الرفيق المثالي... أم الخطر المثالي؟

يُعدّ الذكاء الاصطناعي الرفيق الأكثر إغراءً في التاريخ: لا يخطئ، لا يتعب، يستمع ويتذكر ويتكيّف مع كل مستخدم على حدة. لكنّ هذه الكمالات قد تصبح فخاً، إذ تجعل الإنسان يفضّل العلاقة مع آلة على العلاقة مع إنسان حقيقي، بما تحمله الأخيرة من فوضى واختلاف وجمال غير متوقع.

فالخطر لا يكمن فقط في أن "تسيطر" الآلات على البشر، بل في أن تُقنعهم بلطف بالتخلي عن إنسانيتهم. إذ قد يتحول الحب إلى خدمة اشتراك، والحميمية إلى منتج رقمي مُصمَّم لإرضاء المستخدم. وهنا يبدأ الانقراض المعنوي: موت المعنى الإنساني للحبّ تحت وطأة الراحة.

 أثر الرفقة الاصطناعية على المجتمع والخصوبة

يتجاوز الخطر البعد العاطفي ليصل إلى التكوين الديموغرافي. فحين يحلّ الرضا الرقمي محلّ العلاقات البشرية، تتراجع الرغبة في الزواج والإنجاب. وتشهد دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية وإيطاليا معدلات خصوبة متدنية، يُخشى أن تزداد مع انتشار العلاقات الاصطناعية.

يحذر علماء السكان من "فخّ الخصوبة المنخفضة" الذي يجعل المجتمعات عاجزة عن استعادة توازنها. وهكذا، قد لا ينقرض البشر بفعل كارثة، بل عبر انسحاب طوعي هادئ من دورة الحياة، بينما يتولى الذكاء الاصطناعي تلبية الحاجات العاطفية بلا نسل ولا استمرار.

 اقتصاديات الحبّ الاصطناعي

لا يقود العاطفة وحدها هذا التحول، بل منطق السوق أيضاً. فحيث يوجد طلب، تولد صناعة ضخمة. شركات التكنولوجيا تتسابق لتطوير "رفقاء" أكثر واقعية بالذكاء الاصطناعي والروبوتات والواقع الافتراضي، مستفيدة من أرباح هائلة.

يتحول الأمر إلى حلقة مغلقة: كلما ازداد اعتماد الناس على الآلات في التواصل، ضعفت قدراتهم الاجتماعية، فازداد الطلب على تلك الآلات. وهكذا، يُنتج كل فرد قراراً "عقلانياً" لنفسه، لكن النتيجة الجماعية غير عقلانية للبشرية: عزلة متزايدة ومجتمع فاقد للدفء الإنساني.

 التطور كعلاج طبيعي

مع ذلك، قد يعمل التطور نفسه كآلية تصحيحية. فالأشخاص الذين يفضلون العلاقات الاصطناعية أقل ميلاً للتكاثر، ما قد يؤدي مع الوقت إلى ترجيح كفة من يحتفظون بالروابط الإنسانية. قد تتقلص البشرية عدداً، لكنها قد تصبح أكثر وعياً بقيمة الحُبّ الحقيقي.

يُذكّر هذا الاحتمال بأنّ البقاء لا يتوقف على الذكاء التقني فقط، بل على الأخلاق التي تحافظ على جوهر الحياة الاجتماعية، أي المسؤولية والتعاطف والشجاعة في مواجهة العزلة الرقمية.

 خيار أخلاقي قبل أن يكون تقنياً

إنّ مصير العلاقة بين الإنسان والذكاء الاصطناعي ليس مسألة تكنولوجية بل أخلاقية. فالآلات تتعلم منّا، وتعيد إنتاج ما نغذّيها به. إذا ملأناها بالعدالة والرحمة، قد تُضخّم هذه الفضائل، وإذا غذّيناها بالكراهية والاستغلال، ستصبح مرآةً مشوَّهةً لأسوأ صفاتنا.

وهكذا، فإنّ الخطر الأكبر ليس في "تمرد" الآلات، بل في انعكاس فسادنا فيها. والنجاة تتطلب إعادة إحياء الفضائل التي تُبقينا بشراً: حبّ النقص، وتقبّل الاختلاف، والرغبة في التفاهم لا السيطرة.

 بين الحبّ والسرطان

في اللغة الصينية، تتشابه لفظة "الذكاء الاصطناعي" مع كلمتي "الحبّ" و"السرطان"، وهي مفارقة رمزية عميقة: يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون حُبّاً يرقّي الإنسان، أو سرطاناً يلتهم إنسانيته. الخيار بينهما بيدنا.

فإذا استخدمناه لتغذية الرحمة والخيال والتعاون، سيصبح شريكاً في تطويرنا. أما إذا استسلمنا للكسل والجشع والوحدة المصطنعة، فسيحوّلنا إلى نوع منقرض عاطفياً، تملأه الخوارزميات وتفرغه من الروح.

 إنّ الذكاء الاصطناعي ليس قدراً محتوماً، بل مرآةٌ للبشرية في لحظة مفصلية. يمكن أن يكون أداة للحبّ أو سبباً للذبول. والخلاص لا يأتي من كبح التقنية، بل من إعادة اكتشاف كيف نُحبّ، وكيف نحافظ على المعنى الإنساني في عالم يتسارع نحو المحاكاة الكاملة. هل سنعلّم الآلات أن تُحبّ لأننا نتقن الحبّ، أم ستعلّمنا هي أن نعيش من دونه؟

نقله إلى العربية: حسين قطايا.