"فورين بوليسي": الفشل الأميركي في العراق يلقي بظلاله على خطة ترامب في غزة
إنّ الوصاية التي تقودها الولايات المتحدة لن تحظى بأي شرعية بين الفلسطينيين.
-
"فورين بوليسي": الفشل الأميركي في العراق يلقي بظلاله على خطة ترامب في غزة
مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً يقدّم تحليلًا لاتفاق وقف إطلاق النار في غزّة الذي رعاه إدارة دونالد ترامب، مركّزاً على محدودية الاتفاق وتناقضاته، ومخاطر فشله في تحقيق تحول حقيقي في غزة والمنطقة.
النص يُبرز الهوة بين الصورة الدعائية لاتفاق ترامب والواقع السياسي الميداني. فالاتفاق قد أوقف نزيف الدم مؤقتًا، لكنه لم يعالج جذور الصراع، بل أعاد إنتاج معادلات الاحتلال والدمار والهيمنة الأمريكية القديمة في ثوب جديد. كما يرى أن ما يجري في غزة يشبه إخفاقات الاحتلال الأمريكي للعراق — "نهاية حرب بلا سلام
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
كان ردّ الفعل الأولي على اتفاق وقف إطلاق النار بين "إسرائيل" و"حماس"، الذي توصلت إليه إدارة ترامب الأسبوع الماضي، مُتّقداً للغاية بين الفلسطينيين الذين سعدوا بأمل انتهاء عامين من وحشية لا تُصدَّق قتلت الكثير منهم، وجوعٍ طاحن، ودمارٍ طال كل شبر من أرضهم التي عانت طويلاً. كذلك، احتفل الإسرائيليون بعودة 20 أسيراً أحياء أفرجت عنهم "حماس"، وبوعد إنهاء العزلة الدولية، بينما أغدقت حشود متحمّسة في "إسرائيل" ومصر على الرئيس الأميركي دونالد ترامب كلمات التقدير.
مع ذلك، من الصعب أن نشارك ترامب تفاؤله بأنّ وقف إطلاق النار قد فتح الباب أمام تحوّل أوسع نطاقاً في الشرق الأوسط، أو حتى إنّه سيصمد أمام الواقع على الأرض في غزة.
يضع اتفاق وقف إطلاق النار مساراً للمضي قدماً من شأنه، إذا تحقّق، أن يؤدّي إلى عودة الحياة الطبيعية إلى غزة، وإعادة بناء بنيتها التحتية واقتصادها، وترسيخ نظام سياسي لما بعد "حماس". ويستجيب الاتفاق بشكل ملحوظ لمخاوف الدول العربية الرئيسية، ويرفض المطالب الإسرائيلية المتشددة مثل طرد الفلسطينيين وضمّ الضفة الغربية. ويعدّ الاتفاق بتدفّق المساعدات الإنسانية التي تشتدّ الحاجة إليها، من دون دور لـ"مؤسسة غزة الإنسانية" التي تحظى بكراهية واسعة، كما يقترح إعادة إعمار اقتصادي واسع النطاق مع استبعاد أوهام إقامة فنادق ترامب على "ريفييرا غزة".
لقد كان للاتفاق بالفعل تأثير إيجابي من خلال وقف القتل وإعادة الأسرى وإظهار إجماع دولي جديد لإنهاء الحرب، لكنّ ما يفتقر إليه هو خارطة طريق واقعية للتقدّم الفعلي. فلا تزال الظروف الإنسانية كارثيةً في غزة المدمَّرة تماماً، حيث يضع بنيامين نتنياهو بالفعل قيوداً على إيصال المساعدات حتى قبل أن تبدأ في التدفق، في حين أظهرت حركة "حماس" القليل من الاهتمام بنزع السلاح، وتحركت بقوة لتعزيز السيطرة وقمع الميليشيات المدعومة من "إسرائيل" وغيرها من المنافسين.
اتفاق ترامب بحدّ ذاته غامض، ومثير للقلق، ويعتمد في نقاط رئيسية على افتراضات بطولية حول مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة الإقليمية. وبينما هناك قدر كبير من حسن النية الدولية وإجماع إقليمي واسع يدعم الخطة، إلّا أنّها لم تؤدِّ إلى إصدار قرارات من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أو التزامات حازمة من الجهات الفاعلة الخارجية، لكنّ هذا لا يعني أنّ عودة الحرب الشاملة مُرجَّحة على المدى القريب.
من المرجّح أن يترسّخ مستوى محدود من الاتفاق، والأطراف جميعهم يعتقدون الآن إلى حدٍّ كبير أنّهم بلغوا الحدّ الأقصى لما يمكن تحقيقه من خلال الحرب، حيث إنّ إصرار نتنياهو على التوغّل في مدينة غزة كان مصدر قلق بالغ لدى العديد من أفراد المؤسسة الأمنية الإسرائيلية والجمهور الأوسع، بينما الفلسطينيون في غزة يتوقون لأيّ شيءٍ ينهي معاناتهم. ومع وضع ترامب سمعته الشخصية على المحك، واستنزاف الأطراف جميعها، لا ينبغي أن نتوقّع تكراراً لوقف إطلاق النار القصير الأمد في كانون الثاني/يناير الماضي، والذي انهار بعد المرحلة الأولى واستؤنفت بعده أعمال العنف الشديدة والمجاعة.
مع ذلك، هناك فرصة ضئيلة لأن يتقدّم وقف إطلاق النار إلى المرحلة الثانية نحو نزع سلاح "حماس" وإقامة سلطة حاكمة، ناهيك عن التطلعات طويلة الأجل للمرحلة الثالثة. والسؤال الحاسم اليوم ليس حقّاً ما إذا كان سيُنفَّذ الاتفاق بالكامل، بل كيف ستبدو المنطقة عندما لا يتمّ ذلك، وكيف ستتحرّك "إسرائيل" و"حماس" والولايات المتحدة واللاعبون الإقليميون الرئيسيون في هذه الأثناء، وما هي أنواع الديناميكيات التنافسية التي ستُشكّل غزة بعد الحرب، أو إلى أين ستدفعها ديناميكيات إقليمية أوسع.
قد تكون آمال اللحظة كافية لإعادة بدء التحركات العربية نحو التطبيع مع "إسرائيل" والعودة إلى الوضع الراهن القاتم، ولكنّ المستقرّ كان في ظاهره قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بينما تحطيم تلك الآمال في غزة أو التحوّل الإسرائيلي نحو ضمّ الضفة الغربية قد يُمزّق النظام الإقليمي العربي الإسرائيلي الجديد بقيادة الولايات المتحدة، والذي يأمل ترامب في بنائه.
تبدأ التحدّيات بالدمار الذي لحق بغزة، وهي حقيقة قاتمة قُلِّصت بطريقةٍ أو بأخرى إلى مجرد فكرة ثانوية وسط الفرح بوقف إطلاق النار. لا توجد بداية جديدة يمكن تحقيقها وسط أنقاض مبانٍ مسحوقة وصدمة كامل سكان القطاع الذين هُجّروا من منازلهم. وقد قُتل ما لا يقلّ عن 67,000 فلسطيني، وربّما العدد أكبر بكثير، لأنّ هناك الكثير من الجثث مدفونةً تحت الركام، بسبب عامين من الحرب والحصار.
ولقد دُمّرت البنية التحتية في أحد أكثر البيئات الحضرية كثافةً في العالم إلى حدٍّ كبير: المدارس، والمستشفيات، والطرق، والمباني السكنية، ومرافق معالجة المياه، ومولّدات الكهرباء، والزراعة. الأحياء التي يأمل الغزيّون في العودة إليها لم تعد موجودةً ببساطة، وما تبقّى منها غير مهيّأ لدعم شؤون العيش.
تتضمّن خطة وقف إطلاق النار تدفّقاً هائلاً للمساعدات الإنسانية لتخفيف المعاناة الأكثر إلحاحاً. وبالرغم من الحاجة الماسّة، فإنّه من غير المرجّح أن يتحقّق ذلك بالكامل، حيث يبقى غير كافٍ لتلبية الاحتياجات. ويُذكر أنّ الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة مستمرّ منذ نحو عقدين، بينما على مدى العامين الماضيين، أعاقت "إسرائيل" إيصال المساعدات الإنسانية حتى عندما وافقت على ذلك تحت ضغطٍ أميركي ودولي.
إنّ إصرار "إسرائيل" على تدمير "حماس" وحرمانها من أي دورٍ في غزة ما بعد الحرب سيزيد تعقيد الأوضاع، ولم تُظهر الحركة اهتماماً يُذكر بنزع سلاحها أو مُغادرتها، وقد بدأت بالفعل في التحرّك بقوة لإعادة تأكيد سيطرتها على غزة، وقمعت الميليشيات المدعومة من "إسرائيل" التي ظهرت لملء الفراغ الأمني. وليس من الواضح مَن هي القوة التي ستنفّذ نزع سلاح "حماس" أو تحلّ مكانها في تنظيم شؤون الحياة والأمن.
وتشير تجربة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية إلى أنّ "إسرائيل" سترفض إنشاء أيّ قوة شرطة فلسطينية مسلّحة، مهما كانت الجهة التي تتبعها في القطاع. ومن الصعب تصوّر أيّ قوة حفظ سلام دولية أو عربية فعّالة دون تعاونٍ حاسمٍ من "حماس"، في حين تُصوّر "إسرائيل" نفسها على أنّها تعتمد على مثل هذه القوات لتلبية مطالبها الأمنية.
لكنّ استمرار وجود "حماس" سيتيح لـ"إسرائيل" فرصاً لا تُحصى لاستئناف العمليات العسكرية والتباطؤ في تقديم المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار. إلّا أنّ ذلك سيكون ذريعةً أكثر منه سبباً. زائد على ذلك أنّ نتنياهو لم يوافق على وقف إطلاق النار إلّا تحت ضغطٍ أميركي وداخلي كبير، وما يزال لا يُظهر أيّ التزامٍ حقيقي بأيّ شيءٍ يتجاوز تبادل الأسرى. كذلك لم يُخفِ المستوطنون اليمينيون الذين يهيمنون على الحكومة الإسرائيلية الحالية طموحاتهم المستمرة لضمّ غزة والضفة الغربية، وسيبحثون عن كلّ فرصةٍ لإفشال وقف إطلاق النار.
ليس التاريخ الكئيب للاتفاقيات الإسرائيلية الفلسطينية السابقة وحده ما يُخيّم على وقف إطلاق النار الحالي، فالافتراضات غير الواقعية والادّعاءات المبالغ فيها تُشبه، بشكلٍ مقلق، إخفاقات الاحتلال الأميركي للعراق. كما أنّ غياب الأمن والنظام سيُصعّب ترسيخ أيّ نوعٍ من الحكم الفعّال أو بناء الشرعية لنظامٍ جديد، تماماً كما حدث في بغداد قبل عقدين من الزمن.
كذلك، فإنّ الجهود المفرطة في العدوانية لنزع سلاح "حماس" ستأتي بنتائج عكسية، كما أن تركها تُسيطر فعليّاً سيضع أي إدارة جديدة تحت رحمتها. وقد تُقام الوصاية المتوخّاة، لكن كما حدث مع الإدارات الأولى التعيسة للعراق المحتل، لن تكون قادرة على ممارسة السيطرة حقّاً، ولن تحظى بأي شرعية لدى الفلسطينيين الذين يطمحون إلى دولة خاصة بهم. وحتى على المسار الذي رسمه اتفاق وقف إطلاق النار، من المرجّح أن تكون غزة مسرحاً لعنف مستمر منخفض المستوى، وكارثة اقتصادية، وحوكمة فاشلة، وتمرد متصاعد، أكثر من كونها المدينة العالمية الحديثة والبراقة الموعودة.
تعتمد الآمال في التغلب على هذه العقبات الواضحة إلى حدّ كبير على مشاركة ترامب الحاسمة واستثماره الشخصي في النتيجة. ولكن هذا ليس أمراً مفروغاً منه، لأنّ إدارته تفتقر تقريباً إلى القدرة أو النطاق الترددي لمراقبة العمليات الصعبة المقبلة أو الإشراف عليها أو تنفيذها. والمسؤولون القلائل الموجودون مرهقون، في حين أنّ إغلاق الوكالة الأميركية للتنمية الدولية لم يترك سوى القليل من الخبرة الفنية أو الموظفين للتعامل مع القضايا المعقدة. ومع وجود عدد قليل بشكل مثير للقلق من الضوابط الداخلية على عملية صنع القرار غير المنتظمة لترامب، فمن السهل جداً تخيّل تحوّل مفاجئ وسريع من جانب الولايات المتحدة إلى دعم حرب إسرائيلية متجددة، تُرجّح أن تزيد تشتّت إدارةٍ متورطة في أزمات سياسية داخلية متصاعدة لا نهاية لها، ومعظمها من صنعها.
تأمل "إسرائيل" أن ينهي وقف إطلاق النار عزلتها الدولية، ويُخفّف حدّة الاستياء الواسع النطاق بسبب تدميرها قطاع غزة، لكنّ هذه الآمال سابقة لأوانها. ووحده التحرّك نحو تعايش سلمي حقيقي مع الفلسطينيين يمكن أن يحقّق ذلك، وهو أمر غير متاح حاليّاً. وما حدث في غزة أدّى إلى تحوّل نظرة أجيال إلى "إسرائيل" حول العالم، وهو بعمق احتلال العراق بالنسبة للولايات المتحدة، وفرض تغييرات جذرية لن يُخفّفها وقف إطلاق نار قصير الأمد بسهولة، بينما العدالة الدولية والمساءلة عن جرائم الحرب لن تتلاشى بانتهاء القتال.
من الأفضل الحصول على هذا الاتفاق من عدمه؛ فقد كان لا بدّ من إنهاء الحرب الكارثية، وقد فعل ترامب ما لم يفعله بايدن لجعل ذلك يحدث. لكن جعلها تدوم بعد هذه اللحظة النشوية، وخلق "الفجر التاريخي للشرق الأوسط الجديد" الذي وعد به ترامب، سيتطلّب ليس فقط هذا النوع من الاهتمام المستمر الذي نادراً ما استُخدم، بل أيضاً الرغبة في التعلّم من أخطاء الماضي.
من السهل جداً سماع أصداء تاريخٍ طويل من الآمال الأميركية في شرق أوسطٍ متحوّلٍ يخرج من أنقاض الدمار الكارثي. لكنّ غزو العراق واحتلاله لم يُحقّق التحوّل الإقليمي الموعود، ولم يفعل ذلك أيضاً القصف الإسرائيلي المدمّر الذي استمرّ شهراً على لبنان عام 2006، والذي احتفلت به وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك كوندوليزا رايس على أنّه "مخاض ولادة شرق أوسط جديد". وكلّ ذلك لا يدعو إلى توقّع ما هو أفضل من الأنقاض المشتعلة لحقول القتل في غزة.
نقله إلى العربية: حسين قطايا.