انتخابات بوليفيا: اليسار يودّع الرئاسة بعد عقدين من حكم البلاد

انتخابات بوليفيا تشهد تراجع مرشحي اليسار إلى ما دون المرتبة الثالثة، مقابل صعود مرشحي الوسط واليمين، ما يعني نهاية دورة سياسية امتدّت لعقدين صاغت فيها بوليفيا نموذجاً اجتماعياً قلّص الفقر ورفع من مكانة السكان الأصليين وأعاد تعريف دور الدولة في الاقتصاد.

  • المرشح الرئاسي البوليفي رودريغو باز بيريرا يدلي بصوته في 17 أغسطس/آب 2025، في تاريخا، بوليفيا (إفي)
    المرشّح الرئاسي البوليفي رودريغو باز بيريرا يدلي بصوته في 17 آب/أغسطس 2025، في تاريخا، بوليفيا (إفي)

انتهت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في بوليفيا، أمس 17 آب/أغسطس، بتصدّر رودريغو باز بنسبة 32% وخورخي كيروغا بنسبة 27%، على أن تجرى الجولة الثانية بينهما في تشرين الأول/أكتوبر المقبل.

رودريغو باز هو مرشح "الحزب الديمقراطي المسيحي" (وسطي) واقتصادي يبلغ 57 عاماً ونجل الرئيس الأسبق خايمي باز زامورا، وقد شغل عضوية البرلمان لدورتين وكان عمدة تاريا ثم سيناتوراً منذ 2020، ويرافقه كنائبٍ له الضابط السابق إدمن لارا. أما خورخي كيروغا، زعيم حزب "الحرية" (يمين)، فهو رئيس سابق للبلاد (2001-2002) ووجهٌ نيوليبرالي معروف.

اللافت في المشهد هو تراجع مرشّحَي اليسار، أندرونيكو رودريغيز المرشّح عن "التحالف الشعبي"، وإدواردو ديل كاستيو مرشّح حزب "الحركة نحو الاشتراكية" الحاكم، إلى ما دون المرتبة الثالثة، فيما سُجّل ارتفاعٌ كبير في الأصوات الباطلة والبيضاء اقترب من نسبة 19% من إجمالي أصوات الناخبين.

وعليه، خسرت قوى اليسار البوليفي، وتجمّعها الأكبر في حزب "الحركة نحو الاشتراكية"، منصب رئاسة الجمهورية بعدما كان من نصيب الحزب لمدة تزيد على عقدين، وخسرت القوى التقدّمية في القارة اللاتينية والعالم موقعاً كان يُراد له أن يؤدّي دوراً تقدّمياً محورياً في المعارك الجيوسياسية الجارية، إقليمياً وعالمياً، لكنه سقط على طاولة أزمة اقتصادية وخلافات داخل معسكر اليسار.

تصعب قراءة اللحظة الانتخابية من دون الرجوع إلى سلسلة الهزّات التي شهدتها بوليفيا منذ 2019. في ذلك العام، أُجبر إيفو موراليس، الزعيم السابق لحزب "الحركة نحو الاشتراكية" على الاستقالة من منصب رئيس الجمهورية تحت ضغط عسكري وسياسي، وسقط عشرات الضحايا في قمع التظاهرات، قبل أن تعود صناديق 2020 لتعلن فوز مرشّح "الحركة نحو الاشتراكية"، الرئيس الحالي لويس آرسي، بأغلبية متواضعة. وبعد مرور عام على تولّي آرسي الرئاسية، راحت الخلافات تنشب بينه وبين موراليس، وانقسم الحزب الحاكم في إثر ذلك إلى فريقين، واحد يدعم آرسي وآخر يدعم موراليس.

وظلت الخلافات تتشعّب وتتعدّد تحت وطأة الأزمة الاقتصادية إلى أن أُطيح بموراليس من قيادة الحزب ليشكّل حزباً آخر صُنِّف مؤخّراً بأنه "غير شرعي". وفي أثناء ذلك حدثت محاولة انقلاب عسكري على آرسي في حزيران/يونيو 2024 أنذرت بالخطر الذي يداهم اليسار وهو في غفلة من أمره. وجاء ردّ الرئاسة بتبديل قيادات الجيش سريعاً، وانسحبت الوحدات التي أحاطت بالقصر الرئاسي، فيما اندفع أنصار الحكومة والحركات الاجتماعية، بمن فيهم مؤيّدو موراليس، إلى الساحات للدفاع عن المسار الدستوري. وفشل الانقلاب في النهاية لكن تعمّقت خلافات اليسار.

تحوّل الخلاف داخل معسكر اليسار من نقاش تنظيمي إلى صراع على الشرعية ثم إلى نزاع انتخابي صريح. قرارات دستورية متتابعة قيّدت إمكانية عودة موراليس إلى السباق الرئاسي، ومحاولته التسجيل عبر حزبه الجديد تعطّلت مع فقدان ذلك الحزب وضعه القانوني. وفي الشارع، ردّ مؤيّدوه بمسيرات وقوافل واعتصامات وقطع طرق، بينما لجأ جزء من القاعدة إلى خيار "إبطال التصويت" بصفته احتجاجاً على عملية يعتبرونها غير متكافئة. بالمقابل، رشّح الحزب الحاكم وزير داخليته السابق إدواردو ديل كاستيو، فيما خرج أندرونيكو رودريغيز من عباءة الحزب ذاته ليقود تحالفاً يسارياً جديداً.

وبهذه الخطوات، صار الانقسام داخل معسكر اليسار وقود الحملات، وصار السجال بين من يطالب بتوحيد الصف ومن يرى أنّ القيادات انحرفت عن خطها الأول. وازداد المشهد تعقيداً بتحويل السياسة إلى ملفات قضائية متنازع عليها. انتشرت تسريباتٌ ووثائق تتهم جهات نافذة بالتأثير في قرارات تخص الوضع القانوني لأحزاب ومرشحين، فيما قوبلت تعبئات أنصار موراليس بدعاوى ثقيلة شملت اتهامات بالإرهاب والتحريض. بينما على الأرض، تخللت أسابيع الاحتجاجات حوادث عنف وسقوط عناصر أمن، ما رفع منسوب التجييش المتبادل وأجّج الوضع بما لا يحتمل.

وفي أثناء ذلك، كانت قوى اليمين تعيد بناء صفوفها وتثبيت تموضعها بأسماء معروفة وبرامج نيوليبرالية تعِد بتحرير قطاعات استراتيجية وفتح الأسواق. وخلال الشهرين الماضيين بدت استطلاعات الرأي تميل إلى رجل الأعمال صامويل مدينا والرئيس السابق خورخي كيروغا، قبل أن تقرّ لجنة الانتخابات يوم أمس بتقدّم رودريغو باز وصعود كيروغا نحو جولة ثانية، مع تراجع مرشّح الحزب الحاكم إلى ذيل السباق.

سار يوم الاقتراع أمس بهدوء نسبي، لكنّ الشروخ السياسية تسلّلت إلى المشهد: في إنترِه ريوس، معقل مزارعي الكوكا، رُشق أندرونيكو رودريغيز بالحجارة بعد الإدلاء بصوته، وسُجِّل انفجار محدود قرب مركز انتخابي من دون أضرار. وقبل ذلك بثلاثة أيام، استبدل الرئيس لويس آرسي قيادة الجيش للتحوّط وسط مشهد الاضطراب السياسي المحتدم، وتعهّد خلال كلمة له بأنّ انتقال السلطة سيكون ديمقراطياً وسلمياً. 

وعلى أيّ حال، لم تكن خسارة اليسار جولةً انتخابية فحسب، وإنما نهاية دورة سياسية امتدّت لعقدين صاغت فيها بوليفيا نموذجاً اجتماعياً قلّص الفقر ورفع من مكانة السكان الأصليين وأعاد تعريف دور الدولة في الاقتصاد. ما حدث أمس لا يقتصر على تغيير حارس قصر الرئاسة؛ إنه تحوّل في ميزان القوى داخل مجتمع متعدّد القوميات، وفي خريطة إقليم يشتدّ فيه الضغط لإعادة تدوير سياسات التبعية تحت عناوين "التحديث" و"الانفتاح". صحيح أنّ الجولة الثانية ستحسم من يجلس على الكرسي، لكنّ الأهمّ أنّ البلد يدخل مرحلة إعادة تعريف لعقده الاجتماعي: ما الذي يبقى من إرث التوزيع والضمانات، وكيف ستُحافظ المسارات السيادية على الموارد في ظلّ خطاب نيوليبرالي يَعِدُ بالإنقاذ السريع؟

وتأتي نتيجة هذه الجولة على خلفيّة اقتصاد منهك: شحّ الدولار وتوسّع السوق الموازية أضعفا الاستيراد، وطوابير الوقود صارت جزءاً من يوميات المدن، فيما التهم التضخّم رواتب الطبقة الوسطى واحتياطيات الأسر. تراجع عائد الغاز الذي موّل برامج الرعاية والبنية التحتية لسنوات، وتضخّمت فاتورة دعم الطاقة إلى مستويات تضغط على المالية العامّة. بالمقابل، رفعت المعارضة شعار "تحرير القطاعات الاستراتيجية" واستدعاء رأس المال الخاصّ بوعدٍ بانفراج سريع، بينما دافعت الحكومة عن "ترشيد" تدريجي يحمي القدرة الشرائية. وعند الصندوق، تُرجِم هذا الاستقطاب إلى تصويت عقابي لدى فئات مرهَقة، وإلى "إبطال التصويت" لدى فئات أخرى رفضت البدائل المطروحة من دون طرح بديلٍ مكتمل.

والنتيجة أنّ البلاد اليوم أمام خيارين ببرنامجين يمينيين متقاربين في جوهر التحرير الاقتصادي. بيد أنّ ذلك لا يعني غياب القدرة على التأثير؛ فالمشهد يتسع لكتلة اجتماعية تستطيع فرض خطوط حمر تتصل بالليثيوم والطاقة والأجور والدعم. هناك أيضاً برلمانٌ ومجالس محلية وفضاء مدني ونقابي قادر على ترجمة الاعتراض إلى سياسات نافذة. على الحكومة المنتهية ولايتها أن تضمن حياد الدولة ومؤسساتها، وعلى قوى اليسار أن تكفّ عن استنزاف الذات، وأن تُعيد بناء سرديتها حول العدالة الاجتماعية والسيادة الاقتصادية بلغة عملية تنبع من الجماهير وإليها.

والجدير ذكره أنّ الليثيوم بات يتصدّر المشهد على نحو متزايد، فهو ثروة تضع البلاد أمام مفترق طرق: إما صناعة وطنية تُبقي القيمة داخل البلد عبر سلاسل إنتاج وتكنولوجيا مُوطّنة وشراكات متوازنة، وإما تحويل بوليفيا إلى مقلَعٍ يصدّر خاماً رخيصاً ويستورد سلعة غالية. خلال الأعوام الماضية، اتّجهت الحكومة نحو شراكات آسيوية وخيارات تصنيع داخلي، فيما يدفع خصومها نحو فتح واسع للسوق واستقدام استثمارات غربية بوعد التمويل والخبرة. ليست المسألة تقنية محضة؛ إنها تعريفٌ لسيادة الدولة ومعنى العدالة التوزيعية، ومن ثمّ معادلة الاستقلال في زمن البطاريات والسيارات الكهربائية.

إجمالاً، لا يتمحور الصراع الدائر اليوم في بوليفيا حول أسماء بقدر ما هو حول نموذج الدولة وموقع البلاد في خريطة الهيمنة. ولا يزال ضغط "عقيدة مونرو" حياً بأشكالٍ جديدة؛ يريد موارد الليثيوم والغاز في قنوات مضمونة، ويستسيغ "إصلاحات" تُعيد إنتاج التبعية. الطريق البديل ليس شعاراً، وإنما عقدٌ اجتماعي مُحدَّث يثبت أنّ التعدّد القومي مصدر قوة، وأنّ الاستقرار لا يتناقض مع الإنصاف، وأنّ الاستثمار الخارجي يُدار وفق إرادة الناس لا العكس.

إن استطاعت القوى الاشتراكية معالجة شقوقها وتقديم برنامج واقعي يحمي المكاسب ويحدّثها، ستخرج بوليفيا من الاستقطاب الجاري بأقلّ كلفة ويكفي خسارة اليسار لمقعد الرئاسة. وإن تُرك المشهد لتأجج الوضع داخل معسكر اليسار، فلن تكون الخسارة خسارة مقعد الرئاسة وحسب، وإنما خسارة عشرين عاماً من المكتسبات التي حقّقتها الطبقات الشعبية، ودخولاً في نفق نيوليبرالي مظلم في وقت يشهد خلاله الإقليم والعالم تحوّلات كبيرة في موازين القوى.

اقرأ أيضاً: بوليفيا: مرشحان يمينيان يتأهلان إلى جولة ثانية للانتخابات الرئاسية

اخترنا لك