تشريع الموت الرحيم في بريطانيا: تحوّل اجتماعي أم انزلاق أخلاقي؟

أقرّ مجلس العموم البريطاني قانونًا يجيز الموت الرحيم للبالغين المصابين بأمراض ميؤوس منها والمتوقع وفاتهم خلال ستة أشهر، ضمن ضوابط طبية وقضائية.القانون يعكس تحوّلًا فلسفيًا من صون الحياة كقيمة مطلقة إلى تمكين الفرد من اختيار نهايتها، وسط انقسام بشأن القرار.

0:00
  • تشريع الموت الرحيم في بريطانيا: تحوّل اجتماعي أم انزلاق أخلاقي؟
    تشريع الموت الرحيم في بريطانيا: تحوّل اجتماعي أم انزلاق أخلاقي؟

شكّل التصويت الذي شهدته قاعة مجلس العموم البريطاني لحظة انعطاف مفصلية في المسار القانوني والأخلاقي للمجتمع البريطاني. فعندما أُقرّ مشروع "قانون نهاية الحياة للبالغين المصابين بأمراض ميؤوس منها" بأغلبية 314 صوتًا مقابل 291، كان ذلك بمثابة الإعلان عن انتقال بريطانيا من فلسفة تقليدية تعتبر الحياة قيمة مطلقة، إلى رؤية جديدة تُقر بحق الإنسان في أن يختار توقيت نهايته حين يتحول الألم إلى قيد لا يُحتمل. 

هذا التحول يضع بريطانيا -الدولة التي طالما اعتُبرت حاملة لقيم الحذر القانوني والاتزان الأخلاقي- في قلب نقاش عالمي متصاعد حول العلاقة بين الطب، القانون، والضمير. 

تحوّل فلسفي في السياسة العامة

لأكثر من قرن، استندت السياسة الصحية البريطانية إلى مبدأ "صون الحياة" كغاية عليا. غير أن القانون الجديد يفرض سؤالًا صعبًا: ماذا لو تحوّلت الحياة نفسها إلى عبء؟ هنا، تتغيّر معادلة الدولة من "الوصاية الوقائية" إلى "التمكين الذاتي"، حيث لا تعود الحياة شيئًا يجب حمايته بأي وسيلة، بل خيارًا يخضع لإرادة الفرد ضمن شروط محددة.

وينص القانون على السماح للبالغين المصابين بأمراض ميؤوس منها، والمتوقع وفاتهم خلال أقل من ستة أشهر، بطلب إنهاء حياتهم طوعًا عبر تدخل طبي منظّم. ويخضع هذا القرار لموافقة لجنة ثلاثية تضم طبيبًا نفسيًا، قاضيًا، ومتخصصاً اجتماعيًا، وهي آلية وُضعت لتوازن بين السيادة الفردية والرقابة المؤسسية.

لكن، من وجهة نظر تحليلية، هذا التشريع يُعيد تشكيل دور الدولة في حياة المواطن: هل على الدولة أن تحمي الإنسان من قراراته، أم أن واجبها هو احترام قدرته على اتخاذ القرار حتى في الموت؟

بين الرحمة والواجب الأخلاقي

المناقشات التي سبقت التصويت حملت في طياتها مستوى غير مسبوق من الانقسام العاطفي والأخلاقي. ففي حين رأى البعض أن هذا القانون "ينتصر للرحمة"، عبّر آخرون عن خشيتهم من "التطبيع مع الموت كحلّ للمأساة الإنسانية".

النائبة كيم ليدبيتر، صاحبة المبادرة، اعتبرت التصويت "انتصارًا للكرامة". لكن سرعة مناقشة 130 تعديلًا في أقل من عشر ساعات أثارت انتقادات حادة، اعتبرها البعض استسهالًا غير مبرر في ملف يتصل بـ"أكثر قرارات الإنسان حساسية على الإطلاق".

ومن هنا، يظهر ما يمكن تسميته بـ"الهشاشة المؤسساتية" في التعامل مع تحوّلات كبرى، إذ غابت المبادرة الحكومية المباشرة، وتُرك الملف لأدوات تشريعية فردية، في ظل حيادٍ رسمي ربما يعكس تجنّب الصدام مع الرأي العام، لا احترام الضمير الفردي فحسب. فماذا عن الرأي العام؟

دعم متزايد في وجه التحفظات التاريخية

تاريخيًا، ظلّ المجتمع البريطاني متحفظًا حيال فكرة تشريع الموت الرحيم، لكن المؤشرات الأخيرة تعكس تبدلًا ثقافيًا ملحوظًا. ففي استطلاع رأي أجرته مؤسسة "YouGov" في أيار/مايو 2025، أيّد 73% من البريطانيين "الموت بمساعدة طبية" ضمن شروط، في مقابل 19% فقط رفضوه بشكل قاطع.

هذا التحوّل في المزاج الشعبي لا ينفصل عن سياق أوسع من التغيّرات القيمية في الغرب، حيث تُعيد المجتمعات صياغة مفهوم "الحرية الفردية" ليتجاوز المجال السياسي ويشمل حتى السيادة على الجسد والحياة والموت.

وفي الوقت نفسه، تتزايد المخاوف من أن هذا الانفتاح قد يخلق بيئة ناعمة تدفع كبار السن والمرضى إلى اتخاذ قرار الموت ليس بدافع الإرادة الحرة، بل تحت ضغط الشعور بأنهم عبء على أحبّائهم أو على النظام الصحي.

ويبقى النقاش حول دور الطبيب في عملية الموت الرحيم من أكثر المسائل تعقيدًا. فوفقًا لتقارير "British Medical Association"، فإن حوالى 36% من الأطباء البريطانيين يرفضون المشاركة في هذه الإجراءات لأسباب تتعلق بالضمير أو العقيدة.

ويؤشر هذا الانقسام داخل الجسم الطبي إلى خلل في التوافق المهني، ويطرح تساؤلات عميقة: هل وظيفة الطبيب هي إنقاذ الحياة فقط؟ أم أنه يصبح شريكًا في اختيار نهايتها حين تُصبح الحياة ذاتها معاناة لا تطاق؟

وتخشى بعض المؤسسات الصحية أن يؤثر التشريع على علاقة الثقة بين المريض والطبيب، وربما يؤدي على المدى البعيد إلى تآكل الاستثمار في الرعاية التلطيفية التي تهدف لتخفيف معاناة المحتضرين من دون اللجوء إلى الموت.

أين تقف بريطانيا في الخريطة العالمية؟

مع هذا القرار، تنضم بريطانيا إلى عدد متزايد من الدول التي شرّعت "الموت بمساعدة"، أبرزها:

- بلجيكا: أكثر من 2,700 حالة في 2023 (زيادة 12% عن العام السابق).

- كندا: تمثل حالات "الموت بمساعدة" نحو 4.1% من إجمالي الوفيات السنوية.

- هولندا وسويسرا: سبقتا بريطانيا في وضع أطر قانونية تُجيز هذه الممارسة منذ التسعينيات.

لكن التشريع البريطاني يظل أكثر تحفظًا من بعض هذه الدول، خاصة لناحية الإطار الزمني المحدد (ستة أشهر)، واشتراط الكفاءة العقلية. ما يعكس محاولة الدولة الموازنة بين الحق الفردي والمسؤولية الأخلاقية الجماعية. ماذا عن دور الحكومة؟

هل يعتبر حياد الحكومة تهرّباً من المسؤولية؟

لم تتبنّ حكومة كير ستارمر مشروع القانون، واختارت أن تترك الأمر لتصويت الضمير، وهو تقليد بريطاني في القضايا ذات الطبيعة الأخلاقية. لكن في التحليل السياسي، يمكن اعتبار هذا الحياد تعبيرًا عن المأزق الذي تعيشه السلطة التنفيذية في مواجهة تغيرات اجتماعية لا تزال موضع جدل عميق.

ففي ملفات مشابهة مثل زواج المثليين أو الإجهاض، لعب الحياد الحكومي دورًا في خفض حدّة الاستقطاب. غير أن ذلك لا يعفي السلطة من مسؤولية وضع أطر إجرائية صارمة وضمان مراقبة تنفيذ القانون بما يحول دون تحوله إلى مدخل لانتهاكات مقلقة.

وبرغم إقرار مجلس العموم، فإن القانون لا يزال بحاجة إلى المرور في مجلس اللوردات. وهنا تُطرح أسئلة جديدة: هل سيتولى المجلس تنقيح القانون وفرض ضمانات إضافية؟ أم أن موافقة النواب ستضغط باتجاه تمرير سريع؟

المجلس، الذي يضم نسبة مرتفعة من القضاة ورجال الدين، يُتوقع أن يُبدي تحفظات على بعض البنود، خصوصًا ما يتعلق بتفويض اللجنة الثلاثية بدل المحكمة، وطبيعة الضوابط النفسية لتقييم أهلية المريض. 

وقد يكون هذا النقاش فرصة لإعادة النظر في البنية الأخلاقية والقانونية التي تؤطر التشريع الجديد، خصوصًا مع ازدياد الدعوات لتوسيع الإنفاق على الرعاية التلطيفية بدل الاقتصار على تشريع الموت كحل.

ويمكن اعتبار تشريع الموت الرحيم في بريطانيا مرآةً لتغيرات أعمق تمسّ بنية المجتمع وثقافته وقيمه. لقد دخلت بريطانيا حقبة جديدة من التفكير في "السيادة الفردية" بصفتها القيمة العليا، حتى عندما يتعلق الأمر بأكثر المسائل حرجًا: نهاية الحياة. لكن هذه السيادة لا تأتي من فراغ، بل تتطلب بنية أخلاقية وتشريعية صارمة تمنع الانزلاق نحو تسليع الموت أو تحويله إلى خيار افتراضي للضعفاء والمهمّشين.

وإذا كان القانون قد وُلد من رحم المعاناة الإنسانية، فإن اختباره الحقيقي سيكون في تطبيقه: هل سينتصر للكرامة والرحمة؟ أم سيفتح الباب أمام ممارسات رمادية تُقوض أسس الأخلاق الطبية والاجتماعية؟ الجواب لا يزال معلقًا، لكنه سيشكل، بلا شك، مقياسًا جديدًا لفهمنا المعاصر لمعنى الحياة... ونهايتها.

اخترنا لك