الحسكة بين الجفاف والإهمال: من خزان سوريا الزراعي إلى أرض عطشى
تواجه الحسكة ودير الزور والقامشلي موجة جفاف هي الأسوأ منذ عقود، ما أخرج مئات آلاف الهكتارات من الخدمة وترك المزارعين أمام خسائر فادحة. غياب الدعم الحكومي وارتفاع تكاليف الإنتاج يدفع الفلاحين إلى هجر أراضيهم وبيعها.
-
الحسكة بين الجفاف والإهمال: من خزان سوريا الزراعي إلى أرض عطشى
"الزراعة ما عاد تطعمي خبز"؛ بهذه الكلمات اختصر الفلاح خلف الجاسم من أهالي "تل براك" في ريف مدينة الحسكة صورة الواقع الزراعي في منطقة الجزيرة -الحسكة ودير الزور والقامشلي- والتي تعتبر خزان سوريا الزراعي، لكنها تتعرّض هذا العام لموجة جفاف شديدة، ما يهدد مئات المزارعين في المنطقة بخسارة أرزاقهم وتلف محاصيلهم الزراعية.
يقول الجاسم للميادين نت: "موجة الجفاف الحالية هي الأسوأ منذ عقود، فالأمطار التي هطلت شحيحة، خاصّة في المناطق القريبة من الحدود التركية، والتي كانت تعدّ الأفضل من حيث كمية الأمطار والإنتاجية الزراعية في الجزيرة السورية، لكنها خرجت من دائرة الإنتاج هذا العام بسبب الجفاف الحاد، فكيف ببقية المناطق التي تعد أقل إنتاجية؟".
ويؤكد الجاسم أنه زرع هذا العام نحو 50 دونماً من القمح في أرضه بتكلفة بلغت 40 مليون ليرة سوريا (4000 دولار أميركي)، لكن نتيجة قلّة الأمطار وتوسع رقعة الجفاف خسر المبلغ كاملاً، وهو الذي كان تعرّض لخسارة أقلّ وطأة الموسم الماضي بلغت 2000 دولار، وهذا ما دفعه للقول: "لن أعاود الزراعة في أرضي مجدداً وسأسعى للبحث عن مصدر رزق جديد".
حال ابن الحسكة خلف الجاسم ينطبق على عشرات الفلاحين في الجزيرة السورية، ممن لا يملكون القدرة على مواجهة الكارثة البيئية التي تضرب منطقتهم، ما يجعل الكثيرين منهم في حيرة من أمرهم، خاصّة أنهم لا يملكون مصادر رزق إلا تلك الأراضي التي توارثوها عن أجدادهم.
الحسكة تواجه الجفاف
تُعرف الحسكة السورية بأنها محافظة زراعية بامتياز، فاقتصادها قائم بشكل كامل على الزراعة، حيث يعمل قسم كبير من سكانها بالأراضي الزراعية التي تشكّل مصدر الدخل الرئيسي لهم، بينما يعمل قسم آخر بمهن مرتبطة بالزراعة.
تعرّضت المحافظة العام الحالي لموجة جفاف حادّة أثّرت بشكل كبير على واقع الأراضي الزراعية، حيث أخرجت جميع المساحات البعلية -الأراضي الزراعية التي تعتمد على مياه الأمطار كمصدر رئيسي للري- المزروعة بمحاصيل القمح والشعير والبقوليات والعطريات عن الإنتاج بشكل كامل، وتقارب مساحة تلك الأراضي نحو 700 ألف هكتار في المحافظة وريفها، وهذا الأمر دفع عدد من أصحاب الأراضي إلى بيعها لمربي الثروة الحيوانية بأسعار رمزية، من أجل تخفيف جحيم خساراتهم.
في المقابل، يواجه أصحاب الأراضي المروية -التي يتم توفير المياه لها بشكل اصطناعي- مشاكل جمّة في ظل انخفاض كميات المياه المتوفّرة في المنطقة، ما يجبرهم على دفع أموال إضافية للحصول على الكميات اللازمة لمحاصيلهم الزراعية، إضافة إلى ارتفاع تكاليف المشتقات النفطية، بدون إغفال الأحوال الجوية شديدة الحرارة، والتي ساهمت في تلف كميات كبيرة من الإنتاج.
الفلاح مجبول الحسين (56 عاماً) من أهالي ريف الحسكة الشرقي، يؤكد للميادين نت أن الإنتاج هذا الموسم لا يغطي بالمطلق تكاليفه، فإضافة إلى جميع المشاكل التي تواجه القطاع الزراعي في الجزيرة السورية، يتعرّض الفلاحون لابتزاز التجار التابعين لقوات سوريا الديموقراطية الذين يحتكرون المواد الأولية ويتحكمون بأسعارها.
يقول الحسين: "أملك أرضاً مساحتها 150 دونماً مزروعة بالقمح والشعير، وهي تحتاج إلى برميل مازوت سعره 125 دولار في كل عملية ريّ، ونظراً لحالة الجفاف الحالية فإن الأرض تحتاج لأكثر من 10 عمليات ريّ، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار البذار والسماد والمبيدات الحشرية، وكل ذلك يقع على عاتق الفلاح الذي لا يملك حولاً ولا قوّة، بينما لا تملك الحكومة السورية أيّ سلطة على قوات سوريا الديموقراطية للضغط عليها ومعالجة مشاكل الفلاحين".
ويختم الحسين حديثه: "أكثر ما يؤلمني اليوم هو التفكير بإمكانية التخلّي عن الأرض التي ورثتها عن أبي وأجدادي، وعمرها يتجاوز 150 عاماً، فهي خزان ذكرياتي وذكريات عائلتي، فكيف بإمكاني الابتعاد عنها؟".
الأرض واجهت الحرب
قبل الحرب، أولت الحكومات السورية اهتماماً كبيراً بالقطاع الزراعي في المنطقة الشرقية، نظراً لما تمثله من ثقل كبير في تغذية السوق المحلية وتأمين كميات كبيرة للتصدير، كما عمدت دمشق إلى إقامة 10 سدود على طول نهر الفرات في منطقة "الجزيرة"، بهدف زيادة مساحة الأراضي الزراعية، لتبلغ المساحة عام 2010 مليون و200 ألف هكتار، تزرع مختلف المحاصيل مثل القمح والشعير والقطن والبقوليات والخضروات وغيرها.
لاحقاً؛ وعلى مرّ سنوات الحرب التي شهدتها سوريا منذ العام 2011، كان لمنطقة "الجزيرة" حصة الأسد من مسلسل المعاناة، حيث دفعت الأراضي الزراعية وأصحابها ثمناً باهظاً للمعارك والعمليات العسكرية، وهو ما أدى إلى خروج مساحات زراعية كبيرة عن الخدمة.
وفي هذا السياق يؤكد المهندس الزراعي عارف السيد للميادين نت أن الواقع الزراعي في الحسكة وهي مركز "الجزيرة السورية" شهد تراجعاً حاداً لأسباب عدة، بعضها مناخي يتعلق بالجفاف وقلّة الامطار، وبعضها الآخر بشري ينضوي على الحرب وآثارها، ويشمل أيضاً التعدي على الأشجار والغابات بهدف السرقة.
وبحسب السيد فإن السبب الرئيسي خلال سنوات الحرب كان الإهمال الحكومي وإيقاف جميع أشكال الدعم المالي للقطاع الزراعي، حيث تم إيقاف المصارف الزراعية عن تمويل الفلاحين وإيقاف دعمهم في تأمين مستلزمات الإنتاج، وتم ترك الفلاح وحيداً أمام المشكلات التي تواجهه، وأدى ذلك إلى تقلّص المساحات الزراعية المروية على حساب زيادة المساحات البعلية، وبالمجمل فقد انخفضت المساحات الزراعية من مليون و200 ألف هكتار إلى 800 ألف هكتار.
أمام هذا الواقع، وجد الكثير من الفلاحين أنفسهم مضطرون للابتعاد عن أراضيهم والتحوّل إلى مهن أخرى، أو بيع أراضيهم والهجرة نحو مناطق جديدة، لأن استمرار الخسارة كل موسم لا يمكن تحملّه، خاصّة مع غياب الدعم الحكومي لتأمين مقومات الزراعة.
اليوم، تجد الحكومة السورية نفسها مضطرة لاتخاذ خطوات فعلية لدعم القطاع الزراعي في البلاد بهدف إعادته إلى سابق عهده، كونه يشكّل داعماً أساسياً للاقتصاد الوطني، كما أن الفلاحين بحاجة إلى دعم مالي عاجل لإعادة تأهيل أراضيهم والبدء باستثمارها مجدداً، مع وضع خطط عاجلة لإلغاء فكرة التخلّي عن الأرض المنتشرة في الجزيرة السورية، وهذا ما يتطلب جهوداً مشتركة بين الفلاحين والجهات الحكومية.