لماذا بنما في أولويات صراعات المضائق أميركياً؟
قناةُ بنما ليست مجرّدَ ممرٍّ مائيٍّ هندسيٍّ، بل هي رمزٌ لصراعِ النفوذِ بين القوّتَين العظمَيين أميركا والصين، فالولاياتُ المتّحدة تراها قلب أمنها القوميّ، بينما تعتبرها الصين حلقة في سلسلة طريق الحرير البحري.
-
ماذا يحدث في بنما؟ (أرشيف).
رغم صراعاتِها في كل القاراتِ افي هذا العالمِ، تخشىَ الولاياتُ المتّحدةُ الأميركيةُ من توسّعِ النفوذِ الصينيِّ في أميركا اللاتينيّة، وشهدت فنزويلا صعودًا مفاجئًا للمعارضةِ المدعومةِ من واشنطن، ذلك وسطَ حديثٍ عن خططٍ لإسقاطِ النظام القائمِ لمنعِ بكينَ من استخدامِ الموانئِ الفنزويليّةِ كمراكزَ لوجستيّةٍ نحوَ المحيطِ الأطلسيّ، هذه التطوّراتُ تُظهرُ أنّ واشنطنَ تتحرّكُ على جبهاتٍ متباعدةٍ لمنعِ النفوذِ الروسيْ والصينيْ من الوصولِ إلى أميركا اللاتينيةِ لا عبرَ نصبِ صواريخ بالجوارِ الأميركي على غرار الأزمة الكوبية عام 1962، إنما عبرَ الغزو للمشاريع الصينيةِ والتجارة من ممرِ بنما.
تُعَدّ قناة بَنَما أحد أهمِّ الممرّاتِ المائيَّةِ في العالَم، إذ تربطُ المحيطَ الأطلسيَّ بالمحيطِ الهادئ عبر شريطٍ ضيِّقٍ من اليابسةِ في أميركا الوسطى، بِطولٍ يقاربُ 80 كيلومترًا، تُتيحُ القناةُ تجنُّبَ الدورانِ حولَ قارةِ أميركا الجنوبيّة عبر مضيقِ ماجلان الخطِرِ والطويلِ جدًّا، فالسفينةُ التي كانت تحتاجُ إلى أكثرَ من شهرٍ لتنتقلَ من نيويورك إلى طوكيو، باتت تعبرُ القناةَ في أقلَّ من عشرةِ أيّام، هذا الممرُّ هو شريانُ التجارةِ العالميّة الذي يربطُ شرقَ آسيا بالغربِ الأميركيّ والأوروبيّ، وتمرُّ عبره سنويًّا أكثرُ من 14 ألفَ سفينة تمثّل نحوَ 6%من التجارةِ البحريّةِ في العالم.
منذُ افتتاح القناةِ عامَ 1914 بإشرافِ الولاياتِ المتّحدة، بقيت واشنطنُ تتحكّمُ فيها سياسيًّا وأمنيًّا لعقودٍ طويلة، أمّا دولةُ بَنَما نفسها، فكانت تحت وصايةٍ أميركيّةٍ غير مباشرةٍ، وفي عامِ 1999 وُقِّعَتِ اتفاقيّةُ نقلِ السيادةِ على القناةِ إلى حكومةِ بَنَما، لكنَّ الولاياتِ المتّحدة احتفظتْ بنفوذٍ عسكريٍّ واستخباريٍّ قويٍّ حولها، من خلالِ الشركاتِ والمقاولينَ والوجودِ البحريّ، الهدفُ الأميركيّ الأساسيّ من هذا النفوذ هو ضمانُ بقاءِ القناةِ مفتوحةً أمامَ أساطيلها، ومنعُ أيِّ خصمٍ دوليٍّ خصوصًا الصين وروسيا من استخدامها كورقةِ ضغطٍ جيوسياسيّةٍ. بينما منذ العقدِ الأوّلِ من القرنِ الحادي والعشرين، بدأت الصينُ تستثمرُ بكثافةٍ في البنى التحتيّةِ والموانئِ في أميركا اللاتينيّة، ومنها ميناءُ كريستوبال قرب القناة، وتعملُ شركاتٌ صينيّةٌ مثلُ هوتشيسون وامبوا على تشغيلِ محطّاتِ شحنٍ وإدارة مرافئَ في الجهتَين الأطلسيّةِ والهادئةِ من القناة، هذا الوجودُ أثارَ قلقَ واشنطن، إذ ترى فيهِ محاولةً من بكّين لبسطِ نفوذٍ استراتيجيٍّ في خاصرتِها الجنوبيّة، تمامًا كما تفعلُ الولاياتُ المتّحدةُ في بحرِ الصينِ الجنوبيّ، ولذلك صارَت القناةُ جزءًا من المنافسةِ الكبرى بين الصينِ وأميركا على الممرّاتِ العالميّة.
أين فنزويلا من القضية؟ تُعتَبَرُ فنزويلا محورًا في هذه المعادلة، لا لأنّها تجاورُ دولة القناة جغرافيًّا وحسب بل لأنّها تمتلك أكبر احتياطيٍّ نفطيٍّ في العالم وتقعُ على الساحلِ المقابلِ من بحرِ الكاريبيّ، فالصينُ تُعَدُّ المستثمرَ الأوّلَ في قطاعِ النفطِ الفنزويليّ، وتستخدمُهُ لتأمينِ إمداداتِ الطاقةِ وموطئَ قدمٍ في القارّةِ الأميركيّة.
ولذلك تعملُ واشنطنُ على دعمِ المعارضةِ الفنزويليّة لإسقاطِ النظامِ الحليفِ للصين، خشيةَ أن يتحوّلَ الساحلُ الفنزويليُّ إلى بوّابةٍ صينيّةٍ موازيةٍ لقناةِ بَنَما. وهنا تتقاطعُ المصالحُ الطاقويّةُ والسياسيّةُ مع أمنِ الممرّاتِ البحريّة.
ولا يقف تدخل الصين هنا، ففي السنواتِ الأخيرةِ، تراجعت مستوياتُ المياهِ في البحيرات التي تغذّي القناة، ما أجبرَ إدارةَ القناةِ على تحديدِ عددِ السفنِ المسموحِ عبورُها يوميًّا، هذا الأمرُ فتحَ المجالَ أمامَ الحديثِ عن قنواتٍ بديلةٍ، مثل مشروعِ قناةِ نيكاراغوا الذي تدعمهُ الصينُ نظريًّا، وإنْ نُفِّذَ هذا المشروعُ، فسيكونُ منافسًا مباشرًا لقناةِ بنما، وسينقلُ مركزَ الثقلِ البحريِّ من النفوذِ الأميركيِّ إلى الصينيّ.
في الصراع الحالي بين القوتين الدوليتين تأتي السيطرةُ على القناةِ في إطار التحكّمَ بجزءٍ من التجارةِ بين شرق آسيا وأميركا على المستوى الاقتصادي أما عسكريًّا فوجودُ قواعد لوجستيّةٍ قريبةٍ منها يُتيحُ للأسطولِ الأميركيِّ أو لأيّ قوّةٍ أخرى الانتشارَ السريعَ في المحيطين، وجيوسياسيًّا تعتبر القناةُ عقدةً حيويّةً في شبكةِ الممرّاتِ البحريّةِ التي تشملُ أيضًا مضيقَ هرمز، وبابَ المندب، وقناةَ السويس، ومضيقَ ملقا وأيُّ اضطرابٍ فيها يُعيدُ تشكيلَ خريطةِ النفوذِ العالميّ.
نرى في المستقبل القريب أن الولايات المتّحدة التي تُدركُ أنّ فقدانَ السيطرةِ المعنويّةِ أو اللوجستيّةِ على قناةِ بنما سيعني بدايةَ تراجعِها في النصفِ الغربيّ من الكرةِ الأرضيّة، لذلك تعمل على تعزيزِ وجودِها العسكريّ في البحرِ الكاريبيّ ودعمِ الأنظمةِ المواليةِ لها في كولومبيا وبنما ومن خلفهما فنزويلا، لذلك العمل على التضييقِ على التحالفاتِ الصينيّةِ الفنزويليّة.
فالصينُ عملياً تواصلُ التقدّمَ بخطواتٍ هادئةٍ، فهي تستثمرُ في المرافئِ والبنى التحتيّةِ وتقدّمُ القروضَ والمساعداتِ، لتجعلَ من حضورِها أمرًا واقعًا لا يمكنُ تجاهلُه، وهذا ما يحرك الانتباه الأميركي عسكرياً نحو فنزويلا بحجة عصابات المخدرات لإسقاط نظام مادورو.
قناةُ بنما ليست مجرّدَ ممرٍّ مائيٍّ هندسيٍّ، بل هي رمزٌ لصراعِ النفوذِ بين القوّتَين العظمَيين أميركا والصين، فالولاياتُ المتّحدةُ تراها قلبَ أمنِها القوميّ، بينما تعتبرُها الصينُ حلقةً في سلسلةِ طريقِ الحريرِ البحري وطريقاً إلى غرب أوروبا وربط آسيا بالعالم.
وبينهما تتحرّكُ أميركا اللاتينيّةُ بين الإغراءِ الاقتصاديِّ الصينيّ والهيمنةِ التاريخيّةِ الأميركيّة. إنّ أيَّ تحوّلٍ في السيطرةِ على القناةِ سيُؤدّي إلى اهتزازِ موازينِ التجارةِ والهيمنةِ البحريةِ، وقد يكونُ أحدَ مفاتيحِ الصراعاتِ المقبلة في النصفِ الغربيّ من الكرةِ الأرضيّة.